تصدير

في أدراجي منذ عشر سنوات هذه الترجمة لمحاولة سارتر «تعالي الأنا موجود»، التي كتبها في شبابه وهو ما زال يشقُّ طريقه الفلسفي. وقد قمتُ بترجمتها كجزء من برنامج عام وضعتُه لزيارة الفيلسوف للجمهورية العربية المتحدة، التي تمَّت بالفعل في فبراير ١٩٦٧م.

ولمَّا عرضت الترجمة على دار المعارف، في أواخر ١٩٦٦م، عيَّنَت مُراجعًا، وهو زميلنا وصديقنا الدكتور مراد وهبة، وقُمنا بالمراجعة بالفعل، أولًا بسرعة، وثانيًا ببطء حتى انتهَت زيارة الفيلسوف والكتاب لم يتمَّ بعد. وظلَّ بالأدراج حتى اليوم.

وأنا إذ أعيد ترجمته اليوم ومراجعته أتوجَّه بالشكر إلى الدكتور مراد وهبة، الذي كان أول مَن أعانني على استقامة العبارة بقدْر الإمكان، خاصةً وأنها أول محاولة لي في الترجمة. ومع ذلك تظلُّ الترجمة ناقصةً في حاجة إلى إكمال وتجويد نظرًا لصعوبة النَّص، وجِدَّة مصطلحاته، ودقة تحليلاته.

وقد تمَّت زيارة الفيلسوف، ولم تُتِح لأساتذة الفلسفة في مصر التعرف عليه أو مناقشته في فلسفته، بعد أن تحوَّل في مصر إلى نجم اجتماعي يحيط به المعجبون.

وكنتُ قد تصوَّرتُ برنامج زيارته في خطاب وجَّهتُه إلى السيد أمين الدعوة والفكر بالاتحاد الاشتراكي باعتبار الأمانة الموطن الطبيعي للفيلسوف حيث يجتمع فيها الفكر والسياسة، ولكن بمجرَّد أن قرأه بعض الزملاء حتى وجدوه طموحًا أكثر ممَّا يجب، ونصُّه كالآتي:

السيد كمال الدين رفعت، الأمين العام لأمانة الدعوة والفكر …

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

لمَّا قرب موعد زيارة الفيلسوف جان بول سارتر، أشهر فلاسفة الوجود المعاصرين، وأكثرهم دعوةً لتحرير الشعوب، ومناهضة الاستعمار القديم والجديد، فلم يبقَ على حضوره، ضيفًا على الجمهورية العربية المتحدة، إلا أربعة أشهر، ولمَّا كنا نأمُل الكثير من زيارته باعتباره مُفكرًا مُحايدًا، ونودُّ أن يرى بنفسه مأساةً بشريةً يذهب ضحيَّتَها مليون ونصف من البشر، نظرًا لمكانة الفيلسوف العالمية وأدواره التحرُّرية التي يلعبها داخل فرنسا في الدعوة للتحقيق في اختطاف الزعيم المغربي ابن بركة، والدعوة لإطلاق المثقفين في إيران وخارجها ولنُصرة حقوق شعب فيتنام، ومحاكمة رئيس أكبر دولة غربية تدَّعي لنفسها زعامة ما يُسمَّى بالعالم الحر، باعتباره مجرم حرب، ونظرًا أيضًا لما تعرفه عن حساسية الفيلسوف المُرهفة للعلاقات الاجتماعية، من دعاية سطحية وخطابة فارغة.

لذلك نرجو من السيد الأمين العام لأمانة الدعوة والفكر أن يقوم بالدعوة لتكوين لجنة تحضيرية لوضع برنامج زيارة الفيلسوف ثم عَرْضها عليه، وأخذ موافقته على البرنامج المُقترَح، مع تكوين لجنة دائمة تقوم بصحبة الفيلسوف من الخارج، والترحيب به بالداخل، ومصاحبته له في زياراته ثم توديعه إلى الخارج.

وبناءً على هذا، نُقدِّم لسيادتكم بعض المقترحات المقدَّمة من بعض أساتذة الفلسفة بالجامعات المصرية، راجين من سيادتكم العمل على تحقيقها.

  • أولًا: القيام بعمل مؤلَّف جماعي تحيةً إلى سارتر، تُقدَّم فيه عدة أبحاث باللغة العربية مع مُلخَّص لها بالفرنسية، ويمكن أن يكون البعض منها باللغة الفرنسية مباشرةً، تتناول الجوانب المختلفة لفلسفته ولنشاطه السياسي، وأن تكون هذه الأبحاث مُعدَّةً حتى أواخر شهر ديسمبر، ثم تُختار لجنة لفحصها والموافقة على دَرْجها في العمل الجماعي الذي يتمُّ طبعُه خلال شهر يناير، حتى يكون مطبوعًا قبل حضور الفيلسوف في شهر فبراير، وأن يُهدى إليه.
  • ثانيًا: تخصيص أعداد خاصة في شهر فبراير من أمهات المجلات بالجمهورية، نتناول فيها الجوانب المختلفة لفلسفة الضيف ومنزلتها في الفكر المعاصر. فيمكن أن يظهر عدد خاص من مجلة «الفكر المعاصر» نتناول فيه الجوانب النظرية العامة لفلسفة سارتر، وعدد خاص آخر من مجلة «المجلة» للتعريف بأعماله الأدبية ومدى تعبيرها عن فلسفته النظرية، وعدد خاص ثالث من مجلة «الطليعة» لبيان مواقفه السياسية والأدوار التي يلعبها في دعم حركات التحرُّر في العالم، وفي الدفاع عن الحرية الفكرية والسياسية لأبناء الشرق خاصة.
  • ثالثًا: إعادة إنشاء «الجمعية الفلسفية المصرية» التي نشأت منذ مدة طويلة، ثم ماتت لأسباب شخصية محضة، وعَقْد أولى جلساتها بحضور الفيلسوف، ثم استمرار نشاطها في الإشراف على النشاط الفلسفي بالجمهورية العربية المتحدة، وتجميع المشتغلين بالفلسفة في نشاط جماعي لعرض القضايا الفكرية التي تُهمُّ الأُمة، ومناقشة المؤلَّفات الفلسفية التي تصدُر ولوضع تقييم لها، بالإضافة إلى نشر تراث الأُمة والتعريف بمُفكريها، والعمل على النهوض به، والقيام بدعوة المُفكرين والفلاسفة من الخارج للدخول في نقاش معهم أو لعرض قضايانا الفكرية والسياسية أمامهم.١
  • رابعًا: إنشاء «مجلة للدراسات الفلسفية» تقوم بتجميع أعمال المشتغلين بالفلسفة إبَّان السنة ونشرها، والتعرف بها، أو على الأقلِّ أن يصدُر كتاب سنوي للفلسفة لهذا الغرض، على غرار الكتاب السنوي لعلم النفس.
  • خامسًا: إنشاء «معهد للدراسات الفلسفية» وافتتاحه أيضًا بحضور الفيلسوف، لمَن يكمل الدراسات الجامعية؛ وذلك لأن خريج الجامعة بمجرَّد حصوله على الليسانس في الفلسفة يذهب إلى تدريس هذه المادة بالمدارس الثانوية دون إعداد أكثر، ممَّا يؤدِّي إلى ضعف تدريس هذه المادة في المرحلة الثانوية، ولو أنه أكمل دراسته فإنه لا يجد أمامه إلا الدراسات العُليا، ماجستير أو دكتوراه، المحدَّدة للطلاب دون أن يكمل الطالب دراساته الفلسفية بالصورة الأكاديمية مدَّةَ ثلاث سنوات على الأقل، زيادةً في قراءة النصوص، وتعلُّم اللغات القديمة، وتكوين شخصيته كباحثٍ داخل حلقات البحث.
  • سادسًا: دعوة الفيلسوف من كلية الآداب بجامعة القاهرة كي يناقش فيها المشتغلون بالفلسفة بالجمهورية أفكار الفيلسوف واتجاهه في الفكر المعاصر.
  • سابعًا: عقد مناقشة مفتوحة بين الفيلسوف واليسار بالجمهورية العربية المتحدة؛ إذ إنَّ الفيلسوف من مُمثلي اليسار في فرنسا. وقد اقترحَت «الجمهورية» ذلك إبَّان الماضي، ولكن لم يتحقَّق ذلك إلى الآن حتى تتبلور الاتجاهات التقدمية بالجمهورية.
  • ثامنًا: عقد مناقشة مفتوحة بين الفيلسوف والأمانة العامة للدعوة والفكر بالاتحاد الاشتراكي، يتمُّ فيها التعريف بالحياة الديمقراطية والسياسية بالجمهورية، وأن تُعرض له وجهات النظر في تلك التجربة التي تُقام بالجمهورية.
  • تاسعًا: تركيز زيارة الفيلسوف حول قضية فلسطين، والذهاب إلى قطاع غزة، وتحاشي ما سوى ذلك، ممَّا لا يثير اهتمام الفيلسوف، أو ممَّا يجعل قضية فلسطين — وهي الغرض الأساسي من الزيارة — حلقةً من إحدى حلقات برنامج زيارة طويل.
  • عاشرًا: أخذ توصيات لتدعيم حركات تحرير الشعوب في الجنوب العربي، وأنجولا، وموزمبيق،٢ والقضاء على آخر أوكار الاستعمار القديم، والتحذير من الاستعمار الجديد، والدعوة إلى مناهضة الحكومات الرجعية والاستعمارية بمنطقة الشرق الأوسط.
  • حادي عشر: بعد مقابلة الفيلسوف للرئيس، تتمُّ الدعوة إلى مؤتمر للمثقفين بالجمهورية العربية المتحدة للدخول في المعركة الفاصلة بين الاتجاهات التقدمية والرجعية، والدعوة إلى نزول المثقفين ضمن الشباب الاشتراكي إلى معارك فعلية للقضاء على الفئات المُستغلة، وبقايا الإقطاع الزراعي، والتجار، والمقاولين، والطبقات الجديدة، وخَلق أمانة دائمة للمثقفين داخل الاتحاد الاشتراكي …

ومع ذلك، أنشر هذه المحاولة التي قُمتُ بها منذ عشر سنوات بعد انقضاء المناسبة، بعد العثور على دلالة حضارية لها في الانتقال من الأنا أفكر إلى الأنا موجود، وبين النقطتين يتحدَّد مسار الوعي الأوروبي. وأضفنا إلى المُقدِّمة جزءًا عن «الفينومينولوجيا الحضارية» للتعبير عن هذه الدلالة.

ولعلي بذلك أكون قد قدَّمت بعض النفع.

حسن حنفي
مصر الجديدة، ٢٦ أغسطس ١٩٧٦م
١  تمَّ تكوين «الجمعية الفلسفية المصرية» بالفعل بتاريخ ١ / ٩ / ١٩٧٦م، واستأنفت نشاطها.
٢  أُرسلَت هذه الرسالة قبل حدوث متغيرات في أوضاع هذه البلدان وفي منطقتنا العربية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤