خاتمة

وختامًا نودُّ أن نقتصر على تقديم الملاحظات الثلاث التالية:

  • (١)

    يبدو لنا تصوُّر الأنا موجود، كما هو مطروح، يُحقِّق التحرر من المجال الترنسندنتالي، ويُطهِّره في نفس الوقت.

    يستعيد المجال الترنسندنتالي صفاءه الأول بعد تحريره من كل ما له صلة بالأنا موجود، ويصبح بمعنًى ما لا شيء، لأن كل الأشياء الطبيعية والنفسية والجسمية النفسية وكل الحقائق والقِيَم خارجة عنه، ولأن ذاتي نفسها لم تعد جزءًا منه، ولكن هذا اللاشيء، وهو كل شيء، لأنه شعور بكل هذه الموضوعات، ولم يعد يصدُر عن «الحياة الداخلية» بالمعنى الذي يقصده برنشفيج،١ عندما يعتبر «حياة داخلية» و«حياة روحية» متعارضتَين، لأنه لم يعد ثمة شيء يمكن أن يكون موضوعًا، وفي نفس الوقت يمكن أن يتعلق بالحياة الباطنية للشعور، فالشكوك وتأنيبات الضمير وأزمات الشعور المزعومة … إلخ، وباختصار كل ما تُقدِّمه لنا اليوميات الشخصية، إنْ هي إلا تمثُّلات. وقد يمكننا أن نستخلص من ذلك بعض المبادئ السليمة للسريرة الخلقية. ولكن من هذه الزاوية ينبغي فضلًا عن ذلك ملاحظة أن عواطفي وحالاتي والأنا موجود ذاته تكفُّ عن أن تصبح ممتلكاتي الخاصة، فلنُبيِّن ذلك: الآن ثمة تفرقة أساسية بين موضوعية شيء محدَّد بالزمان والمكان، أو حقيقة أبدية، وبين ذاتية «الحالات» النفسية. وقد كان للذات العارفة — فيما يبدو — مكانة متميزة بالنسبة لحالاتها الخاصة، فعندما يتحدث شخصان — وفقًا لهذا التصور — عن نفس الكرسي، فإنهما يتحدثان بالضبط عن نفس الكرسي، هذا الكرسي الذي يأخذه أحدهما ثم يرفعه هو نفس الكرسي الذي يراه الآخر، فلا يُوجَد مجرَّد توافق صور، بل يُوجَد موضوع واحد. ولكن عندما يحاول زيد أن يفهم حالةً نفسيةً لعمرو، فإنه لن يمكنه أن يدرك هذه الحالة التي لا يدركها إلا عمرو وحده إدراكًا حَدْسيًّا، ولم يكُن في استطاعته سوى أن يبحث عن مُعادل لها، وأن يخلق تصوُّراتٍ فارغةً تحاول عبثًا إدراك واقعة تندُّ أساسًا عن الحَدْس. فيتمُّ الفهم النفسي بالمماثلة. وتُعلمنا الفينومينولوجيا أن الحالات موضوعات،٢ وأن العاطفة، من حيث هي كذلك (حب أو كراهية)، موضوع مُفارق لا يمكن ضمُّه في الوحدة الداخلية ﻟ «شعور ما»، فإذا تحدَّث كلٌّ من زيد وعمرو عن حُبِّ زيد مثلًا، فليس صحيحًا أن أحدهما يتحدث عن جهل، وبالمماثلة إلى ما يدركه الآخر حَدْسيًّا، فهما يتحدثان عن نفس الشيء ويدركانه دون شكٍّ بطرُق مختلفة، وهذه الطريقة قد تكون حَدْسية أيضًا، ولا تكون عاطفة زيد أكثر يقينًا لزيد منها لعمرو؛ إذ إنها تتعلق عند أحدهما، كما عند الآخر، بمجموعة الأشياء التي يمكن وضعُها موضع الشك، ولكنْ يظلُّ هذا التصور العميق والجديد مشتبهًا فيه إذا كانت ذات زيد — هذه الذات التي تكره أو تحب — جوهرية في تكوين الشعور، فتبقى العاطفة مرتبطةً به، وتلتصق ﺑ «الذات»، فإذا جذبنا الذات نحو الشعور جذبنا العاطفة معها. ولكن ظهر لنا عكس ذلك، إذ إن الذات موضوع مُفارق كالحالة، ومن هذه الزاوية تكون قابلةً لإدراكها بنوعَين من الحَدْس؛ إدراك حَدْس بالشعور الذي هو ذات له، وإدراك حَدْس أقلَّ وضوحًا — ولكن ليس أقلَّ منه حَدْسًا — بمجموعات أخرى من الشعور. خلاصة القول؛ تكون ذات زيد قابلةً لحَدْس، كما هي قابلة لحَدْسه، وفي كلتا الحالتين تكون موضوعًا لبداهة لا مطابقة. فإذا كان الأمر كذلك، فلن يكون ثمة شيء، «لا يمكن النفاذ إليه» عند زيد سوى شعوره نفسه، ولكن هذا الشعور هو في جوهره كذلك، نعني أنه غير قابل للحَدْس فحسب، بل أيضًا للفكر، فلا يمكنني تصوُّرُ شعور زيد دون أن أُحيلَه إلى موضوع (لأني لا أتصوره بوصفه شعوريًّا)، ولا يمكنني تصوُّره، لأنه يجب التفكير فيه على أنه داخلية صِرفة، وأنه مُفارق في نفس الوقت، وهذا مستحيل. فلا يمكن لشعور أن يتصوَّر شعورًا آخر إلا نفسه، وعلى هذا يمكننا أن نُفرِّق — بفضل تصوُّرنا للذات — بين ميدان يمكن لعلم النفس أن يتناوله، يكون فيه لمنهج الملاحظة الخارجية ولمنهج الاستبطان نفس الحقوق، ويستطيعان التعاون معًا؛ وبين ميدان ترنسندنتالي خالص يمكن أن تتناوله الفينومينولوجيا وحدها.
    هذا الميدان المُفارق ميدان وجود مطلق، أيْ تلقائيات خالصة، ليست موضوعاتٍ على الإطلاق، ومحددة لذاتها في حالة وجودها. ولمَّا كانت الذات موضوعًا، فمن الواضح أنه لا يمكنني القول «شعوري»، أيْ شعور ذاتي (إلا بمعنًى تعييني صِرف، كما أقول مثلًا يوم عمادي). فالأنا موجود لا يملك الشعور، بل هو موضوع له، وممَّا لا شكَّ فيه أننا نقوم بتكوين حالاتنا وأفعالنا تلقائيًّا باعتبارها من منتجات الأنا موجود. ولكن حالاتنا وأفعالنا هي أيضًا موضوعات. وليس لدينا حَدْس مباشر بتلقائية شعور آني يُنتجه الأنا موجود، فقد يكون ذلك مستحيلًا. ويمكننا أن نتصور إنتاجًا كهذا على مستوى الدلالات والفروض النفسية فقط، ولا يكون هذا الخطأ ممكنًا إلا لأن الأنا موجود والشعور يكونان فارغَين على هذا المستوى. وإذا فهم أحد «الأنا أفكر» بحيث يجعل من الفكر إنتاجًا للأنا، فإنه يكون بذلك قد نظر إلى الفكر من قبلُ على أنه سلبية، وعلى أنه حالة، أيْ موضوع، ويكون قد ترك مستوى التأمل الخالص حيث يظهر الأنا موجود دون شك، ولكن في أفق التلقائية. ويمكن التعبير بدقة عن الاتجاه التأمُّلي بهذه العبارة المشهورة لرامبو (في خطاب الرائي): «الأنا هو آخر.» وسياق الحديث يُبرهن على أنه لم يُرِد إلا القول بأن تلقائية مجموعات الشعور لا يمكن أن تنبثق من الأنا، بل تذهب نحو الأنا وتنضمُّ إليه وتسمح له بأن يدرك من خلال سُمكه الشفاف، ولكنها تطرح ذاتها قبل كل شيء كتلقائية مفردة ولا شخصية. وتبدو لنا الدعوى الشائعة والمقبولة بأن أفكارنا تنبثق من لا شعور لا شخصي ثم «تتشخَّص» وتصبح مشعورًا بها؛ تفسيرًا غليظًا وماديًّا لحَدْس مضبوط، وقد أيَّدها علماء النفس٣ الذين أدركوا جيدًا أن الشعور «لا ينبثق» من الأنا، ولكن ليس في إمكانهم الموافقة على تلقائية تُنتج ذاتها. وعلى هذا فقد كان هؤلاء العلماء سُذَّجًا في تخيُّلهم أن مجموعات الشعور التلقائية «تنبثق» من اللاشعور، حيث يكمن وجودُها من قبلُ دون أن يدركوا أنهم بهذا قد تغافلوا عن مشكلة الوجود التي يجب الانتهاء منها، وذلك بصياغتها، وأنهم زادوها غموضًا، لأن الوجود السابق للتلقائيات، في حدود ما قبل الشعور، يكون بالضرورة وجودًا سلبيًّا.
    يمكننا إذَن صياغة دعوانا هكذا: الشعور الترنسندنتالي هو تلقائية لا شخصية يحدِّد وجوده بذاته في كل لحظة، دون أن نستطيع تصوُّر شيء سابق عليه. ولهذا تكشف لنا كل لحظة في حياتنا الشعورية خَلقًا من العدم، لا يكون تنظيمًا جديدًا، بل وجودًا جديدًا. وثمة شيء مُقلِق لكلٍّ منَّا؛ وهو أن يدرك الإنسان، هكذا على التوِّ، هذا الخلق غير المضني للوجود الذي لم نخلقه نحن. وعلى هذا المستوى يشعر الإنسان بأنه يندُّ عن نفسه دون توقُّف، وأن غِنًى غير مُنتظَر على الإطلاق يفيض عليه ويغمره بغتة، ثم يكلف اللاشعور بأن يدرك تجاوز الشعور للذات، ولهذا لا تستطيع الذات شيئًا إزاء هذه التلقائية، لأن الإرادة موضوع يتكوَّن من أجل هذه التلقائية وبواسطتها، فتتَّجه الإرادة نحو الحالات والعواطف، أو نحو الأشياء، ولكنها لا ترتدُّ قطُّ إلى الشعور. ويتحقق الإنسان من ذلك في بعض الحالات عندما يحاول أن يريد شعورًا (أريد أن أنام، لا أريد أن أفكر في هذا أكثر من ذلك … إلخ)، ففي هذه الحالات المختلفة تفرض ماهية الأشياء ضرورة إبقاء الإرادة وحفظها بواسطة الشعور الذي يعارض أساسًا الشعور الذي يريد توليده (إذا أردتُ أن أنام أظلُّ متيقظًا، وعندما أريد ألا أفكر في هذه الحادثة أو في تلك فأنا أفكر بالضبط من أجل هذا). يبدو لنا أن هذه التلقائية العجيبة تكون مصدرًا لأنماط عديدة من الهبوط النفسي، فيخشى الشعور من تلقائيته الخاصة لأنه يشعر أنها تتجاوز الحرية،٤ وهذا ما يمكننا رؤيتُه بوضوح من المثل الذي يعطيه جانيه.٥ كانت هناك شابة متزوجة ينتابها الرعب عندما يتركها زوجها بمفردها، فتقف أمام النافذة وتنادي المارَّة كما تفعل العاهرات، وليس في تربيتها أو في ماضيها أو في شخصيتها ما يمكن تفسيرُ مثل هذا الخوف. ويبدو لنا ببساطة أن ظرفًا تافهًا (مطالعة، محادثة … إلخ) حدَّد لديها ما يمكن تسميتُه بدُوار الإمكانية، إذ إنها وجدت نفسها حُرة بدرجة مُرعبة، وبدَت لها هذه الحرية التي تبعث على الدُّوار بمناسبة هذا الفعل الذي تخاف أن تقوم به، ولكن لا يمكن فهمُ هذا الدُّوار إلا إذا ظهر الشعور فجأةً أمام نفسه فائضًا بلا حدود في إمكانياته على الأنا الذي يمنحه عادة الوحدة.
    والواقع أن الوظيفة الأساسية للأنا موجود قد تكون عمليةً أكثر منها نظرية، وقد بيَّنا أنه في حقيقة الأمر لا يُوحِّد بين المظاهر، بل يقتصر على أن يعكس الوحدة المثالية عليها، بالرغم من أن الوحدة العيانية الواقعية قد حدثَت منذ وقت طويل. قد يكون دَور الأنا موجود الأساسي أن يخبِّئ تلقائيته الخاصة عن الشعور.٦ ويُبيِّن الوصف الفينومينولوجي للتلقائية أنه يستحيل معها التفرقة بين فعل وانفعال وأيِّ تصوُّر للاستقلال الذاتي للإرادة. وهذه الأفكار لا معنى لها إلا على المستوى الذي يكشف فيه كل نشاط عن نفسه بوصفه منبثقًا عن سلبية يفارقها. وفي عبارة موجزة نقول على المستوى الذي يعتبر فيه الإنسان نفسه ذاتًا وموضوعًا في آنٍ واحد. ولكننا لا نستطيع أن نُفرِّق بين تلقائية إرادية وتلقائية لا إرادية بسبب ضرورة تتعلق بالماهية.

    وتمضي المسألة إذَن وكأن الشعور يُكوِّن الأنا موجود على أنه تمثُّل زائف لذاته، وكأنه يُخدِّر ذاته على هذا الأنا موجود الذي كوَّنه وذاب فيه، وكأنه يجعل منه رقيبه وقانونه. والواقع أنه بفضل الأنا موجود يمكن التمييز بين المُمكن والواقع، وبين الظاهر والوجود، وبين المُراد واللامُراد.

    ولكن قد يحدث أن يُنتج الشعور نفسه فجأةً على المستوى التأمُّلي الخالص، لا لأنه قد يكون بدون أنا موجود، بل بوصفه هاربًا من الأنا موجود من كل ناحية، ومُهيمِنًا عليه، ومدعِّمًا إياه خارج ذاته بفضل خَلق مستمر. وعلى هذا المستوى لم تعد ثمة تفرقة بين الممكن والواقع، لأن الظاهر هو المطلق، ولم تعد ثمة عوائق ولا حدود ولا أيُّ شيء آخر يُخفي الشعور أمام ذاته. وحينئذٍ عندما يدرك الشعور ما يمكن تسميتُه بجبرية تلقائية٧ يصيبه القلق فجأة، القلق المُطلق الذي لا دواء له، الخوف من النفس الذي يبدو لنا مُكوِّنًا للشعور الخالص، والذي يُفسِّر لنا مرض الهبوط النفسي الذي تحدَّثنا عنه. فإذا كان الأنا الذي للأنا أفكر هو المُكوِّن الأول للشعور، يصبح هذا القلق غير مُمكن. وعلى العكس من ذلك إذا سلَّمنا بوجهة نظرنا، فلن يكون لدينا تفسير متجانس لهذا المرض فحسب، بل سنحصل أيضًا على باعث دائم لممارسة الاقتضاب الفينومينولوجي، ونحن نعلم أن فنك، في مقالة في دراسات كانطية، يعترف في كآبة أننا ما دُمنا في الاتجاه «الطبيعي» فليس ثمة مُبرِّر أو باعث لممارسة هذا الاقتضاب. فالواقع أن هذا الاتجاه الطبيعي مُتَّسق مع ذاته، وقد لا نستطيع أن نجد فيه هذه التناقضات التي تؤدِّي بالفيلسوف، كما يرى أفلاطون، إلى إحداث انقلاب فلسفي، ولهذا يظهر الاقتضاب في الفينومينولوجيا عند هوسرل وكأنه معجزة. ويشير هوسرل نفسه في تأمُّلات ديكارتية إشارةً غامضةً إلى بعض البواعث النفسية التي تؤدِّي إلى ممارسة الاقتضاب، ولكن يبدو أن هذه البواعث غير كافية مطلقًا، خاصةً وأن الاقتضاب لا يمكن ممارستُه إلا بعد دراسة طويلة، ومن ثَم يبدو كعملية تعالم، وهذا ما يجعله شيئًا مجانيًّا. وعلى العكس، إذا بدأ «الاتجاه الطبيعي» كُليَّةً كأنه جهد يقوم به الشعور كي يندَّ عن ذاته بإسقاط ذاته على الذات وبذوبانه فيها، وإذا لم يُعوِّض تمامًا هذا الجهد قط، وإذا كان يكفي بفعل بسيط للتأمل أن تنتزع التلقائية الشعورية ذاتها فجأةً من الأنا وتطرح ذاتها مُستقلة؛ إذا كان ذلك كذلك فلن يصبح الاقتضاب معجزةً أو منهجًا عقليًا أو طريقةً تعاملية، بل قلقًا يفرض ذاته علينا ولا يمكننا تفاديه، ويكون في نفس الوقت حادثًا خالصًا له مَنشأ ترنسندنتالي، ويكون عَرَضًا ممكنًا دائمًا في حياتنا اليومية.
  • (٢)
    يبدو لنا أن هذا التصور للأنا موجود على أنه الرفض الوحيد المُمكن للمذهب الانطوائي،٨ كما يبدو لنا الرفض الذي يُقدِّمه لنا هوسرل في المنطق الصوري والمنطق الترنسندنتالي، وفي تأمُّلات ديكارتية، عاجزًا عن أن ينال من الأنا واحدي المتمتع بنصيب من الحسم والذكاء. فما دام الأنا باقيًا كمُكوِّن للشعور، يصبح من الممكن دائمًا معارضة الشعور والأنا المصاحب له بكل الموجودات الأخرى، وفي نهاية الأمر تكون ذاتي هي التي تصنع العالم، ولا يُهمُّ كثيرًا إذا فرضَت بعضُ مستويات هذا العالم وفقًا لطبيعتها نفسها علاقةً مع أشياء أخرى، فمن المُحتمَل أن تكون هذه العلاقة مجرَّد صفة للعالم الذي أخلقه، ولا يضطرني قطُّ أن أقبل الوجود الواقعي لأنات أخرى.
    ولكن إذا أصبح الأنا مُفارقًا، فإنه يشارك في جميع تقلبات العالم، فهو ليس مطلقًا، وليس خالقًا للعالم على الإطلاق، بل إنه يقع تحت سيطرة اﻟ Epoché (الاقتضاب)، كسائر الموجودات الأخرى، ويصبح الأنا واحدية ليس موضوع تفكير، حيث إن الأنا لم يعد له أيَّة مكانة متميزة، فبديل عن هذه الصياغة: «أنا موجود بمفردي كمطلق»، يجب أن يُقال: «الشعور المطلق موجود بمفرده كمطلق.» ومن البيِّن أن هذا القول ليس فيه من جديد، فليس أناي في الواقع أكثر يقينًا للشعور من أنا الآخرين. إنه ليس إلا قريبًا جدًّا من حياتي الخاصة.
  • (٣)
    وجَّه دُعاة اليسار المُتطرِّف، في بعض الأحيان، نقدًا إلى الفينومينولوجيا على أنها مثالية وعلى أنها تُغرق الواقع في فيضان من الأفكار،٩ ولكن إذا كانت المثالية هي الفلسفة الخالية من العيوب كما يراها برنشفيج، وإذا كانت المثالية فلسفةً يبذل فيها الإنسان جهدًا للتمثُّل الروحي١٠ من غير مواجهة لعقبات خارجية على الإطلاق، وإذا كانت المثالية فلسفةً يذوب فيها الألم والجوع والحرب في عملية بطيئة لتوحيد الأفكار، نقول إذا كان ذلك كذلك فمن الظلم كل الظلم أن نصف الفينومينولوجيين بأنهم مثاليون، بل على الضدِّ من ذلك فإننا لم نشعر في الفلسفة بتيَّار واقعي كهذا منذ عِدَّة قرون؛ إذ قام الفينومينولوجيون بإدماج الإنسان في العالم، ووضعوا كل ثقلهم في بيان مظاهر قلقه وآلامه وثورته أيضًا. ولكن لسوء الحظ طالما سيبقى الأنا مُكوِّنًا للشعور المطلق، فيمكننا أيضًا نقد الفينومينولوجيا على أنها نظرية «يلجأ إليها الإنسان»، نظرية تنتزع جزءًا من الإنسان خارج العالم، وبذلك تُبعد الانتباه عن المشاكل الحقيقية. ويبدو لنا أنه لن يكون لهذا النقد أيُّ مُبرِّر إذا اعتبرنا الذات موجودًا معاصرًا للعالم حتمًا وله نفس الخصائص الجوهرية التي للعالم، وكان يبدو لي دائمًا أن طرح فرض عمل في خصوبة فرض المادية التاريخية، لا يقتضي أبدًا التناقض كأساس له كما تدَّعي ذلك المادية الميتافيزيقية.١١ فليس من الضروري في حقيقة الأمر أن يسبق الموضوع الذات كي تتلاشى القِيَم الروحية الزائفة، ولكي تستعيد الأخلاق أُسُسها في الواقع. يكفي أن تكون الذات مصاحبةً للعالم حتى تتلاشى تمامًا ثنائيةُ الذات والموضوع — وهي ثنائية منطقية صِرفة — من الاهتمامات الفلسفية، فالعالم ليس خالقًا للذات، والذات ليس خالقًا للعالم، ولكنهما موضوعان بالنسبة للشعور المطلق اللاشخصي، وهذا الشعور هو الرابط بينهما، ولا يكون لدى هذا الشعور عندما يُطهَّر من الأنا أيُّ خاصية من خصائص الذات العارفة، ولا يكون أيضًا مجموعة من التمثُّلات. إنه لن يكون إلا شرطًا أوليًّا ومصدرًا مطلقًا للوجود. والعلاقة المُتبادَلة التي يقيمها هذا الشعور بين الذات والعالم، كفيلة بأن تُظهر الذات على أنها في خطر أمام العالم، وكفيلة كذلك بأن تسمح للذات (عن طريق غير مباشر وبواسطة الحالات) بأن تُصفِّي العالم من مُحتواه. ولسنا في حاجة إلى أكثر من هذا التأسيس الفلسفي لأخلاق وسياسة تتصفان بالوضعية على الإطلاق.١٢
١  ليون برنشفيج: «حياة داخلية وحياة روحية»: تقرير إلى المؤتمر الدولي للفلسفة في نابولي (مايو ١٩٢٤م)، أُعيدَ نشرُه في مجلة «الميتافيزيقا والأخلاق»، أبريل، يونيو ١٩٢٦م، ثم جُمع في «كتابات فلسفية»، ج٢، المطابع الجامعية الفرنسية، ١٩٥٤م. (الناشرة)
هذه أول نتيجة لوصف سارتر للأنا موجود؛ القضاء على تصوُّر المثاليين (ديكارت وكانط، بل وهوسرل أيضًا) للأنا الباطنية، وعلى أيِّ ثنائية داخل تكوين الشعور الذي يصبح عند سارتر أنا موجود في العالم ومع الآخرين. (المترجم)
٢  كل «خبرة حية» يمكن للتأمل أن يتناولها، هذا الإثبات يوضح تجديد علم النفس عن طريقة المنهج الوصفي الفينومينولوجي، فهو يؤسِّس حقيقة الدراسات التأمُّلية للامتأمل، وهي الدراسات عن الانفعال، أو موضوع الخيال، أو الدراسات عن «الوجود والعدم»، فليست هذه الدراسات الأخيرة شيئًا آخر إلا تطبيق نتائج «محاولة في تعالي الأنا موجود»، ويمكن أن يُقال نفس الشيء عن الدراسة التي لم تُنشر عن «النفس». (الناشرة)
بما أن الحالات موضوعات، يمكن إذَن الاتصال بين الذوات ومعرفة الحالة كموضوع لمَن لا يعانيها. (المترجم)
٣  يشير سارتر هنا إلى أتباع فرويد. (الناشرة)
٤  يبدو أن سارتر عندما كان يكتب «المحاولة في الأنا موجود»، سنة ١٩٣٢م، لم يكُن قد أعطى بعدُ لمفهوم الحرية مداه الذي سيظهر بعد ذلك في «الوجود والعدم»، وإلا فكيف يمكن فهم عبارة مثل: «يخشى الشعور من تلقائيته الخاصة لأنه يشعر بها فوق الحرية»؟ تُفهم الحرية هنا بالقياس على المسئولية والإرادة المُشار إليهما، أيْ إنها تقتصر على الميدان المُفارق للأخلاق، ونتيجة لهذا يمكن لسارتر أن يراها — كما يقول في هذه «المحاولة» — «حالة خاصة» داخل المجال الترنسندنتالي الذي تُكوِّنه التلقائيات المباشرة. فالحرية بالنسبة للتلقائية كالأنا موجود والعنصر النفسي، بوجه عام، بالنسبة للشعور الترنسندنتالي اللاشخصي.
وفي «الوجود والعدم»، تلحق التلقائية بالحرية، فأصبحَت الحرية مشاركةً في وجودها مع كل شعور، وممَّا لا شكَّ فيه أن الحرية «أيضًا» مفهوم خُلقي — بل إنها «المفهوم المؤسِّس» للأخلاق — من حيث أن إن فعلي هو التعبير عنها، ولكن الفعل الحر قائم على حرية أكثر بدائية، وهي ليست شيئًا آخر إلا تكوين الشعور نفسه في صفائه الخالص، فالحرية أكثر من أن تكون مفهومًا، إذ إنها «نسيج وجودي» وتسري في كل جوانبي.
انظر: «الوجود والعدم» (٤، ١): «الوجود والفعل: الحرية»، ص ٥٠٨–٦٤٢. (الناشرة)
٥  هذا المثل مأخوذ من كتاب جانيه بعنوان «مرضى الأعصاب».
وما يقوله سارتر في هذا الموضوع، وما يقوله بالنسبة للاشعور بوجه عام في «المحاولة في الأنا موجود»، يسمح بقياس المسافة التي تبعد حاليًّا عن مواقفه عام ١٩٣٤م، فيما يتعلق بعلم التحليل النفسي، فيجب التركيز على أهمية هذا التغيير، ويتضح هذا التطور تمامًا بنشر دراسته عن «بودلير» (١٩٤٧م)، وقد أعاد سارتر الآن النظر تمامًا في المشاكل التي تضعها الأمراض النفسية والعصبية، فممَّا لا شكَّ فيه أنه لا يُفسِّرها بطريقة مُبسَّطة كما كان يفعل عام ١٩٣٤م، بل يرى أن تفسيره القديم للاتجاه العصابي (للشابة المتزوجة التي عالجها جانيه) طفولي بوجه خاص، فلم يعد يقول: «لا يوجَد شيء في تربيتها ولا في ماضيها ولا في شخصيتها يمكن أن يُفسِّر ذلك»؛ لأنه يترك فكرة التفسير إلى فكرة «الفهم الجدلي» الذي يجب أن يحدث ابتداءً من هذا الماضي وهذه التربية وهذه الشخصية.
تعطي سيمون دي بوفوار في «قوة العمر» الأسباب التي جعلَت سارتر، فيما سبق، يرفض علم التحليل النفسي، راجع ٢٥، ٢٦، ص۱۳۳. (الناشرة)
٦  ومن هنا تأتي الإمكانيات الوجودية لسلوك سوء النية. (الناشرة)
٧  انظر: «الوجود والعدم» (٤، ١، ٣): «حرية ومسئولية» (ص٦٣٣، وما بعدها). «بما أن الإنسان محكوم عليه بالحرية، فإنه يحمل ثقل العالم على كتفيه، فهو مسئول عن العالم وعن نفسه بوصفه طريقةً للوجود.» (الناشرة)
٨  انظر: «الوجود والعدم» (٣، ١): «عثرة المذهب الانطوائي» (ص۲۷۷)، خاصةً الفصل ٣: «هوسرل، هيجل، هيدجر» (ص۲۸۸)، حيث يقوم سارتر بشرح ونقد محاولات تفنيد المذهب الانطوائي الذي عرضه هوسرل في «المنطق الصوري والمنطق الترنسندنتالي»، وفي تأمُّلات ديكارتية، ويعترف سارتر أن الحلَّ المُقترَح في «محاولة الأنا موجود» غير كافٍ: وكنت أعتقد سالفًا أنه بإمكاني التخلُّص من المذهب الانطوائي عندما أرفض لهوسرل وجود «أناه» الترنسندنتالية، وكان يبدو لي آنذاك أنه لم يعد هناك شيءٌ باقٍ في شعوري يمكن أن يكون مميزًا بالنسبة للآخر، لأني أفرغه من موضوعه، ولكن في الحقيقة بالرغم من أنني ما زلت مُقتنعًا بأن افتراض ذات Sujet ترنسندنتالية لا فائدة فيه وله عواقب وخيمة، فإن ترْكه لا يُقدِّم خطوةً واحدةً مسألة وجود الآخر، حتى إنه إذا لم يكُن هناك «شيء آخر» — فيما عدا الأنا التجريبي — إلا الشعور بهذا الأنا، أيْ مجالًا ترنسندنتاليًّا دون ذات، فليس أقلَّ حقيقةً أن إثباتي للآخر يعلن الوجود كمُصادرة دون أدنى نظر لمجال ترنسندنتالي لهذا، وتكون الطريقة الوحيدة بعد هذا، لتجنُّب المذهب الانطوائي، هي أن نبرهن هنا أيضًا على أن شعوري الترنسندنتالي قد تأثر في وجوده نفسه بوجود خارج عن العالم لمجموعات أخرى من الشعور من نفس النوع، وعلى هذا، نظرًا لأن هوسرل أرجع الوجود إلى سلسلة من المعاني، فإن الرابطة الوحيدة التي استطاع أن يقيمها بين وجودي ووجود الآخر هي «رابطة المعرفة»، فقد لا يستطيع — حتى ولا كانط — أن يتجنَّب المذهب الانطوائي (ص۲۹۰).
إذا أردنا استبعاد المذهب الانطوائي نهائيًّا، يجب الالتجاء إلى حَدْس هيجل الذي «يجعلني متوقفًا في وجودي على الآخر»، ثم جَعْله حَدْسًا أساسيًّا، ويعطي سارتر نتائجه، ص۳۰۷، وما بعدها. (الناشرة)
٩  انظر: Jean T. Desanti: phénoménologie et Praxis، وكذلك Tran-Duc Thao: Phénomènologie & materialisme dialectique. (المترجم)
١٠  هي «الفلسفة الغذائية Alimentaire» التي رفضها في مقاله عن القصدية في «المواقف»، ج١. (الناشرة)
هذا يُبيِّن لنا مصادر فلسفة سارتر كردِّ فعل على مثالية برنشفيج، سواء نظريته في المعرفة أو في الأخلاق، قبل أن تكون تطبيقًا لمنهج هوسرل. (المترجم)
١١  يقوم سارتر بنقد هذه المادية المتناقضة في «مادية وثورة»، «المواقف»، ج٣ (ص١٣٥–٢٢٨). (الناشرة)
١٢  تشهد مقالات كثيرة في «المواقف»، ج١ إلى ج٤، وفي «لقاءات في السياسة» وخاصةً في «نقد العقل الجدلي»؛ استمرار الاهتمامات الخلقية والسياسية عند سارتر والتي يقيمها هنا على أساس فينومينولوجي. (الناشرة)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤