الفصل السابع
قالت فطيرة المكسرات، التي ظهرت فجأة بجوار لوسي: «هيا نهرب معًا يا آنسة بيم.»
في صبيحة يوم الأربعاء غشي الكلية السكون التام الذي يُصاحب الاختبارات النهائية. كانت لوسي تقف مُتكئة على بوابةٍ ذات خمسة قضبان أفقية خلف صالة الألعاب الرياضية، وهي تُحَملق في حقلٍ من نبات الحَوْذان. كانت واقفة عند نهاية حديقة لايز، تلك النقطة التي ابتدأ الريف من عندها، الريف الذي نعرفه، والذي لم تَطُله يد لاربورو، والذي لم يُمَس ولم يُلَوَّث. انحدر الحقل نحو جدول، كان على الجانب الآخر منه ملعب الكريكت، امتد بعده سياجٌ طويل من الأشجار والمروج في نسيج ممتد يجمع الألوان الأصفر والأبيض والأخضر، وبدا كل شيء ساكنًا تحت أشعة شمس الصباح.
أخذت لوسي تدير عينيها بصعوبة عن الحوذان الأصفر البرَّاق الذي أطار لبَّها وفتنها، وتساءلت عن عدد الفساتين الحريرية المزهرة التي تمتلكها فطيرة المكسرات. وها هي ذي الآن ترتدي فستانًا آخر يتميز في مظهره المبهرج وألوانه المزركشة عن الملابس الإنجليزية الهادئة الأنيقة.
سألت لوسي: «إلى أين تقترحين أن نذهب؟»
«لنذهب إلى القرية.»
«هل توجد قرية قريبة؟»
«إن القرى منتشرة في أرجاء الريف الإنجليزي؛ فإنجلترا من الدول التي تتميز بذلك. ولكن على وجه التحديد، فإن القرية القريبة من هنا تُسمى بيدلينجتون. فخلف تلك الأشجار، يمكنك رؤية جزء من دوَّارة الرياح أعلى برج الكنيسة.»
قالت لوسي، التي لم تَعْتَد المشي مسافاتٍ طويلة، وكانت راضية جدًا عن المكان الذي تقف فيه حاليًّا؛ إذ لم تحظَ منذ وقت طويل بفرصة تَأَمُّل حقل من الحوذان وبوقت غير محدود للاستمتاع به: «تبدو القرية بعيدة. هل هي مكان مميز؟»
قالت ديستيرو، وكأنها تقدِّم دليلًا على أهمية القرية: «أوه، نعم. إن بيدلينجتون قرية بها حانتان.» وأردفت: «علاوة على ذلك، فإن بها كل ما يتوقع المرء وجوده في قرية إنجليزية. فقد نامت الملكة إليزابيث هناك، واختبأ بها تشارلز الثاني؛ ووجد الصليبيون راحتهم الأبدية في كنيستها — واحد منهم يشبه شبهًا كبيرًا مديرَ مزرعتنا في البرازيل — ويمكنك العثور على بطاقات بريدية لجميع أكواخ القرية في المتجر الذي يوجد بها، وتظهر القرية كذلك في الكتب، إن القرية …»
«هل تقصدين كتب الإرشاد السياحي؟»
«لا، لا. هناك مؤلِّف متخصِّص في الكتابة عن بيدلينجتون. عندما وصلتُ أولَ مرة إلى لايز، قرأت أحدَ كتبه. كان عنوان الكتاب «المطر فوق السماء». كان الكتاب مليئًا بالحكايات المثيرة للشهوة والعلاقات المحرَّمة. ويوجد أيضًا شهداء بيدلينجتون … وهم مجموعة مكوَّنة من ستة رجال كانوا قد ألقوا الحجارة على قسم الشرطة في وقتٍ ما خلال القرن الماضي، وانتهى بهم المطاف في السجن. تخيلي أن تتذكر دولة مثل هذه الحوادث! في بلدي، نستخدم السكاكين — عندما لا نستطيع شراء المسدسات — ونغطي الجثث بالورود، ونذرف الدمع، لكن سرعان ما ننسى كل شيء بحلول الأسبوع التالي.»
«حسنًا …»
«يمكننا احتساء بعض القهوة في «ذا تي بوت».»
«يبدو لي وكأنه مقهًى ذو طابع أيرلندي إلى حدٍّ، أليس كذلك؟»
ولكنه كان من الصعب لشخص غريب عن البلاد، حتى وإن كان ذكيًّا، استيعابه. قالت ديستيرو: «ما يمكنني أن أقوله هو أنه يقدِّم قهوة حقيقية. حقيقية في الرائحة والمذاق. أوه، هيا بنا يا آنسة بيم. إن المقهى لا يبعُد سوى ١٥ دقيقة سيرًا على الأقدام، ولم تبلغ الساعةُ العاشرةَ بعد. ولا يوجد ما نفعله هنا حتى موعد أكل الفاصولياء في الواحدة.»
سألت لوسي، وهي تسير باستسلام عبر البوابة المفتوحة لها: «أليس لديكِ أي اختبارات؟»
أجابت فطيرة المكسرات: «أعتقد أنني سأخضع لاختبار التشريح. هذا لمجرد الاستمتاع به. لقد حضرت جميع المحاضرات؛ لذلك سيكون من الممتع أن أرى مقدار ما تعلمت. إن التشريح علم قيِّم. إنه يتطلب جهدًا كبيرًا بالطبع، وهو ليس من العلوم التي تُقَدِّر الخيال، لكن المعرفة التي سأكتسبها تستحق العناء.»
«أظن ذلك. فلا يريد المرء أن يشعر بأنه جاهل في حالة الطوارئ.»
قالت ديستيرو، التي بدا ذهنها منشغلًا بشيء آخر: «طوارئ؟» وأردفت: «أوه، نعم، أفهمك. ولكن ما قصدته هو أن علم التشريح لا يتقادم أبدًا. فمجال دراستك، سامحيني يا آنسة بيم، يصبح قديمًا بمرور الوقت، أليس كذلك؟ قد يكون الاستماع إليه رائعًا، لكن العمل به أمرٌ غير حكيم على الإطلاق. فالأفكار الصالحة اليوم قد تصبح غير منطقية غدًا، ولكن الترقوة ستظل دائمًا هي الترقوة. هل تفهمين وجهة نظري؟»
لاحظت لوسي هذه القدرة على الاقتصاد في الجهد وغبطتها.
«إذن، عندما تخضع غدًا طالبات السنوات الأولى لاختبار التشريح النهائي، سأنضم إليهن. إنه علم يجلب الاحترام؛ وسيروق ذلك لجَدتي. ولكن اليوم، بينما هن مشغولات بحل الألغاز، سأذهب أنا إلى بيدلينجتون مع الآنسة بيم، وسنستمتع بقهوتنا.»
«حل الألغاز؟»
أخرجت فطيرة المكسرات ورقة مطوية من الجيب الصغير في فستانها وبدأت في القراءة: «إذا رُكلت الكرة إلى خارج خط التماس، ولكنها لم تلمس الأرض، وأقدَمَ لاعبٌ يقف في الملعب على ركل الكرة أو الإمساك بها وإعادتها إلى الملعب مرة أخرى، فما هو القرار الذي ستتخذه؟»
في صمتٍ أبلغَ من الكلام، طوت فطيرة المكسرات الورقة المنسوخة وأعادتها إلى جيب الفستان.
«كيف تمكنتِ من الحصول على نسخة من ورقة الاختبار والطالبات ما زلن في اختبار الألعاب الرياضية؟»
«أعطتني الآنسة راج نسخة. لقد اعتقدت أن ذلك قد يسليني. وهو كذلك بالفعل.»
وفي الطريق بين الحقل الأصفر والسياج المزيَّن بزهور شهر مايو البيضاء سارت الآنسة بيم وديستيرو إلى الجدول. وتوقَّفتا على الجسر الصغير لتأمُّل المياه التي تُظِلها أشجار الصفصاف.
أشارت ديستيرو عبْر الجدول نحو اليابسة، قائلة: «يوجد الملعب هناك. خلال فصل الشتاء، يغمره الوحل، وتلصق اللاعبات قضبانًا بأحذيتهن لمنع الانزلاق.» دار بخَلد لوسي أن اللهجة المُستخدمة لوصف أحذية اللاعبات كانت مشابهة تمامًا لتلك المستخدمة لقول: «اللاعبات يرتدين الخواتم في أنوفهم لزيادة جاذبيتهن.» وأردفت ديستيرو: «والآن سوف نسير في اتجاه مجرى الجدول إلى الجسر الصغير التالي حتى نصل إلى الطريق هناك. إنه ليس طريقًا بالضبط؛ مجرد ممر ضيق.» سارت ديستيرو في صمت على طول المسار المظلل، كانت أشبه باليعسوب الزاهي، تسير في خفة وأناقة وكأنها من عالم آخر. واندهشت لوسي من قدرة ديستيرو على الاحتفاظ بهذا الهدوء طوال سَيرهما.»
عندما وصلتا إلى الطريق أخيرًا، سألت فطيرة المكسرات: «هل معكِ أيُّ نقود يا آنسة بيم؟»
توقفت لوسي وهي تجيب في حيرة: «لا.»
«وأنا أيضًا ليس لدي أي نقود. لكن لا بأس. فالآنسة نيفيل ستتولى الأمر.»
«ومَن هي الآنسة نيفيل؟»
«إنها السيدة التي تدير المقهى.»
«هذا غريب إلى حدٍّ ما، أليس كذلك؟»
«ليس غريبًا في رأيي. فأنا أنسى إحضار النقود معي دومًا. لكن الآنسة نيفيل إنسانة رائعة. لا تشعري بالسوء حيال ذلك يا عزيزتي الآنسة بيم، فأنا أتمتع بسمعة طيبة في القرية، وسترَين ذلك.»
كانت القرية تمامًا كما وصفتها ديستيرو؛ وكذلك كانت الآنسة نيفيل. ومن ثَم يمكن قول الشيء نفسه على «ذا تي بوت» بالتأكيد. كان المقهى أحدَ تلك المقاهي التي غالبًا ما يزدريها أولئك الذين يفضِّلون الخبز والجبن والبيرة، ويُرحب بها جيل مُحبِّي الشاي، الذين لا يزالون يتذكرون الغرف المليئة بالذباب الموجودة خلف مخابز القرية، والكعك البسيط المليء بالزبيب الذي يشبه الحشرات الميتة، والأكواب المشققة السيئة التنظيف، والشاي الداكن غير المستساغ.
يمتلك المقهى جميعَ العناصر التي ينتقدها أولئك الذين يتردَّدون على الحانات في القرى لأغراض أدبية: الخزف الصيني المزيَّن بنمط الأشجار الهندية، والطاولات من خشب البلوط الداكن، وستائر الكتان ذات التصميم اليعقوبي، والباقات العشبية المعروضة في أباريقَ بنية غير مصقولة؛ نعم، وحتى الأعمال الفنية واليدوية في النافذة. ولكن، في نظر لوسي، التي كانت لها تجربة خلال الفترة التي عرفت فيها آلان في الحانات المتربة، كان المقهى مكانًا ساحرًا بلا شك. امتلأ الهواء بالرائحة الزكيَّة للكعك المُنَكَّه الذي خرج للتو من الفرن، كما توجد، إضافةً إلى النافذة الطويلة المواجهة للشارع، نافذةٌ أخرى تُطلُّ على حديقةٍ نابضة بالحياة والألوان؛ كانت الأجواء مليئة بالسلام والروعة والترحيب.
استقبلت الآنسة نيفيل، وهي امرأة ضخمة ترتدي مريلةً من قماش قُطني مطبوع، ديستيرو استقبالَ المعارف القدامى المهمِّين، وسألت عما إذا كانت ديستيرو قد «تسللت من الكلية كما يقولون في الجانب الآخر من المحيط الأطلسي.» لم تكترث فطيرة المكسرات بتشبيه الآنسة نيفيل لها بمن يعيشون في الشوارع الخلفية لبروكلين. قدَّمت ديستيرو لوسي بأدب قائلة: «أُقدِّم لكِ الآنسة بيم، التي تؤلف كتبًا في علم النفس، وهي ضيفتنا في لايز. لقد قلتُ لها إنه يمكننا هنا احتساءُ القهوة الحقيقية، وتجربة جوٍّ متحضر عمومًا. ليس لدى أيٍّ منا نقودٌ على الإطلاق، لكننا سنتناول الكثير وسندفع لكِ ثمن ما تناولناه لاحقًا.»
بدا هذا الطلب منطقيًّا جدًّا في نظر الآنسة نيفيل وذهبت إلى المطبخ لإحضار القهوة من دون إبداء أي علامات دهشة أو اعتراض. كان المقهى فارغًا في هذه الساعة من الصباح، مما سمح للوسي بالتجوُّل فيه وتفقُّد المطبوعات القديمة والأعمال اليدوية الجديدة — كان من دواعي سرورها أن لاحظت أن الآنسة نيفيل لم تستخدم مقارعَ أبواب نحاسية رخيصة، حتى مع وجود حصائر الرافيا — ثم جلست مع ديستيرو على طاولة تطل على شارع القرية. وقبل وصول قهوتهما، وصل ثنائيٌّ في منتصف العمر، زوج وزوجة، في سيارة كما لو كانا يبحثان عن المقهى. تشبه السيارة تلك السيارات الذي قد يقودها طبيب إقليمي؛ فهي مصمَّمة لتحقيق الكفاءة في استهلاك الوقود، وتظهر عليها علامات كونها في عامها الثالث أو الرابع من الاستخدام. ولكن المرأة التي خرجت من المقعد الأبعد للسيارة، والتي تبادلت ابتسامةً مع زوجها، لم تكن تشبه زوجات الأطباء. كان لها شعر رَمادي، وقوام رشيق، وسيقان طويلة، وأقدام صغيرة تلبس فيهما حذاءً أنيقًا. راقبتها لوسي بسرور. كان من النادر هذه الأيام أن تصادف أفرادًا يتمتعون بجسد متناسق؛ فقد حلَّت مسايرةُ الموضة محل الذوق العام.
قالت ديستيرو، وهي تتأمل المرأة وترمق السيارة بنظرة ازدراء: «في بلدي، يكون لدى امرأة مثلها سائق وخادم.»
وعِلاوة على ذلك، رأت لوسي، بينما كانت تشاهدهما يدخلان المقهى، أنه من غير المألوف رؤية زوج وزوجة في منتصف العمر كلٌّ منهما مستمتع بصحبة الآخر. بدا عليهما وكأنهما يقضيان عطلة. دخلا المقهى وبدا على وجهيهما الترقب والتساؤل.
قالت المرأة: «نعم، هذا هو. تلك هي النافذة التي تطل على الحديقة التي تحدثت عنها، وهناك صورة جسر لندن القديم.»
كانا يتنقَّلان في المقهى في هدوء ودون تكلُّف، يفحصان ما به، قبل أن يستقرَّا على طاولة بجوار النافذة الأخرى. شعرت لوسي بالارتياح عندما رأت أن الرجل هو الشريك المثالي الذي كانت ستختاره لمثل هذه المرأة؛ كان جادًّا إلى حدٍّ، وربما مستغرقًا في ذاته أكثر من زوجته، لكنه كان مثيرًا للإعجاب بلا شك. لقد ذكَّرها بشخصٍ ما، مع أنها لا تستطيع أن تتذكَّر مَن هو، شخصٍ هي معجبةٌ به. السبب في ذلك حاجباه. الحاجبان الداكنان المستقيمان فوق عينيه. لاحظت أن بذلته، مع أنها قد كويت وحُفِظت جيدًا، قديمةٌ جدًّا، وتحمل علامات التنظيف الكثير التي غالبًا ما تتميز بها الملابس القديمة. وبدت بذلةُ المرأةِ، الصوفُ الخشنة، باليةً ومتهالكة، وكانت جواربها مرتوقة بعناية عند الكعبين. كانت يداها أيضًا بها علاماتٌ تدل على اعتيادها الأعمالَ المنزلية، وكان شعرها الرمادي الناعم مغسولًا في المنزل وغير مصفَّف. ما الذي جلب مثل هذه السعادة إلى هذه المرأة التي واجهت قيودًا مالية؟ هل كانت مجرد متعة أن تكون في إجازة مع زوج تحبه؟ هل كانت هذه الصحبة هي التي أضاءت عينيها الرماديتين اللامعتين، ومنحتهما سعادةً تكاد تكون طفولية؟
أتت الآنسة نيفيل حاملةً القهوة وطبَقًا كبيرًا من الكعك المنكَّه، الذي بدا طازجًا وذا حواف مُقرمشة. قررت لوسي تجاهل أمر وزنها هذه المرة فقط والاستمتاع بوقتها. كان هذا قرارًا تتخذه كثيرًا بكل أسف.
بينما كانت لوسي تصب القهوة، سمعت الرجل يقول: «صباح الخير. لقد قطعنا مسافة طويلة من الغرب لتذوق الكعك المخبوز على الصاج. هل بإمكانك أن تعُدِّي لنا بعضًا منه، أم إنك مشغولة جدًّا في هذا الوقت من الصباح؟»
وأضافت المرأة ذات الأيدي الكادحة: «إذا كنتِ مشغولة للغاية، فلا بأس في ذلك. يمكننا تناول بعض من هذا الكعك الذي نشم رائحته الزكية.»
ولكن الأمر لا يستغرق وقتًا طويلًا حتى تجهِّز الآنسة نيفيل الكعك المخبوز على الصاج. قالت إنها ليس لديها عجينة جاهزة؛ فالكعك لا يكون مطلوبًا عادة خلال الصيف؛ ولذلك لن يكون الكعك رائعًا كحالته عندما يُترك العجين بعض الوقت ليتخمَّر ويهدأ.
«لا، أعتقد أنه لا يُطلب عادةً في الصيف، لكن ابنتنا في لايز تحدَّثت عنه كثيرًا، وقد تكون هذه فرصتنا الوحيدة لتذوُّقه.» وابتسمت المرأة، وبدا أن ذلك بسبب التفكير في ابنتها وبسبب شوقها الطفولي إلى الكعك.
إذن، فهما والدا إحدى الفتيات في لايز.
تساءلت لوسي في نفسها، وهي تنظر إليهما من خلف فنجان القهوة، والدا مَن؟
ربما هما والدا بو. أوه، لا؛ إن بو ثرية بالطبع. والدا مَن إذن؟
لم تكن ضد فكرة أنهما والدا ديكرز، لكن كانت هناك أسباب تجعلها تشك في ذلك. فلا يمكن أن تكون ديكرز ذات الشعر الفاتح ابنةَ هذا الرجل الجاد الداكن البشرة، ولا يمكن لهذه المرأة الذكية والناضجة أن تلد ديكرز الحمقاء.
وفجأة، تذكَّرت صاحبة هذين الحاجبين.
إنهما حاجبا ماري إينيس.
إنهما والدا ماري إينيس. وقد أظهرت شخصيتهما بطريقة غريبة شخصيةَ ماري إينيس. جِديتها، وشعور مَن يراها أنها تنتمي إلى قرن آخر، وعدم شعورها بأن الحياة ممتعة. فالعيش بمعاييرَ عالية وعدم امتلاك المال الكافي لتوفير هذه المعايير ليسا الوضع المثالي لفتاةٍ أثقلتها الحاجة إلى النجاح في دراستها.
وفي السكون الذي أعقب رحيل الآنسة نيفيل، وجدت لوسي نفسها تقول: «سامحاني، هل اسم عائلتكما هو إينيس؟»
فالتفتا إليها وقد أصابتهما الحيرة للحظة؛ ثم ابتسمت المرأة. وقالت للوسي: «نعم. هل تقابلنا من قبل؟»
أجابت لوسي المسكينة التي بدأت تشعر ببعض التوتر الذي دائمًا ما يصيبها عندما يضعها اندفاعها في موقفٍ غير مُخطَّط له: «لا. لكني تعرَّفت حاجبي زوجك.»
قال السيد إينيس: «حاجبيَّ!»
ولكن زوجته التي تتفوق عليه في سرعة البديهة ضحكت. وقالت: «بالتأكيد. ماري! إذن أنت من لايز؟ هل تعرفين ماري؟» وتهللت أساريرها وأصبحت طريقة كلامها أشبه بالغناء وهي تقول ذلك. هل تعرفين ماري؟ هل سبب سعادتها هو أنها سترى ابنتها اليوم؟
شرحت لوسي مَن تكون، وقدَّمت ديستيرو التي كانت سعيدة لكون هذين الزوجين الرائعين يعرفان كل شيء عنها. قالت السيدة إينيس: «لا يوجد سوى القليل جدًّا الذي لا نعرفه عن لايز، حتى وإن كنا لم نرَ المكان من قبل.»
«لم تريا المكان من قبل؟ بالمناسبة، ألن تأتيا لتناول القهوة معنا؟»
«إن المسافة الطويلة لم تمكِّنَّا من القيام بذلك قبل التحاق ماري بكلية لايز. لذا، قررنا الانتظارَ حتى انتهاء تدريبها والمجيء لمشاهدة العرض.» استنتجت لوسي أنه لو لم تكن تكاليف السفر مشكلة، لما انتظرت والدة إينيس هذه السنوات حتى تأتي لزيارة لايز؛ كانت ستأتي حتى لمجرد مشاهدة ابنتها في هذه البيئة.
«لكنكما في طريقكما إلى هناك الآن، أليس كذلك؟»
«لا. من الغريب أننا لسنا ذاهبين إلى هناك. نحن في طريقنا إلى لاربورو حيث يحضُر زوجي، الذي يعمل طبيبًا، اجتماعًا. سنذهب إلى لايز بالتأكيد، لكن هذا هو أسبوع الاختبارات النهائية، وسوف يصرف انتباه ماري عن الاختبارات مجيءُ أبويها فجأةً ودون سبب. من الصعب إلى حدٍّ ما عدمُ زيارتها ونحن بهذا القرب منها الآن، ولكننا انتظرنا فترةً طويلة، بإمكاننا الانتظار ١٠ أيام أخرى، أو ما يقرُب من ذلك. ما لم نستطِع مقاومته هو أن نحيد عن الطريق الغربي الرئيسي والقدوم إلى بيدلينجتون. لم نتوقَّع أن نلتقي مصادفةً بأحدٍ من الكلية في هذه الساعة من الصباح، وخلال أسبوع الاختبارات خاصة، وأردنا رؤية المكان الذي تحدَّثت ماري عنه كثيرًا.»
قال الدكتور إينيس: «علِمنا أنه لن يكون أمامنا متَّسع من الوقت في يوم العرض. سيكون هناك الكثير لمشاهدته في هذا اليوم. إنه تدريب متنوِّع تنوعًا مذهلًا، أليس كذلك؟»
وافقت لوسي على ما قاله، وبدأت في وصفِ انطباعها الأول عن غرفة هيئة التدريس والعوالم المتنوِّعة بها.
«صحيح. لقد دُهشنا إلى حدٍّ ما عندما اختارت ماري هذا المجال، فلم تُبدِ من قبلُ أيَّ اهتمام بالألعاب الرياضية، وكنت أظنها ستختار المجال الطبي، لكنها قالت إنها تريد مجالًا يوفر لها مجموعةً واسعة من الخبرات؛ ويبدو أنها وجدته!»
تذكَّرت لوسي الصمود الظاهر على هذه الحواجب المستقيمة؛ لقد كانت محقة في قراءة وجه ماري؛ إذا كان أمام ماري هدفٌ ما، فلن تتخلى عنه بسهولة. حقًّا، إن الحاجبين يخبران بالكثير من المعلومات المفيدة عن الشخص. إذا ما أصبح علم النفس علمًا قديمًا في يوم من الأيام، فسوف تؤلف كتابًا عن قراءة الوجوه. سوف تستعين وقتها باسمٍ مستعار بالطبع. فقراءة الوجوه ليست مجالًا ذا قيمة وسط المفكرين.
قالت ديستيرو فجأة: «ابنتكما رائعة الجمال.» والتهمت قطعة كبيرة من الكعك المنكَّه، وعندما شعرت بدهشة الجميع الذين صمتوا، نظرت إليهم. قالت: «أهو من غير اللائق في إنجلترا الإشادة أمام والدين بجمال ابنتهما؟»
سرعان ما قالت السيدة إينيس: «أوه، لا، الأمر ليس كذلك، كلُّ ما في الأمر هو أننا لم نرَ ماري فتاةً جميلة. إنها ذات مظهر جيد بالطبع؛ أو على الأقل هذا ما نراه، ولكن عادةً ما يكون الآباء مفتونين بابنتهم الوحيدة. إنها …»
قالت ديستيرو وهي تلتقط كعكة أخرى من الطبق (كيف حافظت على وزنها؟!): «عندما وطِئت قدماي هذا المكان للمرة الأولى، كانت السماء تمطر، وكانت جميع الأوراق المتسخة تتدلى من الأشجار مثل الخفافيش النافقة، تقطر على الجميع، وكان جميع الفتيات يتجولن سريعًا في الكلية، ويتبادلن التحيات: أوه، كيف حالك يا عزيزتي؟ هل قضيتِ عطلة سعيدة؟ عزيزتي، لن تصدقي ذلك، لكنني نسيت عصا الهوكي الجديدة على رصيف سكة حديد كرو! وبعد ذلك، لمحت فتاة لا تتجول سريعًا أو تشارك في أي محادثة، كانت تشبه إلى حدٍّ ما جَدة جدتي، التي كنت أراها في غرفة الطعام في منزل حفيد شقيق جدتي، فقلت في نفسي إن المكان ليس بربريًّا كما يبدو في البداية. فلو كان الأمر كذلك، لما وُجدت تلك الفتاة هنا. سأبقى. هل يوجد المزيد من القهوة من فضلك يا آنسة بيم؟ إن ابنتكما ليست جميلة فحسب؛ بل هي الفتاة الوحيدة الجميلة حقًّا في لايز.»
سألت لوسي، مُظهِرة ولاءها: «وماذا عن بو ناش؟».
«خلال موسم أعياد الميلاد في إنجلترا — أريد كمية قليلة جدًّا من الحليب يا آنسة بيم من فضلك — تصبح المجلات احتفالية، وتمتلئ بالصور الملونة الجميلة التي يمكن وضعها في إطار وتعليقها فوق رف المطبخ لإضفاء البهجة على قلوب الطهاة وأصدقائهم. تكون الصور ملونة جدًّا، وبها …»
قالت السيدة إينيس: «هذا ليس حقيقيًّا! إن بو جميلة، جميلة للغاية، وأنتِ تعلمين ذلك»، والتفتت إلى لوسي قائلة: «لقد نسيتُ أنكِ تعرفين بو أيضًا، إنكِ في الحقيقة تعرفينهم جميعًا. نحن لم نقابل أحدًا سوى بو؛ لأنها قضت معنا ذات مرة إحدى العطلات؛ خلال عيد الفصح، عندما يكون غرب إنجلترا أكثر ترحيبًا من بقية إنجلترا؛ وقد زارت ماري ذات مرة بو وأهلها بضعة أسابيع في الصيف. لقد أثارت بو إعجابنا جدًّا.» ونظرت إلى زوجها للتأكيد؛ لكنه بدا منطويًا على نفسه للغاية.
انتبه الدكتور إينيس — كانت لديه نظرة مرهَقة لطبيب مرهَق عندما يسكن — واتخذ وجهه الجاد تعبيرًا صبيانيًّا خبيثًا إلى حدٍّ ما، ولكنه حنون في الوقت نفسه. قال: «كان من الغريب أن نرى ابنتنا ماري القوية والمستقلة يُعتَنى بها.»
كان واضحًا أن ما قاله السيد إينيس هو ما لم تكن زوجته تود سماعَه، لكنها قررت استغلال الموقف. قالت وكأن الأمر لم يَجُل بخَلَدها من قبل: «ربما نكون قد أفرطنا في ترك ماري تعتمد على نفسها للدرجة التي جعلتها تستمتع باعتناء أحد بها.» والتفتت إلى الآنسة بيم قائلة: «أعتقد أن سبب كونهما صديقتين مقربتين هو أن كلتيهما تكمِّل الأخرى. وأنا سعيدة بهذا لأننا معجبان ببو بشدة، ولأن ماري لم تستطِع قط تكوين صداقات حميمية بسهولة.»
قال السيد إينيس: «إن الفتيات يقُمن بعملٍ مضنٍ، أليس كذلك؟» وأردف: «أحيانًا أُلقي نظرة على دفاتر ابنتي وأتساءل لماذا يشغلن أنفسهن بدراسة أشياء ينساها حتى الطبيب بمجرد التخرُّج من كلية الطب.»
قالت لوسي متذكرة: «المقطع العرضي للزغابات.»
«نعم، أشياء مثل هذه. يبدو أنك تعلمتِ الكثير عن جسم الإنسان في أربعة أيام.»
أحضرت الآنسة نيفيل الكعك، وحتى دون التحضير التقليدي للعجين، كانت الفطائر تستحق أن تأتيا من الغرب، على افتراض أن هذا صحيح، من أجلها. لقد كان تجمعًا بهيجًا. في الواقع، شعرت لوسي أن الغرفة بأكملها تعجُّ بالسعادة، السعادة التي أتت من الخارج كأشعة الشمس. حتى وجْهُ الطبيب المُتعَب بدا راضيًا ومرتاحًا. وأظهرت السيدة إينيس مستوًى من السعادة نادرًا ما رأته لوسي على وجه امرأة، يبدو أن مجرد وجودها في هذه الغرفة، التي كانت ابنتها تتردد عليها كثيرًا، يمنحها إحساسًا بالتواصل معها، وفي غضون أيام قليلة، سترى ابنتها أخيرًا بشحمها ولحمها، وستشهد على إنجازاتها.
فكَّرت لوسي في أنها لو كانت عادت إلى لندن، لحُرمت من كل هذا. ماذا كنت سأفعل؟ إنها الساعة الحادية عشرة. ربما كانت ستخرج في نزهة في الحديقة وتفكِّر في كيفية رفض دعوة لتكون ضيفَ شرف على عشاء أدبي. لكن بدلًا من ذلك، فأنا هنا. كل ذلك لأن الدكتورة نايت أرادت حضور مؤتمر طبي غدًا. لا، السبب أنه منذ سنوات عديدة دافعت هنرييتا عني في المدرسة. من الغريب التفكير في أن هذه اللحظة الجميلة في المقهى المشمِس في شهر يونيو بإنجلترا لها جذورها في الغرفة المدرسية المخصَّصة للأغراض الشخصية، تلك الغرفة المظلمة والمزدحمة، حيث كانت الفتيات الصغيرات ينخرطن في وضع أغطية الأحذية. ما الأسباب الحقيقية على أي حال؟
قالت السيدة إينيس: «لقد كان وقتًا ممتعًا للغاية»، بينما كانا خارجَين إلى شارع القرية. ثم أردفت: «وتسرُّنا معرفة أننا سيرى بعضُنا بعضًا مرة أخرى قريبًا جدًّا. ستظلين في لايز عندما يُقدَّم العرض، أليس كذلك؟»
أجابت لوسي: «أتمنى ذلك»، وتساءلت في نفسها إن كانت ستستطيع إقناعَ هنرييتا بتوفير سرير لها طوال هذه الفترة.
قال الدكتور إينيس: «وقد أعطيتُمانا كلمةَ شرف أنكما لن تخبرا أحدًا برؤيتكما إيانا اليوم.»
فأجابتا: «نعدكما»، وهما تنتظران دخول صديقيهما الجديدين إلى سيارتهما.
قال السيد إينيس مُفكرًا: «هل تعتقدين أنه يمكنني أن أنعطف انعطافًا حادًّا بالسيارة دون أن أصطدم بمكتب البريد؟».
قالت زوجته: «لا أريد إثارةَ المزيد من المشكلات لأهل بيدلينجتون. فإن التعامل معهم صعبٌ للغاية. ولكن ما قيمة الحياة دون بعض المخاطرة.»
شغَّل الدكتور إينيس محرِّكه، وأقدم على هذه المناورة الخطِرة. فترك مركز العجلة الأمامية علامةً باهتة على الجدار الأبيض المطلي حديثًا لمكتب البريد.
قالت السيدة إينيس: «هذه علامة جيرفاس إينيس»، ولوَّحت بيدها إليهما. وقالت: «حتى نلتقي يوم العرض، نأمُل أن يكون الطقس جيدًا! إلى اللقاء!»
وشاهدا السيارة وهي تصغُر تدريجيًّا على طول شارع القرية، ثم انعطفت ناحية مسار الحقل ولايز.»
قالت ديستيرو: «إنهما لطيفان.»
«رائعان. من الغريب التفكير أننا لم نكن لنلتقي بهما لو لم تشتهِ احتساء قهوة جيدة هذا الصباح.»
«هؤلاء هم الإنجليز، دعيني أقولها لك بثقة يا آنسة بيم، الذين تحسدهم جميعُ دول العالم. هادئون جدًّا، وراقون جدًّا، والنظر إليهم متعةٌ بدرجةٍ كبيرة. إنهم فقراء أيضًا، هل لاحظت ذلك؟ فتنُّورتها باهتة تمامًا من كثرة الغسيل. كان لونها أزرق؛ كان هذا واضحًا عندما انحنت إلى الأمام وارتفعت ياقتها قليلًا. من الظلم أن يكون أشخاص مثلهم فقراء للغاية هكذا.»
قالت لوسي متأملة: «لا بد أنه كان من الصعب عليها ألا ترى ابنتها وهي قريبة جدًّا منها.»
«لكن تلك المرأة شخصيتها قوية. اتخذت القرار الصائب بعدم الذهاب إلى لايز. فليس لدى أحد من طالبات السنة النهائية أي وقت، ولو قليلًا، لإضاعته هذا الأسبوع. فإن أضاعت القليل من الوقت فسينهار كل شيء.» التقطت ديستيرو واحدة من أقحوان المروج من الضفة بجوار الجسر وأطلقت الضحكة الأولى التي سمِعتها لوسي منها على الإطلاق. قالت: «أتساءل ماذا تفعل زميلاتي بألغازهن التي تنطوي على عبور الخط بساقٍ واحدة.»
تساءلت لوسي في نفسها كيف ستُوصف في رسالة ماري إينيس يوم الأحد إلى أبويها. قالت السيدة إينيس: «سيكون أمرًا ممتعًا، أن أعود إلى المنزل وأقرأ كلَّ شيء كتبته ماري عنكِ في رسالتها يوم الأحد. الأمر أشبه بالعودة بالزمن إلى الوراء. مثل العودة الليلة السابقة.»
قالت لديستيرو: «من الغريب كيف ذكَّرتك ماري إينيس بشخصٍ ما في إحدى اللوحات. لقد بدَت لي كذلك بالضبط.»
أجابت ديستيرو: «آه نعم، جَدة جَدتي.» وتركت زهرة الأقحوان تسقط على سطح الماء، وراقبت التيار وهو يحملها تحت الجسر بعيدًا عن الأنظار. وتابعت: «لم أذكر ذلك أمام والدَي إينيس، لكن جَدة جَدتي لم تكن تحظى بشعبية كبيرة بين معارفها.»
«أوه؟ ربما كانت خجولًا. ما نسميه في وقتنا الحالي عقدة النقص.»
«ليس لديَّ معلومة. لقد تُوفي زوجها في وقتٍ مناسب جدًّا. إنه أمرٌ مؤسف دائمًا للمرأة عندما يموت زوجها في وقتٍ مناسب جدًّا بطريقة تثير الريبة.»
وقفت لوسي متجمِّدة ومذعورة وسط المناظر الطبيعية الصيفية، وقالت: «هل تقصدين أنها قتلته؟».
فقالت ديستيرو مستنكرة: «أوه لا، لم تكن هناك فضيحة. كلُّ ما هنالك أن وفاة زوجها كانت أمرًا مريحًا. فقد كان يشرب الخمر كثيرًا، كما كان مقامرًا شغوفًا، ولم يكن جذابًا البتة. وكانت هناك درجة متقلقلة في أعلى الدَّرج. مجموعة طويلة جدًّا من السلالم. وحدث أن وطِئها ذات يوم عندما كان في حالة سُكر. هذه هي القصة كلها.»
سألت لوسي، بعد أن استوعبت ما قالته: «وهل تزوجت مرةً أخرى؟»
«أوه، لا. لم تحب أيَّ شخص آخر. كان لديها ابنها وقد انشغلت بتربيته، والآن بعد أن مات مَن كان يُهدِر ممتلكات العائلة في لعب القمار، أصبحت الممتلكات آمنة. لقد كانت مديرة تركة ماهرةً للغاية. وهي مَن ورِثت جَدتي موهبتَها منها. فعندما أتت جَدتي من إنجلترا لتتزوج جَدي، لم تكن قد خرجت قط من مقاطعتها، باستثناء شارع تشارلز، ويست وان؛ وفي غضون ستة أشهر، كانت تشرف على التركة.» تنهَّدت ديستيرو بإعجاب. «رائعون، هؤلاء الإنجليز.»