ماذا نفعل بداليدا وإليزابث؟
أكثر من مرة خلال هذا الشهر أقرأ آراء تُطالب بإبعاد أو منع أفلام وفنانين لهم علاقة بالصهيونية أو بإسرائيل. وليس من قبيل الصُّدف أن يتزعم هذه الحملة الأستاذ ناصر النشاشيبي، وما دام رائدنا كلنا هو الإخلاص لعروبتنا والغيرة عليها فالموضوع يُخَيَّل إليَّ أنه في حاجة لمناقشة أعمق، ولموقف أكثر من مجرد صرخة تتعالى: امسك صهيوني، أو امسك دعاية لإسرائيل. عسى أن نخرج في النهاية برأي أو بوجهة نظر تخدم قضيتنا أكثر، وإن اختلف هذا الرأي مع معظم الآراء التي نقرؤها بين الحين والحين.
ومبدئيًّا يجب أن نفرق بين مقاطعة الشركات المتعاملة مع إسرائيل والمقاطعة الفنية، فنحن حين نقاطع هذه الشركات اقتصاديًّا نوقع عليها عقوبة حقيقية؛ لأن البلاد العربية كقوة شرائية واقتصادية أهم عشرات المرات من إسرائيل، بحيث لا بد لأي شركة أن تفكر مرتين قبل أن تقرر بيعنا لشراء إسرائيل.
ولكننا في الأفلام والمسائل الثقافية لا بد لنا أن نفكر مرتين قبل منعها أو مقاطعتها، إذ نحن بهذا الإجراء سنحرم أنفسنا نحن؛ ولهذا لا بد أن نتأكد أننا نحرمها فعلًا من شيء ضار، وأننا لا نأخذ الأمور بالشبهة؛ إذ من الممكن أن نصل إلى حد متطرف نعزل أنفسنا فيه عن الثقافة العالمية عزلًا خطيرًا، أو نمنع ترجمة هارولد لاسكي باعتباره يهوديًّا، ونقاطع نظريات فرويد وداروين وأينشتين باعتبارهم يهودًا، ومن الممكن أن يوجد بين الأحياء منهم من يعطف على إسرائيل، ونحن في هذه الحالة لن نضر إسرائيل أو الثقافة العالمية، سنضر بالتأكيد أنفسنا.
وبينما في الحقل الاقتصادي إثبات التعاون والتعامل مع إسرائيل أمر هين لا يحتاج لبذل جهد، نجد أن المسألة في الحقل الفني أو الثقافي ليست بهذه البساطة والمحدودية، ولا يمكن أن نتخذ فيها قرارات على أساس آراء مُبَالغ فيها تُنْشَر، أو صيحات تذكِّرنا بصيحات الماكارثيين ترتفع؛ فكثير من الأعمال التي قرأت أن بها دعاية صهيونية ذهبت لمشاهدتها فلم أجد بها أية دعاية من هذا القبيل، وأقربها فيلم محاكمة نورمبرج، وإني لأقف مع الأستاذ محمد علي ناصف مستعدًّا لأية محاكمة أو مسئولية تثبت أن لهذا الفيلم علاقة بإسرائيل أو بالصهيونية.
إن حرماننا من عرض هذه الأفلام — لمجرد الشبهة ولمجرد صيحة ترتفع — لن يخسر الشركات المنتجة له شيئًا يذكر، ولكنه سيجعلنا نحن نخسر رؤية ومشاهدة ومتابعة وثائق إنسانية وتاريخية وثقافية، لا نستطيع بحكم إمكانياتنا أن نُنتجها محليًّا. من أجل هذا يجب أن لا ندع تقرير هذا الأمر لرأي سريع يقال في صحيفة أو مجلة، ولا حتى للرقيب السينمائي وحده، وإنما يجب أن تؤلَّف لجنة استشارية للرقابة من كبار نقادنا الواعين تُعْرَض عليها الأعمال المشكوك في أمرها وتتولَّى هي وحدها الفصل في شأنها.
داليدا، وإليزابث تايلور
هناك مسألة أخرى، الفنانون والشخصيات التي تؤيد أو تجمع المال أو تدلي بتصريحات في صالح إسرائيل. إن من رأيي أننا يجب أن نغيِّر جذريًّا من وجهة نظرنا في هذا الموضوع، وحسبنا أن نعرف ما فعله كاسترو في وفد الصحفيين الأمريكيين الذي رافق وفد المفاوضة عقب العدوان الرجعي الأمريكي على كوبا. هؤلاء الصحفيون كانوا قادمين إلى الجزيرة وكاسترو فاقد الأمل تمامًا فيهم ومتأكد أنهم حتى لو اقتنعوا شخصيًّا بعدالة القضية الكوبية لن يجرءوا على تحدي رؤساء التحرير وأصحاب الجرائد الأمريكية ونشر آرائهم تلك. ومع هذا حين جاءوا مع الوفد، هل قاطعهم؟ هل حاصرهم في فنادقهم؟ هل رفض دخولهم كوبا أصلًا؟ لم يحدث شيء من هذا. بالعكس، كاسترو رغم كل مشغولياته ومسئولياته وعقب عدوان ترك الجزيرة في حالة توتر واضطراب، ترك كل شيء ورافق — بنفسه — الصحفيين الأمريكيين الذين يُعادونه ويُعادون ثورته، واستمر يناقشهم ويجادلهم ويشرح لهم ثورته وظروف بلاده.
كاسترو فعل هذا؛ لأنه يعلم أنك إذا استطعت كسب العدو — أي عدو — فهو قمة النصر لك ولثورتك ولمبادئك.
- فأولًا: الناس خارج بلادنا — وبالذات في المعسكر الغربي — لا بد أن نفترض أنهم — نتيجةً للدعاية الصهيونية الواسعة — يعطفون فعلًا على إسرائيل.
- وثانيًا: يجب أن نقتنع أنه حتى القضية العادلة في حاجة إلى شرح وتوضيح، في حاجة إلى أن ننطق كي يفهمها الناس ويؤمنوا بها. بمعنى آخر، إن الأصدقاء لن يهبطوا علينا من السماء، ولا بد أن نؤمن أننا لن نكسبهم إلا ببذل جهود إيجابية.
- ثالثًا: إن مكاتب الدعاية للقضية العربية بالخارج قد تصلح للدعاية لقضايانا بالنسبة للرأي العام، أما بالنسبة للشخصيات الفنية والأدبية والعلمية فنشرات هذه المكاتب لا تكفي — للأسف — لإقناعها. وهذه الشخصيات ليس أمرها هينًا بالمرة. إن الكاتب أو الفنان أو العالم بالخارج موقفه أو رأيه أو وجهة نظره شيء خطير للغاية، والكفاح من أجل كسبه يؤدي في الغالب إلى كسب كل القطاع الضخم الذي يؤثر فيه.
- رابعًا: يجب أن نعي أن هذه الشخصيات ليست أصلًا صهيونية، وإنما أصبحت كذلك أو بدأت تعطف على إسرائيل نتيجة لنشاط دعايتهم، وفي رأيي أن معظمها قابل للاقتناع بالحقيقة إذا أتيحت له الفرصة كي يفهم ويدرك ويغير موقفه؛ فالعقوبة تزيد المؤمن بشيء؛ استمساكه بإيمانه. وكل عقوباتنا هذه التي اتخذناها ضد داني كاي لم تُخِفْ إليزابث تابليور ولا أخافت داليدا، ولا يمكن أن تخيف أحدًا.
- خامسًا: بقيت نقطة أخيرة، قرأت للأستاذ التابعي أول أمس كلمة حول هذا الموضوع أنهاها بقوله: إننا نأخذ هذا الإجراء لأنه إجراء تفرضه علينا كبرياؤنا وكرامتنا وموقفنا من إسرائيل والصهيونية. وقمة الكبرياء والكرامة بالنسبة لمؤمن بقضيةٍ ما ليست هي أن يخاصم خصومه ويفتح الباب للأصدقاء. إننا أصحاب ثورة ومبادئ وقضية عادلة، وقمة إيماننا بكرامتنا وكرامة هذه القضية يتجلَّى، لا بالمقاطعة والخصوم وإنما بالإقناع، بأن نقنع، كما فعل كاسترو وكما يفعل أصحاب القضايا، وبدلًا من أن نقاطع ندعو هذه الشخصيات لترانا على حقيقتنا، لترى جهودنا السلمية في بناء بلادنا، لترى أننا لسنا تترًا ولا معتدين، لترى أننا نحاول أن نرفع عن رءوسنا تراب أربعة آلاف عام من الذل والهزيمة والاستعباد.
إنني أطالب — بدل أن نقاطع هذا النجم أو ذاك — أن نبعث له بدعوة ليحضر إلى القاهرة، وإني لمتأكد أنه في معظم الحالات سننجح نجاحًا أكيدًا في خسران أعداء وكسب أصدقاء.
إنني لا أزال أذكر المرارة التي أحسست بها حين رفضت السفارة الأمريكية بالقاهرة منحي تأشيرة سفر لأمريكا باعتبار أني «غير صديق». وكأنهم لا يصح أن يعطوا فيزات إلا للأصدقاء اللصقاء والعملاء. وفي ظني أن كثيرين ممن نرفض حضورهم — مثل داليدا — قد يغادروننا وهم أكثر فهمًا لنا ولقضيتنا؛ إذ إن معظم المواقف الخاطئة التي يقفونها سببها الجهل بنا وبجهودنا في بناء بلادنا ودفع قوى شعبنا إلى الأمام.
لنغيِّر الشعار من «المخاصمة والمعاداة» إلى «الإقناع»، وخير وسيلتنا لهذا الإقناع هو الحقيقة، فلنُطلع هؤلاء الناس عل حقيقتنا، ولا نيأس. قد تحدث حالات شاذة، وقد لا يؤمن بعضهم، ولكنا بالاستمرار والإصرار سنكسب ونظل نكسب.