عبقريات مدفونة
لا شك أن لدينا عبقريات مدفونة. وإني لأنحني احترامًا وإجلالًا لعبقرية ذلك الموظف الألمعي النشيط الذي ظل شهورًا يفكر ويُعْمِل عقله ويدبِّر ويبحث وينقِّب عن مشكلة المشاكل في جهاز من أجهزة حياتنا، عصب الحياة العصرية ولازمتها: التليفونات، تلك التي لا تنقطع الشكاوى منها ومن تعطُّلها وفقدان حرارتها وتشابُكها والزيادات غير المعقولة في فواتيرها، لا بد أن ذلك الموظف العبقري النشيط استعرض هذا كله ثم هداه وحي العباقرة — الذي هدى نيوتن إلى التفاحة وأرشميدس إلى الحمام — إلى أن الحل الحاسم لكل أزماتنا التليفونية هو إنشاء شبكة تليفونية لاسلكية جديدة تُرَكَّب في العربات، وتستطيع وأنت جالس فيها أن تمدَّ يدك وتطلب أي رقم تشاء، وأن توقف العربة على الكورنيش وتطلب حبيبتك لتهمس لها بالشوق الذي لا تستطيع كبحه إلى أن تصل بعد دقائق إليها، أو من خلاله تستطيع أنت أيها الزوج أن تطلب الأرقام التي لا تجسر على طلبها تحت رقابة زوجتك أو مرءوسيك في المكتب.
كلام إيه ده أيها السادة؟! لقد طُفْتُ بكل بلدان أوروبا تلك التي نخجل من مقارنة مستوى المعيشة فيها بمستوى معيشتنا، ومنها البلاد التي تصنع التليفون واللاسلكي نفسه ولا تستورده مثلنا، ولم أجد فيها أثرًا لذلك النوع من التليفونات، ولكن أيضًا لم أجد في تلك البلاد أثرًا لكل شكاوانا من التليفون العادي الذي أصبح وجوده واستعماله أمرًا حيويًّا مثل المواصلات سواءً بسواء. ولا زلت لا أستطيع أن أضمن البلد الخرافي الذي استطاع ذلك الموظف العبقري أن يقتبس منه الفكرة. ولا بد أننا حللنا جميع مشاكلنا التليفونية والتلغرافية والمعيشية ولم يبقَ لكي تُصبح حياتنا الجنة المثلى إلا أن نستكملها بإضافة آخر صيحة في عالم الاتصالات: تليفون السيارة. عشرات الآلاف من المواطنين في انتظار حلول دورهم في تركيب التليفون، أطباء وعيادات ومستشفيات بلا تليفونات، وتليفونات بلا حرارة، وحرارة بلا خطوط، وخطوط تتشابك مع خطوط، وألف مليون مشكلة تحيط بتليفوناتنا، ونتركها كلها لنستورد — وبالعملة الصعبة — تليفونات تُرَكَّب في سيارات، سيارات مَنْ؟ سيارات يستطيع أصحابها أن يدفعوا مائة جنيه للتليفون، سيارات طبقة أرستقراطية جديدة لا بد أنها نشأت في غفلةٍ عنا وأصبحت لها مشاكل الأرستقراطية التي لا تستطيع أن تصبر دقيقة أو دقيقتين لكي تصل إلى البيت أو المكتب؛ ولهذا أصبح على دولة العمال والفلاحين أن تستخدم نقود العمال والفلاحين في جلب تليفونات لاسلكية تريح أعصاب المرفهين من دقيقة قلق أو ترقُّب.