هل نحن السبب في قيام الحرب العالمية؟!
الاثنين
آخر ما كنت أتصوَّره وأنا أقرأ رواية الكاتب «نيفل شوت» التي سماها «على الشاطئ» والتي رأيناها منذ أسبوعين في القاهرة كفيلم سينمائي يحمل نفس الاسم، آخر ما كنت أتصوره أن يأتي ذكرنا في الرواية، وأن يأتي على هذه الصورة، والحقيقة أني فُجِعْتُ للكتاب؛ فإذا كانت العادة قد جرت على أن يكون الفيلم المأخوذ عن العمل الأدبي أقل جودة وأثرًا من العمل نفسه، فالعكس هو ما حدث في «على الشاطئ»؛ فالفيلم إنسانيٌّ رائعٌ يُعتبر عملًا فنيًّا ممتازًا، ويُصوِّر الحياة بعد حرب ذَرِّية تمت في عام ١٩٦٤، وكيف ظل الإشعاع الذري يقضي على الأحياء شيئًا فشيئًا حتى انتهى بنا الفيلم والكرة الأرضية خراب كالبيت الذي مات كل أصحابه.
فيلم دعاية ضد الحرب، ولكن الدعاية حين تصل إلى الذروة لا تصبح فنًّا فقط، ولكن شيئًا أرفع من الفن وأكثر فاعلية. الرواية المكتوبة أضعف بكثير من الفيلم، ورغم سعة خيال مؤلفها فهي مملوءة بالحشو والتخريف. وأنا هنا لا أقارن بين العملين، ولكني أريد أن أفرِّجكم على الكُتَّاب الغربيين حين يخرِّفون؛ إذ ما أصدق التخريف أحيانًا! ما أصدقه في الكشف عن مكنونات النفس التي قد ينجح صاحبها في إخفائها عن الناس لأمد طويل! يحاول المؤلف في أحد فصول الرواية أن يناقش الأحداث والأسباب التي أدت لهذه الحرب، وما كنت أتصور أنه سيجعلنا نحن المسئولين عن قيام الحرب.
ولكن هذا هو ما تفتَّقت عنه عبقرية المؤلف، واقرءوا معي هذا الحوار:
قال بيتر أخيرًا: المأساة تمَّت إذن بعدما هاجم الروس واشنطن ولندن؟
– هل أنت متأكد من هذا؟
– متأكد تمامًا. لقد اضطروا الطائرة التي ذهبت لبورتريكو للهبوط ووجدوا أن قائدها طيار مصري، ولكنهم وجدوا هذا بعد فوات الأوان وبعد ضرب ليننجراد وأوديسا وغيرهما؟
– أتعني أننا ضربنا روسيا خطأً؟
فقال جون أوزيورن: للأسف هذه هي الحقيقة. إن أحدًا لم يعترف بها ولكنها الحقيقة. لقد بدأت الكارثة بتلك القنبلة التي سقطت على تل أبيب ولم يعرف أحد من أسقطها؛ وعلى هذا قامت مظاهرة جوية أنجلو-أمريكية فوق القاهرة للإرهاب، وفي اليوم التالي أرسل المصريون كل قاذفات قنابلهم الروسية البعيدة المدى لضرب واشنطن ولندن، أرسلوا ثلاث عشرة طائرة وصلت منها واحدة إلى واشنطن واثنتان إلى لندن. فاعتقد المسئولون في الدولتين أنه هجوم شيوعي مفاجئ وأمروا بالرد عليه فورًا، وهكذا ضُرِبَت موسكو وليننجراد فردَّ الروس بضرب كل بلاد أوروبا وأمريكا. وبدت الحقيقة — لشدة بساطتها — مذهلة لا يكاد يصدقها العقل.
– ولماذا لم يفطن أيٌّ من الجانبين إلى الخطأ فيُصلحه ويوقفوا الحرب؟
فقال الكابتن: إذ اندلعت الحرب فمستحيل أن تتوقف.
وقال عالم الذرة: المأساة سببها أن القنابل النووية كانت قد أصبحت أثمانها وتكاليفها في متناول الدول الصغرى، فاعتقدت كلٌّ منها أن باستطاعتها أن تهزم أي دولة كبرى بهجوم ذري مفاجئ.
وقال الكابتن: والمأساة الأخرى هي الطائرات. لقد ظلت روسيا ترسل طائرات بعيدة المدى إلى المصريين، وظلت بريطانيا تسلح إسرائيل والأردن.
وتمطَّى عالِم الذرة وقال: الواقع لا نستطيع أن نعتبر الروس هم المسئولين عن قيام هذه الحرب، وكذلك لا نستطيع أن نلقي اللوم على أنفسنا؛ فالدول الكبرى ليست هي السبب؛ الحرب أشعلتها الدول الصغرى، أشعلها اللامسئولون.
وأكتفي بهذا القدر من الحوار، وكم كان بودِّي أن أورده كله خاصةً ذلك الجزء الذي يتكلم فيه المؤلف عن الحرب التي نشبت بين روسيا والصين عقب انتهائهما من الحرب مع المعسكر الغربي، وكيف أن روسيا قد ارتضت أن تُشعل حربًا ذرية ضد الصين من أجل الحصول على ميناء شانجهاي، وأن الصين ألقت قنابلها خارج المدن الروسية لتستطيع أن تضمها لأرضها بعد الحرب بسنين وتستعمرها. ولكنه الحيز، وشيء آخر؛ فأنا أريد فقط أن أضرب مثلًا لرأي الغرب فينا حين لا يصبح هذا الرأي أقوالًا وأخبارًا وافتراءات ترددها إذاعاته وصحفه، ولكن حين يصبح قصصًا تُكْتَب وحوارًا يدور على ألسنة أبطال روايات. الشعوب الغربية صحيح مُضلَّلة ومعصوبة الأعين حتى لا ترى الحقيقة، ولكن هناك شيء أعمق من هذا في نظرة الغرب لنا. إن كثيرين من أفراده العاديين وقادته ومثقفيه لا يستطيعون أن يهضموا أبدًا استقلال دولة مثلنا، بَلْهَ معاملتها لهم معاملة الند للند. إنهم يروننا من أعلى وبنظرة إقطاعية طبقية دولية، نظرة مالك إلى أجير، مالك لا يمكن أن يهضم أبدًا أن يصبح الأجير مالكًا مثله وعنده نفس سلاحه ويعامله معاملة الند للند، وكذلك فهو يحقد علينا حقدًا أسود، حقدًا قد تستدعي مصالحه المؤقتة أن يكبته، ولكنه أحيانًا يفلت منه على هيئة كليوباترا، على هيئة حوار في قصة. إنها علامات النهاية والحمد لله. وإذا كانت نهاية الإمبراطورية العثمانية جاءت على هيئة الرجل المريض؛ فالظروف كلها تشير إلى أن نهاية الغرب ستأتي على هيئة الرجل المجنون الذي سيدفعه فقدان الصواب إلى الهلاك. والمجنون يعتقد أنه العاقل الوحيد وأن آراءه وأفعاله هي الصواب بعينه، وهو بالضبط ما يفعله الغرب. إنه يصنع القنابل النووية بالأكوام ويرسل طائراته تتحرش بروسيا وتتجسس عليها ويحضِّر للحرب الخاطفة فعلًا، ومع هذا يعتقد عن إيمان حقيقي — وهذا هو الجنون بعينه — أنه المسئول عن أمن العالم وسلامه والحارس على تراثه وحضارته. إن الغرب يحارب الشعوب فعلًا ويضطهد ملوَّنيها ويعذبهم ويخدش بأنيابه وأظافره استقلال الدول ويخوض ضد الحرية حربًا حقيقية واقعة، ومع هذا يصر — وعن إيمان أيضًا — على أنه هو الذي ظل يحمل المشعل ويضيء الطريق أمام الإنسانية لولا رعونة الدول الصغيرة ولولا مسئوليتها ومشيها بالوقيعة بين الكبار. الرجل المريض بنورستانيا اسمها إسرائيل وحمايتها، لا ينساها حتى وهو في قمة خياله وتخريفه؛ والمريض أيضًا — وإلى حد الجريمة — بمرض الخوف من العرب أو بالأرابوفوبيا والإيجيبتوفوبيا وبالذات بالناصروفوبيا.
أتريدون الحقيقة؟ لقد أحسست بالفخر وأنا أقرأ هذا الفصل؛ فقد أدركت أننا بكفاحنا وبقوَّتنا وبوجودنا الرائع الحاضر وبسياستنا، قد دفعنا الغرب لأن يفقد صوابه ويخرف، فخر بأنفسنا وبناصرنا وقائدنا الذي قال لهم: «موتوا بغيظكم»، فدفعهم الغيظ إلى ما هو أبشع من الموت، إلى الجنون.