ظاهرة خطيرة
الظاهرة الخطيرة التي تجتاح حياتنا الجامعية هذه الأيام هي انصراف معظم السادة أساتذة الجامعات ومدرسيها إلى الكتابة في الجرائد والمجلات. وليتهم يكتبون عن موضوعات أصيلة، نتيجة بحث ودراسة لواقعنا مثلًا أو لتاريخنا، ولكن عملهم في الغالب يقتصر على ترجمة بضع مقالات نُشِرَت في مجلات فرنسا أو إنجلترا. وتقرأ عنوانًا لإعلان ضخم: الدكتور فلان يترجم لك مقالة فلان عن فلان. ترجمة، صحيح قد تكون أكثر دقة، ومقالات قد تكون أكاديمية وعلى العين والرأس، ولكنها أبدًا ليست من عمل الأستاذ الجامعي؛ فالأستاذ أو المدرس الجامعي له منبره الخاص المقدَّس، وأي كلام يقوله خارج المنبر — ولو لزيادة الإيراد ولأكل العيش — هو عمل لا يليق بالأستاذ الجامعي، ولا أقول: لا يليق من الناحية الأخلاقية، ولكني أقصد من الناحية العلمية البحتة؛ فهجرة الأساتذة الجامعيين إلى وسائل النشر السريعة وطرق الإعلام معناها تفضيلهم القول السريع والكسب السريع على البحث العلمي الدائب ذي النتيجة البطيئة حقيقة، ولكنها النتيجة التي تغيِّر من حياتنا التغيير الأعمق والأكثر فاعلية. إنها فضيحة في إنجلترا — مثلًا — أن ينشر الأستاذ الجامعي مقالةً في صحيفة؛ إذ الميدان ليس ميدانه، ولو تحوَّل كلٌّ منا من ميدانه الحقيقي إلى غيره لارتبكت حياتنا وتوقَّفنا.
إن حياتنا سائرة في الظاهر، ولكنا نجني بهذا السير محصول جيل كامل قضى حياته يبحث ويدرس ويُفني شبابه. وقد كنا نعتمد في مستقبلنا على جهود هذا الجيل المعاصر من الأساتذة والمدرسين؛ إذ الجامعة ليست سوى معمل كبير، هدفه دائمًا المستقبل، فإذا كنا نجد أن هذا العمل اليوم وقد أصبح هدفه الحاضر الوقتي واستغلال صفة الأستاذ أو المدرس للكتابة في أكبر عدد من الصحف والمجلات، وفي الظهور أمام أكبر عدد من العدسات، فقل على مستقبلنا السلام. إن انخفاض مستوى خريجي الجامعة العلمي والثقافي قد ترجع بعض أسبابه إلى الطلبة أنفسهم، ولكني متأكد أن أسبابه الحقيقية مرجعها إلى انصراف الأساتذة والمدرسين عن التعليم إلى أمورهم الخاصة، وعن الاهتمام بالطلبة إلى الاهتمام بأنفسهم وتحسين أوضاعهم الأدبية والمالية.