حديث مع أم كلثوم
حين رأيتها تغني تذكرت قول شوقي في وصفها وهي تغنِّي:
واستعدت قول كامل الشناوي عقب حفلتها الأخيرة التي أُذِيعت بالتليفزيون:
إنها لم تكن تغني؛ فالمغني هو الذي يؤدي اللحن كما أراده الملحن. لقد كانت منفعلة بالكلمات كأعظم ما يكون الانفعال. إن الملايين معها كانت تقشعر أجسادها وتنتفض كلما قالت: ثوار، ثوار، ولآخر المدى ثوار، لكأنها كانت تُعلن بقولها ثورةً، أو لكأنَّ ثورةً كانت تُعلِن عن نفسها من خلالها. كانت تقف ووراءها تراثنا الموسيقي تحميه وتذود عنه؛ القصبجي بالعود وسبعين عامًا، القصبجي الذي علَّم عبد الوهاب العود، وعبده صالح الذي يحبو إلى الستين على القانون، وإبراهيم عفيفي على الرق وقد ناهز السبعين هو الآخر، وكلهم يردون بالعزف وانبثاقات الانفعال، ثوار، ثوار.
فينقلبون إلى شبان في العشرين وحتى إلى فتوَّات. ماذا هذا؟ إنه لشيء معجز. إنه لإقطاع غنائي. إنه الإقطاع الغنائي الوحيد الذي تحتِّم الاشتراكية أن نُبقي عليه ونُنميه. حتى الكاميرا، خشعت ووقفت من بعيد كأنها تستمع.
وحين وجدت أننا جميعًا في حاجة لمعرفة رأي أم كلثوم في القوانين الثورية الجديدة، رأي تلك المعجزة التي وُلِدَت في السنبلاوين دقهلية من الفلاحين وبين الفلاحين المعدمين، رأيها وقد بدأت دولة الفلاحين وأصبح المحل الأول فيها للعاملين، رأيها في فنها، في أهداف الفن، فيها، في إحساسها وقد خسرت بعض النقود وكسبت كل الأرواح.
حين فكرت في هذا كله قررت أن أتصل بها في رأس البر، وتحمَّس الصديق مأمون للفكرة ورفع السماعة.
(دقائق انتظار «للحقِّ لم تزد عن دقائق، لا بد أن مصلحة التليفونات قد مسَّتها الثورة بشعلتها» ثم دق الجرس.)
(وأمسكت بالسماعة، ومن الأذن المعدنية سمعت الصوت): أنا أم كلثوم.
(كان الصوت مفاجأة؛ فقد كان لفتاة في العشرين، جميل، أنثوي، فيه كل شباب البر، وأحلام رأس البر.)
(ملحوظة: أدركت فعلًا أن الأمر غير معقول.)
(أصوات تتداخل في الخط وكأنما دخل فيه وابور حرث، عاملات التليفون يتخاطبن خلال الضجة، كيف؟ لا أدري، خط آخر دخل علينا كالزوبعة وخرج تاركًا زوبعته، طنين هائل وكأن بركانًا تفجَّر في رأس البر، أيوه يا دمياط، آلوه، مائة آلوه قيلت، بعضها مني، وبعضها بأصوات غليظة، وبعضها يشبه حفيف الثياب على الثياب، وأنا ألعن هذا كله فقد أضاع مني أم كلثوم، كالراديو حين يفسد فجأة وسط حفلتها؛ لذلك ما كان أسعدني حين قلت آلوه مرة، فسمعت من الطرف الآخر أجمل آلوه.)
(أنا ومأمون في نفس واحد، أنا إلى السماعة وهو إلى هواء الحجرة): أيوه احنا.
(أصوات مذكرة ومؤنثة وإنسانية وآلية كثيرة، مدافع وأزيز طائرات، سكون، طلقة أخيرة.)