روح العصر تتنافى مع الظلام
الاهتمام الشديد الذي لا يزال العالم يتابِع به قضية إقصاء خروشوف ليس وليد الصدفة، ولا هو عملًا موجَّهًا ضد القادة الجدد للاتحاد السوفيتي. وحين أقول العالم أعني الناس الطيبين الشرفاء، ولا أعني بالطبع أعداء الاتحاد السوفيتي أو الدوائر التي يهمُّها بمناسبة وبلا مناسبة أن تنال من المعسكر الاشتراكي كله.
إني إنما أتحدث عن اهتمام المواطن العادي — حتى هنا في الجمهورية العربية المتحدة — بتلك القضية؛ فهو اهتمام له ما يُبرِّره، فصحيحٌ أن رئاسة الوزارة في دولةٍ ما مسألةٌ داخلية محضة، إلا أن عالمنا اليوم أصبح أضيق من أن تُعْتَبَر فيه أمور دولة ما منه مسألة داخلية لا تُهِم غير مواطني تلك الدولة، وإلا لما حقَّ للعالم أن يهتمَّ بلومومبا أو بفوز العمال أو بنجاح الثورة في روديسيا الجنوبية.
والاتحاد السوفيتي ليس دولة عادية؛ إنه دولة كبرى يؤثِّر كل ما يحدث لها في كل دولة من دول العالم.
من أجل ذلك يتابع الناس بانتباهٍ شديدٍ قضية خروشوف، وتثور في أذهانهم أسئلة كثيرة تتطلب ردودًا، ووكالات الأنباء الغربية نشيطة تحاول أن تعثر أو تخمِّن أو تفتعل ردودًا تشفي غليل الملايين من القرَّاء.
والسؤال المحيِّر الأول هو: إذا كانت القيادة الجديدة قد أعلنت أنها تلتزم بالخطوط العريضة لسياسة خروشوف، ففيمَ كان تغييره إذن؟ إن رئيس الوزراء أو سكرتير الحزب ليس مجرد شخص؛ إنه أولًا سياسة واتجاه، فإذا كانت السياسة باقية فلا بد أن التغيير لأمرٍ يتعلق بشخص خروشوف. ومن حق ملايين الناس من مختلف أنحاء العالم الذين يؤمنون بخروشوف ويتحمَّسون له ويؤيدون سياسته، والذين ظلوا لسنوات طويلة يفعلون هذا، من حقهم أن يعرفوا ماذا في شخص خروشوف أوجب تغييره؛ فالثقة في القائد أو في الزعيم لا تأتي بين يوم وليلة ولا بمجرد عمل أو موقف، إنها تأتي بتتبُّعٍ دقيق لسياسته ومواقفه وتصرفاته، وتُبْنَى ببطءٍ شديد بحيث لا يصبح من السهل أن تهدمها في يوم وليلة. وثقة الناس في خروشوف كانت جزءًا لا يتجزأ من ثقتهم بالاتحاد السوفيتي.
وليس من أجل الثقة في خروشوف أو عدمها طلب الناس معرفة أسباب إقصائه، ولكن من أجل الثقة في النظام السوفيتي نفسه، ومعرفة على أي أساس يضع الناس في المراكز، وعلى أي أساس يُقصِيهم عنها. وليست ثقة شعوب العالم في النظام السوفيتي أو فقدانها مسألة هينة؛ فالنظام السوفيتي جزء هام وأساسي في النظام الذي يرتكز عليه الأمن والسلام في عالمنا، بحيث إن أي شك فيه ممكن أن يدفع إلى قلق عالمي مروِّع. والحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي ليس حزبًا سِرِّيًّا بإمكانه أن يتصرف في أمره وأمر الشعب السوفيتي بسرِّية كاملة مطلقة وإبهام. إنه الحزب الحاكم في أقوى دولة من دول العالم، وعلى قراراته بما يتوقف مصير البشرية بأسرها. وإذا كانت السرِّية قد سادت في عهد ستالين والستار الحديدي باعتبار أن الاتحاد السوفيتي أيامها كان يحكم حكمًا بوليسيًّا استبداديًّا لا مجال للعلنية أو الديمقراطية فيه؛ فالأمر اليوم لم يعُد كذلك، ولم يعد يُخجل أو يُضعِف أي حزب أن يتصرف في العلن أو ينقد نفسه أحيانًا أمام العالم كله. من حق هذا الحزب أن يُولِّيَ سكرتيرته مَن يشاء ويعزل مَن يشاء، ولكن لا بد أن يتولى بنفسه تبرير تصرُّفه هذا، ليس فقط لأعضائه وإنما للشعوب السوفيتية كلها وللعالم أجمع؛ إذ لو كان خروشوف قد ارتكب أخطاءً فلمصلحة مَنْ تُخفى هذه الأخطاء؟
ولو كان بريئًا من الأخطاء، فلماذا يُغَيَّر وهو البريء من الأخطاء؟
إن المسألة ليست مسألة خروشوف، ولكن الأهم والأعمق هو النظام الذي يعزل خروشوف أو يُبقيه، والمنطق الذي على أساسه يتم العزل أو الإبقاء.
إن النظام الشيوعي في العالم لم يعُد ضعيفًا إلى درجة يُخْشَى عليه من العلنية. لقد أصبح نظامًا يكاد يشمل نصف العالم بأَسْره. وإذا كانت المركسية واللينينية تؤكد وتصرُّ على احترام إرادة الشعب باعتبارها هي الأصل في كل نظام وبغيرها لا يمكن إقامة الاشتراكية، فمن بابٍ أَوْلَى أن يبرز هذا الاحترام على هيئة ثقةٍ كاملةٍ في تلك الإرادة الشعبية واستعدادٍ تامٍّ لمواجهتها والاهتمام الأكبر برأيها.
إنني أعتقد أن عرض قضية إقصاء خروشوف عرضًا علنيًّا أمرٌ لا بد من حدوثه، فروح العصر أصبحت تتنافى مع الغموض والظلام، وإحساس الناس أصبح مضاعفًا بوجوب أن يسود العدل وأن تكون الكلمة للقانون. وليس من مصلحة النظام السوفيتي أن يجعل من خروشوف شهيدًا في نظر جماهير العالم في وقتٍ من الجائز أن يكون قد أخطأ فيه. وليس من مصلحته أيضًا أن يحسَّ الناس أنه مذنبٌ في وقتٍ قد يكون بريئًا.
إن المواطنين الشرفاء في العالم أجمع يأملون ألَّا يطول هذا الموقف الغريب، وأن تتاح لهم فرصة الوقوف بأنفسهم على أسباب هذا التغيير.
ويوم يحدث هذا لن يكون أمرًا هينًا؛ لأنه سيكون الفاصل بين عهدين؛ عهد لا يقيم وزنًا لإرادة الشعوب، وعهد يضعها في المحل الأول، عهد تحدث فيه الاتهامات علنًا ويدافع المتهم فيه عن نفسه علنًا، عهد لا تحدث فيه التغييرات في الحكم خلسةً أو بالاستبعادات، وعهد تحدث فيه التغييرات بناءً على أسباب، وأسباب يقبلها الرأي العام؛ إذ تلك هي الديمقراطية الاشتراكية كما لا بد وكما يجب أن تكون، فلا يُعْقَل أبدًا ألَّا يثق النظام الذي إحدى دعاماته الثقة في الناس والجماهير، ألَّا يثق في تلك الجماهير، وألَّا يُولِيَ رأيَها وإرادتَها قيمةً أو اعتبارًا.