اللغة التي لا نجيدها
يُخيَّل لي أن مواطنينا قد «زهقوا» من الطريقة الواحدة غير المتغيرة التي نتكلم بها عن «الاستعمار» و«أذنابه».
غير معقول أن نظل خمسة عشر عامًا نكرر كلماتٍ كهذه في تصوُّرهم فوق حقيقتهم أو تحويلهم إلى رموز وكنايات. غير معقول أن يستحيل أعداء كهؤلاء إلى قوًى مطلَقة خفيَّة كلفظ الجن أو كلمة العفاريت.
إني لا أدعو بهذا الاستهانة بالقوى الاستعمارية التي تُحاربنا دائمًا، وإنما أدعو إلى تحديدها، وتحديد حجمها وبدقة، تحديد مَن معنا ومَن علينا ومَن معهم ومَن عليهم وبدقَّة أيضًا. وكفى مطْلَقات، كفى أن يقال: إن الرأي العام الأوروبي — مثلًا — ليس معنا أو بدأ يتحول. كيف حدث هذا؟ وأين؟ وأي البلاد في حاجة إلى جهدٍ أكبر؟ كل هذا أصبح مطلوبًا اليوم لكي يتجسَّد لنا العدو من تجهيزات وجبهات، نعرفها ونعرف بالضبط حجمها فلا نخاف منها، ولا نغالي في الاستهانة بها. وأحد أسباب هذا في رأيي هو إخواننا الأساتذة كُتَّاب السياسة في الصحافة، أو القِلَّة الذين كان مفروضًا أن يُدْفَعَ لهم بالحقائق — والحقائق وحدها — لتقديمها للناس، بدلًا من استعمال الخطابات أحيانًا، وأحيانًا أخرى استعمال الكلمات المجرَّدة كالاستعمار أو أعوانه.
أو … أو … إلخ.
والنتيجة أن توجد كلمات — كالاستعمار وأعوانه — وتضيع الحقائق، أم هل نتصور أننا بقولنا كلمة استعمار والاستمتاع بالرضا عن النفس بعدها نكون قد أعطينا مواطننا كل شيء عن الموضوع؟
لا أتمنَّى شيئًا قدْرَ ما أتمنى أن يكون لنا سلك ديبلوماسي نشِط كالسلك اليوجسلافي. في نفس اليوم وباليد، وصلني مظروفٌ ضخم لمطبوعاتٍ شتَّى أهمُّها في رأيي هو ذلك الكُتيب الصغير الهام الذي يحوي إنتاجًا لثلاثين كاتبًا وشاعرًا، وكلُّهم من جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ «أي ممن نسمِّيهم هنا بالكُتَّاب الجُدُد». والإنتاج مترجم من السلافية إلى الإنجليزية في كتابٍ يصدر كل ٤ شهور وتطبعه جامعة «فالاري ديكنسون» بنيوجرسي وتُصدره للعالم كله، وأول ما تتلقَّفه بالطبع هو سفارات الدولة المنشور عن أدبها الكتاب؛ «إذ هي في كل مرةٍ تنشر أدبًا مختلفًا»، وتوزِّعه على كلِّ من يهمهم الأمر ليدفعهم — حتى مجرد حب الاستطلاع — إلى قراءة ولو كفكرة عن آداب الناس وكيف يكون إنتاجهم الجديد مثلًا.
والمهم ليس هذا أيضًا، ولا من أجله كتبت هذه الكلمة. المهم أنه داخل هذا الكتاب توجد قائمة بأسماء الكتب اليوجسلافية التي صدرت بالإنجليزية. والقائمة تشتمل على كُتَّاب من الكلاسيكيين من أمثال إيفو أندريتش، وهو من أشهر مَنْ في يوجسلافيا وأعظم «يدوسلاف كريلزا»، وإن كان لم يقدم بالعربية أبدًا، فإن تعدادها أكثر من ثلاثين كتابًا صدرت في العالم الغربي عن الكُتَّاب اليوجسلاف المعاصرين.
وإصدار هذه الكتب ليس أبدًا نشاطًا للناشرين الغربيين. إن وراء كلٍّ منها نشاطًا لا يخمد لليوجسلاف أنفسهم وتقديمًا مستمرًّا لإنتاج كُتَّابهم ووضعه في متناول الناشرين والمترجمين، ثم بعدُ إخراجه وتوزيعه على نطاق العالم أجمع، وبواسطة هذا الشيء الغريب لدينا المسمَّى السلك الديبلوماسي والذي إذا لم يكن نَشْر فنِّ بلده وإنتاجه على أوسعه نطاق هو عمله، فماذا يكون العمل إذن؟!
إن وراء فوز إيفو أندريتش بجائزة نوبل مثلًا قصصًا طويلة من جهود ظلت تبذلها وزارات الثقافة والخارجية من ترجمة لأعماله وعرْضها على الناشرين في إنجلترا، وشراء كميات منها توزعها على كلِّ ملحقيها الثقافيين في الخارج لا ليضعوها في المخازن ويذهبوا يبحثون عن المرسيدس والنجف، وإنما لكي يوجَّه كل كتاب منهم إلى شخصٍ بعينه من المهم أن يعرف إنتاج أندريتش، وهكذا إلى أن أصبح أندريتش كاتبًا معروفًا على نطاق العالم أجمع.
وكل صرصار أو مشروع كاتب في إسرائيل تقام له ضجة وكأنه اختراعٌ جديد تفتَّق عنه الذهن الإسرائيلي العبقري.
إن الدول الآن — أو بالضبط الشعوب — أصبح اهتمامها بالسياسة يأتي لاهتمامها بفنون البلاد الأخرى وغنائها وموسيقاها. إن الفن الهندي منتشر مليون مرة أكثر من السياسة الهندية، أما نحن فسياستنا (على قدر ضيق انتشارها) منتشرة أكثر بكثير من فننا وأدبنا، وهذا ما يجعل الآخرين يعتقدون أننا أمة من الصُّمِّ غير القادرين على التعبير. إن معلوماتهم تقف عند حدود المتخصصين جدًّا، وحتى عند البعض إلى عصر ابن الهيثم أو ربما ابن دانيال. إننا لو انتهزنا فرصة اهتمام الناس بنا بعد حرب يونيو وأغرقناهم بموسيقانا وأشعارنا وقصصنا ولوحاتنا؛ لكان في هذا أعنف وأبلغ ردٍّ للمؤامرة الخبيثة ضدَّنا وقتل وتشريد مواطنينا بزعم الدفاع عن النفس.
إن الفن هو لغة عصرنا، ومن لا يستطيع التفاهم به مع الآخرين سوف يبقى عاجزًا عن الوصول إلى الناس. غير مهم الحكومات؛ فالناس هي صانعة السياسة وصانعة الحكومات والرأي العام، والوصول إليهم هو انتصارنا الأكبر؛ فلا قيمة لأي انتصار حربي لا يحظى بعطف العالم وتأييده. القيمة الحقيقية أن يكون العالم معك. لن يكون معك إلا بأن تعمل أنت أولًا وبكل طاقتك، وفي كل الاتجاهات.
متى يحدث هذا كله؟