(أ) نظرية الحضور الصوري للأنا
من اللازم إقرار رأي كانط القائل بأن «الأنا أفكر ينبغي أن يكون
في مقدوره ملازمة جميع تصوراتنا»،
١ ولكن هل يلزم من هذا الرأي أن الأنا، في واقع الأمر،
قارٌّ في جميع حالاتنا الشعورية، وأنه المُوحِّد الأعظم لتجاربنا
المتنوعة؟ يبدو أن هذه النتيجة مجاوزة للفكر الكانطي؛ ذلك أن
المسألة النقدية عند كانط مسألة نظرية، ومن ثَم فهو لم يتعرَّض
للوجود الواقعي ﻟ «الأنا أفكر»، بل على الضدِّ من ذلك يبدو أنه كان
على يقين من أن ثمة لحظات من الشعور تخلو من «الأنا»، بدليل قوله
«ينبغي أن يكون في مقدوره ملازمة»،
٢ المسألة كلها في رأيه تتعلق بتحديد الشروط اللازمة
لإمكانية التجربة، وأحد هذه الشروط أن يكون في مقدوري دائمًا
اعتبار إدراكي أو فكري على أنه من عندي، هذه هي المشكلة.
بيْدَ أن ثمة اتجاهًا خطيرًا في الفلسفة المعاصرة تلمس آثاره في
الفلسفة الكانطية الجديدة، وفي المذهب النقدي التجريبي، وفي المذهب
العقلي على نحو ما نجده عند بروشار، هذا الاتجاه يدور على تحقيق
شروط إمكانية التجربة التي يُحدِّدها النقد.
٣ وكان من شأن هذا الاتجاه أن اندفع نفرٌ من أهل الفكر
إلى التساؤل عن طبيعة «الشعور الترنسندنتالي». وطَرْح السؤال على
هذا النحو من شأنه أن يُلزمنا بتصوُّر هذا الشعور من حيث هو
مُكوِّن لشعورنا التجريبي على أنه هو اللاشعور. وقد أكَّد بوترو في
محاضراته، عن فلسفة كانط،
٤ صِدق هذه التأويلات، وذلك أن كانط لم يهتم إطلاقًا
بمسألة كيفية التركيب الواقعي للشعور التجريبي، ولم يستنبطه على
طريقة الأفلاطونية المُحدِثة من شعورٍ أعلى أو من شعورٍ فوقي.
٥ إن الشعور الترنسندنتالي في رأيه ليس إلا جملة الشروط
اللازمة لوجود شعور تجريبي، ومن ثَم فإن أيَّة محاولة لإحالة الأنا
الترنسندنتالي إلى أنا واقعي، وتصويره على أنه مُلازم ﻟ «شعور»
كلٍّ منا،
٦ إنما تعني حُكمًا على الواقع وليس حُكمًا على الصورة،
وهذه نظرة مخالفة تمامًا لما يقصد إليه كانط. وقد يُقال إن هذه
النظرة مُدعَّمة بنصوص كانطية تُدلِّل على ضرورة الوحدة الكانطية
للتجربة. غير أن هذا القول ينطوي على نفس الخطأ الذي ينطوي عليه
الرأي القائل بأن الشعور الصوري هو لا شعور سابق على التجربة.
٧
ومع ذلك فإن التسليم مع كانط بطرح المسألة النظرية لا يحلُّ
المشكلة الواقعية، بل ينبغي طرحُها بصراحة في هذا البحث. من
المُسَلَّم به أن الأنا أفكر ينبغي أن يكون في مقدوره مصاحبة جميع
تصوراتنا، ولكن هل من المُسلَّم به أن هذه المصاحبة تتحقَّق
تحقُّقًا واقعيًّا؟ مثلًا، إن تصوُّرًا ما، وليكُن «أ» ينتقل من
حالة لا يصاحبه فيها الأنا أفكر إلى حالة أخرى يصاحبه فيها هذا
الأنا، فما الذي يحدث لهذا التصور؟ هل يتغير تركيبه أم يظلُّ في
جوهره دون أدنى تغيير؟ وهذا السؤال الثاني يفضي بنا إلى سؤال ثالث:
من المُسَلَّم به أن الأنا أفكر ينبغي أن يكون في مقدوره مصاحبة كل
تصوراتنا، ولكن هل يُفهم من ذلك أن الأنا أفكر هو الذي يُحقِّق
وحدة هذه التصورات بطريق مباشر أو بطريق غير مباشر؟ أم يُفهم منه
أن تصوُّرات شعورٍ ما ينبغي أن تتَّحد وتتعيَّن بحيث يمكن دائمًا
العثورُ على «أنا أفكر»؟ يبدو أن هذا السؤال مطروح على المستوى
النظري، ومن هنا فإنه يتجاوز الكانطية التقليدية، غير أن هذا
الظنَّ ليس بصحيح، وإنما الصحيح أن هذا السؤال مطروح على المستوى
الواقعي، وهو يُصاغ على الوجه الآتي: هل الأنا الذي نقابله في
شعورنا ممكن الوجود بفضل الوحدة المُؤلِّفة لتصوراتنا، أم إنه هو
الذي يُوحِّد في الواقع بين التصورات؟
٨
إذا طرحنا جانبًا تأويلات اتِّباع كانط للأنا أفكر باعتبار أن
هذه التأويلات تعسُّفية في جملتها، وعوَّلنا على حلِّ المشكلة
الخاصة بالوجود الواقعي للأنا في الشعور، فإننا نجد أنفسنا في
مواجهة فينومينولوجيا هوسرل،
٩ والفينومينولوجيا تقوم على دراسة علمية وليست نقديةً للشعور،
١٠ وإن هذه الدراسة تستند على الحَدْس كعملية أساسية،
فالحَدْس، كما يرى هوسرل، يضعنا وجهًا لوجهٍ أمام الشيء.
١١ إذَن ينبغي أن يكون مفهومًا أن الفينومينولوجيا علم
واقعي، وأن المشكلات التي تتناولها مشكلات واقعية خاصة،
١٢ إذا أخذنا في اعتبارنا أن هوسرل يُسميها علمًا وصفيًّا،
١٣ ومن ثَم فإن مشكلات العلاقة بين الأنا والشعور هي
مشكلات وجودية. إن الشعور الترنسندنتالي عند كانط مدرك عند هوسرل
بفضل اﻟ
Epoché١٤ «الاقتضاب»، غير أن الشعور عند هوسرل ليس جملة شروط
منطقية، بل واقعة مطلقة، ثم هو ليس قائمًا بذاته أو لا شعورًا
يتأرجح بين الواقع والمثال، إنه شعور حقيقي ميسور الإدراك في
اللحظة التي تُمارَس فيها عملية «الاقتضاب»، بل إنه هو الذي
يُكوِّن شعورنا التجريبي؛ هذا الشعور القارَّ «في العالم»، والذي
تصاحبه «ذات» نفسية ونفسية جسمية. أمَّا أنا فإني أعتقد في وجود
شعور مكوِّن، كما أني أتفق مع هوسرل في تحليلاته الرائعة،
١٥ حين يكشف لنا عن الشعور الترنسندنتالي وهو يخلق العالم
في اللحظة التي يكون فيها حبيس الشعور التجريبي. وأنا مقتنع، مع
هوسرل، في أن الأنا النفسي والنفسي الجسمي هو موضوع مُفارق ينبغي
أن يكون خاضعًا لعملية اﻟ
Epoché (الاقتضاب).
١٦
ولكننا نتساءل: هل نقتصر على الأنا النفسي والنفسي الجسمي، أم هل
من الأفضل أن نضيف إليه الأنا الترنسندنتالي من حيث هو مُكوِّن
للشعور المطلق؟
١٧ إذا كان الجواب بالسلب فالنتائج المترتبة عليه هي على
الوجه الآتي:
-
(١)
يصبح المجال الترنسندنتالي لا شخصيًّا، أو إن شئتَ
فقُل «سابقًا على الشخص»، أيْ من غير أنا.
-
(٢)
لا يظهر الأنا إلا على مستوى الإنسانية، ثم هو لن
يكون إلا وجهًا للذات، بل ووجهها الفعَّال.
١٨
-
(٣)
في إمكان الأنا أفكر مصاحبة تصوراتنا، لأنه يظهر
وراءه وحدة لم يسهم في خلقها، بل إن هذه الوحدة
السابقة عليه هي التي تجعله مُمكِنًا.
-
(٤)
ومن الطبيعي عندئذٍ أن نتساءل بصدد الإنسان عمَّا
إذا كانت الشخصية (حتى ولو كانت الشخصية المجرَّدة
لأنا) مصاحبةً للشعور بالضرورة، وعمَّا إذا لم يكُن في
الإمكان تصوُّر شعور لا شخصي على الإطلاق؟
١٩
وقد أجاب هوسرل على هذا السؤال، في كتابه «بحوث منطقية»،
٢٠ حيث يتصور هوسرل الذات على أنها من نتاج مُركَّب
ومُفارق للشعور، غير أنه في كتابه «الأفكار»
٢١ يرتدُّ إلى النظرية التقليدية للأنا الترنسندنتالي
باعتباره الخلفية لكل شعور، ومُكوِّنًا ضروريًّا لكل شعور يرسل
أشعَّته (
Lichstrahl) على كل ظاهرة
تقع في مجال الانتباه. وهكذا يتحول الشعور الترنسندنتالي بالضرورة
إلى شعور شخصي. ومع ذلك فثمة سؤال: هل من الضروري افتراض هذا
التصور؟ وهل يتفق مع تعريف هوسرل للشعور؟
من الشائع والمألوف أن حاجة الشعور إلى الوحدة والفردية من شأنها
أن تُبرِّر وجود أنا ترنسندنتالي، فشعوري مُوحِّد، لأن جميع
إدراكاتي وأفكاري مرتبطة به من حيث هو ملجؤها الدائم، وكل شعور
متمايز من الآخر، لأنه في إمكاني التحدث عن شعوري، وفي إمكان كلٍّ
من زيد وعمرو أن يتحدث عن شعوره، إن الأنا مولِّد للجوانية، ولهذا
فإنه من المؤكَّد أن الفينومينولوجيا ليست في حاجة إلى الإهابة
بهذا الأنا الموحِّد والمفرد، إنها تُعرِّف الشعور بأنه قصدي،
٢٢ وبفضل القصدية يتجاوز الشعورُ ذاتَه، إنه يتوحَّد وهو
يندُّ عن ذاته،
٢٣ إن وحدة آلاف من مجموعات الشعور الفعالة التي تتحقق
على النمط الذي يتحقق به العدد أربعة من جرَّاء إضافة اثنين إلى
اثنين، نقول عن هذه الوحدة إنها الموضوع المُفارق «اثنان واثنان
تساوي أربعة». ومن غير ثبات هذه الحقيقة الخالدة فإنه يكون من
المُحال تصوُّر وحدة واقعية، ومن ثَم يكون لدينا كثرة من العمليات
التي لا يمكن ردُّها إلى ما هو أقلُّ منها بمقدار ما يكون لدينا من
مجموعات للشعور تقوم بهذه العمليات. وقد يضطرُّ هؤلاء الذين
يعتقدون أن «٢ + ٢ = ٤»
٢٤ مضمون لتصوراتي إلى الاهابة بمبدأ ترنسندنتالي وذاتي
للتوحيد يكون عندئذٍ هو الأنا، إلا أنه من المقطوع به أن هوسرل ليس
في حاجة إلى هذا المبدأ، فالموضوع مُفارق للشعور الذي يدركه،
والشعور يعثر على وحدته في هذا الموضوع، ومع ذلك قد يُقال إن
الديمومة في حاجة إلى مبدأ موحِّد حتى يتسنَّى للتيار المستمر
للشعور أن يضع الموضوعات المفارقة خارجه، وأن الشعور ينبغي أن يكون
تأليفًا متواصلًا لشعور مضى، وشعور حاضر، وهذا قول صائب، بَيْدَ
أنه من المأثور عن هوسرل، وهو الذي درس هذا التوحيد الذاتي للشعور
في كتابه «الشعور الداخلي للزمان»،
٢٥ أنه لم يلجأ على الإطلاق إلى افتراض أنا له قدرة على
التركيب. فالشعور هو الذي يُوحِّد نفسه، وبطريقة عينية، مستندًا
على مجموعة من المقاصد «المتقاطعة»، ليست إلا استرجاعًا عينيًّا
وواقعيًّا لشعور مضى، وهكذا ينعكس الشعور على ذاته من غير انقطاع،
بحيث أن مَن يقول «شعورًا» يعني الشعور كله، وهذه ميزة تخصُّ
الشعور ذاته مهما تكُن علاقته بالأنا
٢٦ على أيِّ نحو من الأنحاء. ويبدو أن هوسرل في مؤلَّفه
«تأملات ديكارتية»، وقد ظلَّ متمسكًا تمامًا بهذا التصوير لشعور
يتوحَّد في الزمان،
٢٧ أمَّا عن فردية الشعور فمن الواضح أنها مردودة إلى
طبيعة الشعور؛ ذلك أن الشعور لا يتحدَّد إلا من ذاته (ومثله في ذلك
مثل الجوهر عند سبينوزا).
٢٨ ومن هذه الوجهة ينطوي الشعور على كليَّة مؤلَّفة، ذات
طابع فريد، تعزله عن كليَّات أخرى من نفس النوع. وفي هذه الحالة لن
يكون الأنا إلا مجرَّد تعبير (وليس شرطًا) عن استحالة الاتصال بين
شعور وآخر، أو بين جوانية شعور وجوانية شعور آخر. والآن نجيب في
غير ما تردد: إن التصور الفينومينولوجي للشعور يُقرِّر أن الدَّور
الذي يمكن أن يؤدِّيَه الأنا في عملية التوحيد والتفرد ليس له من
مُبرِّر. بل على الضدِّ من ذلك فإن وحدتي أنا وشخصيتي ليست
مُمكِنةً إلا بفضل الشعور، ومن ثَم فإن وجود الأنا الترنسندنتالي
ليس له ما يُبرِّره.
٢٩
فضلًا عن ذلك فإن افتراض وجود هذا الأنا الطفيلي له أثر سيء. إن
مجرَّد وجوده يفصل الشعور عن ذاته ويُجزِّئه، بل إنه يخترق الشعور
كأنه نصل كثيف. إن الأنا الترنسندنتالي هو موت للشعور؛ ذلك أن وجود
الشعور، في حقيقة أمره، هو وجود مطلق بسبب أن الشعور شاعر بذاته.
معنى ذلك أن نمط وجود الشعور هو وعي بالذات،
٣٠ وهو يعي ذاته، من حيث هو وعي بموضوع مُفارق.
٣١ كل شيء إذَن واضح وجلي في الشعور؛ الموضوع بما يتميز
به من كثافة وصلابة هو في مواجهة الوعي، أمَّا الوعي فهو ليس إلا
وعيًّا يعي هذا الموضوع، وهذا هو قانون وجوده، غير أن ثمة إضافة
لازمة: إن وعي الشعور لذاته ليس من سماته الوضع، بمعنى أنه ليس
موضوعًا لذاته.
٣٢ بَيْدَ أن هذه القضية لا تنطبق على الشعور المتأمل
الذي سنعرض له فيما بعد.
٣٣ موضوع الوعي خارج عن الوعي بالطبيعة، ولهذا السبب فإن
الفعل الذي يقوم به الوعي الموضوع هو نفس الفعل الذي يمارسه لإدراك
هذا الموضوع. أمَّا الوعي ذاته فإنه لا يعرف ذاته إلا من حيث إنها
جوانية مطلقة. ولنصطلح على تسمية هذا النوع من الشعور بأنه شعور من
الدرجة الأولى أو شعور غير متأمل. ونسأل بعد ذلك: هل ثمة مكان لأنا
في شعور كهذا؟ جوابنا واضح؛ بالسلب طبعًا. ذلك أن الأنا ليس
موضوعًا (من حيث هو باطن فرضًا)، ثم إنه ليس صادرًا عن الوعي من
حيث هو موجود لأجل الوعي، كما أنه ليس كيفيةً شفافةً للوعي، إنما
هو، على نحوٍ ما، مُقيم في الوعي. والواقع أن الأنا وما ينطوي عليه
من شخصية، مهما يبلغ من الصورية والتجريد، هو مصدر للكثافة
والصلابة، إن نسبته إلى الأنا العيني والنفسي كنسبة النقطة إلى
الأبعاد الثلاثة. إنه إذَن ذات مُتقلِّصة الغاية. ولهذا فإن مجرَّد
إقحام هذه الكثافة على الشعور من شأنه أن يقضيَ على تعريفنا الخصب
له والمُشار إليه آنفًا. بل إننا نجحده ونجعله غامضًا، ومن ثَم
يتوقف عن التلقائية، إذ إنه عندئذٍ ينطوي على جرثومة الكثافة
والصلابة. ومع ذلك نحن مضطرون أيضًا إلى استبعاد الرأي القائل بأن
الوعي مطلق بلا جوهر، على الرغم من أصالة هذا الرأي وعُمقه. إن
الوعي الخالص مطلق ليس إلا، لأنه يعي ذاته، ومن ثَم فهو «ظاهرة»،
ولكن بالمعنى الذي يفيد الهويَّة بين «الوجود» و«الظهور»،
٣٤ إنه خفيف وشفَّاف للغاية. ومن هذه الوجهة يتمايز
الكوجيتو عند هوسرل عن الكوجيتو الديكارتي. وإذا افترضنا أن الأنا
ضروري في تكوين الوعي، فمن اللازم عندئذٍ أن يرقى هذا الأنا الكثيف
إلى مستوى المطلق. وفي التوِّ نجد أنفسنا في مواجهة موناد، وهذا
اتجاه جديد لفكر هوسرل، وهو اتجاه مؤسف (انظر: تأملات ديكارتية)،
٣٥ يُثقل الوعي، ويفقد هذه الميزة التي تجعله الموجود
المطلق من كثرة ما ضاع وجوده، ويصبح الوعي ثقيلًا وله وزن،
وبالتالي فإن نتائج الفينومينولوجيا مُهدَّدة بالضياع إنْ لم يكُن
الأنا في مستوى العالم موجودًا نسبيًّا، أيْ موضوعًا لأجل الشعور.
٣٦
(ب) الكوجيتو بوصفه شعورًا متأملًا
«الأنا أفكر» عند كانط شرط إمكانية، والكوجيتو عند كلٍّ من
ديكارت وهوسرل واقعة. وقد تحدَّث البعض عن «ضرورة واقعة» الكوجيتو،
ويبدو لي هذا التعبير سليمًا للغاية. ومن المؤكَّد أن الكوجيتو
شخصي، ففي «الأنا أفكر» يوجَد أنا يفكر، وعندئذٍ نحصل على الأنا في
نقائه، ومن الكوجيتو ينبغي تأسيس «علم الأنا موجود». والواقعة التي
يمكن استخدامها نقطةً للبداية هي هذه؛ في اللحظة التي ندرك فيها
فِكرنا سواء بحَدْس مباشر أو بحَدْس يستند على الذاكرة، فإننا ندرك
أنا هو أنا الفكر المدرك الذي ينكشف باعتباره مُفارقًا لهذا الفكر
ولأيِّ فكر آخر مُمكِن. فمثلًا إذا أردتُ تذكُّر منظرٍ كنتُ قد
أدركتُه بالأمس وأنا في القطار، ففي إمكاني استعادة ذكرى هذا
المنظر كما هو. ولكن في إمكاني كذلك أن أتذكر أنني قد رأيتُ ذلك
المنظر، وهذا ما يُسميه هوسرل في كتابه، الشعور الداخلي بالزمان،
إمكانية التأمل في الذكرى.
٣٧ وفي عبارة أخرى نقول إنه في إمكاني باستمرارٍ استدعاء
أيَّة ذكرى بصورة شخصية، وعندئذٍ يظهر الأنا. وهذا ضمان واقعي
لإقرار مبدأ كانط، ولهذا يبدو أنه ليس في إمكاني إدراك أيِّ حالة
من حالات شعوري من غير أنا.
ولكن يجب أن نتذكر أن الفلاسفة الذين وصفوا الكوجيتو اعتبروه
عمليةً تأمُّليةً، أيْ عملية من الدرجة الثانية. وهكذا يكون
الكوجيتو عمليةً لوعي مُتَّجه نحو وعي يتخذ من الوعي موضوعًا له.
وليكُن معلومًا أننا على يقين مطلق من الكوجيتو، لأن ثمة وحدة لا
انفصام فيها بين الوعي المتأمِّل والوعي المتأمَّل على حدِّ تعبير هوسرل
٣٨ (إلى حدِّ عدم وجود الوعي المتأمِّل من غير الوعي
المتأمَّل)، ولسنا على خطأ عندما نُقرِّر أننا في مواجهة تركيبة
تنطوي على وعيَين أحدُهما وعي للآخر. ومن هذه الوجهة، نضمن بقاء
المبدأ الجوهري للفينومينولوجيا: «إن كل وعيٍ هو وعيٌ بشيءٍ ما.»
إذَن وعي المتأمل لا يتخذ من ذاته موضوعًا له عندما أُحقِّق
الكوجيتو. إن ما يُثبته يخصُّ الوعي المتأمل، ومن حيث إن شعور
المتأمِّل هو وعي بذاته، فإنه يكون وعيًا غير واضع، ولن يصبح
واضعًا إلا إذا اتجه نحو الوعي المتأمِّل، وهذا الوعي لم يكُن
واضعًا لذاته قبل أن يكون موضوع تأمُّل، ولهذا فإن الوعي يقول «أنا
أفكر»، ليس هو بالدقة الوعي الذي يفكر، أو بالأحرى لا يطرح تفكيره
من خلال فعل التفكير ذاته.
٣٩ ويحقُّ لنا إذَن أن نتساءل عمَّا إذا كان الأنا الذي
يفكر هو خاصية مشتركة بين وعيَين متراصَّين أحدُهما فوق الآخر، أو
بالأحرى عمَّا إذا لم يكُن هذا الأنا يخصُّ الوعي المتأمَّل. إن كل
وعي متأمَّل ليس في حقيقة أمره موضوع تأمُّل، ومن ثَم فهو في حاجة
إلى فعل جديد من الدرجة الثالثة لكي يكون موضوعًا، وليس معنى ذلك
التسلسل في هذه العملية إلى ما لا نهاية؛ ذلك أن الوعي ليس في حاجة
مطلقًا إلى وعي متأمل لكي يعي ذاته. نوجز فنقول إن الوعي لا يتخذ
من ذاته موضوعًا له.
٤٠
أليس هو بشكل محدَّد الفعل التأمُّلي الذي يُولِّد الأنا في
الوعي المتأمل؟ لذلك يُبيِّن البعض أن ثمة أنا لكل فكر مُدرَك
بالحَدْس، دون أن يُسبِّب هذا البيان أيَّة صعوبة من الصعوبات التي
أشرنا إليها في الفصل السابق. وهوسرل
٤١ أول مُفكر يُقرِّر أن الفكر اللامتأمل فيه يعاني
تغييرًا جذريًّا لكي يكون موضوع تأمُّل. ولكنْ هل يُشترط انتفاء
«السذاجة» من أجل إجراء هذا التعديل؟ أليس ظهور الأنا مسألةً
أساسيةً في هذا التعديل؟ من الواضح أنه ينبغي الإهابة بالخبرة
العينية، ومع ذلك يبدو أن هذه الإهابة مستحيلة بحُكم أن هذا النوع
من الخبرات هو تأمُّلي، أيْ إنه ينطوي على أنا، بَيْدَ أن أيَّ وعي
لا متأمل هو غير حاصل على فكرة عن ذاته، وبالتالي فإنه يُخلِّف لنا
ذكرى، لا علاقة لها بفعل الفكر، يستطيع الإنسان أن يرجع إليها.
٤٢ ويكفي لهذا البحث عن إعادة تكوين اللحظة بأكملها، التي
يظهر فيها هذا الوعي اللامتأمل فيه (وهذا مُمكِن على الدوام بحُكم
تعريفنا لهذا الوعي). مثال ذلك:
٤٣ لقد كنتُ مستغرقًا، منذ لحظة في القراءة، والآن أنا
بسبيل تذكُّر ملابسات هذه القراءة، واتجاهاتي، والسطور التي كنتُ
أقرأها. ولن أكتفي بإثارة جميع هذه الملابسات البرانية، بل إني
أضيف إليها جزءًا من الوعي اللامتأمَّل، باعتبار أن هذه الموضوعات
ليس في الإمكان إدراكُها إلا بفضل هذا النوع من الوعي، بل إنها
مشدودة إليه. غير أن هذا الوعي اللامتأمَّل لا ينبغي أن يكون
موضوعًا لتفكيري، بل على الضدِّ من ذلك ينبغي توجيه انتباهي نحو
الموضوعات المُثارة، والاحتفاظ معه بنوع من التواطؤ، من غير أن
أتخذ منه موضوعًا لتفكيري، على أن يتمَّ كل ذلك من غير تغافُل عن
هذا الانتباه، والنتيجة ليست موضع شك؛ فالمطالعة يلازمها بالكتاب
وبأبطال الرواية، ولكن الأنا ليس قارًّا في الوعي، فالوعي ليس إلا
وعيًا بالموضوع، وهو لا يتخذ من ذاته موضوعًا له. والآن بعد أن
انتهيتُ إلى هذه النتائج من غير تدخُّل من الفكر، أستطيع أن أتخذ
منها موضوعًا لدعوى وأعلنها على الوجه الآتي: إن الأنا ليس في
الوعي اللامتأمل، علمًا أنه ينبغي عدم اعتبار هذه العملية على أنها
مصطنعة، وعلى أنها من مستلزمات القضية، فبفضلها استطاع تيتشنر
٤٤ أن يُقرِّر في مؤلَّفه «مرجع في علم النفس» أن الذات
غالبًا ما تكون غائبةً عن وعيها، غير أنه لم يذهب إلى أبعد من ذلك
ولم يحاول تصنيف حالات الوعي بدون ذات.
ومما لا شكَّ فيه أن ثمة اعتراضًا قد يُثار على أساس أن هذه
العملية، أيْ هذا الإدراك اللاتأمُّلي لوعي بواسطة وعي آخر، ليس في
الإمكان ممارستها من غير التذكر، ولهذا فإنها لن يكون من حقِّها أن
تتصف باليقين المطلق الكامن في فعل التفكير، ومن ثَم نجد أنفسنا من
جهة أمام فعل يقيني يسمح لي بإثبات حضور الأنا في الوعي المتأمَّل،
ومن جهة أخرى أمام تذكُّر مشكوك فيه يوحي بأن الأنا غائب عن الوعي
اللامتأمِّل، ويبدو أن ليس من حقِّنا أن نقابل بين الوجهتَين.
ولكني أودُّ أن ألفت النظر إلى أن تذكُّر الوعي اللامتأمِّل ليس
مناقضًا لمُعطَيات الوعي المتأمِّل، فلا يخطر على بال أحد أن ينكر
ظهور الأنا في وعي متأمِّل، فالمسألة لا تعدو مجرَّد المقابلة بين
تذكُّر تأمُّلي لمُطالعتي (كنتُ أقرأ) — وهو أيضًا أمر مشكوك فيه —
وبين تذكُّر غير تأمُّلي. وليس من حقِّ التفكير الراهن في حقيقة
الأمر أن يتجاوز حدود الوعي المدرك في اللحظة الحاضرة، ويظلُّ
التذكر التأمُّلي الذي نجد أنفسنا مُضطرين للجوء إليه من أجل إعادة
ما مضى من شعور؛ يظلُّ موضع شك، أولًا بسبب خاصية الشكِّ المرتبطة
بطبيعته كتذكُّر، وثانيًا بسبب أن التفكير يُغيِّر من الوعي
التلقائي على حدِّ قول هوسرل نفسه. وحيث إن الذكريات غير
التأمُّلية للوعي اللامتأمل تكشف عن وعي بلا ذات، وحيث إن ثمة
اعتباراتٍ نظريةً ترتكز على حَدْس الوعي للماهية، من شأنها أن
تدفعنا إلى الإقرار بأن الأنا ليس في إمكانه أن يكون جزءًا من
التركيب الجواني ﻟﻠ Erlebnisse
(للخبرات الحية)، فالنتيجة المحتومة من كل هذا هي على الوجه
التالي: ليس ثمة أنا على المستوى اللاتأمُّلي. عندما أعدو وراء
الترام أو عندما أنظر إلى الساعة، أو أكون مستغرقًا في تأمُّل لوحة
فنية ليس ثمة أنا. ليس لدينا إلا وعي بترام نريد اللحاق به. وهكذا
فيما يختصُّ بالأمثلة الأخرى، فليس لدينا إلا وعي لا يتخذ من ذاته
موضوعًا له. إني، في الواقع، منغمس في عالم الأشياء، والأشياء هي
التي تُحدِث وحدةً بين مجموعات الوعي التي تنكشف في مصاحبة لقِيَم
وكيفيات جذابة ومُنفرة، أمَّا أنا فأختفي وأتلاشى. ليس ثمة مكان
للأنا في هذا المستوى. وحدوث هذا الأمر ليس من قبيل المصادفة، ثم
هو ليس من قبيل نقص مؤقَّت في الانتباه، وإنما هو من قبيل تركيب
الوعي ذاته.
إن وصف الكوجيتو يزيد الأمر وضوحًا. هل يمكن القول بأن فعل
التأمل يدرك الأنا والوعي المُفكر بدرجة واحدة وبطريقة واحدة؟
يُصرُّ هوسرل على ترديد هذه الحقيقة، وهي أن اليقين المُلازم لفعل
التأمل إنما هو مردود إلى إدراك الوعي إدراكًا كليًّا، أيْ إدراكه
من غير زواياه، من غير
Abschattungen (ظلاله)،
٤٥ وهذه حقيقة واضحة. وعلى الضدِّ من ذلك الشيء المحدَّد
بالزمان والمكان، فإنه ينكشف دائمًا من خلال عدد لا متناهٍ من
الزوايا، ومن ثَم يكون هو مجرَّد وحدة مثالية لهذا اللامتناهي.
أمَّا فيما يتعلق بالدلالات وبالحقائق الأبدية فإنها تُدلِّل على
مفارقتها في حالة ظهور باعتبار أنها مستقلة عن الزمان، في حين أن
الوعي الذي يدركها يتميز، وهو في الديمومة، بأنه مُتفرِّد تمامًا.
ولنا أن نتساءل: عندما يدرك وعي تأمُّلي الأنا أفكر، هل يَهَب نفسه
كي يدرك وعيًا ممتلئًا ومتجمعًا في لحظة واقعة من الديمومة
العينية؟ الجواب واضح: إن الأنا لا ينكشف كلحظةٍ عينية،
٤٦ وكتكوين لوعي الراهن قابل للضياع، بل على الضدِّ من
ذلك إنه يؤكد دوامه بصرف النظر عن هذا الوعي أو عن مجموعات الوعي
كلها، ومع أنه لا يماثل أيَّة حقيقة رياضية على الإطلاق، إلا أن
نمط وجوده أقرب إلى الحقائق الأبدية منه إلى الوعي، بل من الواضح
أن ديكارت قد انتقل من الكوجيتو إلى فكرة الجوهر المُفكر، لأنه
اعتقد أن أنا وأفكر هما على نفس المستوى. وقد لاحظنا فيما سبق أنه
يمكن في الحقيقة توجيه نفس النقد إلى هوسرل، بالرغم من أنه أكثر
حَيطة، فإني أعلم جيدًا أنه يُقرُّ للأنا بمُفارقة خاصة متمايزة عن
مُفارقة الموضوع، وأنه يمكن وصف هذه المفارقة بأنها «من فوق». ولكن
ما المُبرِّر؟ كيف يمكن تفسير هذه الطريقة المميزة في تناول الأنا
من غير الإهابة باهتمامات ميتافيزيقية أو نقدية لا تمُتُّ إلى
الفينومينولوجيا بصِلة؟ فليكُن موقفنا أكثر حِسًّا ولنؤكد دون
تخوُّف أن أيَّ مفارقة يجب أن تقع تحت فعل اﻟ
Epoché (الاقتضاب).
٤٧ ولعلَّ هذا يعفينا من كتابة فصول مُحيِّرة مثل الفقرة
٦١ من كتاب الأفكار (ج١)؛ إذ إن الأنا يؤكد ذاته باعتباره مُفارقًا
في «الأنا أفكر»، وذلك لأنه ليس من طبيعة الوعي
الترنسندنتالي.
ولنلاحظ فضلًا عن هذا أن الأنا لا يظهر للتفكير كما يظهر الوعي
المتأمل، بل إنه ينكشف من خلال هذا الوعي، وهو بكل تأكيد يُدرَك
بالحَدْس، وهو موضوع بداهة. ولكننا نعرف فضل هوسرل على الفلسفة في
التمييز بين أنواع متباينة من البداهة.
٤٨ إذَن من المؤكَّد تمامًا أن الأنا، والأنا أفكر، ليس
موضوعَ بداهة يقينية أو كاملة. إن البداهة ليست يقينيةً؛ لأننا
عندما نقول «أنا» فإننا نُقرِّر قولًا نجهله، ثم هي ليست كاملةً
لأن الأنا يظهر على أنه واقعة كثيفة يَلزَم فضُّ مضمونها، وممَّا
لا ريب فيه أن الأنا يكشف عن ذاته باعتباره مصدرًا للوعي، غير أن
هذه المسألة بالذات ينبغي أن تدفعنا إلى التفكير فيها، فإن الأنا،
من هذه الوجهة، أيْ من حيث هي مصدر للوعي، فإنه يبدو محجبًا،
وتمايزه عن الوعي يبدو مُهوَّشًا، إنه يبدو كحَصاةٍ في قاع الماء.
وهو من هذه الوجهة خادع في التوِّ؛ ذلك أننا على علم بأن مصدر
الوعي لن يكون إلا الوعي ذاته. وفضلًا عن ذلك، إن افتراض الأنا على
أنه جزء من الوعي يفيد ازدواج الأنا؛ أنا خاص بالوعي التأمُّلي،
وأنا خاص بالوعي المتأمل. بل ثمة نوع ثالث من الأنا يدعو إليه فنك،
٤٩ تلميذ هوسرل، هو أنا خاص بالوعي الترنسندنتالي قد
أطلقه اﻟ
Epoché (تعليق الحكم) من
عقاله. ومن هنا تنشأ مشكلة خاصة بوجود ثلاثة أنواع من الأنا تنطوي
على صعوبات يثيرها فنك بطريقة لا تخلو من الدعابة، غير أن هذه
المشكلة، في رأينا، ليس لها حل، لأنه لا يمكن الإقرار بأن ثمة
اتصالًا بين الأنا التأمُّلي والأنا المتأمل، إذا ما تصوَّرْنا
أنهما عناصر حقيقية مُجتزَأة من الوعي، كما أنه لا يمكن التوحيدُ
بينهما في أنا واحد.
وفي ختام هذا التحليل يبدو لي أنه في الإمكان إقرار ما يأتي:
٥٠
-
(١)
الأنا موجود، ووجوده العيني على نمط خاص، إنه، من
غير شك، مُباين لوجود الحقائق الرياضية، كما أنه مباين
لوجود الموجودات المحددة بالزمان والمكان، ومع ذلك فهو
وجود واقعي ويكشف عن ذاته باعتباره وجودًا
مُفارقًا.
-
(٢)
الأنا موضوع حَدْس خاص، ومن شأن هذا الحَدْس أن يدرك
الأنا وهو قابع خلف الوعي المتأمل. غير أن هذا الإدراك
ليس مطابقًا تمامًا لحقيقة الأنا.
٥١
-
(٣)
الأنا لا يظهر على الإطلاق إلا في مناسبة وحيدة هي
وجود فعل تأمُّلي، وفي هذه المناسبة يكون التركيب
المُعقَّد للوعي على الوجه الآتي: ثمة فعل للتأمل غير
متأمل، لا يصاحبه أنا يتجه نحو وعي متأمل. وهذا الوعي
المتأمل هو موضوع للوعي المتأمل على أنه لا يتوقف
لحظةً واحدةً عن إثبات موضوعه الخاص به (مثل كرسي أو
حقيقة رياضية)، وهنا يظهر موضوع جديد يكون بمثابة
مناسبة لإثبات الوعي التأمُّلي، غير أن هذا الوعي لن
يكون على نفس مستوى الوعي اللامتأمل (لأن الوعي
اللامتأمل مطلق ليس في حاجة إلى وعي تأمُّلي من أجل أن
يوجَد)، كما أنه لن يكون على نفس مستوى موضوع الوعي
اللامتأمل (مثل كرسي … إلخ)، وهذا الموضوع المفارق
للفعل التأمُّلي هو الأنا.
-
(٤)
الأنا المُفارق ينبغي أن يندرج تحت الاقتضاب
الفينومينولوجي؛ ذلك أن الكوجيتو يُفرط في الإثبات،
لأن المضمون المؤكد ﻟ «الكوجيتو» المزعوم ليس القول
بأني على وعي بهذا الكرسي، وإنما هو القول بأن ثمة
وعيًا بهذا الكرسي. وهذا المضمون كافٍ وحده لإجراء
أبحاث فينومينولوجية لا نهاية لها.
(ﺟ) نظرية الحضور المادي للذات
يرى كانط وهوسرل أن الأنا تكوين صوري للوعي. وقد حاولنا إثبات أن
الأنا ليس صوريًّا خالصًا على الإطلاق، وإنما هو، دائمًا وباستمرار
وحتى لو تصوَّرْناه تصورًا مجرَّدًا، تقلُّص لا نهائي للذات
المادية. ولكن من المحتوم، قبل المُضي في البحث، استبعاد نظرية
سيكولوجية صِرفة تُقرِّر، لأسباب سيكولوجية، الحضور المادي للذات
في الوعي بأكمله، وهي نظرية «حُب الذات» التي يروِّج لها
الأخلاقيون. ففي رأيهم أن حُبَّ الذات، وبالتالي الذات، مختفٍ في
العواطف كلها، ومُقنَّع بأشكال متباينة لا حصر لها. وإجمالًا يمكن
القولُ بأن الذات، من حيث إن وظيفتها الحبُّ، إنما ترغب جميع
الأشياء من أجل ذاتها، ولهذا فإن الخاصية الجوهرية لكل فعل من
أفعالي يدور على استدعاء الذات، و«العَود إلى الذات» هو المُكوِّن
لكل وعي.
وثمة اعتراضٌ على هذه الدعوى، بحُجَّة أن العَود إلى الذات ليس
حاضرًا للوعي على الإطلاق — مثال ذلك عندما أحسُّ بالعطش وأرى
كوبًا من الماء يظهر لي على أنه مرغوب فيه — غير أن هذا الاعتراض
لا ينطوي على أيِّ إحراج، بل إننا نَقبَل هذا الاعتراض عن طِيب
خاطر. وكان لاروشفوكو من أوائل مَن استخدموا لفظ اللاشعور من غير
أن يُسميه هكذا، فهو يرى أن حُبَّ الذات مُقنَّع بأكثر الأشكال
تباينًا، ويجب اقتفاء أثره قبل إدراكه
٥٢ فمن المُقرَّر بصفة إجمالية، أن الذات إنْ لم تكُن
حاضرةً للوعي فهي مختفية وراءه، وأنها قطب جاذب لجميع تصوراتنا
ورغباتنا، ولهذا فإن الذات تجهد في الحصول على الشيء من أجل إشباع
رغبتها. وفي عبارة أخرى يمكن القولُ بأن الرغبة (أو إنْ شئنا،
الذات الراغبة) غاية والموضوع المرغوب فيه وسيلة.
وفي رأينا أن ميزة هذه الدعوى هي في الكشف عن خطأ شائع عند علماء
النفس. هذا الخطأ يدور على الخلط بين التكوين المميز للأفعال التأمُّلية،
٥٣ وذلك الذي يميز الأفعال اللامتأملة. ومردُّ هذا الخلط
إلى الجهل بأن ثمة صورتَين من الوجود الممكن للوعي. وفي كل مرة
تَهَب مجموعات الشعور الملاحظة نفسها، بوصفها لا متأملة، تضع فوقها
تكوينًا تأمُّليًّا، ويدَّعي بلا وعي أنه يظلُّ لا
شعوريًّا.
أُشفِق على زيد وأبادر بمساعدته، وفي هذه اللحظة لا أعي إلا
أمرًا واحدًا، ينبغي مساعدة زيد، وهذه الصفة، أعني «ينبغي
مساعدته»، ملازمة لزيد. ثم إن هذه الصفة قوة مُحرِّكة لذاتي،
وقديمًا قال أرسطو: إن موضوع الرغبة هو الذي يُحرِّك الذات
الراغبة. وعند هذا المستوى تكون الرغبة
٥٤ بمثابة قوة طرد ذاتي بالنسبة إلى الوعي. إن الرغبة
تفارق ذاتها، إنها وعي تصوُّري لما ينبغي أن يكون، وهي وعي لا
تصوُّري بذاتها، وهي لا شخصية (ليس ثمة ذات؛ إنني في مواجهة ألم
زيد مثلما أكون في مواجهة لون هذه المحبَرَة. إن ثمة عالَمًا
موضوعيًّا للأشياء والأفعال، من بينها ما تمَّ تنفيذُه، ومنها ما
هو في سبيل التنفيذ. ثم إن هذه الأفعال تكون بمثابة كيفيات بالنسبة
إلى الأشياء التي تستدعيها). إذَن لم يأخذوا في اعتبارهم اللحظة
الأولى للرغبة — فلنفترض أنها لم تَغِب تمامًا عن بال واضعي نظرية
الحبِّ الذاتي — كلحظة كاملة مُستقلة، وتخيلوا وراءها حالةً أخرى
قابعةً في منطقة شبه الظل. مثلًا أساعد زيد كي تمَّحي الحالة
المؤلمة التي وضعَتني فيها رؤية آلامه، ولكنه لا يمكن معرفةُ هذه
الحالة المؤلمة بوصفها هكذا، ولا يمكن محاولة مَحوِها إلا بعد فعل
التأمل. والواقع أن الألم على المستوى اللاتأمُّلي يتعالى بنفس
الطريقة التي يتعالى بها الوعي اللامتأمَّل للشفقة، وهو الإدراك
الحَدْسي لصفة مؤلمة لموضوعٍ ما. وبقدْر ما يستطيع هذا الألم أن
يصاحب رغبة، بقدْر ما لا يرغب مَحو نفسه، بل مَحو موضوع الألم.
٥٥ ليس هناك إذَن فائدة تُرجى من وضعنا وراء الشعور
اللامتأمَّل للشفقة، حالة مؤلمة تُعتبر السبب الجوهري لفعل الشفقة.
وإنْ لم ينقلب هذا الشعور بالألم على نفسه، كي يقوم بذاته كحالة
مؤلمة، ستظلُّ إلى ما لا نهاية في مجال اللاشخصي واللامتأمَّل.
ولهذا يفترض أصحاب نظرية حُب الذات — دون وعي منهم — أن
اللامتأمَّل هو الأول والأصل والمُقنَّع في اللاشعور، وقد لا تكون
في حاجة إلى بيان تناقُض فرض كهذا، وحتى لو كان اللاشعور موجودًا،
٥٦ فمَن الذي نستطيع إقناعه بأن هذا الشعور يكشف عن
تلقائيات ذات طابع تأمُّلي؟ ألم نُعرِّف المتأمَّل بأنه ما يضعه
الشعور؟ ولكن، فضلًا عن ذلك، كيف يمكن قبول أولوية المتأمَّل على
اللامتأمَّل؟ ممَّا لا شكَّ فيه أنه يمكن تصوُّر ظهور شعور في
الحال على أنه متأمَّل في بعض الحالات، ويصبح إذَن اللامتأمَّل
أولويةً أنطولوجيةً على المتأمَّل، لأنه لا يحتاج لكي يوجَد أن
يكون متأملًا، لأن التأمل يفترض تدخُّل شعور من الدرجة
الثانية.
نخلص من ذلك كله إلى النتيجة الآتية: يجب النظر إلى الشعور
اللامتأمَّل على أنه شعور مُستقل؛
٥٧ إذ هو مجموع كُلي ليس في حاجة إطلاقًا إلى تكملة. كذلك
يجب أن نُقرِّر في غير ما زيادة أن الرغبة اللامتأمَّلة تتصف
بمُفارقتها لذاتها، وأنها في لحظة المُفارقة تدرك أن الموضوع يتصف
بأنه مرغوب، وهكذا يبدو لنا الأمر وكأننا نحيا في عالم تتصف
موضوعاته — فضلًا عن صفات الحرارة والرائحة والشكل … إلخ — بأنها
مُنفِّرة وجاذبة وخلابة ونافعة … إلخ، وكأن هذه الصفات قُوًى تبعث
فينا أفعالًا مُعيَّنة. أمَّا في حالة التأمل وفي هذه الحالة
وحدها، فإن الانفعالية تطرح ذاتها كرغبة وكخوف … إلخ، ولهذا فإنني
في حالة التأمل وحدها يمكنني أن أفكر بأني «أكره زيدًا» و«أُشفِق
على عمرو» … إلخ، وهذا على الضدِّ من القول الشائع بأن حياة
الأنانية توجَد على هذا المستوى (المتأمل)، وأن الحياة اللاشخصية
توجَد على المستوى اللامتأمَّل (وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن كل
حياة متأملة أنانية بالضرورة، أو أن كل حياة لا متأملة غيرية
بالضرورة)، فالتأمل «يُسمِّم» الرغبة.
٥٨ فأنا أبادر بمساعدة زيد على المستوى اللاتأمُّلي، لأن
زيدًا «ينبغي مساعدته»، ولكن إذا تغيَّرَت حالتي فجأةً إلى حالة
متأملة، فإنني أجد نفسي مُهيَّئًا للنظر إلى ذاتي باعتبارها فاعلةً
بالمعنى الذي نفهمه عندما نقول إن إنسانًا يسمع نفسه يتكلم، لم يعد
زيد هو الذي يجذبني، ولكن وعيي الذي يحتاج إلى المساعدة هو الذي
يظهر لي وكأنه يجب أن يدوم، حتى إذا ما قصَرتُ تفكيري على متابعة
فعلي لأن «هذا خير»، فالخير وصف لسلوكي وشفقتي … إلخ، وبذلك يستعيد
علم النفس الذي وضعه لاروشفوكو مكانه من جديد. ومع ذلك فهذا القول
ليس بالصحيح، فلستُ أنا المخطئ إذا سمحت حياتي التأمُّلية، «في
جوهرها»، حياتي التلقائية، فضلًا عن أن حياتي التأمُّلية بوجه عام
تفترض الحياة التلقائية. إن رغباتي نقية قبل أن يتمَّ «تسميمُها»،
والذي سمَّمَها هو وجهة نظري في أمر هذه الرغبات. وهكذا لا يُعَدُّ
علم النفس الذي وضعه لاروشفوكو صادقًا إلا على عواطف مُعيَّنة؛ تلك
التي تنبع من الحياة التأمُّلية، أي التي تطرح ذاتها أولًا على
أنها عواطفي بدل أن تفارق ذاتها منذ البداية مُتجهةً نحو
موضوع.
وهكذا ينتهي بنا الفحص النفسي للوعي، «في علاقاته الدنيوية»، إلى
نفس النتائج التي انتهَت إليها دراستنا الفينومينولوجية؛ وهي أن
البحث عن الذات ليس قائمًا في حالات الشعور اللامتأملة، كما أنه
ليس قائمًا خلفها، فالذات لا تظهر إلا في الفعل التأمُّلي وكطرف
موضوعي لقصد تأمُّلي.
٥٩ وها نحن نبدأ برؤية وحدة الأنا والذات، وسنحاول بيان
أن هذا الأنا موجود، من حيث إن الأنا والذات فيه ليس إلا وجهَين،
يُكوِّن الوحدة المثالية (لموضوع الوعي) واللامباشرة للسلسلة
اللانهائية لمجموعات شعورنا المتأملة.
فالأنا هو الأنا موجود باعتباره وحدةً للأفعال، والذات هي الأنا
موجود باعتباره وحدةً للحالات والكيفيات. ومن ثَم فإن التمايز بين
هذين الوجهين لواقع واحد يبدو أنه تمايز وظيفي فحسب، إنْ لم يكُن
تمايزًا لُغويًّا.