تقديم للمترجم١

سارتر وهوسرل

بدأ اهتمام سارتر بهوسرل وبعلم وصف الظواهر الشعورية أو الفينومينولوجيا Phénoménologie منذ وقت مبكر، فظهر مقاله المشهور عن «تعالي الأنا موجود La Transcendance de L’Ego» عام ١٩٣٤م، في «دراسات فلسفية»، كُتب جزء منها أثناء زيارة سارتر لبرلين لدراسة هذا العلم الجديد، ثم حرر كتابَين؛ «الخيال» و«الخيالي» على التوالي عامَي ١٩٣٥م و١٩٣٦م، ونُشِر بالفعل عامَي ١٩٣٦م و١٩٤٠م، ثم ظهر «تخطيط لنظرية في الانفعالات» عام ١٩٣٩م، وهو جزء من مشروع أراد سارتر أن يتمَّه عن النفس Psychée، كتبه عام ١٩٣٧-١٩٣٨م ولم ينشره، مع أن الفكرة كانت لديه منذ عام ١٩٣٤م، ثم كتب مقالًا عن «القصدية Intentionnalité فكرة أساسية في فينومينولوجيا هوسرل» عام ١٩٣٨م، ونُشر في «مواقف» الجزء الأول. ثم أدَّت هذه الكتابات الخمس أخيرًا إلى «الوجود والعدم» الذي ظهر عام ١٩٤٣م، وهذا يبيِّن لنا أن سارتر قد انعكف على دراسة هوسرل فيها بين عامَي ١٩٣٤–١٩٤٢م، أيْ ما يقرب من ثماني سنوات، وتُعتبر دراساته عنه من جملة مؤلفات الشباب.٢

أمَّا هوسرل (١٨٥٩–۱۹۳۸م) فلم يُقدر له أن يشير إلى سارتر أو أن يعرفه ويحكم عليه كما قُدِّر له أن يفعل ذلك مع هيدجر خاصة في كتابه عن «الوجود والزمان» الذي ظهر عام ١٩٢٧م، وذلك لأن دراسات سارتر الثلاث التي ظهرت في حياة هوسرل والتي كان يمكنه الاطلاع عليها كانت كغيرها من الدراسات التي قام بها تلامذته في الآونة الأخيرة، مطبقين منهج أستاذهم في شتى مجالات العلوم الإنسانية، خاصة وأن هوسرل كان قليل القراءة في سنواته الأخيرة.

ومعرفة سارتر بهوسرل غير كاملة؛ وذلك لأنه لسوء الحظ لم تُنشر مؤلَّفات هوسرل إلا في وقت متأخر، ولم ينشر منها هوسرل نفسه إلا النزر اليسير في حياته، وهي التي يشير إليها سارتر خلال دراساته الأولى، فقد عرف «بحوث منطقية» الذي ظهرت طبعتُه الأولى عام ١٩٠٠م والثانية عام ۱۹۱۱م، والجزء الأول من «أفكار لتأسيس فينومينولوجيا خالصة ولفلسفة فينومينولوجية» الذي نُشر لأول مرة في العدد الأول من الكتاب السنوي للفلسفة وللبحث الفينومينولوجي، عام ١٩١٣م، «المنطق الصوري والمنطق الترنسندتنالي» عام ١٩٢٩م قبل النَّص الألماني، كما يشير إلى مخطوط «دروس في الشعور الداخلي بالزمان»، حرَّره هوسرل سنة ١٩٠٧م. ويظهر أن سارتر لم يعرف مُؤلَّفَين لهوسرل كان قد نشرهما أيضًا إبَّان حياته؛ الأول عن «الفلسفة بوصفها علمًا مُحكَمًا» وهو مقال نُشِر في الكتاب السنوي المذكور عام ١٩١١م، والثاني عن «محنة العلوم الأوروبية والفلسفة الترنسندنتالية» وقد ظهر الجزء الأول منه في براغ في مجلة «الفلسفة» عام ١٩٣٤م. كما كان يمكن لسارتر أن يطَّلع على «التجربة والحُكم» وهو آخر ما نُشِر من مؤلَّفات هوسرل إبَّان حياته، وقد ظهرت طبعتُه الأولى عام ١٩٣٨م، وسُحبَت من السوق بعدها نظرًا للحوادث السياسية التي طرأت على ألمانيا في ذلك الحين، أمَّا الجزءان الثاني والثالث من «الأفكار» الخاصَّان بنظرية التكوين، و«فكرة علم وصف الظواهر الشعورية» سنة ١٩٠٥م، و«الفلسفة الأولى» بجزأيها عام ۱۹۲۳ / ١٩٢٤م، و«علم النفس الفينومينولوجي» سنة ١٩٢٥م، وباقي موضوعات «محنة العلوم الأوروبية» فلم تظهر إلا منذ طبع المؤلَّفات الكاملة لهوسرل، الذي يجري الآن منذ أكثر من عشرين عامًا، والذي لم ينتهِ بعد. ولهذا يحاول سارتر أن يستقيَ بعض معلوماته عن هوسرل وعلمه الجديد من الدراسات التي قام بها بعض الباحثين الفرنسيين عن هذا الموضوع، مثل جاستون برجيه في كتابه عن «الأنا أفكر Cogito عند هوسرل» الذي ظهر عام ١٩٤٠م.

ويشير سارتر إلى هوسرل؛ إمَّا بالتعليق والشرح على نصوص مباشرة مع الإشارة إلى موضعها، وإمَّا إلى الفكرة أو النظرية مع ذكر اسم الكتاب في ثنايا شرحه دون اقتباس لنصٍّ محدَّد، أو يستعمل اصطلاحًا خاصًّا أو فكرةً عامة، دون الإشارة إلى نصٍّ أو إلى نظريةٍ محدَّدة، أو حتى إلى هوسرل نفسه، وكأن المصطلحات الجديدة التي قدَّمها هوسرل لوصف تكوين الشعور أصبحَت حقائق فلسفية لا يمكن إغفالها.

وسنقتصر في مقدمتنا هذه على تحليل النصوص التي يتحدث فيها سارتر عن هوسرل، دون أن نتطرق إلى مقارنة فلسفية صِرفة بين الفيلسوفَين؛ وذلك للإجابة على السؤال التالي: هل يُعتبر سارتر تلميذًا لهوسرل داعيًا للفينومينولوجيا، أم إن له علمًا خاصًّا به، وهو علم الوجود Ontolgie الفينومينولوجي؟ وبعبارة أخرى، هل هذه الدراسات التي قام بها سارتر في شبابه على هوسرل وعلمه الجديد هي شرح لمنهج هوسرل وعرض للفينومينولوجيا، أم هي إكمال لبعض أوجُه نقصه التي تراءت لسارتر؟ وهل هذا النقد الذي يقوم به سارتر هو نقد صِرف أم تطوير للفينومينولوجيا وتحويلها إلى علم للوجود؟

الواقع أن سارتر يقوم بكلتا المهمَّتَين، فهو يقيم علمًا للنفس الفينومينولوجي، وهو في هذا شارح ومُطبِّق لمنهج هوسرل الجديد، ثم يقيم علمًا للوجود الفينومينولوجي، وهو في هذا ناقد ومُطوِّر لفلسفة هوسرل ومُعبِّر عن فلسفته الخاصة، إنْ لم يكُن خارجًا عن نطاق المنهج الذي وضعه هوسرل أولًا.

أولًا: علم النفس الفينومينولوجي

عندما يتعرض سارتر لهوسرل كأن لسان حاله يقول «وأخيرًا جاء هوسرل»، كما كان يُقال من قبل «وأخيرًا جاء هيجل» أو «وأخيرًا جاء برجسون»، وذلك لبيان العرض الجديد للمشكلة بعد إلغاء وضعها القديم. هذا ما يفعله سارتر في الفصل الرابع من «الخيال»، بعنوان «هوسرل»، عندما يقول: «إن أكبر حدث فلسفي في فترة ما قبل الحرب هو ممَّا لا شكَّ فيه ظهور الجزء الأول من «الكتاب السنوي للفلسفة والبحث الفينومينولوجي» محتويًا على الكتاب الأساسي لهوسرل وأفكار لتأسيس فينومينولوجيا خالصة ولفلسفة فينومينولوجية.»٣ وكما هو الحال في الفلسفة، أدَّى هذا الكتاب إلى انقلاب في علم النفس. فالفينومينولوجيا حركة إصلاحية في علم النفس الذي يسوده الاتجاه الطبيعي الذي يحيله إلى علم تجريبي؛ وذلك لأن الفينومينولوجيا علم للشعور الباطني قائم على تحليل المعاني باعتبارها ماهياتٍ تُدرَك بالحَدْس في رؤية واضحة، ومن ثَم تصبح شرطًا لقيام علم النفس، بل ولقيام كل علم إنساني، فإذا كانت العلوم الرياضية — خاصة الهندسة — قد نجحَت في العثور على بناء عقلي للطبيعة على يد جاليليو، فمهمَّة الفينومينولوجيا هي العثور على تكوين الشعور الباطني في علم النفس، فما يُقال عن هوسرل ومعاداته لعلم النفس غير صحيح على الإطلاق، نظرًا للخدمات الجليلة التي أدَّاها هوسرل لعلم النفس،٤ إذ إنه حرَّره من أثقاله، وقضى على كل صعوباته دون أن يستعير مناهج العلوم الرياضية الاستنباطية، ولكن عن طريق إقامة علم وصفي جديد للظواهر الشعورية، وهو ما يحاول سارتر المساهمة في إقامته وتأسيسه. فالاتجاه النفسي الصِّرف لا يكفي لإقامة علم النفس الذي يحتاج إلى أساس نظري آخر يمكن للفينومينولوجيا أن تُعطيَه له، لأنه يُقرِّر استحالة قياس علوم الماهيات على علوم الواقع، بل إن الماهيات هي التي تسمح بتصنيف الوقائع.٥
يجب إذَن وضع الاتجاه الطبيعي الذي يسود علوم الوقائع تحت «الاقتضاب» Réduction، أيْ إنه يجب «إخراج هذه العلوم من الحساب» ووضعها «خارج دائرة الانتباه»، أو بالتعبير المشهور «وضعها بين قوسين»، لمحاولة إقامة علم الماهيات أو علم فكري خالص. ويأتي ذلك بانقلاب النظرة من الخارج للداخل، من الظاهرة المفارقة Transcendant إلى الظاهرة الحالة Immanant، أو بتعبير برجسون من المكان إلى الزمان. بعد ذلك يمكن تحليل الماهيات دون أدنى التجاء إلى التجربة.

ثم يقوم سارتر بعمل دراسات تطبيقية ثلاث في علم النفس الفينومينولوجي؛ هي «الخيال»، و«الخيالي»، و«الانفعال».

فيرى سارتر في دراسته عن الخيال أن لهوسرل نظرياتٍ جديدةً في الصورة، بالرغم من أنَّه لم يتعرَّض للمشكلة إلا كعابرِ سبيل، فهي نظريات متفرقة، لا تسمح بعرض نظرية كاملة، وتحتاج ملاحظاته إلى تعميق وإكمال، ولكن على الأقل تجدَّدَت نظرية الصورة بعد اكتشاف هوسرل للقصدية. فلم تعد الصورة مجرَّد حساسية (كما هو الحال في علم النفس التجريبي)، أو تمثُّل (كما هو الحال عند بركلي)؛ لأنها تفقد بذلك وجودها كموضوع مُستقل مُفارق، فالصورة أكثر ممَّا يتصور علم النفس التجريبي الحِسِّي. ولكن وجودها كموضوع مُفارق لا يحيلها إلى موضوع طبيعي في العالم الخارجي الذي يضعه هوسرل بين قوسَين، بل هو موضوع حالٌّ في الشعور دون أن يتَّحد مع المادة الحِسِّية الانطباعية، فالصورة داخلة إذَن في تكوين الشعور كقصدية.

إلى هذا الحدِّ يوافق سارتر هوسرل على وضعه للمشكلة، إلا أنه يفترق عنه بعد ذلك، فيحاول بيان أوجُه النقص في نظريته وفي الافتراضات التي تقوم عليها، فيرفض سارتر أولًا فكرة إحياء المادة الحِسِّية التي يجعلها هوسرل مهمَّة الصورة والقصد المُخيِّل؛ وذلك لأنه من الصعب التفرقة بين الصورة والإدراك الحسي. صحيحٌ أن هوسرل يجعل مهمَّة مادة الانطباع الحسي أنها تُعطي الموضوع عن طريق التظليل Abschattung، أيْ إنها تُظهر الموضوع في جوانب متعددة مُستقلة عن المادة الحسية وعن الموضوع في آنٍ واحد، إلا أن الصعوبات في التفرقة بين الصورة والإدراك الحسي ما زالت قائمة. وصحيحٌ أيضًا أن المادة الحِسِّية ذاتية، إلا أن موضوع الصورة مُستقل عن المضمون الحسي، فالصورة بوصفها تكوينًا للقصدية يكون الشعور فيها واضعًا، يقوم بتغيير حياده، وذلك ما لا يحدث في الإدراك الحسي. ثم يرفض سارتر ثانيًا فكرة مَلء المقاصد الفارغة التي يجعلها هوسرل أيضًا من مهمَّة الصورة، كما تقوم الأشياء بمَلء الإحساسات الفارغة؛ وذلك لأن الصورة في نفسها ملاء ومادة. يرى سارتر أن ذلك غير صحيح، وعلى أيَّة حال فإن فكرة الامتلاء أفضل بكثير من اعتبار الصورة مجرَّد علامة Signe، كما هو الحال في علم النفس الفرنسي والإنجليزي. ثم يرفض سارتر ثالثًا التفرقة التي يُقدِّمها هوسرل بين حفظ الماضي Rétention واستعادة الذكريات Rememoration؛ فالأولى طريقة غير واضعة تُبقي الماضي باعتباره ماضيًا للشعور، والثانية طريقة تُظهر أشياء الماضي وصفاتها، وهي عملية استحضار الذكريات في خطٍّ واحدٍ بالرغم من أنها شعور متغير، فصورة الذكرى عند هوسرل لا تختلف عن الشعور الحسي المتغير كمعامل للماضي، وعلى هذا يظلُّ هوسرل أسير التصور القديم على الأقلِّ فيما يتعلق بمادة الصورة بوصفها انطباعًا حِسيًّا ناشئًا.
ولكن هوسرل يُفرِّق بين قالب الشعور Noése ومضمون الشعور Noème كشقَّين في تكوين القصدية، فإذا كان قالب الشعور هو الجانب الفكري له أو الذات العارفة، فمضمون الشعور هو الجانب الموضوعي له، أو هو الشيء المعروف الحالُّ في الشعور دون أن يكون له وجود واقعي في الخارج. ولكن ألا يقع هوسرل في التصور النفسي أو المثالي الذي يوجَد بين الموضوع والانطباع الحِسِّي؟ كيف يستطيع أن يُفرِّق هوسرل بين الصورة والإحساس عن طريق المقاصد فقط دون التعرض إلى الاختلاف الواقع في المادة نفسها؟
والواقع أن هوسرل يُفرِّق بين أنواع ثلاثة من مضامين الشعور؛ الصورة والتذكر والإدراك، عن طريق البواعث التي تقوم بإحياء كل مادة hylé. ولكن سارتر يرفض هذا الافتراض الرابع لأنه لا يعطينا خصائص الصورة الحقيقية. فالباعث باعث خارجي ولا يمكنه أن يُحوِّل مادة إلى صورة، فهو ليس إلا إدراكًا حِسيًّا. فإذا كانت المضامين النفسية من مادة واحدة فلن يمكننا معرفة الصورة الحقيقية، ولن يكون لأيِّ باعثٍ أيُّ شرعية، ويحاول هوسرل أن يجيب على ذلك فيجعل صورة الخيال Fiction عملية جمع تتوفر فيها التلقائية التي لا تتوفر في الشعور الحِسِّي التجريبي. وفضلًا عن هذا يُفرِّق هوسرل أخيرًا بين المُركَّب الإيجابي والمُركَّب السلبي؛ فالأول يميز صورة الخيال، والثاني يميز الإدراك الحِسِّي. ويوافق سارتر على هذا الافتراض الخامس والأخير، ولكن يراه ناقصًا لأننا لا نعرف ما إذا كانت الصورة بوصفها تركيبًا إيجابيًّا ستؤدِّي إلى تغيير المادة أم إلى تغيير بمعنى جمع، لأننا يمكننا تصوُّر تركيب بمعنى مُركَّب من الانطباعات الحِسِّية (ديكارت وسبينوزا). ولا يجيب هوسرل على هذا التخوف، ومن ثَم فإن افتراضه يؤدِّي إلى الفصل بين صورة الذكرى وصورة الخيال؛ الأولى تتبع فرض استحضار الذكريات لمُركَّبات حِسِّية سلبية وهذا مرفوض، والثانية مُركَّب إيجابي يجمع بين الانطباعات الحِسِّية. يجب إذَن للتفرقة بين الصورة والإدراك الحِسِّي جَعْل المادة نفسها مختلفةً في كلتا الحالتين.
ومرةً ثانيةً يقوم سارتر بدراسة تطبيقية على «الخيال»، وهو موضوع «الخيال» وعلاقته به كعلاقة موضوع الفكر بالشعور المتأمل، ويستعمل سارتر تحليلات هوسرل السابقة، فموضوع الخيال يكشف عن نفسه بالتظليل الذي يُظهر جوانب الموضوع لتفادي الاتحاد الكامل بين الموضوع والانطباع الحِسِّي، ويرفض سارتر مرةً ثانيةً فكرة إحياء المادة الحِسِّية كفعل للصورة،٦ كما يرفض أيضًا فكرة الامتلاء التي يقوم بها الخيال للمقاصد الفارغة، فمع أن هوسرل يُقدِّم لنا تحليلاتٍ بارعةً للزمان عن طريق حفظ الماضي Rétention، والعيش في الحاضر Tention، وانتظار المستقبل Protention، إلا أن الشعور بالزمان حركة مستمرة وليس صورةً فارغة.٧ وقد عرض هوسرل هذه النظرية قبل ذلك في «بحوث منطقية»، فالصورة تملأ حَدْس المعنى، إلا أنه وقع من جانب في تصوُّر كانط للقوالب الفارغة للشعور التي تقوم الحساسية بمَلئها، وترك نفسه من جانب آخر لخدعة الحلول التي وقع فيها الحِسِّيُّون أمثال هيوم، والمثاليون أمثال بركلي.
ومرةً ثالثةً يقوم سارتر بدراسة تطبيقية على «الانفعال» يشرح في مُقدِّمتها إمكانية تأسيس علم للنفس الفينومينولوجي،٨ وذلك باللجوء إلى الأشياء ذاتها وإدراكها عن طريق الحَدْس إدراكًا مباشرًا بعد اقتضاب الانفعال باعتباره موضوعًا طبيعيًّا، واعتباره تكوينًا أساسيًّا للشعور يمكن إدراك دلالته فيه، فالشعور قريب من نفسه وليس بعيدًا عن موضوعه.

ثانيًا: علم الوجود الفينومينولوجي

لم تكُن تطبيقات سارتر السابقة في علم النفس الفينومينولوجي إلا نقاط تجمُّع لتطبيقه الأساسي للمنهج الجديد في الوجود الإنساني، كما ظهر ذلك في «الوجود والعدم»، وبذلك يؤسِّس سارتر علمًا آخر هو علم الوجود الفينومينولوجي، فهو يبدأ من هوسرل ولكنه ينتهي إلى ما لم ينتهِ إليه هوسرل نفسه.

يرى سارتر أن تحليلات هوسرل للظواهر لم تتعدَّ المستوى الوظيفي لها؛ وذلك لأنه كان يريد تفادي نوع آخر من التحليلات التي قام بها ديكارت على مستوى الجوهر.٩ لم يتعدَّ هوسرل إذَن الوصف الخالص للمظهر، وحبس نفسه في الأنا أفكر لدرجة أنه يمكننا أن نطلق عليه اسمَ «ظاهري Phénoméniste» وليس اسمَ «فينومينولوجي»، حتى لو رفض هو هذه التسمية. أيْ إن هوسرل قد وقع في مثالية كانط، أو قد جاورها، وذلك ما حدَا بهيدجر إلى التطرق مباشرةً إلى التحليل الوجودي دون أن يمرَّ بالأنا أفكر. فهوسرل لم يبقَ إذَن مخلصًا لمبادئه الأولى التي أقام عليها علمه الجديد، خاصةً الإدراك المباشر الذي نحصل بواسطته على الموضوع دون أن نمرَّ بتمثُّلٍ ما، أو بدلالاتٍ يُعبِّر الفكر عنها، بل ينتهي هوسرل إلى التوحيد بين المعرفة وبين موضوع المعرفة الذي يندُّ بطبيعته عنها.١٠
وهنا يستعمل سارتر هذا النقد الذي يوجهه لهوسرل لحسابه الخاص ليقيم عليه فلسفةً خاصةً به، ويُصدر أحكامًا على الوجود أشهرُها «الوجود عدم»، فيبدأ بشرح الاقتضاب الذي لم يلتزم به لحسابه الخاص، ثم يشرح مشاكل التكوين Constitution أيضًا لإقامة فلسفة خاصة به تدور حول إثبات الموضوعات والأنا موجود الذي في العالم ومع الآخرين.

الاقتضاب

يؤدِّي الاقتضاب المعنوي للوقائع المادية Réduction éidétique إلى الانتقال من الظاهرة المحسوسة إلى ماهيتها، أيْ إن الموضوع والماهية يكوِّنان كُلًّا واحدًا، فالماهية هي معنى الشيء، وتكون ظاهرة الوجود ليست شيئًا آخر غير وجود الظاهرة،١١ فالظاهرة ليست نسبيةً، كما هو الحال في المظهر عند كانط، بل نسبيةٌ من جانب — لأنها ما تظهر لإنسان ما — ومُطلقة من جانب آخر لأنها تكشف عن ماهيتها، كما هو الحال عند هوسرل وهيدجر، إلا أن سارتر يعتبر هذا التحليل خطوةً كي يوحِّد بين المطلق، أي الوجود، والنسبي، أي الظاهرة، لإصدار حُكمه المشهور في مُقدِّمة «الوجود والعدم»: «وجود الظاهرة هو ظاهرة الوجود.»١٢ ولكن هذا الحكم لا يحيل سارتر مثاليًّا كهوسرل، بل هو نقطة ابتداء لتحليل ظاهرة الوجود نفسها التي تندُّ بطبيعتها عن أن تكوِّن موضوعًا للمعرفة مستنبطًا منها.
واقتضاب العالم بوصفه موضوعَ فكرٍ، بالنسبة للشعور، يجعل الإنسان مضطرًّا أن يبدأ بالمجرَّد، مع أن المحسوس لا يمكنه أن يتكوَّن عن طريق جمع مركَّب لعدَّة عناصر مجرَّدة، كما يفعل كانط في محاولته للعثور على العالم عن طريق جمع شروط لإمكانية المعرفة، أو كما يفعل سبينوزا عندما يريد الحصول على الجوهر عن طريق جمع عدد لا نهائي لشتَّى أوجُهه، فالمحسوس، كما يقول هيدجر، هو وجود الإنسان في العالم،١٣ المحسوس هو ما يوجَد بذاته كاللون، أمَّا المجرَّد فهو الذي لا يمكنه أن يوجَد بمفرده مثل الأحمر.
ويستطرد سارتر في تحليل نتائج الاقتضاب عند هوسرل التي أدَّت إلى توحيده بين الوجود Esse، والوجود المدرك Percipi، فبعد الاقتضاب يظهر الشعور بوصفه قصدية. ويعتبر هوسرل موضوع الشعور لا واقعيًّا، ويعلن أن وجود هذا الموضوع هو وجود المدرك، وبذلك يظلُّ مثاليًّا مثل بركلي.١٤ ويضيف سارتر: «سيكون من العبث أن يحاول الإنسان إدخال نفسه في متاهة حين يؤسِّس واقعة الموضوع على الامتلاء الذاتي الانطباعي، وأن يؤسِّس موضوعيته على عدم وجوده، فلن يخرج الموضوعي أبدًا من الذاتي، ولا المُفارق من الحالِّ، ولا الوجود من اللاوجود، ورُبَّ قائلٍ يقول: ولكن هوسرل يُعرِّف الشعور بوصفه تعاليًا. صحيحٌ أن هذه دعواه، وهذا هو اكتشافه الجوهري، إلا أنه يجعل موضوع الشعور غير واقعي كطرف لقالب الشعور، ويكون وجوده هو إذَن وجوده المدرك، ويكون بذلك هوسرل غير مخلص لمبدئه.»١٥ ونتيجةً لذلك فإن الشعور يعمل على لا شيء، أيْ على عدم مُفارق له. وقد حاول هوسرل أن يدافع عن موقفه هذا بفكرتَي السلب والإيجاب، فهناك مادة، أو تيَّار خالص للخبرة، وهي مادة المركَّبات السالبة التي يقوم الشعور بإحيائها (وقد رفض سارتر ذلك من قبلُ في تحليله للخيال)، إلا أن المادة لا يمكن أن تأتيَ من الشعور، وإلا فستتلاشى في شفافيته، كما أنها لا يمكنها أن تكون مقاومةً يجب تخطِّيها نحو الموضوع نفسه، فإن لم تكُن هذه المادة من الشعور فكيف يمكنها الحصول على كثافتها؟ وكيف يمكنها المحافظة، في آنٍ واحدٍ، على المقاومة الكثيفة للأشياء وذاتية الفكر؟
ينتهي سارتر إذَن إلى أن الوجود لا يأتي من الوجود المدرك، لأنه ليس مدركًا فقط، أو على الإطلاق، ولأن الشعور يتخطَّاه نحو الموضوعات، حتى ولو افترضنا وجود طبقة مادية لقالب الفكر، فكيف يمكن للشعور أن ينتقل من الذاتي وأن يتخطَّاه نحو الموضوعي؟ وقد ظنَّ هوسرل أنه بإعطائه المادةَ صفاتِ الشيء وصفات الشعور، يمكنه تسهيلُ الانتقال من أحدهما إلى الآخر، ولكنه انتهى إلى خلق وجود ميت يرفضه الشعور، ولا يمكن أن يكون جزءًا من العالم. فالوجود المدرك هو وجود أمام الشعور وليس فيه، بل ومنقطع عنه.١٦
وهكذا ينتهي سارتر إلى ردِّ اعتبار العالم الخارجي ووجود الموضوعات التي وضعها هوسرل بين قوسين، فإذا كان هناك بالفعل اقتضاب فهو تفكير إرادي يُفرِّق بين الشعور التأمُّلي والشعور المتأمل ويُظهر البُعد بينهما،١٧ لأن الاقتضاب، كما يتصوره هوسرل، هو نوع من المعجزة. فبالرغم من أنه يشير في تأملاته إلى بعض البواعث النفسية التي تؤدِّي إليه، فإنها ليست كافية، ولذلك يبقى الاقتضاب عنده نتيجة دراسة طويلة لا تخلو من التعالُم، يُعطَى مجانًا دون أيِّ ثمن، مع أنه، كما يراه سارتر، قلق يفرض نفسه علينا ولا يمكننا تفاديه، فهو حادثة تعرض لنا في حياتنا اليومية، نشعر بها وكأن الذات تنزع نفسها من نفسها.

مشاكل التكوين

ومشاكل التكوين هي الشقُّ الثاني من الفينومينولوجيا بعد التوقُّف عن الحكم، ويعرض سارتر فيها فلسفته ابتداءً من الخطَّين السابقين اللذَين ظهرَا قبل ذلك في نقده للاقتضاب ولنتائجه عند هوسرل، فمشاكل التكوين عند هوسرل تكشف عن مثاليته التي يحيلها سارتر إلى فلسفة في العدم.

يستمرُّ سارتر في رفض فكرة المادة الحِسِّية التي يقوم القصد بإحيائها بعد الاقتضاب الذي لا يُبقي منها إلا مادةً انطباعيةً صِرفة، مع أن الحِسَّ لا يمكن اقتضابُه ولا يمكن استبدالُه بالحساسية،١٨ والمادة الحِسِّية غير كافية لمُعادل العداء كصفة للموضوع الذي يقاوم، والذي يندُّ عن الانطباع الحِسِّي.١٩ وإذا سألنا هوسرل ما هو الحَدْس، فإنه يقول إنه حضور الشيء نفسه للشعور؛ فالمعرفة إذَن هي حضور بالنسبة إلى شيءٍ ما، وتلك هي علاقة الموجود لذاته بالموجود في ذاته. ولكن الحضور ليس مقولةً للوجود في ذاته، بل مقولة للوجود لذاته الذي يكون بطبيعته موجودًا في الخارج EK-statique. يجب إذَن قلب تعريف هوسرل للحَدْس كي يصبح الحَدْس هو حضور الشعور للشيء،٢٠ ومن ثَم يعطي سارتر نوعًا من الأولوية للموضوع نفسه الذي يحضر الشعور لديه كي يعيد للعالم الخارجي اعتباره. وليس صحيحًا، كما يعتقد هوسرل، أن هناك ضرورةً تركيبيةً تربط، بطريقة غير مشروطة، اللون والشكل، بل الشكل لونًا وضَوءًا، وبهذا المعنى فإن صفة الوجود كله هي حضور لحدوثها المطلق ولا يمكن اقتضابها، وإدراك الصفة لا يزيد إلى وجودها شيئًا، وهي ليست مظهرًا خارجًا عن الوجود، لأن الوجود لا داخلية ولا خارجية له، فهي الوجود كله الذي يكشف عن نفسه في نطاق «هناك يوجَد». وهكذا يعيد سارتر إلى الموضوع اعتباره بردِّ صفاته إليه وإخراجها من نطاق المدركات الحِسِّية. وما يسمِّيه هوسرل مقولاتٌ (علاقة الوحدة بالكثرة، والكل بالجزء، والأكثر بالأقل، والأول بالثاني، والحول بالجانب، والداخل بالخارج، والسابق بالتابع، والعلاقة العددية: واحد، اثنان، ثلاثة) ليست إلا ارتباطاتٍ مثاليةً للأشياء لا تنال منها شيئًا، سواء بالإكثار عليها أو بالإقلال منها، وتشير فقط إلى الطرُق المختلفة التي يمكن بواسطتها للموجود لذاته أن يُحقِّق حياد الوجود.٢١ وأخيرًا يعيد سارتر تفسير القصدية، مستعملًا في ذلك الدليل الأنطولوجي، فيقول إن القصد المتبادل، يعني أن التعالي هو البناء المُكوِّن للشعور، أيْ إن الشعور يُولَد محمولًا على وجود ليس هو وجوده، أيْ ما يُسمَّى بالدليل الأنطولوجي، أيْ إن هناك وجودًا يكشف عن نفسه من خلال القصدية، ليس هو معنى القصدية الذي لم يعرف هوسرل خاصيته الجوهرية هذه. وهكذا يحاول سارتر، في خيط أول، العثور على عالم الموضوعات الذي لا يمكن إرجاعُه أو استنباطُه من المادة الحِسِّية.
أمَّا الخيط الثاني الذي يتبعه سارتر فهو البدء من مثالية هوسرل التي يرفضها، لإثبات العالم الخارجي، كي يقيم فلسفةً يصبح فيها العدم موضوعها الأوحد. فإذا كان الشعور، كما يريد هوسرل، هو شعور بشيء فإنه يصبح شعورًا واضعًا، لأنه يضع موضوعه كمضمون له، ولا يكون الموضوع الذي يضعه الشعور نوعًا من المعطيات المحايدة التي تكوِّن عالمًا ما.٢٢ فالشعور الواضع، عند سارتر، هو بدء لنشاطه العادم الذي يقضي فيه الشعور على العالم الخارجي لإبراز موضوعٍ من لديه. ويرى سارتر أن هوسرل قد أعطى الشعور بطريقة اصطناعية، فمثلًا توجَد فيه مؤثرات انتظار المستقبل، ولكنها لا يمكن أن تتخطَّى عتبة الشعور، فتقع بذلك تحت وطأة نفسها «كذبابات تخبط أنوفها على الزجاج دون أن تستطيع الخروج منه». فهو شعور بمجرَّد ما نودُّ تحديده، بالشكِّ أو بالإدراك الحسي، أو حتى بالعطش، فإنه يُرجعنا للعدم الذي يصحبه.٢٣ حتى القصدية التي يكتشفها هوسرل، وكذلك برنتانو من قبله، لها خاصية جوهرية وهي الانتزاع من النفس، وليست فقط خاصيةً معرفيةً في تكوين الشعور، وهذا الانتزاع يكشف عن العدم داخل الشعور، خاصة وأن موضوعه كان سلبًا محضًا نظرًا للاواقعية. ويستعيد سارتر تحليلات هوسرل التي استعملها قبل ذلك والتي رفضها، أو أكمل نقصها، وهو في معرض دراساته التطبيقية على علم النفس الوصفي، فيرفض مرةً أخرى قسمة هوسرل بين المقاصد الفارغة والمقاصد المليئة.٢٤ فالمقاصد الفارغة هي التي تكوِّن الإدراكات الحِسِّية، وترتبط هذه المقاصد فيما بينها بالبواعث. ولكنْ بما أن المادة التي تملأ هذه المقاصد ليست موجودةً، فلا يمكن أن تكون هي الباعثة، ولا يمكن أيضًا للمقاصد المليئة أن تكون بواعِثَ للمقاصد الفارغة، فضلًا عن أن هذه البواعث نفسية محضة لا يمكن تصوُّرُها كأشياء، أيْ كأوانٍ تُملأ وتُفرغ حسب الحاجة. لم ينجُ هوسرل إذَن من هذا الخداع الشيئي. يكفي لسارتر أن يُقرِّر أن القصد الفارغ يكون نفسه فارغًا، حيث إنه يضع مادته بوصفها غير موجودة أو غائبة، أيْ إنه شعور بالنفي، يتعالى بنفسه نحو موضوع غائب أو غير موجود.٢٥ وإدراك الصفة ليس ملاءً، كما يريد هوسرل، ولكنه إخبار بفراغ كفراغ محدِّد لهذه الصفة.٢٦ بل إن تحليلات سارتر التي قام بها قبل ذلك، في ميدان علم النفس الوصفي، تظهر من جديد كتحليل لمفهوم العدم ومصادره. فموضوع الخيال، خاصةً الخيال الأسطوري، لا وجود له، إلا أن الشعور يُخرج من العدم وجودًا.٢٧ وموضوع الصورة هو نوع من ادِّعاء الوجود Seinsanspruch.٢٨ وعمل الخيال يكون في نفس الوقت مكوِّنًا للعالم وعازلًا له وعادمًا إيَّاه.٢٩ إذَن يجد سارتر في موضوع الخيال فرصةً رائعةً لتحليل الشعور باعتباره واضعًا للعدم. بل ويستعمل سارتر التحليلات الأخرى، سواء للزمان أو لموضوعات الشعور، بوصفها مؤدِّيةً كلها إلى العدم، سواء من جانب نشاط الشعور العادم أو من جانب الموضوع الذي يحدِّده سارتر بوصفه نقصًا، أو يصفه هاربًا دائمًا لا يعطي نفسه إلا عن طريق التظليل.٣٠
ثم يحاول سارتر بعد ذلك أن يقيم وصفًا خالصًا للشعور بوصفه أنا موجود في العالم ومع الآخرين، وينتهي من تلك التحليلات للشعور ومضمونه ويبدأ بتحليل من نوع آخر وهو الشعور ككل في العالم. فيرفض سارتر فكرة ازدواج الشعورَين؛ أنا أفكر وأنا موجود، أو بين أنا باطني وأنا نفسي جسمي، الأول شعور مُطلَق والثاني شعور جسمي في العالم؛ وذلك لأن الأنا الباطني لا داعي له. وقد انتقل هوسرل من الذات النفسية (بحوث منطقية) إلى الأنا الباطني (الأفكار ج١)، مع أن وصف الظواهر الشعورية لا يحتاج إلى أنا موحِّد للمعارف ويعطي الأشياء وحدتها وفرديتها، لأن الشعور قصدية تتوحَّد في الزمان. فيرفض سارتر إذَن فكرة الأنا المطلق (تأملات ديكارتية)، ويريد إخراجه للعالم كموجود نسبي. وعندما يُقرُّ هوسرل أن الأنا له تعالٍ خاصٌّ ليس هو تعالي الموضوع، بل تعالي تعالٍ يأتيه من أعلى، فإنه يكون بذلك قد نحَا نحوًا ميتافيزيقيًّا لا صلة له بالفينومينولوجيا. ولكن تحليل الشكِّ المنهجي الذي قام به هوسرل يبيِّن أن الشعور المتأمل وحده يمكنه أن ينفصل عمَّا يضعه الشعور المتأمل، أيْ إن موضوع الشعور خارجٌ عنه وليس وظيفةً له. وهذه العلاقة بين الشعور، أو الموجود لذاته، وبين موضوعه، أي الموجود في ذاته، هي ضرورة تُحتِّمها الواقعة نفسها، ويعتقد هيدجر أن هذا الأنا أفكر، الذي يفترضه هوسرل وراء عمليات المعرفة، ما هو إلا «مصيدة عصافير» تجنَّبها هيدجر نفسه في وصفه للواقعة الإنسانية، وقد وقع كلٌّ من هوسرل وديكارت في نفس الخطأ، فكلٌّ منهما يبحث عن حقيقة الماهية التي وجدها ديكارت في الارتباط بين طبيعتَين بسيطتَين، ووجدها هوسرل في التكوين المعنوي والتأمُّلي للشعور. والخطأ يكمن في أن كليهما يجعل ماهية الشعور سابقةً على وجوده، وكل الذي يطلبه سارتر من الأنا أفكر هو أن يكشف لنا عن ضرورة تُحتِّمها واقعة الشعور نفسها.٣١ فإذا تحدث هوسرل عن ضرورة تُحتِّمها الواقعة، فإن سارتر يعني بها أن الوجود لا يمكن استنباطُه أو اقتضابُه أو ردُّه إلى أيِّ شيء آخر يساويه. فالشعور لم يكُن ممكنًا ثم وُجد، بل وجوده شرط لكل إمكانية له، أيْ إن وجوده يتضمن ماهيته،٣٢ وكذلك العالم لا يمكن اقتضابُه، فهو هذا العالم الذي نحن فيه بأرضه وحيواناته وناسه وتاريخه، فنحن هنا أمام واقعة أُولى حتمية بالضرورة، تكشف عن نفسها كحدوث لا عقلي لماهية العالم، وهو موضوع الفكر عند هوسرل.٣٣
وأخيرًا يعرض سارتر آخِر موضوع في مشاكل التكوين؛ وهو العلاقة بين الذوات، أو وجود الأنا مع الآخرين. ويرى أن الآخر لدى هوسرل ما زالت له وظيفة معرفية لإقامة الخبرة المشتركة، وليس آخرَ بلحمه وعظمه ودمه. صحيحٌ أن هوسرل قد قام برفض المذهب الانطوائي (تأملات ديكارتية، والمنطق الصوري والمنطق الترنسندنتالي)، لأن الآخر شرطٌ لا بدَّ منه لتكوين العالم، فيرى هوسرل أن العالم، كما يكشف عن نفسه للشعور، هو عالم ذوات مشتركة، لا يكون للآخر فيه حضور كمظهر محسوس، بل يكون الآخر فيه شرطًا دائمًا لوحدته واغتنائه، فيوجَد الآخر دائمًا كطبقة من الدلالات المُكوِّنة، تتعلق بالموضوع الذي آخُذُه في اعتباري، أيْ إنه هو الضامن الحقيقي لموضوعيته. وعندما يقع العالم، وذاتي النفسية الجسمية، تحت الاقتضاب يظهر الآخر بوصفه ضروريًّا لتكوين ذاتي.٣٤

ولكن سارتر يرى أن نظرية هوسرل — بالرغم من مميزاتها التي لا يمكن إنكارها — لا تبدو مختلفةً كثيرًا عن نظرية كانط التي تعتبر الآخر مفهومًا قَبْليًّا. فإذا كان الأنا التجريبي ليس أكثر تعيينًا من الأنا الذي للآخر، إذ يحتفظ هوسرل بالذات الترنسندنتالية المختلفة تمامًا عن الأولى، والتي تشبه الذات عند كانط، فالذي يُهمُّ، عند هوسرل، هو تشابه هذه الذوات الترنسندنتالية، فالآخر إذَن هو مقولة إضافية تسمح بتكوين العالم، وليس له أيُّ وجود واقعي مُستقل عن العالم. ولكن الرجوع للآخر ليس إلا قيمةً ظنيةً باعتباره مفهومًا موحدًا، وعلى هذا لم يعد في إمكان هوسرل أن يفهم ما هو الوجود الخارج عن العالم الذي للآخر، لأنه يعرِّف الموجود بوصفه إشارةً لسلسلة لا متناهية من العمليات التي يجب إقامتُها. فالمعرفة إذَن هي مقياس الوجود الوحيد، ووجودي ووجود الآخر لا يتَّحدان بالجسم، أيْ بالخارجية، ولكنْ بالمعرفة، أيْ بالداخلية. فالآخر، عند هوسرل، ليس إلا غيابًا؛ هو قصد فارغ أملؤه بقصدي، وهو مضمون الشعور وطرف له ولشعوري باعتباري ذاتًا مُفكرة، وهكذا يظنُّ هوسرل أنه قد قام بتفنيد مذهب الانطواء مُقرِّرًا أن وجود الآخر له نفس درجة اليقين التي للعالم، مع أن المنطوي على نفسه يعترف بذلك أيضًا، لأنه يُقرُّ بأن وجود العالم مَقيس على معرفته له، كما هو الحال مع وجود الآخر.

وقد ظنَّ سارتر أنه قد تفادى الوقوع في المذهب الانطوائي عندما رفض لهوسرل نظريته فيما يتعلق بالأنا الترنسندنتالي، وبدَا له أنه لم يعد هناك شيء في الشعور متميز بالنسبة للآخر، لأنه قد أفرغه من ذاته، إلا أنه يعترف بأنه لم يتقدم خطوةً واحدةً في حلِّ مشكلة الآخر ووجوده، لأنه حتى ولو لم يكُن هناك، خارج الأنا التجريبي، إلا الشعور بهذا الأنا، أيْ مجالًا ترنسندنتاليًّا بدون ذات، فإن إثبات الآخر يتضمن حتمًا وجود مجال ترنسندنتالي، ونتيجةً لذلك تكون الوسيلة الوحيدة لتفادي مذهب الانطواء، هي إثبات أن شعوري الترنسندنتالي، أو وجوده نفسه، متأثر بوجود خارج عن العالم لوجداناتٍ أخرى من نفس النوع، وهذا ما لم يستطعه هوسرل أو كانط، لأن ما يربط وجودي بالآخر هو رباط المعرفة، ولذلك فإنهما لم يستطيعَا تفاديَ مذهب الانطواء، وما زال الأنا لديهما مُنتِجًا للعالم.

وعلى هذا يرفض سارتر أن يكون وجودي غيابًا، والآخر دليل يُثبته، ويُحيل معرفته إلى يقين، ويُقرِّر أن الآخر موضوع لي، ولكن له موضوعية خاصة، فهو جسم، أيْ إنه وجود محسوس واضح لا يمكنني أبدًا أن أستمدَّه من نفسي، ولا يمكنني أن أضعه مَوضعَ شَك، أو أن يكون موضوعَ اقتضاب، أو أي ردٍّ إلى شيء، سواء أقل أو أكثر منه،٣٥ فلا يمكنني اقتضابُه بوصفه نظرةً ناظرة، لأنه لا ينتمي إلى العالم، فأنا أخجل من نفسي أمامه، ولا يضع الاقتضاب خارج دائرة انتباهي إلا موضوع الخجل، كي يظهر الخجل نفسه في ذاتيته المطلقة، ولكن الآخر ليس موضوع الخجل، بل هو فعلي أو موقفي في العالم. وقد لاحظ شيلر من قبلُ أن القصد التعاطفي يُحدِّد علاقاتي مع الآخر العيني بلحمه ودمه.

من هذا العرض السريع لعلاقة سارتر بهوسرل، من خلال النصوص التي تحدث فيها سارتر عنه، يمكننا إذَن استخلاصُ النتائج الآتية، إجابةً على السؤال الذي وضعناه في أول هذا المقال: هل يُعتبر سارتر شارحًا لهوسرل وناقدًا له ومُطوِّرًا لمنهجه؟ أم له فلسفة فينومينولوجية لحسابه الخاص، حتى ولو خرج على المنهج نفسه، كما وضعه هوسرل:

  • (١)

    كان انشغال سارتر بهوسرل في شبابه نوعًا من التدريب على التحليلات الجديدة في علم النفس الوصفي، سواء ما كان موجودًا قبله مُستقلًّا عن هوسرل (برنتانو، شتومف) أو خارجًا منه. ويؤيِّد هذا عدم الوضوح السائد في هذه الدراسات الأولى، هل هي عرض أم شرح أم نقد أو تطوير. وتلك خاصية سائدة عند المُفكرين المعاصرين، يقوم كلٌّ منهم بحوار مُفكر آخر قريب منه أو بعيد عنه، كما فعل موريس ميرلوبونتي مع جولدشتين، وكما فعل هيدجر مع كانط ونيتشه وأفلاطون، وكما فعل برجسون مع فشنر وشاركوه وسبنسر ودارون ودوركايم.

  • (٢)

    استعمل سارتر منهج هوسرل كسُلَّم للصعود عليه، ثم رفضه بعد ذلك نظرًا لمواقفه المثالية بالنسبة للشعور أو للعالم الخارجي أو للآخر، ولذلك تحوَّل علم وصف الظواهر الشعورية على يديه إلى علم للوجود، كما هو الحال عند هيدجر. وقد رفض هوسرل نفسه هذا التطور من قبل، ولم يتعدَّ في تطوُّره إلا تحليل التجربة بكل غِناها، كما حدث ذلك في «التجربة والحكم».

  • (٣)

    أصدر سارتر أحكامًا على الوجود ولم يلتزم بالتوقف عن الحكم، وأشهرها وأعمُّها «الوجود عدم»، ولم يكتفِ بوصف الظواهر كما هي عليه، وهو بذلك يخرج على حدود المنهج الذي وضعه هوسرل، مثل هيدجر وميرلوبونتي.

  • (٤)

    يخرج سارتر بفلسفة صِرفة، ولا يقتصر على التحليلات المنهجية كهوسرل، فله نظريات وتحليلات للجسم وللشعور وللآخر وللحرية وللفعل كغيره من الفلاسفة المثاليين، ولذلك يُعتبر سارتر أكثر فلاسفة الوجود اتصالًا بالموضوعات الفلسفية وأكثرهم قربًا وتناولًا لها.

  • (٥)
    لسارتر فلسفة مستقلة ترفض نفس العيوب التي رفضها هوسرل، كلٌّ منهم داخل حضارته التي ينتمي إليها. فيعارض هوسرل المذهب العقلي (أو الصورية)، كما يظهر ذلك عند كانط وديكارت، كما يرفض المذهب التجريبي (الحِسِّي)، كما يظهر ذلك عند هيوم، خاصةً لإيجاد عالم جديد هو عالم الشعور. ويرفض سارتر أيضًا المذهب العقلي الذي تخرج منه المذاهب الميتافيزيقية الكبرى (ديكارت، سبينوزا، ليبنتز)، كما يرفض الاتجاه النفسي الحِسِّي (هيوم، تين) لإيجاد عالم ثالث مُستقل هو عالم الصورة٣٦ وعالم الأنا موجود الذي في العالم ومع الآخرين.
  • (٦)

    الطابع العام لفلسفة سارتر هو الذي يجعله يختار نوع تجاربه التي يُحلِّلها، فالعدم يجعله يُحلِّل النفاق، والكذب، وسوء النية، والنفي، وهو الذي يُوجِّه كل نتائج تحليلاته لخبرات الآخرين، أو لنظريات الفلاسفة الذين يدخل معهم في حوار.

  • (٧)

    فلسفة سارتر ترجمة لمواقف خلقية أكثر منها فلسفة للمعرفة، فهي ردُّ فعل على مثالية برنشفيج ولالاند ومايرسون، التي تظهر فيها الروح العنكبوت التي تنسج العالم، وهي ما يُسميها سارتر «الفلسفة الغذائية»، خاصةً التفاؤل المُطلَق واعتبار العالم أفضل العوالم الممكنة، خاصةً وأن سارتر قد سمع برنشفيج وفكَّر ضدَّه بخبراته عن الألم والشرِّ والخداع والنفاق.

  • (٨)

    يمكن مقارنةُ كلٍّ من سارتر وهوسرل كفيلسوفَين للتاريخ، وللشعور، وللجسم، وللآخر، كما يمكن مقارنةُ مزاجهما وبيان مفارقتهما؛ فالأول ملتزمٌ سياسيًّا، والثاني متأمل لم يخرج عن نطاق تأمُّله، أو مقارنة أسلوبهما؛ فالأول يُغيِّر أسلوبه بين التحليل العقلي والرواية الأدبية، والثاني لا يرضى إلا بالأسلوب الأكاديمي المشهور في الفلسفة الألمانية، ولكن هذه المقارنات لها موضوع آخر تندُّ عن هذه المُقدِّمة التي آثرنا فيها دراسة الصلات التاريخية بين سارتر وهوسرل، من خلال النصوص التي يتحدث فيها فيلسوف الوجود عن واضع علم وصف الظواهر الشعورية.

ثالثًا: علم الحضارة الفينومينولوجي

تطوَّر الوعي الأوروبي بين الأنا أفكر كبداية والأنا موجود كنهاية.٣٧ ظهر الوعي الأوروبي كموضوع في الفلسفة المعاصرة. فلا يوجَد فيلسوف معاصر إلا وتناوَله بالوصف والتحليل، ولم يخشَ أحدٌ كِبَر الموضوع وامتداده على أربعة قرون، لأنه يندُّ عن التخصُّص الدقيق ويخرج على أصول البحث العلمي وقواعده. ظهر موضوع الوعي الأوروبي بمجرَّد إحساس المُفكرين المعاصرين به وتناولهم إياه، ومن ثَم يصبح موضوعًا للبحث والتحليل طالما أنه ظهر في شعور المُفكرين، إحساسًا منهم بأزمة العصر وبمسار التاريخ توقُّفًا أو استمرارًا.

وطالما أننا بصدد البحث عن الصلة بين سارتر وهوسرل، فإن هوسرل هو أبرز مَثَل على تناوُل موضوع الوعي الأوروبي في كتابه المشهور «أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا الترنسندنتالية»، وفيه يُشخِّص هوسرل أزمة العلوم الأوروبية، ثم يعطي حلَّها في الفينومينولوجيا الترنسندنتالية.

وتتلخَّص الأزمة في ثلاثة أخطاء قاتلة أدَّت بالوعي الأوروبي إلى نهايته وإلى قَدَره المحتوم، كل خطأ منها ردُّ فعل للخطأ الأول، ومحاولةٌ للإصلاح، ولكنه يقع في خطأ أشنع، وبالتالي تكون المحاولات كلها محاولاتٍ خاطئةً لم تنتهِ بعدُ إلى إيجاد التوازن في الوعي الأوروبي.

وأول الأخطاء هو الصورية؛ فقد وقعَت العلوم الأوروبية في الصورية، أيْ تحويل الظواهر إلى مجرَّد صور عقلية فارغة لا مضمون لها، وبالتالي استبدَلَت بالأشياء ظلالها وأشباحها، فقضَت على عالم الأشياء وعميَت عنه، ونسجَت عالمًا آخر تصول فيه وتجول، ووضعَت الإنسان في ثنائية بين صورية العلم ومادية الحياة. في حين أن هذه الصورية ذاتها تقوم على أُسس تحتها في التجربة الحيَّة التي فيها تتأسَّس كل العلوم. بل إنَّ أكثر العلوم صوريةً، أعني العلوم الرياضية وعلى رأسها الحساب والهندسة، لا تتأسَّس إلا في نشأتها في الشعور، كما بيَّن هوسرل ذلك في «نشأة الهندسة».٣٨ وهنا تُمثِّل الفينومينولوجيا أحد تيارات الفلسفة ما بعد كانط، خاصةً مدرسة ماربورج والكانطيين الجدد في ألمانيا (ناتورب، كوهين كاسيرر)، أو في فرنسا مثل رينوفييه التي ظلَّت تهاجم الصورية في المنطق والأخلاق، والمعرفة والدين، والعلوم الإنسانية والطبيعة، وكأن هوسرل كان على وعي بما ستتَّجه إليه العلوم الإنسانية الآن من محاولة البعض تحويلها إلى أنساق صورية Formalization يمكن حلُّ مشاكلها مسبقًا دونما حاجة إلى مضمون. ومن ثَم تكون الفينومينولوجيا، فلسفةً ومنهجًا، نزعةً مُعاديةً للصورية Anti Formaliste، كغيرها من الفلسفات المعاصرة منذ دريش، ودلتاي، ونيتشه، وفوييه، وجويو، وشيلر، وبرجسون، وريكرت، وزمل، ومعظم فلاسفة الوجود الرُّوس والإسبان والإيطاليين والألمان والفرنسيين.

والخطأ الثاني هو المادية، نقيض الصورية، وكأن الوعي الأوروبي أراد تفادي خطأ الصورية، فوقع في الخطأ المضادِّ وهو المادية، وهو ما اتضح في العلوم الطبيعية وفي العلوم الإنسانية التي اتخذت الموقف الطبيعي أساسًا لها، والمادية أيضًا نوع من التجريد، على ما يقول هيجل، لأن الواقع ليس هو الواقع المادي بل هو الواقع الشعوري، والعالم ليس هو العالم المادي بل هو عالم الحياة، العالم كما يحياه الإنسان، ويشعر به، ويفعل فيه. المادة خالية من المعنى، وخاوية من الماهية، ولا تحصل المادية على معناها أو ماهيتها إلا بعد أن يحياها الشعور، فالمادية أيضًا، مثل الصورية، نسيان لعالم الحياة، وهنا جاء الاقتضاب الفينومينولوجي حتى يحرِّر الشعور من الموقف الطبيعي، ويردَّ المادية على أعقابها حتى يحياها الشعور، ويدرك معناها وماهيتها، وهنا تبدو الفينومينولوجيا كغيرها من الفلسفات المعاصرة؛ ردَّ فعل على مادية القرن التاسع عشر التي كانت زهوه وفخره، والتي كانت تُمثِّل تقدُّمًا بالنسبة للفلسفات المثالية في القرون الماضية. ولا يوجَد فيلسوف معاصر إلا وناهَض بقايا المذاهب المادية من القرن الماضي مثل الوضعية، والحِسِّية، والشَّكِّية، والتطورية، والنفسية الجسمية (السيكوفيزيقا)، والمذاهب الاجتماعية والتاريخية.

وينشأ الخطأ الثالث عندما تحاول العلوم الإنسانية تفادي الخطأَين السابقَين، أعني الصورية والمادية، وذلك بالرجوع إلى عالم الروح. ولكن هذه النية الحسنة سرعان ما تنقلب على نفسها، ويحدث خلط بين الروح والبدن أو يُوضَعان على نفس المستوى، فيمتزج الخالص بالشائب، والشفَّاف بالعَتِم، والمعنى باللفظ، والماهية بالواقعة. فقد قامت العلوم الإنسانية إمَّا على الحِسِّ أو على التجربة دون نقد لها، واكتشاف التجربة الخالصة، وهي موطن العلم. ومن ثَم كانت الفينومينولوجيا هي ميدان تحليل عالم التجربة الحيَّة السابق على الصياغات المنطقية والقضايا العملية، كما أنها نظرية في الحَدْس تقوم على الشعاع المزدوج؛ الأول الذي يأتي من الخارج إلى الداخل عن طريق الإحساس، والثاني الذي ينبثق من الداخل إلى الخارج عن طريق الوعي أو الانتباه. هناك إذَن فعلٌ متبادَل بين الذات والموضوع، وليس الإنسان مجرَّد قطب سالب يستقبل الانطباعات الحِسِّية الخارجية، بل هو أيضًا قطب موجَب يُحيل الواقع إلى معنًى ويدرك الماهية. يفعل الشعور في العالم بقدْر ما ينفعل بالعالم، وهذا هو الفرق بين الشعور النائم والشعور اليقظ، أو بين الانطباع الحِسِّي والإدراك، أو بين الإحساس والرؤية، أو بين الإدراك الحِسِّي والحَدْس. والأول هو الذي اعتمدَت عليه العلوم الإنسانية التي سادها الموقف الطبيعي، والثاني هو الاكتشاف الفينومينولوجي الذي فيه تتأسَّس العلوم الإنسانية.

هذه الأخطاء الثلاثة تعطينا بناءً عامًّا للوعي الأوروبي، وتجعله مُتذبذبًا بين مواقف ثلاثة؛ الصورية، والمادية، والخلط بين الروحي والمادي. وتحاول الفينومينولوجيا أن تُثبِّت الوعي الأوروبي على بؤرة متوازنة، وهي بؤرة الشعور الذي تنكشف فيه الظواهر وتتأسَّس فيه العلوم، وبالتالي تقضي على هذا الداء في الوعي الأوروبي، داء الحيرة والذبذبة، والمحاولة والخطأ، والجهد الدائب المستمر الذي لا يتجاوز النِّية الحسنة في البحث عن الحقيقة دونما وصول إليها أو الاقتراب منها بمنهج يُحقِّق له التوازن في النظرة.٣٩

ولكن هناك ما هو أخطر من البناء؛ وهو تطور الوعي الأوروبي بين لحظتَين تاريخيتَين يُمثِّلها ديكارت وهوسرل، فإذا كان الوعي الأوروبي قد بدأ باكتشاف الصورة، فإنه قد انتهى باكتشاف المضمون. وإذا كان قد بدأ بوضع الكوجيتو، أو الذات العارفة، فإنه قد انتهى باكتشاف موضوع المعرفة داخل الذات العارفة حتى يمكن إنقاذُه من الصورية، وخلاصُه من المادية، وتنقيته من الخلط السيكوفيزيقي. هناك إذَن لحظتان للوعي الأوروبي، بداية ونهاية؛ بداية عند ديكارت، ونهاية عند هوسرل. وفي البداية كان نمط اليقين في العلوم الرياضية: الاتساق أو التطابق، وفي النهاية أصبح نموذج اليقين في علوم الحياة: الدافع، الانطلاق، الانبثاق. لذلك كان فلاسفة البداية رياضيين مثل ديكارت، وسبينوزا، وبسكال، وكان فلاسفة النهاية علماء حياة مثل دريش، ودلتاي، وبرجسون، ونيتشه، وفوييه، وجويو. كان نموذج العلم عند الأوَّلين: الحساب والهندسة، وأصبح نموذج العلم عند الآخِرين: الآداب والفنون. في البداية كان الموضوع هو الصوري الفارغ بلا مضمون حتى يمكن فهمُه، وفي النهاية أصبح الموضوع هو العيني المَعيش الذي يمكن الإحساسُ به ولمسُه ودغدغتُه. في البداية كان العقل والاستنباط وسيلةً للمعرفة على ما هو معروف عند الديكارتيين، وفي النهاية كان الوجدان والحَدْس والتعاطف هو وسيلة المعرفة على ما هو معروف عند برجسون وشيلر. في البداية كان الوضوح والتميز مقياسَين لليقين، وفي النهاية أصبح الغموض والاشتباه يوحيان بالمعاني ويُشعِران بالحياة. في البداية قام السلوك على العقل، وكانت الحرية ممارسةً لقانون العقل، وكان الخطأ ينشأ من الإرادة أو من النزوع، وفي النهاية أصبح السلوك تعبيرًا عن إرادة الحياة، وتأكيدًا للنزوع والوجدان. وبالتالي تُعتبر معركة هيجل كيركجارد أو هيجل ماركس من المعارك الحاسمة في تطوُّر الوعي الأوروبي التي حُسم فيها هذا الانتقالُ من البداية إلى النهاية.

وقد دفع الوعي الأوروبي ثمن هذا الانتقال، أو، إن شئنا، هذا القلب من البداية إلى النهاية. فبعد أن كان المطلب في البداية هو الوجود، وكان العقل والوجود شيئًا واحدًا عند هيجل، وكانت الطبيعة امتدادًا عند ديكارت، وكان القانون هو الحياة عند كانط، أصبح العدم هو المطلب في النهاية، إرادة العدم، وحرية العدم، ووجود العدم كما هو واضح عند نيتشه، وهيدجر، وسارتر، وكامو. وأصبحَت تجارب الانتحار، والغثيان، والموت، والتشاؤم، والتفاهة، والقرف، والاشمئزاز، وسوء النِّية، والنفاق، والنفي، والتساؤل؛ كلها تجارب تكشف عن الوجود باعتباره عدمًا. وضاعت روح التفاؤل التي ظهرَت في البداية وحلَّت محلَّها روح التشاؤم والعدمية المطلقة التي سادت في النهاية. في البداية انتشر الغرب، وقامت النُّظم الليبرالية، وامتدَّ الوعي الأوروبي خارج حدوده، وفي النهاية انحسر الغرب، وقامت النُّظم النازية والفاشية، وتقلَّص الوعي الأوروبي داخل حدوده، وأدرك الجميع بوادر الأزمة، وجوانب المحنة، ومواطن الخطر.٤٠

وهذه هي الدلالة الحضارية لمحاولة سارتر «تعالي الأنا موجود»، عندما يأخذ نموذجَين لهاتين اللحظتَين في الوعي الأوروبي؛ الأنا أفكر عند ديكارت، أو الأنا الترنسندنتالي عند كانط، أو الذات العارفة عند المثاليين بوجه عام من ناحية، والأنا موجود، والأنا مع الآخرين، والأنا في العالم عند فلاسفة الوجود المعاصرين من ناحية أخرى. وتُهدَم الأولى من أجل بناء الثانية، فيقضي سارتر على الأنا أفكر القارِّ داخل الإنسان؛ لأن هذا الأنا في رأيه فراغ لا لزوم له و«تجويف زائد، وانتفاخ طارئ، وتورُّم مرضي، وتضخُّم في الأنا، وأنانيةٌ وحُبٌّ للذات، وغرورٌ يعلمه علماء الأخلاق». يضغط سارتر هذا الأنا حتى يتمَّ تفريغُ الهواء، ويقضي على التجويف من أجل خلق أنا مُصْمَت لا فراغ ولا تجويف ولا أورام فيه، أنا تمتاز بالهبوط النفسي وبالخوف من نفسها، ويقضي بذلك على الداخل من أجل الخارج، وعلى الذات من أجل الموضوع، وعلى الأنا من أجل العالم، ويصبح الأنا هو الأنا موجود، مع الآخرين، وفي العالم، وتتحدَّد علاقاته مع هاتين الدائرتَين، وتصبح الأنا خارجيةً محضةً بلا داخلية، ووجودًا محضًا بلا عقل. ففي هذا التخارج داخليتها، وفي هذا الوجود معرفتها. يقضي سارتر على الأنا القائم من أجل الأنا المُمتد، وعلى الأنا في العمق من أجل الأنا المُسطَّح، وعلى الأنا في علاقته مع الأبدية من أجل الأنا في علاقته مع الزمان والتاريخ.

ونحن نعلم أنه عندما يبدأ الوعي التاريخي بتحديد مساره، كما فعل أرسطو مع الحضارة اليونانية، يكون ذلك هو بداية النهاية، ومن ثَم فمحاولات المعاصرين لوصف تطوُّر الوعي الأوروبي وتحديده بلحظتَين؛ المثالية والواقعية، العقلانية والوجودية، الفلسفة الحديثة والفلسفة المعاصرة، وتجعلنا نحن مُفكري العالم الثالث المحايدين، والذين لا ينتسب شعورُهم إلى الوعي الأوروبي نتساءل إذا كانت هذه هي بداية النهاية، وكان لا بدَّ في العالم من ريادة وعي للتاريخ، كما كان الحال في الشرق القديم؛ الصين، والهند، وفارس، ثم في الشرق الأوسط؛ مصر واليونان، والمسلمون، والمسيحيون، والأوربيون، فإنه قد تعود الريادة من جديد إلى الشرق القديم أو إلى الشرق الأوسط، وهو ما نعاصره نحن الآن من بدايات للتحرُّر لشعوب الشرق بصورٍ عِدَّة؛ إصلاح أو إحياء أو نهضة أو إعادة بناء للموروث.

لا يوجَد عمل فلسفي إلا وله دلالة حضارية. وتلك هي الدلالة الحضارية لمحاولة سارتر «تعالي الأنا موجود»،٤١ ويكون التعالي حينئذٍ هو المفارقة إلى التاريخ، والوجود في العالم، في الأشياء، ومع الآخرين.

ملاحظات على الترجمة

استبعدتُ دائمًا طريقة النقل الصوتي للكلمة من أبجدية إلى أبجدية أخرى، وهي ما تُسمَّى بعملية Transcription، مثلًا يصبح لفظ phénoménologie فينومينولوجيا، ولفظ Transcendental ترنسندنتالي … إلخ. فهذه الطريقة ليست ترجمةً بل نقلٌ للأصوات من لغة لأخرى مع تغيير شكل الحروف، وفضلًا على وجود نُظُم متعددة للنقل الصوتي Transliteration، هناك عيوب كثيرة لها، أهمُّها الألفاظ الغريبة الداخلة على اللغة المُترجَم إليها وعجميتها، ممَّا يؤدِّي إلى دخول ألفاظ أجنبية إليها، وذلك لا يُسمح به إلا في أضيق الحدود، وعند الضرورة، ولمَن هو أهل لذلك من بين المشتغلين بفقه اللغة. وكذلك يستحيل التعبير عن معنى اللفظ الأجنبي لأنه نفس اللفظ المنقول إلى اللغة المُترجَم إليها، كما أنه لا يؤدِّي أيَّ معنًى فيها، فإنْ لم يفهم القارئ المعنى من اللفظ الأصلي فلن يستطيع معرفة معناه من اللفظ المنقول صوته، وكذلك يستحيل رؤية الأشياء التي يشير إليها اللفظ الأصلي بعد استحالة فهم معناه.

وكان علينا أن نختار بين إحدى طرق ثلاث في الترجمة:

  • (١)
    ترجمة اللفظ الأجنبي باللفظ العربي المرادف له تمامًا مثل ترجمة phénoménologie بعلم الظواهر … إلخ، إلا أن هذه طريقة الترجمة الحَرفية التي تغفل بتاتًا المعنى، وهو القصد الأول للمترجم، ولا تكشف عن المراد، وهو غرض القارئ، وقد استبعدنا هذه الطريقة بقدْر المُستطاع.
  • (٢)
    التعبير عن معنى اللفظ الأصلي في لفظ من اللغة المُترجَم إليها دون مراعاة أهمية الترادف اللفظي في تطابق اللفظَين، وهذه الطريقة تهدف أساسًا إلى ترجمة المعنى والتعبير عنه دون أن تقف عند الحرف، فلفظ Transcendental يمكن التعبيرُ عن معناه بلفظ «باطني» الذي يحتوي على كل المعاني الممكنة التي يعطيها اللفظ الأصلي مثل: أوَّلي، شرطي، سابق على التجربة، صوري … وقد اتبعنا هذه الطريقة أيضًا كلما دعَا الأمر لذلك.
  • (٣)
    تفسير الشيء نفسه وشرحه دون الالتصاق باللفظ الأصلي ودون التقيُّد بالمعنى الضيِّق له، وذلك بالعثور، بطريقة تلقائية محضة، على اللفظ العربي الذي يمكن أن يكشف عن الأشياء التي يشير إليها اللفظ الأصلي وأن يوضح معناه. وقد اتبعنا هذه الطريقة دائمًا، ممَّا يسبِّب في البُعد عن المصطلح الأصلي، فلفظ Phénoménologie تعني وتشير إلى علم وصف الظواهر الشعورية، ولفظ Ego إلى الأنا موجود، ولفظتَا Noéme, Nése إلى قالب الشعور ومضمون الشعور، أو ذات الفكر ومضمون الفكر، ولفظتَا Acte thé matique, Acte thétique تشيران إلى فعل الفكر بوصفه ذاتًا وإلى فعل الفكر بوصفه موضوعًا … إلخ.٤٢
أمَّا فيما يتعلق بالعنوان «تعالي الأنا موجود»، ففي رأينا أنه أفضل الترجمات لتفسير المراد، فلفظ Transcendence يمكن ترجمتُه بالمفارقة، وقد حجزنا هذا اللفظ عند وصف الموضوع، وفضَّلنا لفظ التعالي للذات لأنه يُستعمَل للذات الإلهية، كما في الآية سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ، أيْ إن الله مهما قِيلَ في أوصافه فهو يتعالى عن ذلك حرصًا على التنزيه المطلق له، وهذا تمامًا ما يقصده سارتر بتعالي الأنا موجود التي تندُّ عن أن تكون وظيفةً للمعرفة أو للأخلاق، فهي تتعالى دائمًا عن كل ما يُقال أو يُتقوَّل عليها. أمَّا لفظ Ego ففضَّلنا ترجمته بالأنا موجود لأن هذا ما يقصده سارتر بالضبط، عندما يصفها كموجود في العالم ومع الآخرين بعد تفرقته بين أنماط كثيرة من الشعور، فهناك الأنا je، الأنا أفكر Je pense، الأنا المُفكرة Cogito، الذات Moi، الذات العارفة Sujet، وقد راعينا ترجمة اللفظ مجموعته التي ينتمي إليها، فهناك الشعور Conscience، الشعور بذاته Conscience de soi، الشعور الأسمَى Hyperconscience، الشعور المتأمل Consience Réflèchie، الشعور اللامتأمل Conscience Irréflechie، الشعور التأمُّلي Conscience Réfléxive، الشعور المتأمل Conscience Réfléchissante … إلخ.

ولذلك من الصعب الاتفاق على المصطلحات الفلسفية بين جميع المشتغلين بالفلسفة. فليست هناك ترجمة صواب أو خطأ، بل هناك ترجمة أقرب إلى اللفظ، وأخرى أقرب إلى المعنى، وثالثة تكشف عن الأشياء نفسها، أيْ عن طريق المفاضلة بين الترجمات دون تصويب أو تخطئة إحداها.

أمَّا التعليقات فليست دراساتٍ عن المواضيع المطروقة، بل إشارات عابرة إلى هوسرل أو سارتر لا تغطي جوانب فلسفتَيهما، وقد قامت الناشرة بمجموعة من التعليقات عندما أعادت نشر المقال من جديد سنة ١٩٦٦م.٤٣ ولم نترجم النصوص المختارة من أعمال هوسرل وسارتر المنشورة في آخر الكتاب، لأن معظمها تُرجِم باللغة العربية قبل ذلك، والباقي، وإن كان يمتُّ بصلة للنَّص الفلسفي نفسه، إلا أننا آثرنا إرجاء ترجمة العمل الفلسفي كله، وهو «الأفكار»، في عمل مُستقل. هذا ونعتذر أننا للسادة مُترجمي أعمال سارتر من أننا لم نُشِر إلى الطبعات العربية لضِيق الوقت الذي هو السبب الأول في إخراج هذه الترجمة المَعيبة، في بعض الأحيان، لهذا النَّص الفلسفي الأول لسارتر.
١  كُتبَت هذه المُقدِّمة سنة ١٩٦٧م كمقال في العدد الخاص الذي كان مزمعًا إصداره عن سارتر بمناسبة زيارته للجمهورية العربية المتحدة، وهو أول ما كتبتُ بمصر منذ رجوعي من فرنسا في ١٩٦٦م، ولكنه لم يُنشر نظرًا لصعوبة الأسلوب ووعورته ولعلمية التحليل وأكاديميته.
٢  انظر: مُقدِّمة الناشرة.
٣  الخيال، ص۱۳۹.
٤  تخطيط لنظرية الانفعالات، ص۷.
٥  نفس المصدر، ص٧.
٦  الخيالي، ص٣٩-٤٠.
٧  نفس المصدر، ص۱۰۰-۱۰۱.
٨  تخطيط لنظرية الانفعالات ص۳–۱۳.
٩  الوجود والعدم، ص١١٥.
١٠  نفس المصدر، ص٢٤.
١١  نفس المصدر، ص١٤-١٥.
١٢  نفس المصدر، ص١٢.
١٣  نفس المصدر، ص٢٧-٢٨.
١٤  نفس المصدر، ص١٦.
١٥  نفس المصدر، ص٢٨.
١٦  نفس المصدر، ص٢٦.
١٧  نفس المصدر، ص٢٨.
١٨  نفس المصدر، ص٣٧٨-٣٧٩.
١٩  نفس المصدر، ص٣٨٩.
٢٠  نفس المصدر، ص٢٢١.
٢١  نفس المصدر، ص٢٤١.
٢٢  نفس المصدر، ص۱۷.
٢٣  نفس المصدر، ص۱٤٥.
٢٤  نفس المصدر، ص٦٣.
٢٥  نفس المصدر، ص٦٣.
٢٦  نفس المصدر، ص٢٣٦.
٢٧  الخيال، ص١٤٧.
٢٨  الخيال، ص٢٢٨.
٢٩  نفس المصدر، ص٢٣٠.
٣٠  الوجود والعدم، ص٢٨.
٣١  نفس المصدر، ص٥١٤.
٣٢  نفس المصدر، ص٢١-٢٢.
٣٣  نفس المصدر، ص٢٢٧-٢٢٨.
٣٤  الوجود والعدم، ص٢٨٨-٢٨٩.
٣٥  نفس المصدر، ص٣٣٠.
٣٦  تعني الصورة هنا Image وليس Forme.
٣٧  هذا الجزء أُضيفَ عام ١٩٧٦م، أيْ بعد عشر سنوات من كتابة المُقدِّمة.
٣٨  Husscre: L’Origine de la Géometric.
٣٩  انظر: «الفينومينولوجيا وأزمة العلوم الأوروبية» في كتابنا «في الفكر الغربي المعاصر»، دار التنوير، بيروت، ۱۹۸۲م.
٤٠  كان هذا هو موضوع رسالتنا الثانية في البداية «الدين العقلي والدين الوجودي عند كانط وكيركجارد»، سنة ١٩٥٨م، ثم تغيَّر إلى «فينومينولوجيا التفسير» بعد دراسة هوسرل الفينومينولوجيا الحضارية.
٤١  انظر: «ثقافتنا المعاصرة بين الأصالة والتقليد»، في كتابنا «في فكرنا المعاصر»، دار التنوير، بيروت، ۱۹۸۱م. ولحسن الحظِّ يقوم صديقنا الدكتور أنور عبد الملك بنفس الدعوة فيما يُسميه بالاستراتيجية الحضارية أو المشروع الحضاري، ويصبح داعيةً لنهضة شعوب الشرق في مواجهة المشروع الغربي وبدايات إفلاسه ومحاولات إنقاذه.
٤٢  انظر: رسالتنا عن:
Les Méthodes d’Exégèse, Intre. pp. Cxvi-CXXXI.
ولكن بعد مُضيِّ عشر سنوات رأينا أنه لا غضاضة بالنسبة للتراث الأوروبي من نقل بعض المصطلحات نقلًا صوتيًّا، مثل فينومينولوجيا وترنسندنتالي، في أقلِّ الحدود كما فعل القدماء عندما نقلوا موسيقى وأنالوطيقا وأثولوجيا.
٤٣  Jean Paul Sarte: La Transcendance de L’Ego, Esquisse d’une description phénoménologique. Intrduction, notes et appendices par Sylvie le Bon, Paris, Librairie philosophique J. Vrin, 6 Place de la sorbonne, Ve 1966.
وقد كان هذا النشر الدبلوم الذي تقدَّمَت به الناشرة لنَيل دبلوم الدراسات العُليا بقسم الفلسفة، في كلية الآداب، جامعة باريس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤