أوقفوا هذه الجرائم
القراء لا شك قرءوا بالأمس حادثة الخادمة التي عذَّبها مخدومها فآثرت الانتحار … إلخ إلخ. ولأن الحادثة وقعت في نفس البيت الذي أقطنه، وشهدتها عن قرب وشهدت المحاولات التي بُذِلَت لتحطيم الأبواب وإنقاذها، فإني لا أستطيع أن أمنع نفسي من رواية ما حدث حتى ولو كان ما حدث لا يطابق تمامًا ما نُشِرَ بصحف الأمس: فجأة وجدت العمارة تدوِّي بالصراخ والاستغاثة، وحسبتها أول الأمر خناقة زوجية، ولكن استمرارها أكد لي أن هناك حادثًا أخطر.
غادرت شقتي في الدور العاشر مسرعًا، وهناك — في الدور الثامن — وجدت جمعًا كبيرًا من رجال العمارة وسيداتها وأطفالها وبوابيها يزدحمون عند باب الشقة رقم ٥٠ ويحاول بعضهم تحطيمه. سألت عن السبب، أشاروا إلى نافذة المنور، ومن خلالها رأيت مشهدًا رهيبًا، فتاة تلتهمها النيران وهي تصرخ وتطلب من الناس أن ينقذوها؛ لأن باب المطبخ أغلقه أصحاب الشقة عليها. ولما كان باب الشقة هو الآخر مغلقًا فقد كان علينا أن نحطم بابين لنصل إلى الفتاة في خلال دقيقة أو أقل لنستطيع إنقاذها قبل أن يحترق جسدها تمامًا. وحين فشلت محاولات تحطيم الباب الخارجي للشقة استطاع اثنان من البوابين أن يقفزوا من خلال نافذة الجيران إلى الشرفة الخلفية للشقة ولكن بلا فائدة؛ فقد جاء صوتهما إلينا يخبرنا أن باب المطبخ محكم الإغلاق والمفتاح مع أصحاب الشقة، وهكذا ظللنا نحن نحاول تحطيم الباب الخارجي وظل البوابان يحاولان تحطيم باب المطبخ بينما النار تنهب حياة الخادمة نهبًا، حتى حضر بوليس النجدة والمطافئ وحطم العساكر البابين.
ودخلت مع المطافئ والبوليس لإسعاف الفتاة، ولكن أي فتاة؟! لقد كانت فحمة مشوهة مسلوخة الجلد في بقع، ومع هذا فقد كانت لا تزال فيها الروح ولا تزال تمشي وتتأوه وتتكلم بعقل وكأن شيئًا لم يحدث، سألها الضابط عما حدث فقالت: إن مخدومَيها اعتادا إغلاق باب المطبخ عليها وباب الشقة، حتى لا تهرب؛ لأنها كانت لا تريد العمل عندهم، وأنهم حلقوا لها شعرها، وهي المتزوجة حتى لا تنزل لمقابلة زوجها وتبقى تعمل في خدمتهم، وأنها في ذلك اليوم بالذات أرادت أن تولع الوابور لتغسل الملابس التي تركتها لها سيدتها فهبَّ فيها الوابور واشتعلت النار في ملابسها فصرخت تطلب النجدة؛ لأن باب المطبخ كان مغلقًا عليها وليس في المطبخ شيء تستطيع أن تطفئ به نفسها.
وكنت أستمع لأقوالها وأنا مغيظ، فلو لم يكن باب المطبخ مغلقًا عليها لأمكن إنقاذها ببساطة، ولما قضت نحبها هي والجنين الذي قال لنا زوجها الغلبان إنها حامل فيه.
كان واضحًا أن الفتاة لن تعيش أكثر من ساعات، وكان واضحًا أن هذه آخر أقوالها، وجاء الإسعاف، ولم يكن مع متطوعيه نقَّالة، فمشت كالمسخ الرهيب ملتفَّة ببطانية قديمة اقترضها لها البوابون وكادت تسقط فزعًا حين خرجت من الشقة وقابلتها صرخات النساء، ونظرات الهلع من عيون الرجال، ولكنها تحاملت على نفسها، ومشت بقدميها إلى الأسانسير، وبعد ساعات عرفنا أنها ماتت في المستشفى.
ومن عدة أيام كنا نقرأ أخبار زوجة أستاذ الجامعة المتهمة بقتل خادمتها.
ومن أسبوعين كنا نقرأ أخبار الخادمة التي عذبها سادتها بالكي بالنار، قتل وكي بالنار وسجن وتعذيب، أين نحن؟ وفي أي عصر؟ وبأي حق يقتل المواطن مواطنة أخرى أو يكويها أو يسجنها ويرغمها على العمل عنده لمجرد أنها تقوم بدور الخادمة.
إني لأطالب بإنقاذ هذه النفوس البريئة، وأطالب بسَنِّ تشريع عاجل يوقف هذه الحمَّى ويحدد علاقة المخدوم بخادمه، وليُرفع الخدَمَة من وهْدة العبودية الوحشية إلى مرتبة العمل المنظم بقوانين. إن هناك شكوى عامة من الخدم والخادمات، سببها في الواقع أن علاقات العمل العبودية هذه أصبحت مصدر تذمُّر غير منظم من الخادمات والخدم، تذمُّر لا يجد له من يعبِّر عنه، ومن يطالب لهم بحقٍّ واحد بدائي؛ حق أن يعامَلوا كبشر.