النقد الشامل
أعتقد أننا يجب أن نأخذ النقد — بعد ما ذكره الرئيس جمال عبد الناصر عنه في خطابه أمام مجلس الأمة — مأخذًا علميًّا، بحيث إننا من المستحيل أن نعتمد في ممارستنا للنقد اعتمادًا كليًّا على ما تتطوع به أقلام الصحفيين والكُتَّاب، فإما أننا نؤمن بالفائدة الأكيدة للنقد وبأهميته القصوى في عملية البناء أو التحول أو الانطلاق على حد سواء، وإما أننا نؤمن به إيمانًا حقيقيًّا ونعرف دوره المؤكَّد، وفي هذه الحالة لا بد أن ننظمه التنظيم الصحيح ونوسع رقعته بحيث تشمل كافة مرافق حياتنا، وبحيث يصبح النقد جزءًا لا يتجزأ من العمل، وبحيث تسير عملية النقد جنبًا إلى جنب مع عملية الإنتاج، وإما أننا لا نزال ننظر إليه كنوع من الضرر الذي لا بد منه؛ وفي هذه الحالة فلا فائدة مطلقًا من نقدٍ لا يتقبله المنقودون ولا يعملون به، وإن رضخوا له كان رضوخهم رضوخ الخائف من التشنيع والتشهير.
وهو بالضبط الفارق بين النقد في مجتمع اشتراكي وبين النقد في مجتمع لا يزال خاضعًا لقيم رأسمالية متعفنة. إن النقد ليس «شتيمة» وليس تجريحًا وليس حطًّا من قدر أحد، ولكنه جزء متمم لكل عمل، وبدونه يبقى العمل ناقصًا حافلًا بالعيوب. لو لم يجد النجار من ينقد مناضده وكراسيه وموبيلياته لما فطن إلى عيوبها الخَفِية، ولولا النقد ما اكتمل النضج الفني لكاتب ولا استقام الحكم لحاكم.
لا مناص لنا إذن من أن نأخذ النقد مأخذ أناس يبنون حياتهم لكي تبقى أعمارًا تلو أعمار. لا مفر لنا من أن نأخذه كالحقائق المسلَّم بها، كالنسبة الضئيلة من غاز ثاني أكسيد الكربون التي يجب أن يستنشقها الإنسان لكي تُحرِّك مركز تنفُّسه وتجعله ينشط. وثاني أكسيد الكربون موجود في الطبيعة بنسبة معينة وموزَّع توزيعًا مُحكمًا، بحيث لو خلا منه مكان لهلك فيه الإنسان اختناقًا. وكذلك النقد؛ لقد ذكر لي صديق زار الصين أن النقد هناك يزاوَل بطريقة شاملة، وبحيث قد تبدو الصورة لنا مضحكة؛ فسائق القطار مثلًا لا بد أن يجتمع مع الكمسارية والعمال بعد كل رحلة للقطار حيث يقومون في هذا الاجتماع «بنقد» الرحلة وما حدث فيها من أخطاء وكيف يستطيعون التغلب عليها في المرات القادمة. والنقد عندنا لا يجب أن تقوم به الصحافة وحدها، وإنما يجب أن يشمل وينبع من كل وحدة عمل، بحيث تتولى كل وحدة نقد نفسها وطريقة إنتاجها ومناقشة الوسائل الكفيلة بزيادة هذا الإنتاج، والصحافة ليست إلا جزءًا — يعتبر ضئيلًا جدًّا — بالقياس إلى الإذاعة والتليفزيون التي يجب ألا تخلو برامجها من النقد في يوم من الأيام، فليس يكفي أن نجد النقد في برنامج «رأي الشعب» أو «على الناصية» مثلًا! إننا بهذه الطريقة نقطع خط الرجعة على كل الوجوه الحسنة لحياتنا التي نقدمها في الإذاعة أو التليفزيون؛ لأن شعبنا لا يمكن أن يصدق أن كل وجوه حياتنا حسنة، وأن كل شيء يمضي أربعة وعشرين قيراطًا، إننا بهذا نعطيه صورة غير حقيقية عن حياته ومشاكله، ونجعله يطمع إلى مزيد من الحقوق فقط على اعتبار أنه أدى كل الواجبات، بدليل ما تذيعه الإذاعة وما يعرضه التليفزيون. إن الناس تريد أن ترى حياتها ومشاكلها وصعوباتها منعكسة فيما تسمعه وفيما تشاهده، في التحقيقات التي يمكن أن يقدمها التليفزيون عن أزمة المواصلات، في الصورة التي يمكن أن تقدمها لنا الكاميرا عن زحام السيارات وتجمعات أفراد الشعب على المحطات ورعونة بعض السائقين والعمال وغطرسة بعض الركاب ووقاحتهم! وفي المعالجات المختلفة لأزمات التموين، أين هو من أخطاء بعض الوزراء والمسئولين؟ إن التليفزيون وسيلة قاهرة وفعالة في اكتشاف الأخطاء وتحديد المسئولين عنها ونقدهم، وكذلك الإذاعة بالنسبة إلى عدد المواطنين الهائل الذي لا يقرأ ولا يكتب، والذي تُعْتَبر الإذاعة بالنسبة إليه مصدر التثقيف الوحيد والمتنفس. قد يقول قائل: إن إذاعاتنا تُسْمَع بالخارج وسوف يستغل الأعداء نقدنا لأنفسنا ولأجهزتنا في دعاياتهم، والرد على هذا بسيط. إن خير دعاية لنا أن يحس العالم من حولنا أننا لا نمشي على أرض مفروشة بالحرير، وأن في حياتنا صعوبات ومشاكل وأخطاء، وأننا رغم هذا نمضي ونتقدم بسرعة خارقة. إنك قد تعجب بالشخص حين تراه يقطع المسافة من ميدان التحرير إلى ميدان المحطة في عشر دقائق من الجري، ولكنك لا بد ستذهل لو عرفت أنه قطع كل تلك المسافة وفي قدمه شوكة، وما أكثر الأشواك في أقدامنا! وما أسرع ما نجري! وما أروع أن يعرف العالم الحقيقة عنا! فخير دعاية لنا هي أن نُرِيَ للدنيا حقيقتنا ونُطلعهم على حقائقنا؛ فالدعاية قد تفشل ويكذِّبها معظم الناس، أما الحقائق فإنها دائمًا تأخذ طريقها إلى القلب والعقل.
إن مهمة النقد يجب أن تشغل حيزًا كبيرًا في جميع وسائل الإعلام، سواء في الصحافة أو الإذاعة أو التليفزيون؛ فالعبء أكبر وأضخم من أن تحتمله وسيلة من هذه الوسائل دون الوسائل الأخرى، بل يجب أن تكون جميع أجهزتنا مفتحة الأعين حتى لا تظل الغالبية العظمى من شعبنا متخلفة عن إدراك حقائق حياتنا ومشاكلنا، وهو وضع أخطر بكثير من عملية النقد مهما كان ضرر النقد الشامل، لو كان للنقد الشامل أضرار.