معرض عبد السميع
لا أعرف سر حبي لأعمال الفنان عبد السميع عبد الله في التصوير الزيتي. ربما لأني أستطيع قراءته، ربما لأنه — وهو الكاتب — بإمكانه أن يوصل لي انفعاله من خلال الفرشاة بمثل ما يستطيع حين يمسك بالقلم. ولكني أتابع أعماله باهتمام كبير، ومنذ بضعة أيام ذهبت إلى معرضه الثاني في زيارة سريعة، وأنا أحب أن أستوعب الأعمال الفنية على دفعات، والانفعالة الأولى لها دائمًا عندي طعم خاص كالقطعة الموسيقية حين تسمعها لأول مرة، كالقصيدة حين يداعب أذنيك وَقْعها لأول وهلة، كوقع مشهد جميل تراه أول رؤية. لا شك أن التعمُّق في العمل واستيعابه على مهلٍ له هو الآخر جماله ومذاقه، ولكنه جمال ومذاق لا يُلغي أبدًا أثر الطعم الأول. وهكذا، في تلك الزيارة السريعة عشت تلك اللحظة مع المتعة الأولى لأعمال عبد السميع. في معرضه الأول كان عبد السميع يبحث عن طريق، كان كثير النظريات والآراء، تكاد كل لوحة أن تتحول إلى تجربة لونية تشكيلية منفصلة. ولقد عرفت أن عبد السميع قد وضع قدمه على أول الطريق حين لمحت «المصرية» تكاد تنطق من آخر لوحاته وتجاريبه في تلك الآونة؛ المصرية في الموضوع واختياره. إن الشاي وشربه وصينيته وفناجينه ورشفاته عند الفلاحين متعة اكتشفها عبد السميع وسجَّلها، والإغراب في التعبير طبيعة مصرية نطق بها الفنان المصري حين اخترع يا طالع الشجرة، وكان عبد السميع قد لمس أوائل مفاتيح الإغراب في استعماله للتربيعات وتوزيعات اللون. في هذا المعرض الثاني لم يعدم عبد السميع البحث عن طريق، كان قد وجده وضمَّ عليه صدره ثم انطلق، عرف الطريق وأصبح همه بعد هذا، البحث عن أهداف ونتائج، وما أروع الأهداف والنتائج التي وصل إليها عبد السميع في معرضه الثاني، إني لا أتحدث عن كل اللوحات؛ فالغريب أنه بينما بعض اللوحات قمم كبرى توجد كثيرات غيرها تبدو كما لو كان صاحبها يتهجى، أو كما لو كان غير صاحبها. والغريب أننا بينما نجد عبد السميع في رسومه الكارتونية لاذعًا يكاد يُدمي وفي قصصه القصيرة صارخًا يكاد يضع لأبطاله عملية «إستربتيز» نفسي، صور عبد السميع الزيتية تُرينا جانبًا ثالثًا من تكوينه وشخصيته، جانبًا حالمًا رءومًا شاعريًّا رقيقًا وكأنه يرسم بمشاعر أم وبأناملها، جانبًا نبيلًا حزين الإشراق واهن التفاؤل واسع الصدر وكأنه يرسم بفرشاة مسيح؛ ألوانها هادئة ولكنها ليست باهتة؛ لا يلون بها وإنما يستعملها في إضفاء موسيقى ضوئية راقصة أحيانًا، هائمة في أحيان أخرى بلا هدف. خرجت من المعرض وأنا — يقظٌ في الأول — أحس أني أَخَفُّ كثيرًا مما دخلته، في نفسي إحساس منعش وكأني ألُوك في فمي حبات نعناع.
شكرًا يا عبد السميع.