الفصل الخامس
سألت لوسي هنرييتا بينما كانا يصعدان السُّلم بعد تناول وجبة العشاء: «ما الجريمة التي تحدُث في الكلية؟» توقَّفت السيدتان بجوار النافذة المروحية الكبيرة على الممر العلوي لتنظرا إلى الفناء الداخلي الصغير، مما جعل الأخريات يسبقنَهما إلى غرفة الجلوس.
قالت هنرييتا دون تردُّد: «استخدام صالة الألعاب ممرًّا قصيرًا إلى مسار الساحة.»
«لا، أقصد جريمة حقيقية.»
استدارت هنرييتا لتنظر إليها بحدة. وبعد لحظات قالت لها: «عزيزتي لوسي، عندما يعمل أشخاص بجِد مثل هؤلاء الفتيات، فلن يكون لديهن الوقت للتفكير في ارتكاب جريمة أو حتى الطاقة لارتكابها. ما الذي جعلك تفكرين في هذا الموضوع؟»
«شيء قالته إحدى الفتيات أثناء حفل الشاي بعد ظهر اليوم. كانت تتحدَّث عن جريمتهن الوحيدة. كان شيئًا يتعلق بكونهن جائعات دومًا.»
«أوه، أتقصدين هذا!» استرخى جبين هنرييتا. وقالت: «سرقة الطعام. نعم، يحدث ذلك هنا بين الفينة والفينة. في أي مجتمع بهذا الحجم يظهر شخص يصعُب عليه مقاومة الإغراءات.»
«أتقصدين سرقة الطعام من المطبخ؟»
«لا، سرقته من غرف الطالبات. إنها جريمة تقوم بها طالبات السنة الأولى، وهي عادةً ما تختفي من تلقاء نفسها. إنها ليست دليلًا على الشر. بل مجرد ضَعف الإرادة. فطالبةٌ لن تفكر أبدًا في سرقة المال أو الحُليِّ، لن تستطيع مقاومة سرقة قطعة من الكعك. وخاصة إذا كان كعكًا ذا مذاق حلو. فالطالبات يستهلكن طاقةً كبيرة؛ لذا تحتاج أجسادهن إلى السُّكر بشدة، وعلى الرغم من عدم وجود حدٍّ لما يمكن لهن أن يأكلن على المائدة، فإنهن جائعات باستمرار.»
«صحيح، إنهن يبذلن جهدًا كبيرًا بالفعل. في رأيك، ما النسبة المئوية للطالبات اللاتي سيجتزن السنة النهائية؟»
أجابت هنرييتا، وهي تشير برأسها إلى مجموعة طالبات السنة النهائية اللاتي يمشين عبْر الفناء إلى الحديقة: «من بين هذه المجموعة، حوالي ٨٠ بالمائة سوف ينتهين منها. هذا هو المتوسط. فأولئك اللائي يُخفِقن في الدراسة هنا، يحدث لهن ذلك عادةً خلال الفصل الدراسي الأول، أو ربما الثاني.»
«لكن بالتأكيد ليس جميعهن. فلا بد أن الحوادث تحدث في حياةٍ مثل هذه.»
«أوه، نعم، هناك حوادث.» واستدارت هنرييتا وبدأت في صعود الدَّرَج التالي.
«تلك الفتاة التي أخذت تيريزا ديستيرو مكانها، هل وقع لها حادث؟»
أجابت هنرييتا باقتضاب: «لا، لقد انهارت.»
تعرَّفت لوسي على النبرة المألوفة التي كانت تتحدث بها هنرييتا التي كان على وجهها ابتسامةٌ كبيرة وهي تصعد السلالم الصغيرة خلف صديقتها. فهي النبرة نفسها التي اعتادت هنرييتا أن تقول بها حينما كانت رئيسة للطالبات: «وتأكدوا من عدم ترك أي أغطية مطاطية للأحذية على أرضية حجرة المعاطف.» لم تترك بهذه النبرة مجالًا لأحدٍ أن يناقشها.
كان واضحًا أن هنرييتا لا تحب التفكير في كليتها العزيزة على أنها مؤسسة قاسية أو قمعية. كانت الكلية بوابةً إلى مستقبل مشرق للفتيات المستحقات لذلك؛ وإذا وجد شخص أو اثنان البوابة خطرًا وليس فرصة، فهذا أمرٌ مؤسف، لكنه لا يعني أن بناة البوابة هم المسئولون.
قالت ناش صباح أمس: «إنها أشبه بالدير. لا وقت للتفكير في العالم الخارجي.» كان هذا صحيحًا. لقد كانت شاهدة على الروتين اليومي. ورأت أيضًا صحيفتين يوميتين خاصتين بالطالبات مُلقاتين دون فتحهما في الغرفة المشتركة الليلة الماضية، أثناء ذهابهن لتناول العشاء. لكن دير الراهبات، حتى وإن كان عالمًا محدود النطاق، فهو أيضًا مكانٌ هادئ. لا توجد به منافسة. يشعر الشخص فيه بالاطمئنان. فلا يوجد في هذه الحياة المجهدة والمضنية للغاية ما يشبه دير الراهبات. فقط ظلَّ الاستغراق في الذات هو سيد الموقف؛ محدودية النطاق.
وتساءلت هل كانت الحياة في الكلية حقًّا محدودةَ النطاق بالنظر إلى الأشخاص المتجمعين في غرفة المعيشة؟ فلو كان هذا أيَّ نوع آخر من الكليات لكان التجمع متجانسًا. فلو كانت كليةً للعلوم، لكان التجمع يتألف من علماء؛ ولو كانت كلية لاهُوتِية، لكان التجمُّع يتألف من علماء اللاهوت. ولكن داخل هذه الغرفة الممتدة والمبهجة، بأثاثها الفاخر وأقمشتها الملوَّنة، ونوافذها الطويلة المفتوحة على مصراعيها، مما يسمح لهواء المساء الدافئ المعطَّر برائحة العُشب والوَرد أن يملأ المكان؛ تجتمع عوالمُ عديدة. فقد كانت السيدة لوفِيفْر الرشيقةُ الأنيقة المستلقية على أريكة صلبة من الطراز الإمبراطور تدخِّن سيجارةً صفراء موضوعة في حاملٍ أخضرَ؛ كانت تُجسِّد العالم المسرحي المملوء بمساحيق التجميل الثقيلة والفن والتظاهر. وجسَّدت الآنسة لوكس، التي تجلس منتصبةً على كرسي صلب، العالمَ الأكاديمي؛ عالَمَ الجامعات والكتب المدرسية والمناقشات. وتجسِّد الآنسة راج، المشغولة بصب القهوة، عالَمَ الرياضة؛ وهو عالَم بدنيٌّ وتنافسيٌّ وغير مفكِّر. وجسَّدت ضيفة الأمسية الدكتورة إينيد نايت، وهي عضو تدريس زائر، العالمَ الطبي. لم يكن العالم الأجنبي حاضرًا؛ فقد عادت سيجريد جوستافسِن مع أمها التي لا تتحدث الإنجليزية إلى غرفتها لتتحدثا معًا باللغة السويدية.
اجتمعت هذه العوالم معًا لتشكيل الطالبات اللاتي سينهين دراستهن في الكلية؛ فعلى الأقل لم يكن التدريب الذي يتلقَّونه محدود النطاق.
سألت السيدة لوفِيفْر لوسي وهي توجِّه عينيها الداكنتين الواسعتين ناحيتها: «وما هو انطباعك عن طالباتنا يا آنسة بيم بعد أن قضيتِ مدةَ بعد الظهر بأكملها معهن؟»
اعتقدَت لوسي أن السؤال كان سخيفًا للغاية، وتساءلت كيف يمكن لزوجين إنجليزيين محترمين من الطبقة الوسطى أن ينجبا شخصًا يشبه، إلى حد كبير، أولَ ثعبان في الكون مثل السيدة لوفيفر. قالت لوسي وهي سعيدة بسبب قدرتها على التعبير عن رأيها بصراحة: «أعتقد أنه لا توجد واحدة منهن لا تُمثل لايز تمثيلًا إيجابيًّا.» ولاحظت لوسي أن وجه هنرييتا الجاد قد تهلَّل. فقد تمحورت حياة هنرييتا بأكملها حول لايز. وكانت مهتمة غايةَ الاهتمام بأمرها؛ لدرجةِ أن لايز كانت لها بمنزلة الأب والأم والحبيب والابن.
قالت دورين راج التي لم يمضِ على تخرُّجها من الكلية مدةٌ طويلة، ولهذا كانت تَعُدُّ طالباتِها صديقاتٍ، قالت: «جميعهن فتيات لطيفات.»
فقالت الآنسة لوكس بلهجة قاطعة: «إنهن لا يفقَهْن شيئًا. فهن يعتقدن أن بوتيتشيلي هو نوع من الاسباجيتي.» ونظرت إلى القهوة التي قدَّمتها لها الآنسة راج بحزن عميق. وأردفت: «إذا كان الأمر يتعلق بذلك، فإنهن لا يعرفن شيئًا عن الاسباجيتي. فمؤخرًا خلال محاضرة عن التغذية، وقفت ديكرز في وسط المحاضرة واتهمتني بتحطيم تصوراتها.»
قالت السيدة لوفيفر بصوتها العميق مثل قماش من القطيفة البُنية: «تفاجئني معرفة أن أي شيء يتعلَّق بالآنسة ديكرز قابل للتحطيم.»
سألت الطبيبة الصغيرة التي تجلس على الكرسي بجانب النافذة: «وما التصورات التي قمتِ بتحطيمها؟».
«لقد أبلغتهم للتو أن الاسباجيتي والأطعمة المماثلة لها مصنوعةٌ من عجينة من الدقيق. ومن الواضح أن ذلك قد حطَّم تصوُّر ديكرز عن إيطاليا تمامًا.»
«وكيف كانت تتصورها؟»
«حقول معكرونة متموجة كما وصفتها.»
التفتت هنرييتا بعد أن أضافت مكعبين من السُّكر إلى فنجان صغير جدًّا من القهوة (إنه أمرٌ جميل، تأمَّلت لوسي بشوق، أن تمتلك جسمًا يشبه كيس الطحين وألا تنزعج من ذلك!)، وقالت: «على الأقل هن لا يرتكبن أي أعمال إجرامية.»
قال الجميع في تعجُّب: «أعمال إجرامية؟»
«سألت الآنسة بيم للتو عن الجرائم التي تحدث هنا في لايز. هذا ما يشغَل بال علماء النفس.»
قبل أن تتمكَّن لوسي من الاعتراض على هذه الصيغة لسؤالها البسيط، قالت السيدة لوفيفر: «حسنًا، دعونا نحقق رغبتها. دعونا نفرغ محتويات حقيبة ماضينا المخزية. ما الأعمال الإجرامية التي حدثت هنا؟»
تطوَّعت الآنسة راج بالإجابة قائلة: «في عيد الميلاد الأخير، واجهَتْ فارثينج عقوبةً لركوبها دراجتها دون إضاءة مناسبة.»
قالت السيدة لوفيفر: «نحن نتحدَّث عن جرائم. جرائم كبيرة. لا نتحدث عن مخالفات بسيطة.»
«إذا كنتن تقصدن جريمةً حقيقية، فهناك تلك الفتاة السيئة التي كانت مهووسة بالرجال، وكانت تقضي مساء السبت في التسكع حول بوابة الثكنات في لاربورو.»
قالت الآنسة لوكس وهي تتذكر: «صحيح. وماذا حدث لها بعد أن فصلناها، هل يعرف أحد؟»
قالت هنرييتا: «تتولَّى تقديم الطعام في ملجأ البحَّارة في بليموث»، وفتحت عينيها عندما ضحِك الجميع. وقالت: «لا أعرف ما المضحك في ذلك. الجريمة الوحيدة التي حدَثت هنا خلال السنوات العشر الأخيرة كانت سرقة الساعات، كما نعلم جميعًا.» وأردفت وهي تشعر بالغَيرة على مؤسَّستها العزيزة: «وحتى هذه لم تكن سرقةً حقيقية، بل هوسًا فقط. فلم تسرق شيئًا سوى الساعات، ولم تستفِد بها. كانت تضعهم جميعًا في درج مكتبها، يراها الجميع. كانت تسع ساعات. كان هوسًا بالطبع.»
قالت السيدة لوفيفر: «ومثل الحالة السابقة، أفترض أنها الآن مع صائغي الذهب والفضة.»
قالت هنرييتا بجدية: «لا أعلم. أعتقد أن عائلتها حبستها في المنزل. فقد كانوا عائلة ثرية جدًّا.»
«إذن فحدوث جرائم هنا أمرٌ نادر جدًّا يا آنسة بيم.» لوَّحت السيدة لوفيفر بيدها الداكنة الرفيعة. وأردفت: «نحن مجموعة غير مثيرة للاهتمام.»
وأضافت الآنسة راج: «مجموعة عادية للغاية. فحدوث فضيحة بسيطة بين الفينة والفينة أمرٌ لطيف. وهو تغيير مُرَحَّب به، بعيدًا عن الروتين المعتاد من وقوفٍ على الأيدي والتأرجح لأعلى حول العارضة.»
قالت لوسي: «أحب أن أرى بعضًا من تمارين الوقوف على الأيدي والتأرجح لأعلى حول العارضة. هل يمكنني أن آتي وأشاهد طالبات السنة النهائية في صباح الغد؟»
أجابتها هنرييتا أن بمقدورها القدوم لمشاهدة طالبات الصف النهائي. فهن مشغولات الآن بالتدرُّب على برنامج العرْض الخاص بهن، ومن ثَم تُعدُّ مشاهدتها ذلك عرضًا خاصًّا لها هي وحدَها. قالت: «إنها واحدة من أفضل المجموعات التي التحقت بالكلية على الإطلاق.»
سألت الآنسة راج: «هل يمكنني الذهاب أنا أولًا إلى صالة الألعاب الرياضية عندما تؤدي طالبات السنة النهائية اختباراتهن البدنية النهائية يوم الثلاثاء؟» وشرع الجميع في مناقشة الجداول.
توجَّهت الآنسة بيم إلى المقعد الذي بجانب النافذة وانضمت إلى الدكتورة نايت.
سألت لوسي: «هل أنت مسئولة عن تدريس المقطع العرضي لشيء يُسمى الزُّغابات؟»
«أوه، لا، علم وظائف الأعضاء هي مادة جامعية عادية؛ كاثرين لوكس هي مَن يُدَرِّسها.»
«إذن، ماذا تُدرِّسين؟»
«أوه، أشياء مختلفة في مراحل مختلفة. الصحة العامة، ما يُسمى بالأمراض «الاجتماعية». وما يُسمى أيضًا بحقائق الحياة. مجال عملِك.»
«علم النفس؟»
«نعم. الصحة العامة هي مهنتي، لكن علم النفس هو تخصصي. أحببت كتابك كثيرًا. فهو منطقي ومعقول. أحببت ذلك. من السهل جدًّا أن تُستخدم لغة معقَّدة فيما يتعلق بموضوع مجرد.»
احمرَّ وجه لوسي قليلًا. فلا يوجد مدح يثلج الصدر مثل مدح أحد الزملاء.
تابعت الدكتورة نايت، وقد بدا عليها الاستمتاع: «وبطبيعة الحال أنا المستشار الطبي للكلية. إنها خير مثال على الوظيفة العاطلة. فجميع الطالبات هنا يتمتعن بصحة جيدة على نحو يثير الدهشة.»
بدأت لوسي في الكلام قائلة: «ولكن …» إنها الفتاة الآتية من الخارج، ديستيرو (دار ذلك في خَلَد لوسي)، هي التي تُصر على كونهن غير أسوياء. إذا كان هذا صحيحًا، فمن المؤكد أن هذه المُراقِبة المتمرسة، وهي أيضًا من خارج لايز، ستكون على دراية بذلك.
قالت الطبيبة، وقد أخطأت في فهم «ولكن» التي قالتها لوسي: «تقع حوادث بالطبع. حياتهن مليئة بالحوادث البسيطة، مثل الكدمات والالتواءات وخلع الأصابع، وما إلى ذلك … ولكن من النادر جدًّا حدوثُ أي شيء خطير. فلم أعاصر سوى حالة بنتلي؛ تلك الفتاة التي تقيمين في غرفتها. لقد كُسرت قدمها ولن تعود إلا في الفصل الدراسي القادم.»
«لكن … هذه تدريبات شاقة، وحياة مرهقة؛ ألا تنهار الفتيات بسبب ذلك؟»
«نعم، هذا ليس خفيًّا. كان الفصل الدراسي السابق بالتحديد صعبًا. فمن وجهة نظر الطالبات قد تركَّزت فيه الأحداث المخيفة. صفوف التقييم و…»
«دروس التقييم؟»
«نعم. يُطلب من كل طالبة تقديمُ عرض في صالة الألعاب الرياضية والرقص أمام هيئة التدريس وأمام قريناتها، ويُقَيم أداؤها بناءً على جودة العرْض. يمكن أن يكون ذلك محطِّمًا للأعصاب. انتُهي من الدروس النقدية؛ ولكن لا تزال هناك الاختبارات النهائية، والعروض، والتعيينات الوظيفية، والانتقال من الحياة الطلابية إلى العالم الواقعي، وما إلى ذلك. نعم، إنه وقت صعبٌ عليهن، هؤلاء المسكينات العزيزات. لكنهن مرِنات على نحوٍ لا يُصدق. فمن ليست بهذه المرونة لن تصل إلى هذه المرحلة. دعيني أحضِر لكِ المزيد من القهوة. سأحضر بعض القهوة لنفسي.»
أخذت فنجان لوسي وذهبت إلى الطاولة، وانحنت لوسي إلى الوراء في ثنايا الستارة ونظرت إلى الحديقة. كانت الشمس قد غرُبت، وبدأت الخطوط العريضة للحديقة والمناظر المحيطة تمتزج بالظلام؛ وأخذت لوسي تشعر بأُولى قطرات الندى الذي يحمله الهواء اللطيف على وجهها. في مكانٍ ما على الجانب الآخر من المبنى (في غرفة الطالبات المشتركة؟) كانت إحداهن تعزف على البيانو وكانت إحدى الفتيات تُغنِّي. كان صوتًا ساحرًا؛ صوتًا نقيًّا يخرج بلا مجهود، دون حِيَل احترافية، ودون اللجوء إلى نغمات الربع تون. إضافةً إلى ذلك، كانت الأغنية هي إحدى الأغاني الشعبية؛ قديمة وعاطفية، ولكنها كانت تفتقر إلى أي نوع من الشفقة على الذات أو التكلُّف. كان صوتًا حديثًا صادقًا وأغنية قديمة صادقة. فوجئت لوسي عندما أدركت أنه قد مضى وقت طويل منذ أن سمعت غناءً صوتيًّا لم تصدره الأجهزة الإلكترونية التي تعتمد في عملها على الصِّمامات المفرغة والبطاريات. في الوقت الحالي، كانت أجواء لندن تضجُّ بصوت أجهزة الراديو الصاخبة؛ ولكن، في هذه الحديقة المنعشة والعطرة، كانت الفتاة تغني بدافع الشغف.
أعتقد أنني قضيت وقتًا طويلًا في لندن؛ يجب أن أجري بعض التغيير، دار ذلك في خَلَد لوسي. ربما أبحث عن فندق في الساحل الجنوبي. أو أسافر إلى الخارج. غالبًا ما ينسى الناس أنه لا يزال هناك العديد من الأشياء الجديدة لتجربتها في العالم.
سألت لوسي، بينما كان فنجان القهوة يُعطى لها: «مَن التي تغني؟»
فأجابت الدكتورة نايت في عدم اكتراث: «ستيوارت، أعتقد». ثم أردفت: «يمكنك إنقاذ حياتي يا آنسة بيم إن أردتِ ذلك.»
قالت لوسي إن إنقاذ حياة طبيب سيمنحها شعورًا كبيرًا بالرضا.
قالت الدكتورة نايت بصوتٍ تآمري: «أريد أن أذهب إلى مؤتمر طبي في لندن. إنه يوم الخميس، ولكن هذا موعد محاضرة علم النفس التي ألقيها. تعتقد الآنسة هودج أنني لا أتوقف عن الذهاب إلى المؤتمرات؛ لذا لا يمكنني طلبُ ذلك منها مرة أخرى. لكن إذا حدث وألقيتِ المحاضرة بدلًا مني، فهذا سيكون عظيمًا.»
«لكني عائدة إلى لندن غدًا بعد الغداء.»
قالت الدكتورة نايت بصوتِ مَن خاب أملها: «لا!» وأردفت: «هل عليكِ فعلُ ذلك؟»
«الغريب في الأمر أنني كنت أفكر للتو كيف أنه عليَّ أن أكره العودة.»
«إذن لا تسافري. ابقَيْ هنا يومًا أو يومين وأنقذي حياتي. افعلي ذلك يا آنسة بيم.»
«وماذا سيكون رأي هنرييتا في أن أحل محلك؟»
«هذا بالطبع ليس عذرًا حقيقيًّا، وعليكِ أن تخجلي من نفسك. أنا لستُ مؤلِّفة كتابٍ من أكثر الكتب مبيعًا، أنا لست مشهورة، أنا لست مؤلِّفةَ أحدث الكتب الدراسية في علم النفس …»
قامت لوسي بإيماءة صغيرة معترفةً بخطئها، لكنَّ عينيها كانتا على الحديقة. لماذا عليها العودة إلى لندن الآن؟ ماذا ينتظرها هناك؟ لا شيء ولا أحد. ولأول مرة بدت حياتها الجميلة والمستقلة والمريحة والحافلة قاتمةً بعض الشيء. ضيقة النطاق بعض الشيء وباردة. هل هي كذلك؟ هل افتقرت هذه الحياة التي كانت راضية عنها جدًّا إلى الدفء؟ لم يكن نقصًا في التعامل مع البشر بالتأكيد. فقد كانت حياتها مليئة بالبشر. لكن هذه التعاملات كانت كلها ذات طبيعة واحدة، الآن بعد أن فكَّرت في الأمر. فباستثناء السيدة مونتمورنسي من إحدى ضواحي مانشستر، التي كانت تساعدها في الأعمال المنزلية يوميًّا، وعمَّتها سيليا في والبيرسويك، التي كانت تقضي عندنا أحيانًا عطلات نهاية الأسبوع، والتجار، لم تتحدَّث لوسي قط إلى أي شخص لم يكن على صلةٍ بوجه أو بآخر بعالم النشر أو الأكاديميات. وعلى الرغم من أن جميع السيدات والسادة الذين ينتمون إلى هذين العالمين كانوا، بالطبع، أذكياء ومُسلِّين، لا يمكن إنكار أن اهتماماتهم كانت محدودة. فعلى سبيل المثال لا يمكنك التحدُّث مع الشخص نفسه عن الأمن الاجتماعي والأغاني الريفية ونتائج سباقات الخيل. فلكل شخص موضوعه الخاص الذي يتحدث عنه. ومما أثار استياءها أنها اكتشفت أن موضوع محادثاتهم غالبًا ما يتمحور حول حقوق المِلْكية الفكرية. ولم تكن لوسي نفسها تعرف سوى القليل جدًّا عن موضوع حقوق المِلْكية الفكرية، ولا سيما تلك الخاصة بها، ولم يكن بوسعها قط المشاركة بثقة في مناقشات من هذا النوع.
إلى جانب ذلك، لم تكن أيٌّ منهن شابَّة.
أو على الأقل لا يعشن شبابهن كما تعيش الفتيات هنا شبابهن. فقد تكون قلةٌ من معارفها في سنٍّ صغيرة، ولكن مشكلات العالم وإحساسهن بأهميتهن قد أثقل كاهلهن. وكانت مقابلة فتياتٍ لا تثقلهن أعباءُ العالم ومتاعبه تمثِّل لها تغييرًا.
وكان شعورًا جيدًا أن تكون محبوبة.
لم تكن هناك فائدة من محاولة خداع نفسها بشأن سبب رغبتها في البقاء مدةً أطول قليلًا؛ لماذا كانت مستعدة حقًّا للتخلي عن ملذات الحضارة التي كانت مرغوبة عندها جدًّا حتى صباح أمس فقط. وكان شعورًا جيدًا أن تكون محبوبة.
على مدى السنوات القليلة الماضية، عرفت لوسي التجاهل والحقد والإعجاب والتملُّق والتودد؛ لكنها لم تشعر بالحب الدافئ لشخصها منذ أن ودَّعتها زميلاتها في السنة الأولى في المدرسة الثانوية؛ بإهدائها محفظةَ أقلام مصنوعة يدويًّا، وخطبة كتبتها فتاة تُدعى في الغالب جلاديس، بعد مدة قصيرة من حصولها على ميراثها. للبقاء في هذه الأجواء المفعمة بالحيوية والشباب والإعجاب والدفء، كانت على استعداد للتغاضي عن مشكلة الأجراس والفاصولياء والحمامات.
قالت الآنسة راج الشابة، وهي ترفع صوتها ليصبح أعلى من المحادثة التي خلفهما: «نايت، هل طلبت منك القرينات الأربع أن تقدِّميهن لدكتور أو آخر في مانشستر؟»
«أوه، نعم، لقد طلبن مني ذلك. في صوت واحد. وقلت: نعم بالتأكيد. في حقيقة الأمر، كنت سعيدة بذلك؛ أعتقد أنهن سيحققن نجاحًا عظيمًا.»
قالت الآنسة لوكس: «كلُّ واحدة من القرينات الأربع منفردةً بلا أي قيمة. ولكن عندما يعملن معًا، فإنهن يمتلكن قوةً رباعية من شأنها أن تكون مفيدةً في لانكشاير. هذه هي المرة الأولى التي أجد فيها أن حاصل ضرب أربعة في لا شيء هو حوالي ستة ونصف. إذا لم يكن أحد يريد جريدة «صنداي تايمز» فسوف آخذها معي إلى الفراش.»
من الواضح أنه لا أحدَ يريد قراءتها. فقد ظلَّت موجودةً في غرفة المعيشة بعد الغداء دون أن يفتحها أحد، وكانت لوسي أول مَن يفتحها، وبقدرِ ما لاحظت، لم يلتقطها أحدٌ منذ ذلك الوقت باستثناء الآنسة لوكس.
قالت السيدة لوفيفر: «إن طالبات السنة النهائية هذا العام يشققن طريقَهن الخاص بفعَّالية. يكاد يكون دون مساعدة منَّا. ستكون الغَيرة الشديدة أقلَّ مما تعوَّدنا.» ولم تبدُ آسفة بشأن هذه الغَيرة الشديدة؛ إذ كانت نبرتها تهكمية لا أكثر.
قالت الآنسة هودج، ونبرتها تخلو من أيِّ تهكم: «ما يفاجئني باستمرار كيف تجد الطالبات كلَّ عام الوظائفَ المناسبة لهن. إذ تظهر الوظائف الشاغرة عندما تكون الطالبات جاهزاتٍ لشغْلها. تقريبًا مثل قطعتين من آلة واحدة. وهو أمرٌ مفاجئ ومريح جدًّا. لا أعتقد أننا أرسلنا قط طالبةً غير مناسبة طوال السنوات التي قضيتها في لايز. بالمناسبة، تلقيت رسالةً من مدرسة كوردوينرز في إدنبرة. سوف تتزوج مولكاستر ويريدون مَن تحل محلَّها. هل تتذكري مولكاستر يا ماري؟» والتفتت إلى السيدة لوفيفر التي كانت، باستثناء هنرييتا، أقدم الموجودين في لايز؛ السيدة لوفيفر التي، بالمناسبة، عُمِّدت باسم ماري.
قالت السيدة لوفيفر، التي تقيِّم الأشخاص بناءً على قدرتهم على أداء حركات الرقص مثل روندس دي جامبيس: «بالطبع أتذكرها. فتاة مملة تفتقر إلى الحيوية.»
قالت هنرييتا بهدوء: «فتاة لطيفة. أعتقد أن مدرسة كوردوينرز ستكون مكانًا مناسبًا جدًّا لشينا ستيوارت.»
سألت الآنسة راج: «هل أخبرتِها بذلك؟»
«لا، أوه، لا؛ أحب دائمًا ألا أتخذ قرارات على عجل.»
قالت السيدة لوفيفر: «هل تقصدين أنك بحاجة إلى مزيد من الوقت للتفكير في الأمر قبل اتخاذ قرار. لا بد أنكِ علمتِ بأمر مدرسة كوردوينرز قبل وقت الغداء بالأمس؛ لأن ذلك كان آخر موعد لوصول البريد، وقد عرفنا ذلك الآن فقط.»
قالت هنرييتا في ردة فعل دفاعية: «لم يكن ذلك ذا أهمية كبيرة»؛ ثم أضافت بابتسامة متكلَّفة: «لكني سمعت شائعات عن فرصة عظيمة جدًّا لواحدة من الطالبات.»
قلن: «أخبرينا بها.»
لكن هنرييتا قالت لا؛ إنه لم يأتِ أي إشعار رسمي، وإنه قد لا يأتي أي إشعار رسمي أو استمارة تقديم على الإطلاق، وحتى يحدث ذلك فإنه من الأفضل عدم التحدُّث في هذا الموضوع. لكن ما زال يبدو على وجهها السعادة والغموض.
قالت الآنسة لوكس، وهي تأخذ جريدة «صنداي تايمز» متجاهلةً محاولة هنرييتا الخرقاء بأن تكون كتومة: «حسنًا، سأذهب للنوم.» وأردفت: «لن تغادري لايز قبل الغداء غدًا يا آنسة بيم، أليس كذلك؟»
قالت لوسي، إذ اضطُرَّت فجأةً إلى اتخاذ قرار: «حسنًا، كنت أتساءل إن كان بإمكاني البقاء هنا يومًا أو يومين؟» وأردفت مُذكِّرة هنرييتا: «لقد طلبتِ مني ذلك. فمن اللطيف للغاية … من الممتع جدًّا مشاهدة عالَم مختلف تمامًا … عالم جميل جدًّا، لذا …» يا إلهي، لماذا يجب أن تبدوَ خرقاء هكذا. ألن تتعلم أبدًا التصرف على أساس كونها لوسي بيم الشهيرة؟
لكن غطَّى على تلعثُمها هذا موجةً عارمة من الترحيب. تأثَّرت لوسي لملاحظة شيء من الاستمتاع على وجه الآنسة لوكس.
قالت الدكتورة نايت كما لو كانت الفكرة قد طرأت في ذهنها للتو: «ابقَي حتى يوم الخميس ويمكنك أن تحلِّي محلِّي في محاضرة علم النفس لطالبات السنة النهائية حتى يتسنَّى لي حضور مؤتمر في لندن.»
قالت لوسي، وهي تتظاهر بالتردُّد: «أوه، لا أعلم إذا كانت …» ونظرت إلى هنرييتا.
قالت الآنسة هودج باستنكار، ولكن دون مشاعر قوية: «إن الدكتورة نايت تهرب دائمًا إلى المؤتمرات. ولكن بالطبع سيُسعدنا ويشرفنا يا لوسي موافقتك على إعطاء الطالبات محاضرة ثانية.»
«أود ذلك. سيكون من الجيد أن أشعر بأنني عضو مؤقَّت في هيئة التدريس، بدلًا من كوني مجرَّد ضيفة. أود أن أفعل ذلك بشدة.» واستدارت وهي تنهض لتغمز في وجه الدكتورة نايت، التي كانت تضغط على ذراعها في نشوة شديدة. وأردفت لوسي: «والآن أعتقد أنه عليَّ أن أعود إلى جناح الطالبات.»
وتمنَّت للجميع ليلةً هانئة وخرجت مع الآنسة لوكس.
أثناء سيرهما معًا إلى الجزء الخلفي من المبنى، ألقت لوكس نظرةً جانبية على لوسي، لكن لوسي شعرت ببعض الود في عيون لوكس الرمادية الجليدية.
سألت لوكس: «هل حقًّا تحبين معرض البشر هذا؟» وأردفت: «أم أنكِ تبحثين فقط عن أشياء لتثبيتها على الورق المقوى بالدبابيس؟»
كان هذا هو السؤال الذي سألته فطيرة المكسرات بعد ظهر يوم أمس. هل جئت تبحثين عن نماذج؟ حسنًا، ستجيب الإجابة نفسها وترى ردَّ فعل لوكس.
«أوه، سأبقى هنا لأنني أحبُّ هذا المكان. فلن تكون كليةٌ للتدريب البدني مكانًا مناسبًا للبحث عن أشياءَ غير طبيعية، على أي حال.» قالت ذلك بإقرار وليس بسؤال، وانتظرت.
سألت الآنسة لوكس: «ولمَ لا؟». وأردفت: «قد يؤدي الإرهاق الجسدي إلى جعل الشخص أقلَّ قدرة على التفكير بصفاء ذهني، ولكنه لا يقضي بالضرورة على مشاعر الفرد أو عواطفه.»
قالت لوسي في تعجُّب: «حقًّا؟». وأردفت: «إذا كنت مرهقة للغاية، فأنا متأكدة من أنني لن يكون لدي أيُّ مشاعر تجاه أي شيء، باستثناء الحاجة إلى الذهاب للفراش سريعًا.»
«لا بأس بالذهاب إلى الفراش عندما يكون الشخص مرهقًا للغاية؛ إنه أمرٌ طبيعي ومريح وآمن. تظهر المشكلة عندما يستيقظ وهو يشعر بالإرهاق الشديد.»
«أي مشكلة؟»
قالت لوكس بسلاسة: «المشكلة الافتراضية التي نتحدَّث عنها.»
«أتقصدين أن استيقاظ الطالبات وهن يشعرن بإرهاق شديد أمرٌ شائع هنا؟»
«حسنًا، أنا لست مستشارتهن الطبية؛ لذا لا يمكنني التنقُّل في المكان بسمَّاعة طبية وتوجيه أسئلة طبية إليهن، لكن يمكنني القول إن خمسًا من بين كل ست طالبات في السنة النهائية يشعرن بالإرهاق الشديد في الفصل الدراسي الأخير؛ لدرجةٍ تجعل من الاستيقاظ في كل صباح أشبه بالكابوس الخفيف. فعندما يشعر الشخص بهذه الدرجة من الإرهاق، تتوقَّف حالته العاطفية عن كونها طبيعية. فتبدو العقبة الصغيرة وكأنها عائق هائل بطول جبل إيفرست في الطريق؛ ويمكن أن تتسبَّب ملاحظة طائشة يقولها شخص في حدوث أزمة نفسية يجب معالجتها؛ وتصبح خيبة الأمل الطفيفة فجأةً حدثًا كارثيًّا.»
تذكَّرت لوسي مجموعة الوجوه التي كانت موجودة أثناء حفل الشاي. وجوه سمراء بسبب الشمس، وضاحكة، وسعيدة؛ فتيات لا يحملن همًّا وتغلب عليهن الثقة الشديدة. فأين توجد أي علامة على المشقة أو سوء المزاج في هذه المجموعة الهادئة الصحيحة؟ لا توجد. لقد اشتكت الفتيات من حياتهن الصعبة بالتأكيد، لكن كان ذلك على سبيل الدعابة؛ إذ كانت شكوى غير جادة.
ربما يكُنَّ متعبات؛ في حقيقة الأمر كُن متعبات … ستكون معجزة لو لم يكُنَّ كذلك؛ لكن ليس تعبهن تعبًا لدرجة الاضطراب. لم تصدِّق لوسي ذلك.
قالت لوكس: «هذه غرفتي» وصمتت. وسألت لوسي: «هل معكِ شيء لقراءته؟ لا أفترض أنك أحضرت أيَّ شيء لو كنتِ نويتِ العودةَ بالأمس. هل يمكنني إعطاؤك شيئًا تقرئينه؟»
فتحَت الباب، وكشفت عن غرفة نوم وجلوس مرتَّبة ومزيَّنة بثلاثة زخارف فقط: نقش، وصورة فوتوغرافية، وجدار كامل من الكتب. ويمكن سماع صوت محادثة باللغة السويدية قادمًا من الغرفة المجاورة.
قالت لوكس فجأة: «مسكينة يا فروكن»، بينما كانت لوسي تصغي جيدًا إلى المحادثة.
وأردفت: «لقد كانت تشعر بالحنين إلى الوطن. لا بد أنه شعور رائع أن تتمكَّن من التحدُّث عن شئون أسرتها بلغتها الخاصة مرة أخرى.» وبعد ذلك، لاحظت لوكس أن لوسي كانت تنظر إلى الصورة، فقالت: «هذه أختي الصغرى.»
قالت لوسي: «إنها جميلة جدًّا»؛ وتمنَّت على الفور ألا يكون قد بدا على نبرتها أنها متفاجئة.
أجابت لوكس وهي تغلق الستائر: «أجل. أنا أكره العثَّ. وماذا عنكِ؟ لقد وُلدت أختي عندما كنت أنا في سن المراهقة، وأنا عمليًّا مَن توليت مهمةَ تربيتها. وهي الآن في سنتها الثالثة في كلية الطب.» اقتربت لوكس ووقفت بجانب لوسي ونظرت إلى الصورة لحظةً. وسألت: «حسنًا، ماذا يمكنني أن أعطيك لقراءته؟ أي شيء، من دامون رونيون إلى مارسيل بروست.»
أخذت لوسي كتاب «الزائرون الشباب.» لقد مرَّت مدةٌ من الوقت منذ أن قرأته لوسي آخرَ مرة، لكنها لم تستطِع إلا أن تبتسم لمجرد رؤية الكتاب. كانت ردة فعلها تلقائية وغير واعية. وعندما رفعت نظرها، لاحظت أن لوكس كانت تبتسم هي الأخرى.
قالت لوسي بأسف: «حسنًا، هذا شيء لن أفعله أبدًا.»
«ما هو؟»
«أن أكتب كتابًا يجعل العالم كلَّه يبتسم.»
أجابت لوكس، وقد ازدادت ابتسامتها اتساعًا: «ليس العالم كله. كان لديَّ ابنة عم توقَّفت عن قراءته عند منتصفه. وعندما سألتها لماذا، قالت: كتاب لا يمُت إلى الواقع بصلة.»
سارت لوسي إلى غرفة نومها وعلى وجهها ابتسامة، وكانت تشعر بالارتياح لأنها لن تُضطر إلى ركوب القطار في اليوم التالي، وظلَّت تفكر في الآنسة لوكس غير الجذابة، التي تحب أختها الجميلة ولديها ولَعٌ بالأشياء السخيفة. وعندما وصلت لوسي إلى الممر الطويل للجناح إيه، رأت بو ناش تقف عند زاوية الدَّرَج في نهاية الممر، وهي تحمل جرسًا يدويًّا إلى ارتفاع الكتف، وفي ثانيةٍ ملأ صوته الجامح أرجاء الجناح. فتوقَّفت في مكانها، واضعة يديها على أذنيها، بينما ضحكت بو عليها وبدأت في قرع الجرس بكل قوَّتها. كانت تقف في بهاء هناك وهي تمسك بأداة التعذيب هذه في يدها.
سألت لوسي عندما توقَّفت بو أخيرًا عن قرع الجرس: «هل قرع جرس الذهاب إلى غرفة النوم مهمة رئيسة الطالبات؟»
«لا، تتناوب طالبات الصف النهائي في هذه المهمة؛ تصادف أن يكون دوري هذا الأسبوع. نظرًا لأن اسم عائلتي في ترتيب متأخر في الحروف الأبجدية، فلا أؤدي المهمةَ أكثرَ من أسبوع واحد في كل فصل دراسي.» نظرت إلى الآنسة بيم وخفضت صوتها متظاهرةً بالثقة بطريقة مرحة. قالت: «أتظاهر بالسعادة حيال ذلك … يعتقد الجميع أنه من الممل للغاية أن يُضطر إلى متابعة ساعة الحائط؛ لكني أحب إثارةَ الضجيج.»
أجل، هكذا فكَّرت لوسي؛ فاحتفاظها بهدوئها دائمًا وصحة بدنها هما السببان وراء استمتاعها بضجيج الجرس. ثم، تقريبًا بطريقة لا إرادية، بدأت تفكِّر فيما إذا كانت لا تستمتع بالضجيج، ولكن ما تستمتع به هو شعور السيطرة. ولكن لا، رفضت لوسي هذه الفكرة لأن بو ناش دائمًا ما كانت تتمتع بحياة سهلة؛ فطوال حياتها لم يكن عليها سوى أن تطلب أو تأخذ حتى تحصل على ما تريد. لم تكن الآنسة ناش بحاجة إلى الإحساس بالرضا بشكل غير مباشر من خلال الآخرين؛ إذ كانت حياتها مليئة بالرضا الدائم. لقد استمتعت بصوت الجرس العالي؛ هذا كلُّ ما هنالك.
قالت ناش وهي تلحق بها: «على أي حال، إنه ليس جرس الذهاب إلى غرفة النوم. إنه جرس إطفاء الأنوار.»
«لم أكن أعلم أن الوقت متأخر لهذه الدرجة. هل ينطبق هذا عليَّ؟»
«بالطبع لا. فَعِلية القوم يفعلون ما يحلو لهم.»
«حتى عِلية القوم الذين من خارج الكلية؟»
قالت ناش: «ها هي ذي غرفتك الصغيرة»، وهي تضغط على مفتاح الإضاءة وتتنحى جانبًا لتفسح الطريقَ أمام لوسي للدخول إلى الغرفة الصغيرة المضاءة جيدًا، بنظافتها وبهجتها وسطوعها. فبعد قضاء الأمسية السابقة في غرفة المعيشة الفاخرة ذات الطراز الجورجي، بدت غرفتُها وكأنها صفحة مأخوذة من مجلة أمريكية فاخرة. قالت ناش: «أنا سعيدة أنني قابلتك؛ لأن لديَّ اعترافًا لكِ. أنا لن أُحضِر لكِ وجبة الإفطار غدًا.»
قالت لوسي: «أوه، لا بأس، عليَّ أن أستيقظ في كل الأحوال …»
«لا، أنا لا أقصد ذلك. بالطبع لا أقصد ذلك. كلُّ ما في الأمر هو أن موريس الصغيرة طلبت مني أن تُحضِر لكِ الطعام … إنها واحدة من طالبات السنة الأولى … و…»
«الفتاة التي خطفت جورج؟»
«أوه، نعم، نسيتُ أنك رأيتِها. نعم، هي. وبدا أنها تعتقد أن حياتها لن تكتمل ما لم تحضِر لكِ الإفطار في صباحك الأخير معنا؛ لذلك قلت إنه ما دامت لن تطلب توقيعك أو تزعجك، يمكنها ذلك. آمُل أنك لا تمانعين. إنها فتاة لطيفة، وسوف يسعدها ذلك حقًّا.»
قالت لوسي، التي لم تكن تمانع إن أَحضَر لها زنجيٌّ أحولُ قاتلٌ فطورَها ما دامت تستطيع أن تأكل الخبزَ المحمص الشبيه بالمطاط في سلام وهدوء، إنها شاكرة لموريس الصغيرة، وعلى أي حال فلن يكون هذا صباحها الأخير معهن. فسوف تبقى وتلقي محاضرةً يوم الخميس.
«حقًّا! أوه، هذا رائع. أنا سعيدة جدًّا. سيكون الجميع سعداء. أنتِ مفيدة جدًّا لنا.»
«مثل الدواء؟» جعَّدت لوسي أنفها احتجاجًا.
«لا، مثل الماء المنعش.»
قالت لوسي: «علاج لكل شيء»؛ لكنها كانت مسرورة.
كانت مسرورة للغاية، لدرجةِ أنه حتى المهمة المتمثلة في وضع دبابيس الشعر الصغيرة في أماكنها الصحيحة في شعرها لم تسبِّب لها الملل المعتاد. ووضعت كريم الوجه وفحصت بشرتها الدهنية غير المزيَّنة في الضوء الساطع مع إحساس غير معتاد بالقبول. لا يمكن إنكار أن امتلاك وجه ممتلئ قليلًا يمنع ظهور الخطوط في الوجه؛ فإذا كان لدى الشخص وجه يشبه الكعكة، فمن المطمئن على الأقل أن تكون كعكة ناعمة. والآن، عند التفكير في الأمر، أدركت لوسي أن ملامحها مناسبةٌ جدًّا لها؛ فلو كان لديها أنف مثل أنف جاربو، لاضطُرت إلى ارتداء ملابسَ تتناسب مع هذا الأنف، وإن كانت لديها عظام خد كالتي لدى الآنسة لوكس، فسيتعين عليها أن ترقى إلى مستوًى عالٍ من الثقة والحضور. ولم تكن لوسي قادرة مطلقًا على تلبية أي توقعات أو معايير. ولا حتى فيما يتعلق بكتابها «خواطر في علم النفس».
تذكَّرت في الوقت المناسب أنه لم يكن هناك ضوء بجانب الفراش — فقد ثُبِّطت الطالبات عن العمل في الفراش — فأطفأت النور ومشت عبْر الغرفة لإزاحة ستائر النافذة التي تطل على الفِناء. ووقفت هناك بجانب النافذة المفتوحة على مصراعيها، تشم رائحة الليل البارد. عمَّ السكونُ التام لايز. فكل الثرثرة، ورنين الأجراس، وأصوات الضحكات، والصراخ، ووقْع الأقدام، وماء الاستحمام المنهمر، والحركة المستمرة، تجمَّدت في سكون هائل وغريب، مما أدى إلى اشتداد ظلمة الليل الهادئ.
«آنسة بيم.»
جاء الهمسُ من إحدى النوافذ المقابلة.
هل يمكنهن رؤيتها إذن؟ لا، بالطبع لا. لقد سمعت إحداهن الصوت الخفيف الذي أصدرته إزاحة ستائرها.
«نحن سعداء لأنك ستبقين معنا يا آنسة بيم.»
لم يمر سوى ١٥ دقيقة منذ أن تمنَّت لها ناش ليلة سعيدة، لكن الأخبار قد وصلت بالفعل إلى الجناح المقابل.
قبل أن تتمكَّن من الإجابة، سمعت همسات آتية من النوافذ غير المرئية للمبنى الصغير. صحيح يا آنسة بيم. نحن سعداء. سعداء يا آنسة بيم. نعم. نعم. سعداء يا آنسة بيم.
قالت لوسي: «تصبحون على خير جميعًا.»
قالت لها الفتيات تصبحين على خير. تصبحين على خير. نحن سعداء جدًّا. تصبحين على خير.
أدارت مقبض ساعتها وسحبت كرسيًّا لتضعها عليه — أو بالأحرى الكرسي، فلا يوجد سوى كرسي واحد في الغرفة — وذلك حتى لا تُضطر إلى البحث عن الساعة تحت الوسائد في الصباح؛ وتعجَّبت لكونها حتى صباح أمس كانت تتوق إلى مغادرة هذا المكان.
وربما لأنه لا يوجد عالِم نفسٍ يحترم ذاته يؤمن بموضوعٍ عفا عليه الزمن كالهواجس؛ فلم تسمع لوسي صوت عفريت صغير يريد أن يساعدها، وقد أتى من العالم غير القابل للتفسير، ليهمس في أذنها الناعسة قائلًا: «ارحلي من هنا. اذهبي بعيدًا بينما تسير الأمور على ما يرام. ارحلي. بعيدًا عن هنا.»