الفصل الثاني والعشرون
كانت عطلة نهاية أسبوع مروِّعة.
كان المطر يهطل بغزارة. وبدت هنرييتا وكأنه كان لديها عملية كبيرة ولم تنجح. وكانت السيدة في أسوأ حالاتها ولم تكن مفيدة على الإطلاق، سواء عمليًّا أو بالكلام. وكانت فروكن غاضبة من وقوع مثل هذا الحدث في صالة الألعاب الرياضية «الخاصة بها». وكانت راج موجودة في كل مكان تفعل كما فعلت كاساندرا ابنة بريام ملك طروادة وتنشر الأخبار الحزينة. أما لوكس، فقد كانت هادئة ومتعَبة.
عادت لوكس من لاربورو حاملةً شمعة وردية صغيرة ملفوفة في مناديلَ ورقية خضراء شاحبة. قالت: «طلب مني تيدي أن أعطيكِ هذه. لا أفهم لماذا.»
«أوه؟ أهي من كعكة؟»
«نعم. إنه عيد ميلادي.»
«لطيف منه أن يتذكر هذا.»
«أوه، إنه يحتفظ بمذكرة يُدوِّن فيها أعياد الميلاد. ذاك جزء من شعبيته. ومن ضمن مهام السكرتيرة إرسال البرقيات إلى جميع الأشخاص في أعياد ميلادهم.»
سألت لوسي: «ألا تعترفين بمميزاته أبدًا؟»
«تيدي؟ في حقيقة الأمر لا. لا تنسَي أنني أعرفه منذ أن كان في العاشرة من عمره. إنه لا يستطيع خداعي أكثر من خمس ثوانٍ.»
قالت لوسي: «ذات مرة قال لي مصفِّف شعري، الذي يشارك معي خبراته أثناء تصفيف شعري، إنه ينبغي على المرء أن يقبَل لكل شخص ثلاثةَ عيوب فقط. وإن قبِلتِ تلك العيوب الثلاثة، فستجدين أن بقية الصفات الموجودة في الشخص رائعة بدرجةٍ لا تُصدَّق.»
«عندما تتأملين عيوبَ تيدي الثلاثة، لا تبقى أي مزايا للأسف.»
«لماذا؟»
«لأن عيوبه الثلاثة هي الغرور، والأنانية، والشفقة على الذات. وأيُّ عيب منها مدمِّر تمامًا.»
قالت لوسي: «يا للعجب!» وتابعت: «أنا أستسلم.»
ولكنها وضعت الشمعة الصغيرة السخيفة على منضدة التَّزيُّن الخاصة بها، وانتابها شعور طيب تجاه إدوارد أدريان.
تمنَّت أن يكتنفها الشعور الطيب نفسه تجاه حبيبتها بو، التي كانت تصعِّب الأمورَ قدْر طاقتها، بسبب غضبها من إينيس التي تخلَّت عن وظيفة أرلينجهيرست. في الواقع، أدركت لوسي أن علاقتهما قد وصلت تقريبًا إلى نقطة الخلاف، التي كانت قريبة قدْر الإمكان بالنظر إلى مدى قربهما.
قالت بو، التي كانت تنطلق شرارات الغضب من عينيها: «إنها تقول إنها لن تكون سعيدة عندما تحصل على الفرصة التي كانت مخصَّصة لفتاة متوفاة. هل يمكنك تخيُّل شيء أكثر سخافة؟ ترفض وظيفة أرلينجهيرست وكأنه كوب من الشاي. ترفضها بعد أن كانت على حافة الموت من الحزن عندما لم تحصل عليها في البداية. بحق السماء يا آنسة بيم، تحدَّثي معها كي تعود إلى رشدها قبل فوات الأوان. نحن لا نتحدث عن أرلينجهيرست فحسب، بل نتحدث عن مستقبلها بالكامل. فالعمل في أرلينجهيرست في بداية مشوارها المهني يعني البدء من القمة. سوف تتحدثين معها، أليس كذلك؟ حاولي أن تجعليها تتخلى عن هذا التفكير السخيف!»
وبدا للوسي أنه دائمًا ما يُطلب منها «التحدُّث إلى» الناس. فهي نفسها وإن لم تكن جرعةً من شراب مهدئ، فإنها جرعة من الأدرينالين، وعندما لا تكون جرعة من الأدرينالين، فإنها تصبح مجرد ملعقة صغيرة من مسحوق قلوي للاستهلاك العام.
تصبح كذلك عندما لا تلعبُ دورَ الملاك الذي ينزل من السماء ليغيِّر مجرى الأحداث؛ ملاك يُقوِّض العدالة. لكنها حاولت ألا تفكر في ذلك الأمر.
ولم يكن لديها أيُّ شيء يمكنها قوله لإينيس بالطبع، ولكن هناك أشخاص آخرون قد تحدثوا معها. وحاولت معها الآنسة هودج فترة طويلة بإخلاص؛ وهي مصدومة من تغيُّر رأي الفتاة التي لم تكن ترغب في تعيينها في البداية. والآن لم يعُد لديها أحد يمكن إرساله إلى أرلينجهيرست؛ وعليها أن تكتب لهم وتخبرهم بذلك وترى الوظيفة تذهب إلى شخص آخر. ربما عندما يتسرَّب خبر الحادث المميت في المجتمع الأكاديمي، ستقرر أرلينجهيرست البحث عن لاعبة جمباز في أماكنَ أخرى مستقبلًا عندما تحتاج إلى تعيين واحدة. فلا ينبغي أن تكون هناك حوادث في صالات الجمباز التي تُدار على نحو جيد؛ على الأقل الحوادث غير المميتة.
كانت هذه أيضًا وجهة نظر الشرطة. فقد كان رجال الشرطة متعاونين ومتفهِّمين للغاية. وكانوا على استعداد تام للنظر في الضرر الذي ستسببه الدعاية غير المرغوب فيها للكلية. لكن كان لا بد من إجراء تحقيقات بالطبع. والتحقيقات عادةً ما تكون معلنة بأسلوب قد يضر بالكلية، وتكون عرضةً للتأويل الخاطئ. كان محامي هنرييتا قد قابل الصحفيين المحليين ووعدوه بالتقليل من هول الحادث، ولكن مَن يستطيع التنبؤ متى ما يجذب مقالٌ صحفي انتباهَ محرر مساعد يبحث عن خبر جديد؟ وماذا سيحدث بعد ذلك؟
أرادت لوسي أن ترحل قبل إجراء التحقيقات، لتبتعد عن التذكير الدائم بذنبها في نظر القانون، لكن هنرييتا توسَّلت إليها بالبقاء. ولم تكن قادرة مطلقًا على التفوُّه بلفظِ «لا» لهنرييتا، وكانت هنرييتا التي تقدَّمت في العمر المثيرة للشفقة، شخصًا لا يمكن رفض طلبه. لذلك بقيت لوسي؛ وكانت تقوم بأعمالٍ متنوعة لهنرييتا كي تتيح لها فرصة القيام بالأعمال الإضافية المتعلقة بالحادث.
لكنها لن تذهب إلى التحقيقات.
فلا يمكنها الجلوس هناك وهي تعلم كل هذه المعلومات من دون أن تضعُف في وقتٍ ما وتقف لتقول الحقيقة وتخلي نفسها من المسئولية.
ومَن يدري أي شكوك قد تساور رجال الشرطة؟ لقد جاءوا إلى لايز وفحصوا صالةَ الألعاب الرياضية، وقاموا بأخذ القياسات، وحسبوا وزن العارضة، واستجوبوا الجميع، واستشاروا الخبراء المتخصِّصين، واستمعوا ولم يتفوَّهوا ببنت شَفة. وأخذوا الدبوس غير الآمن كليًّا؛ قد يكون هذا مجرد إجراء روتيني، ولكن مَن يدري؟ مَن يعرف أي شبهات موجودة في صدورهم الهادئة العريضة ووراء وجوههم الدمِثة الخالية من التعبير؟
ولكن في النهاية ظهر مُنقذ في التحقيقات. منقذ اسمه آرثر ميدلهام، وهو مستورِد للشاي، ويعيش في منزل رقم ٥٩ طريق غرب لاربورو، أي إنه يقيم في إحدى الفيلات على الطريق السريع بين غرب لاربورو وبوابات لايز. لم يكن السيد ميدلهام يعرف شيئًا عن الكلية سوى أنها موجودة في تلك المنطقة، وأن الشابات اللاتي يخففن من الملابس ويتجولن في المنطقة على الدراجات ينتمين إليها. ولكنه سمِع عن الحادث. وما أدهشه هو أن دبوسًا في صالة الألعاب الرياضية في لايز قد انحرف من مكانه في نفس الصباح، وعلى ما يبدو أنه انحرف في نفس الوقت تقريبًا الذي اهتز فيه لوح من الزجاج من نافذة غرفة المعيشة الخاصة به بسبب مرور مجموعة من الدبابات الآتية من المصانع في جنوب لاربورو. وكانت نظريته في الواقع، هي نفس نظرية الآنسة لوكس؛ وهي الاهتزاز. إلا أن نظرية الآنسة لوكس كانت تخمينًا عشوائيًّا لا قيمة له. أما نظرية السيد ميدلهام فكانت معقولة ومدعومة بدليل ثلاثي الأبعاد: لوح زجاج مكسور.
وكالعادة، عندما يُعطى شخصٌ ما زمام المبادرة، يتبعه بعض التابعين دون مبرر. (فإذا اختلق شخصٌ ما قصة وكتب للصحافة بأنه شاهد أسدًا أخضر في السماء في تمام الساعة ٥:٣٠ من مساء اليوم السابق، فعلى الأقل ستة أشخاص سيدَّعون أنهم شاهدوه أيضًا.) وها قد نهضت امرأة متحمسة من وسط الحشد في القاعة، بعد أن سمعت دليلَ السيد ميدلهام، وقالت إن جَرة الزنجبيل الخاصة بها التي كانت تحتفظ بها منذ سنوات سقطت من فوق الطاولة الصغيرة بجانب النافذة من تلقاء نفسها في الوقت نفسه.
وسألها محقِّق الوفيَات، عندما أخرجها من الحشد مستدِلًّا بها: «أين تعيشين يا سيدتي؟»
قالت إنها تعيش في الأكواخ التي تقع بين لايز وبيدلينجتون. على الطريق الرئيسي! أوه، نعم، على مقربة من الطريق الرئيسي؛ في الصيف، يكون الغبار مزعجًا للغاية، وعندما مرَّت هذه الدبابات … لا، ليس لديها قطة. لا، لم يكن هناك أحد في الغرفة. لقد دخلتُ للتو بعد الإفطار ووجدتها ملقاة على الأرض. ولم يحدث هذا من قبل.
أدلَت المسكينة أودونيل، التي كانت متوترة للغاية ولكن واضحة وحازمة، بشهادتها أنها ثبتت طرَف العارضة الذي بجانب الحائط، وأن راوس ثبَّتت الطرَف الأوسط. وكلمة «ثبَّتت» تعني أنها رفعت العارضة بواسطة حبل البكرة وأدخلت الدبوس تحتها لتثبيتها. كما ثُبتت على وضع معيَّن بواسطة الحبل، ولُف الطرف العلوي منه حول خطَّاف على العمود. لا، لم يُختبَر الجهاز قبل المغادرة.
وعند سؤال الآنسة فروكن عن الحبل الذي لم يَثبُت أنه بديل للدبوس، قالت إنه لم يُلف بإحكام بما فيه الكفاية لمنعه من الانثناء عند إزالة الدبوس. لقد كان لف الحبل حول الخطاف حركةً تلقائية، ولم تفكِّر أي طالبة بأنه إجراء احترازي. لكنه في الواقع، كان إجراءً احترازيًّا. فقد ينكسر المعدن بالدبوس نتيجةَ عيبٍ ما، وفي هذه الحالة يتحمل الحبل الوزن. نعم، من الممكن أن يمتد الحبل، الذي لا يتحمل أكثر من وزن العارضة، وقد تمدَّد تحت الإضافة المفاجئة لعبءٍ وزنه ٦٣ كيلوجرامًا، ولكنها لا تعتقد هذا. وتلك الِحبال في صالة الألعاب الرياضية آمنة وتخضع لاختبارات مكثفة. ومن المرجَّح أن اللفة التي لفَّتها الآنسة راوس كانت غير كافية.
ويبدو أن هذا كل شيء. كان حادثًا مؤسفًا. فالدبوس الذي استحوذت عليه الشرطة استخدمه الجميع خلال العرض، وهذا لا يمثل دليلًا على أي شيء.
من الواضح أن الوفاة بسبب حادث عرَضي.
في الواقع، هذه هي النهاية، فقد أخدت لوسي تفكر عندما سمعت الخبر. لقد انتظرت في غرفة الجلوس، تتطلع إلى الحديقة الممطِرة، غير قادرة على تصديق أن خطأً ما لن يحدث. فلا تحدث جريمة أبدًا دون وقوع هفوةٍ ما؛ فقد قرأت الكثير من قصص الجرائم وعرفت ذلك.
لقد كانت هناك هفوة واحدة بالفعل، وهي عندما انفصلت تلك الحلية الصغيرة من الحذاء. مَن كان يعلم ما الذي يمكن أن تكتشفه الشرطة أيضًا؟ والآن انتهى الأمر، وإينيس بأمان. عرفت الآن أنها من أجل إينيس قد وضعت نفسها تحت طائلة القانون. وظنَّت أنها قد فعلت كلَّ هذا من أجل والدة إينيس، ومن أجل هنرييتا، ومن أجل إقامة العدالة المطلقة. ولكن في النهاية، كلُّ ما فعلته إينيس لا يجعلها تستحق العقاب الذي سيُلحقه بها القانون. لقد مرَّت بالكثير، وكانت قدرتها على التعامل مع التوتر أقلَّ من المعتاد. احتاجت إلى شيء قوي ومتين لمساعدتها على تحمُّل الضغط دون أن تنكسر. لكنها كانت ذات قيمة كبيرة بحيث لا يمكن إقصاؤها.
لاحظت لوسي بوَلَع نوعَ التصفيق الذي استقبل إينيس عندما صعِدت لتستلم شهادتها صباح يوم الأربعاء. كان التصفيق لطالبات السنة النهائية متنوعًا، ليس فقط في حرارة التصفيق، ولكن في نوعه. فقد كان هناك ضحِك، على سبيل المثال، ومودة في الترحيب الذي قدمنه لديكرز. وحظيت بو بتحيةٍ تليق برائدة الطالبات؛ وتهنئة زميلاتها الأصغر لطالبة السنة النهائية الشهيرة. ولكن كان هناك شيء لافت في التصفيق الذي حظيت به إينيس؛ فكان يحتوي على دفء، وإعجاب، وتعاطف، وأمنيات طيبة، لم تُمنح لأي شخص آخر. تساءلت لوسي في نفسها عما إذا كان السبب في ذلك هو تأثُّرهم لعدم قبول إينيس وظيفة أرلينجهيرست. فقد قالت هنرييتا، خلال تلك المحادثة حول راوس وطريقتها في أداء الامتحانات، إن إينيس لم تكن تحظى بشعبية. ولكن كان هناك شيء في هذه البهجة أكثرَ من مجرد الشعبية. لقد أعجبوا بها. وقد كانت تلك طريقتهم في إظهار التقدير لتميُّزها.
ولقد أعطتها ديكرز طردًا صغيرًا غير مرتَّب، مكتوبًا عليه: «لتذكيرك كل صباح باجتماعنا الأول!» وقد اتضح عند فتح هذه الطرد أن به لوفةً مسطحة تُستخدم في تنظيف الظهر. شعرت لوسي وكأنها كانت في حياةٍ أخرى عندما وقفت ديكرز على باب الحمَّام تتطلع إليها بوجه مُهر جميل. فلم تكن بالتأكيد لوسي التي كانت في حوض الاستحمام هي نفسها لوسي الآن.
كما صنعت الآنسة موريس المخلِصة لها محفظةً صغيرة من اللبَّاد — ولا أحد يعلم متى وجدت تلك الفتاة وقتًا لصُنعها — وعلى الجانب الآخر من حيث العظمة، كانت حقيبة بو المصنوعة من جلد الخنزير، مكتوبًا عليها رسالة تقول: «ستحتاجين إلى حقيبة لوضع كل هدايا الوداع التي ستتلقينها»، وكان مطبوعًا عليها الأحرف الأولى من اسمها. وحتى جيدي، الذي قضت معه أنصاف ساعات متفرقة يتحدثان عن الروماتيزم والفئران، أرسل لها نبتة في وعاء. ولم تكن تعرف ما نوع هذه النبتة — فقد بدت سميكة وطرية وغريبة — ولكنها اطمأنَّت لأن النبتة كانت صغيرة الحجم. فالسفر بنبتة في وعاء ليس بالأمر المناسب في رأيها.
وجاءت بو بعد تناول وجبة الإفطار وقبل حفل تسليم الشهادات لمساعدتها في تجهيز أمتعتها، ولكنها كانت قد انتهت بالفعل من تجهيز معظم الأمتعة. أما مسألة حسم كل شيء بمجرد جمع كل الأدلة الصحيحة فتلك كانت مسألة أخرى.
قالت بو: «سأعود وأجلس عليها بالنيابة عنك قبل عيادة الصباح. فليس لدينا ما نفعله حتى ذلك الحين. فباستثناء العيادة، ليس هناك الكثير لنفعله حتى نعود إلى المنزل يوم الجمعة.»
«سوف تشعرين بالأسف لأنك ستُنهين دراستك في لايز؟»
«بشدة. لقد قضيت وقتًا رائعًا. ولكن العطلات الصيفية تُعد عزاءً كبيرًا.»
«قالت لي إينيس منذ فترة إنكما ستذهبان إلى النرويج معًا.»
قالت بو: «نعم، كنا سنذهب. ولكننا الآن لن نذهب.»
«أوه.»
«لدى إينيس خططٌ أخرى.»
كان من الواضح أن هذه العلاقة لم تكن كما كانت عليه من قبل.
قالت بو: «حسنًا، سأذهب وأتأكد من أن طالبات السنوات الأولى لم يجلسن في المقاعد المميزة في حفل توزيع الشهادات»، ومضت.
ولكنَّ علاقةً واحدة هي التي أظهرت تقدمًا مَرْضيًّا.
طرقت فطيرة المكسرات على بابها وقالت إنها جاءت لتقدِّم تميمة للآنسة بيم العزيزة. دخلت الغرفة ونظرت إلى الحقائب التي جُهزت، ثم قالت بصراحتها المعتادة: «أنتِ لا تجيدين حزم الأمتعة، أليس كذلك؟ أنا أيضًا لست بارعة. إنها مهارة روتينية.»
انتظرت لوسي، التي قُدمت لها تمائم متنوعة في الأيام الأخيرة، مثل قردٍ على عصًا مصنوع من الصوف، ونصف بِنس من جنوب أفريقيا، بفضولٍ لتعرفَ التميمةَ التي قدَّمتها لها فطيرة المكسرات.
لقد كانت خرزة زرقاء.
«عُثر عليها في أمريكا الوسطى قبل ١٠٠ عام، وهي قديمة قِدَم العالم تقريبًا. إنها تجلب الحظ.»
احتجَّت لوسي قائلة: «ولكنني لا أستطيع أن آخذها منكِ.»
«أوه، لديَّ سوار صغير من ذلك الخرز. كان ذلك السوار هو الذي اكتُشف. وقد أخرجت لكِ واحدة من الخرزات. هناك خمسٌ متبقية، وهذا يكفي. ولديَّ خبر لك. لن أعود إلى البرازيل.»
«حقًّا؟»
«سأبقى في إنجلترا وأتزوج ريك.»
قالت لوسي إنها سعيدة لسماع ذلك.
«سنتزوج في لندن في أكتوبر، وستكونين هناك وستحضرين الزفاف، أليس كذلك؟»
بلى، ستحضر لوسي الزفاف بكل بسرور.
قالت لوسي: «أنا سعيدة جدًّا بذلك.» كانت بحاجة لشيء من السعادة بعد أحداث الأيام القليلة الماضية.
«نعم، كل شيء يسير على ما يُرام. نحن أبناء عمومة، ولكننا لسنا قريبَين جدًّا، من الجيد الزواج من شخص من العائلة. كنت دائمًا أتمنى أن أتزوج من رجل إنجليزي؛ ولكن ريك زوج مناسب بالطبع. هو يكبُرني سنًّا مع أنه ما زال شابًّا. إن والديَّ سعيدان للغاية. وجَدتي أيضًا سعيدة بالطبع.»
سألت لوسي: «وأعتقد أنك سعيدة بهذا؟» وقد شعرت بالدهشة قليلًا من هذه القائمة العملية.
«أوه، نعم. فريك هو الشخص الوحيد في العالم، باستثناء جَدتي، الذي يمكنه جعلي أقوم بأشياء لا أريد القيام بها. سيكون ذلك الأمر مناسبًا جدًّا لي.»
ونظرت إلى وجه لوسي الذي تعتريه الشكوك، ولمعت عيناها الكبيرتان.
وقالت: «وبالطبع أنا أحبه حبًّا شديدًا.»
بعد تقديم الشهادات، تناوَلَت لوسي قهوة الصباح مع عضوات هيئة التدريس وودَّعتهن. ونظرًا لأنها كانت تغادر في منتصف الصباح، لم يتسنَّ لأحد أن يصطحبها إلى المحطة. وشكرتها هنرييتا، بدموع ظاهرة في عينيها هذه المرة، على المساعدة التي قدَّمتها لها. (ولكن في أبعد تخيُّلاتها، لن تستطيع هنرييتا أن تتخيل مقدارَ المساعدة التي تلقَّتها منها)، وقالت للوسي إنها تعتبر لايز بيتَها الذي يمكنها القدوم إليه والإقامة فيه وقتما تشاء، أو إذا رغبت في وظيفة محاضر مرةً أخرى، أو إذا … أو إذا …
وكان يتعيَّن على لوسي أن تخفي حقيقةَ أن لايز، حيث كانت سعيدة جدًّا، هي المكان الوحيد في العالم الذي لن تعود إليه أبدًا. إنه المكان الذي تودُّ محوه من ذاكرتها، إن سمح لها ضميرها وذكرى راوس بذلك.
ذهبت عضوات هيئة التدريس إلى أعمالهن المختلفة وعادت لوسي إلى غرفتها للانتهاء من تجهيز الأمتعة. لم تتحدث إلى إينيس منذ تلك المحادثة الصعبة صباح يوم السبت؛ بالكاد رأتها، في تلك اللحظة التي حصلت فيها على شهادتها من الآنسة هودج.
هل ستتركها إينيس تذهب دون أن تتفوه بأي كلمة؟
عزيزتي الآنسة بيم
إليك هذا الكلام كتابةً. طوال ما تبقى من حياتي، سأكفر عن ذلك الشيء الذي لا يمكنني التراجع عنه. سأدفع الثمن بسرور ألا وهو حياتي مقابل حياتها.
آسفة لأن هذا الحادث أفسد عليك إقامتك في لايز. وآمُل ألا تكوني غير راضية عما فعلتِه لأجلي. وأعِدك بأنني سأجعل الأمر يستحق ما قدمتِه.
ربما، بعد ١٠ سنوات من اليوم، ستأتين إلى غرب البلاد وترين ما حققتُه في حياتي. سيعطيني ذلك تاريخًا أتطلع إليه. حدثًا بارزًا في عالمٍ يفتقر إلى الأحداث البارزة.
خالص تحياتي لكِ الآن ودومًا، وخالص امتناني؛ خالص امتناني الذي لا يمكن أن أعبِّر عنه بالكلمات.
طرقت بو الباب وهي تسأل: «في أي وقت طلبتِ سيارة الأجرة.»
«في الساعة الحادية عشرة والنصف.»
«إنها الحادية عشرة والنصف تقريبًا الآن. هل وضعتِ كل شيء في حقائبك؟ زجاجة الماء الساخن؟ لم يكن لديك واحدة. هل المظلة بالأسفل؟ ليس لديك واحدة. ماذا ستفعلين؟ تنتظرين في المداخل حتى يتوقف المطر، أم تسرقين أقربَ واحدة؟ كانت لديَّ عمَّة تشتري دائمًا أرخص مظلة يمكنها العثور عليها وتتخلص منها في أقرب سلة مهملات عندما يتوقف المطر. كانت مربيتي تقول إنها تنفق المال بإسراف. حسنًا، الآن. هل انتهينا؟ فكِّري جيدًا؛ لأنه بإغلاق تلك الحقائب لن نتمكَّن من فتحها مرةً أخرى.» لم يتبقَّ شيء في الأدراج؟ غالبًا ما يترك الناس الأشياء منسيةً في الجزء الخلفي من الأدراج. وفتحت الأدراج الصغيرة للطاولة ووضعت يديها في الجزء الخلفي منها. «نصف حالات الطلاق في نصف الكرة الغربي تبدأ بسبب الكشف عن الأمور التي تكون مستتِرة.»
وسحبت يدَها اليمنى، ورأت لوسي أنها تحمل الوردة الفضية الصغيرة؛ الوردة التي تركتها لوسي في الجزء الخلفي من الدُّرج؛ لأنها لم تكن قادرة على اتخاذ قرار بشأنِ ما يجب أن تفعله بها.
بدأت بو تقلِّبها بأصابعها.
قالت: «يبدو كأن الزرَّ الصغير قد انخلع من حذائي.»
«من حذائك أنتِ؟»
«نعم، الحذاء الأسود الخفيف الذي ألبَسه في دروس الرقص. لقد احتفظتُ به لأنه مريح جدًّا حينما تكون قدماي متعَبَتين. مثل القفازات. لا يزال بإمكاني لُبس الأحذية التي كنت ألبَسها عندما كنت في الرابعة عشرة. فعندما كنت صغيرة، كانت قدماي أكبر بكثير من الأطفال الآخرين في عمري، وصدقيني لم أجد عزاء في إخبار الناس لي أنني سأصبح طويلة القامة.» ومن ثَم عاد انتباهها إلى الشيء الذي كانت تحمله. وقالت: «إذن هذا هو المكان الذي فقدتُه فيه. أتعلمين أنني كنت أتساءل كثيرًا عن ذلك.» ووضعتها في جيبها. «يجب عليكِ أن تجلسي على هذه الحقيبة، تجلسين أنت على الحقيبة وسأحاول أنا إغلاق الأقفال.»
فجلست لوسي عليها تلقائيًّا.
وتساءلت في نفسها لماذا لم تلاحظ من قبلُ مدى قسوة تلك العيون الزرقاء. فهي لامعة وقاسية وقليلة العمق.
وبينما كانت بو تحاول إغلاق الأقفال، سقط بعض من خصلات شعرها اللامع على ركبتَي لوسي. بالطبع ستذعن الأقفال لرغبتها. فكلُّ شيء وكل شخص، منذ يوم ولادتها، يذعن لرغباتها. وإذا لم يفعل، فستُقدِم على أفعالٍ تجعله يتراجع. تذكَّرت لوسي أنها في سن الرابعة هزمت عالَم البالغين بأكمله؛ لأن إرادتها بأن تسير الأمور وقفًا لما تريد كانت أكبر من جميع الإرادات ضدها مجتمعة.
فهي لم تكن تعرف الإحباط قط.
لم يكن بمقدورها أن تتخيل أنها تتعرض للإحباط.
إذا كان لصديقتها الحق الواضح في وظيفة أرلينجهيرست، إذن فستذهب إلى أرلينجهيرست.
«ها قد انتهيت. كوني مستعدة للجلوس على الحقيبة الأخرى إذا لم أتمكَّن من إغلاقها. لقد لاحظتُ أن جيدي أعطاكِ إحدى نَبتاته الصغيرة القبيحة. سيتسبب ذلك في إزعاجك. ربما يمكنك في يومٍ من الأيام الاستعاضة عنها بمزهرية عند الباب الخلفي.»
تساءلت لوسي: متى بدأت إينيس تشتبه في الأمر؟ على الفور تقريبًا؟ بالتأكيد كان قبل فترةِ ما بعد الظهر، عندما شحَب وجه إينيس في المكان الذي وقع فيه الحادث.
لكنها لم تكن متأكدة حتى رأت الوردة الفضية على كف لوسي، وعرفت أين عُثر عليها.
مسكينة إينيس. هذه المسكينة هي التي تدفع الثمن.
صاح صوتٌ في الممر: «تاكسي!»
«لقد حضرت سيارة الأجرة. سآخذُ أمتعتك. لا، إنها خفيفة للغاية؛ لا تنسَي التدريب الذي خضته. أتمنى ألا تذهبي يا آنسة بيم. سنشتاق إليك كثيرًا.»
وجدت لوسي نفسها تقول العبارات المتوقَّعة. حتى إنها وجدت نفسها تَعِد بو بأنها قد تزورهم خلال عطلة عيد الميلاد، عندما تعود بو إلى المنزل خلال إجازتها الأولى بعد تولِّي مهامَّ عملها الجديد.
أدخلتها بو في سيارة الأجرة وودَّعتها بحنان، وقالت للسائق: «محطة القطار»، وانطلقت سيارة الأجرة، وظهرت ابتسامة وجه بو للحظة من خلف النافذة، وسرعان ما اختفت.
دفع السائق اللوحَ الزجاجي للخلف وسألها: «قطار لندن يا سيدتي؟» فأجابته لوسي نعم.
وستمكث في لندن. فلها هناك حياتها الخاصة، والآمنة، والجميلة، والهادئة، والمستقرة، وبالتأكيد في المستقبل ستكون سعيدة بهذا القرار. كما أنها ستتوقف عن إلقاء المحاضرات في علم النفس.
فماذا كانت تعرف عن علم النفس على أي حال؟
فمع أنها عالِمة نفس، كانت معلِّمة لغة فرنسية ممتازة.
يمكنها تأليف كتاب عن كيفية الكشف عن شخصية أحدهم من خلال ملامح وجهه. فعلى الأقل، كانت على حق بشأن ذلك. معظم الوقت.
الحواجب التي أدَّت إلى اتهام الناس ومعاقبتهم.
نعم، ستؤلف كتابًا عن قراءة الوجوه.
تحت اسم مُستعار بالطبع. فقراءة الوجوه غير مُعترف بها من قِبَل المثقفين.