مَن يحاسب مَن؟
لا أعتقد أني أول من وقف هذا الموقف ولن أكون آخر من يقِفه، لا بد قد حدث لكثيرين وسيحدث لكثيرين، ولكنه أبدًا لا يصل إلى الرأي العام الواسع إلا إذا كان الضحية من هؤلاء الذين لديهم الفرصة والقدرة على مخاطبة الرأي العام. ومع هذا فلست أعرف بالضبط ما هو الحل، ولكني مؤمن أن شيئًا ما لا بد أن يحدث ليوقف تلك المهازل والمخازي التي تلوِّث حياتنا وتُكسبها — مهما كانت رائحتها العطرة — رائحة القذارة والنتن.
منذ بضعة أيام كدت أفقد حياتي هكذا في غمضة عين ولسببٍ تافهٍ لا يمكن أن يتصور أحدٌ مَبلغ تفاهته. كنت منطلقًا بعربتي الصغيرة أعبر الميدان الكائن أمام المرور مع العربات التي فُتِحَت لها الإشارة الخضراء. وإذا بي وأنا في منتصف الميدان أكتشف — بالصدفة المحضة — أن هناك ترامًا قادمًا من الناحية اليسرى بسرعة مخيفة كاسرًا لا بد إشارة الوقوف الحمراء. لم يكن هناك وقت لأفكر في سبب عدم احترام السائق لإشارة الوقوف ولا في كيفية التصرف إزاء الموقف؛ فالمسافة بيننا كانت لا تتعدى الأمتار الخمسة وكان التصادم محتمًا ولا بد منه. كل ما في الأمر أن عليَّ أن أفعل المستحيل لإنقاذ نفسي؛ فقد كان مفروضًا أن يصدم الباب المجاور لي بزاوية عربة الترام وبقوة. ولا أعرف ماذا فعلت بالضبط ولا كيف استطعت أن أُدير العربة بقوة حلاوة الروح حتى توازي الترام بحيث يتهشم جانبها الأيسر وأخرج منها سليمًا بغير جرح خطير أو كسر. التفَّ حولي الناس يتفحصونني ويهنئوني بالنجاة، والتفُّوا حول السائق يلومونه ويعنِّفونه على رأسهم عسكري الإشارة الذي حين طلب الرخصة من السائق اتضح أنْ ليس معه رخصة وأنه ليس سائقًا بالمرة، إنما هو محصل سمحت له مؤسسة النقل العام أن يسوق ترامها لأزمة في السائقين. أما سبب كسره للإشارة فقد اتضح أنه كان متأخرًا بضع دقائق، وخوفًا من خصم بضعة قروش منه أو لفت نظره غامر بمحاولة اختراق الميدان بعد إضاءة النور الأحمر على أمل أن يستطيع قطعه قبل قافلة العربات التي فُتِحَ لها الطريق آنذاك.
تجمَّع الناس وتوقَّفت خطوط الترام وأُبْلِغَ بوليس النجدة، والتفَّ السائقون والمحصِّلون حول زميلهم يزجرون مَن يحاول لومه ويلقِّنونه ماذا يقول في المحضر، ولكن يبدو أن موقفه كان ميئوسًا منه وأن خطأه كان واضحًا إلى درجة أنهم تركوه والتفُّوا حول عسكري إشارة المرور وأخذوه بعيدًا حيث بدأت «الغمزات» و«اللمزات» تنهال عليه في الظلام. ولكني كنت على يقين أنهم مهما فعلوا فلا يمكن أن ينجحوا معه، أو يستطيعوا تغيير رأيه الذي جهر به علنًا منذ ثوان. ولكن بوليس النجدة جاء، وبدأ الضابط يأخذ أقوال العسكري. وإذا بي أُدهش وأُذهل وأكاد أُصْعَق إذ — هكذا علنًا وأمام عشرات المواطنين الذين كان يشترك معهم في لوم السائق وتعنيفه — يقول إنني أنا المخطئ وإنني أنا الذي اخترقت الإشارة الحمراء، وإن السائق كانت له الإشارة الخضراء، ولم يخطئ أبدًا وإنما هو المجني عليه وأنا الجاني. كدت أُصْعَق لأنه مهما كانت قوة «الغمز واللمز» فلِمَداها حدود، من الصعب أن تُفلح الرشوة في أن تجعل كائنًا مَن كان يشهد أن الشمس غائبة ونحن في منتصف النهار، ولكن هكذا قالها العسكري ومضى يؤكدها إلى درجة جعلت الدماء لا تغلي في عروقي أنا وحدي، وإنما في عروق كل المواطنين الحاضرين، وجعلتهم يهبُّون في وجهه مُكذِّبينه طالبين من الضابط أن يأخذ أقوالهم هم كشهود على ما حدث. وبصعوبة شديدة استطعت أن أقصر الشهادة على اثنين؛ ضابط شاب بمدفعية القوات المسلحة ومهندس زراعي. والحقيقة أن الفجيعة التي فُجِعْتُها في هذا العسكري والتي كدت معها أيأس من إصلاح كل جهاز يحتوي على أناس بلغوا من خسة النفس هذا الحد، تلك الفجيعة سرعان ما أعاد لها وأزالها تمامًا ما أبداه الضابط الشاب والمهندس من حماس وجرأة ونخوة دفعت لاستعادة ثقتي بشعبنا وقيمنا وإنسانيتنا. لقد قضينا أربع ساعات ننتقل من نقطة كوتسيكا إلى القسم إلى مكان الحادث، وبينما أجبرت المهندس على ترك عنوانه للاستعانة بشهاداته إذا احتاجها الأمر لم أستطع ولم ينجح المحامي في إقناع الضابط الشاب بالعودة إلى حياته وعمله؛ فقد أصر إصرارًا غريبًا على البقاء إلى النهاية وإلى أن تؤخذ أقواله ويدحض بها أقوال العسكري المغموز. فشهادة العسكري يأخذ بها القاضي كحقيقةٍ مسلَّم بها؛ فشهادته هو وهو ضابط كفيلة بدحض أقواله. كان غاضبًا وكأنه هو الآخر أُهِين إهانةً موجَّهة إلى كلِّ مصري، إلى كرامة شعبنا كله وآدميته. وصحيح أنه أدلى بشهادته وأن المحضر قُفِلَ وأن تلك الإجراءات قد انتهت، ولكن المهم، ما هي نتيجتها؟ أليست كارثة أن ندرك أن أقصى ما يمكن أن يناله السائق هو محضر مخالفة مرور؟ هل من الممكن أن تكون هذه المخالفة هي الجزاء الرادع لكل ما حدث؟ مؤسسة ضخمة كمؤسسة النقل العام من أجل توفير بضعة قروش تسمح لمحصل أن يعمل سائقًا فلا يكترث كثيرًا بأهمية اتِّباع لوائح المرور. ومحصِّل — في سبيل أن يتجنب كلمة لوم أو خصم يوم — يُعرِّض حياة المواطنين لخطر ساحق وأولهم ركاب ترامه أنفسهم. من أجل بضعة قروش تحدث في العربة خسائر يتكلف إصلاحها مائة وخمسين جنيهًا. ثم في النهاية تأتي المهزلة الكبرى، وفي سبيل غمزة أو لمزة تافهة يُضيع عسكري يأخذ القضاء كلامه حجة لا تقبل الطعن أو الجدل، يضيع هيبة القانون الذي يحميه وهيبة الحكومة التي يُمثِّلها وإدارة المرور التي يواجهها.
يضيع هيبتها جميعًا وحُرمتها وثقة عشرات المواطنين فيها، وأمامهم يكذب ويدلِّس ويلفِّق للجاني براءةً تُعفيه من المسئولية ويُلفق للمجني عليه خطأً يُضيع حقه.
إن ما يحز في نفسي أنه رغم بشاعة كل تلك الجرائم التي ارتُكِبَت معي والتي تُرْتَكَب مع غيري، فإن أحدًا من مرتكبيها لا يناله أدنى عقاب. المؤسسة لن تعاقَب؛ فما من أحد يعاقِب المؤسسات إذا أخطأت في أزمة سائقين أو أزمة بوتاجاز أو أزمة كيروسين أو سمن صناعي.
والسائق أقصاها محضر مخالفة بجنيه، والعسكري مهما كان ما فعله ولو كان قد انقلب أيضًا إلى معتدٍ اعتدى عليَّ أو على غيري فلا أحد حاسبه أو يحاسبه، ولا يزال واقفًا أمام الإشارة في مواجهة إدارة المرور مرفوع الرأس، نظيفًا، لا يستطيع أحد أن يقول له «تلت التلاتة كام».