جيلنا والمسئوليات الكبرى
ليس أروع من رؤية شعبنا وهو يُجمِع على الشيء ويصرُّ؛ إنه حينئذٍ يستحيل من إرادات كثيرة مبعثرة إلى إرادةٍ واحدةٍ كفيلةٍ بأن تقول للشيء: كن، فيكون. والحقيقة أيضًا أنها نتيجة غير مستبعَدة بالمرة؛ فقد كان لا بد أن ينتهي هذا الحوار الخلَّاق بكل ما فيه من اندفاع وتصميم إلى هذه النتيجة الرائعة، نتيجة أننا أخيرًا قد اتفقنا على أسس ثابتة لحياتنا المقبلة، اتفاق جعل من الشعب والثورة والحكومة والقيادة كتلة واحدة متحدة أعادت لنا كل ما فقدناه من أرض إلى درجة أصبحت معها حركتنا الوطنية الشعبية أكثر ثراءً وغنًى واحتشادًا مما كانت قبل ٥ يونيو حتمًا. مرة أخرى نحن معًا، ولكنا معًا على أسس جديدة وبوعي أنضج. مرة أخرى نحن جبهة متَّحدة في وجه العدو، ولكنها جبهة تدرك أنها مكوَّنة من مواطنين متفقة على رأيٍ لا تملك خلقه أو تغييره، هو رأيها الذي قالته ورأته والتفَّت حوله. نحن معًا مرة أخرى، أقوى مما كنا ألف مرة، وعلاقتنا أخصب وأعمق ألف مرة. نحن معًا في بوتقةٍ قد صهرت كل ما كان ينغِّص نفوسنا كأفراد وما يُثقِل خواطرنا كفئات. نحن معًا وقد قلنا رأينا الصريح، وعرف كلٌّ منا رأي الآخر وقدْره واحترامه. نحن معًا إخوة على العدوِّ الغريب.
إننا بهذه الموافقة الإجماعية الرائعة على بيان ٣٠ مارس، لم نعُد من حيث بدأنا، لم نعُد إلى إجماعنا في المرات الأولى، ولكنه إجماعٌ جديد لظروف جديدة، ولهدفٍ جديد أيضًا. إنه إجماع يعني المسئولية الكبرى، يحملها الشعب والقيادة معًا؛ فقد أصبح بيان ٣٠ مارس بالنسبة للقيادة أمرًا واجب التنفيذ بكل دقة وعبقرية، وبالنسبة للشعب أصبحت مسألة مراقبته للتنفيذ، وتحمُّله مسئولية الحفاظ عليها وعلى كل ما جاء في البيان من مبادئ، أخطر المسئوليات التي حملها أو ممكن أن يحملها شعبنا منذ قامت ثورتنا في هذه اللحظة، ولكن هذا كان أبدًا لا يمكن أن يخيف، فإجماعنا هذه المرة إجماع الأقوياء المتحدين.
حسنًا! إنها لظاهرة طيبة حقًّا؛ فلقد بدأ جيلنا يحمل مسئولياته. وإني لأعبُر بناظري سنوات كثيرة إلى الوراء لألمح بداية تكوُّن وعينا كطلبةٍ صغار في أوائل عهدهم بلبس البنطلون الطويل؛ فقد خرجوا — لا يزالون — من دائرة وجودهم الصغيرة إلى الدائرة الأرحب: دائرة الوجود الوطني الكبير.
في تلك الفترة جمعتني الزمالة والصداقة بطالب كان يبدو دائمًا أكبر حكمةً وأقل كلامًا وأوسع اطلاعًا. لا زلت أذكر وقفاتنا الطويلة بجوار سور المدرسة الحديدي، وموضوع نقاشنا في تلك الفترة المبكرة من حياتنا. أشياء غريبة على تفكير الطلبة الصغار بشكل عام، أشياء مثل الجديد في شعر العقاد. كان العقاد — رحمه الله — قد أصدر ديوانه الشعري الجديد الذي يتحدث فيه بطريقة جديدة عن موضوعات لم تكن قبله أبدًا موضوعات شعر؛ فهو يتكلم باسم البيوت مثلًا، أو على لسان الجدران والشوارع، وبطريقة أسقط منها كل المحسنات البديعية للشعر وكل فخامة الألفاظ وجوفائيتها. وكان صاحب الديوان الذي اشتراه وحرص على إحضاره معه إلى المدرسة لنناقشه هو ضياء الدين داود الطالب معنا في السنة الأولى الثانوية آنذاك، وليس زميلي في المدرسة فقط، ولكن زميل رحلة الأوتوبيس الطويلة بين الروضة ودمياط؛ فترة من أخصب فترات الحياة، فترة التطلع إلى كل العالم من حولك باندهاش وتعجُّب وتساؤل مرير، وإن يكن زميلك في هذه الرحلة صديقًا صافي النفس كضياء وتُسبَر معه أغوار هذا العالم الغريب من حولك لَشَيء يبعث على السعادة حقًّا.
وأن تظل الحياة تتقاذفنا حتى لتفرِّق بيننا في المدرسة، ثم في الجامعة والحياة، وحتى لَتنقطع أخباره تمامًا عنك، ولَتُفاجأ به ذات يوم عضوَ مجلس أمةٍ عن فارسكور، ثم من بين الأعضاء يُختار وزيرًا، شيء لم يدهشني مطلقًا.
فالخاصية الأساسية في ضياء الدين داود أنه كان دائمًا يبعث على الثقة، وكنت لا تملك إلا أن تثق فيه حتى إنك لا تتورع أبدًا عن البوح له بكل متاعبك وأسرارك. ولا عجب إذن أن ينتقل من كونه محلَّ ثقتنا نحن أصدقاؤه وزملاؤه الصغار إلى ثقة الدولة الاشتراكية نفسها والقيادة. تطوُّر طبيعيٌّ كان لا بد أن يحدث ويكون؛ فالإنسان لا يصبح فجأةً مسئولًا. إنه ذلك الأهل للمسئولية وهو بعدُ طالبٌ صغير. إنه مسئول ربما من لحظة ولادته.
كل تمنياتي لك بالتوفيق يا صديق الصبا وزميل لحظات العمر.