(أ) الحالات بوصفها وحداتٍ مُفارقةً لمجموعات الشعور
تظهر الحالة في الشعور التأمُّلي طارحةً ذاتها له، وتصبح موضوعًا
لحَدْسٍ عيني، فإذا كرهتُ زيدًا فإن كُرهي له حالة يمكنني إدراكُها
بالتأمل، وهذه الحالة حاضرة أمام نظرة الشعور التأمُّلي، إذ إنها
حالة واقعية. فهل نخلص من ذلك بالضرورة إلى أنها حالة محايثة
ويقينية؟ طبعًا لا، فليس من حقِّنا اعتبار التأمل قوةً غامضةً
معصومةً من الخطأ، وليس من حقِّنا الاعتقاد بأن كل ما يدركه التأمل
ليس موضوعًا للشكِّ، لأن التأمل هو المدرك، فالتأمل له حدود من حيث
المبدأ ومن حيث الواقع، فهو شعور يضع شعورًا، وكل ما يُثبته
بالنسبة لهذا الشعور يقيني ومُطابق، ولكن إذا ظهرَت له موضوعات
أخرى من خلال هذا الشعور (الثاني) فليس من حقِّ هذه الموضوعات أن
تشارك في خصائص الشعور (الأول). لنأخذ على سبيل المثال تجربةً
تأمُّلية: الكراهية؛
٣ فأنا أرى زيدًا وأُحسُّ بفوران شديد ينطوي على نفور
عميق وغضب عند رؤيته (ها هنا أجد نفسي من قبلُ على المستوى
التأمُّلي). هذا الفوران شعور، ولا يمكنني أن أخطئ عندما أقول:
أعاني في هذه اللحظة نفورًا عنيفًا من زيد. لكن، هل خبرة النفور
هذه تعني الكراهية؟ طبعًا لا، فضلًا عن أن هذه التجربة لا تكشف عن
ذاتها من هذه الزاوية. فالواقع أني أكره زيدًا منذ زمن بعيد،
وأظنُّ أني كارهه أبدًا، فالشعور الآني بالنفور لن يُكوِّن إذَن
كراهيتي، حتى ولو حدَّدتُه كما هو في آنٍ ما، فليس في إمكاني بعد
ذلك التحدث عن الكراهية، بل أقول: «عندي نفور من زيد الآن.» وبهذه
الطريقة لا أُلزِم نفسي مستقبلًا، بل إن كراهيتي على وجه التحديد،
تتوقف مستقبلًا بسبب هذا الرفض للالتزام بالمستقبل.
تظهر لي كراهيتي إذَن في نفس الوقت الذي تظهر فيه تجربتي
بالنفور، ولكنها (أي الكراهية) تظهر من خلال هذه التجربة، وتظهر
على وجه الدقة وكأنها غير محدَّدة بهذه التجربة. إنها تظهر في كل
حركة تدل على الاشمئزاز والنفور والغضب، بل تظهر بفضل هذه الحركة،
ولكنها في نفس الوقت ليست واحدةً من بينها، بل تندُّ عن كلٍّ منها
مؤكِّدةً حضورها وظهورها من قبلُ عندما فكرتُ بالأمس في زيد بغضب
شديد، ومؤكِّدةً ظهورها غدًا. فضلًا عن ذلك فإنها (أي الكراهية)
تمارس بذاتها التفرقة بين الوجود والمظهر، لأنها تطرح ذاتها
كاستمرار للوجود، حتى ولو كنتُ غارقًا في مشاكل أخرى لا يكشف عنها
أيُّ شعور. ويبدو أن هذا العرض كافٍ لإثبات أن الكراهية ليست من
الشعور، فهي تغمر آنية الشعور ولا تخضع لقانون الشعور المطلق الذي
لا ينصُّ على وجود تفرقة مُمكنة بين المظهر والوجود. فالكراهية
إذَن سوع موضوع مُفارق، تكشفها بكُليَّتها كل
Erlebnis٤ (تجربة حيَّة)، ولكنها في نفس الوقت تنكشف كهيئة أو
كظل
Abschattung. فالكراهية رصيد
لموضوعات لمجموعات الشعور الغاضبة أو المشمئزة، لا نهاية لها في
الماضي وفي المستقبل، وهي الوحدة المفارقة لهذا العدد اللانهائي من
مجموعات الشعور، فإذا قُلتُ «أكره» أو «أحب»، بالنسبة لشعور فردي
جاذب أو مُنفِّر، فإني أتجه في الحقيقة إلى ما لا نهاية، كما نفعل
تمامًا عندما ندرك محبرةً واحدةً أو اللون الأزرق للنشافة.
وأكثر من ذلك ليس مطلوبًا لبيان أن حقوق التأمل بالذات ينبغي أن
تكون محدودة. فمن المؤكَّد أن يثير بيير اشمئزازي، ولكن من المشكوك
فيه دائمًا أنني أكرهه الآن وسأكرهه مستقبلًا.
٥ وهذا التأكيد يتجاوز قدْر التأمل بالإطلاق، ولا يعني
ذلك بطبيعة الحال أن الكراهية ليست إلا تصوُّرًا فارغًا أو مجرد
فرض، لأنها في الحقيقة موضوع واقعي أدركه من خلال
Erlebniss (التجربة الحية)،
ولكن يوجَد هذا الموضوع خارج الشعور، بل إن طبيعة وجوده تتضمن
«الشكَّ فيه»، كما أن التأمل ميدان يقيني وميدان مشكوكٌ فيه، دائرة
بديهيات مطابقة، ودائرة بديهيات غير مطابقة. ويرتبط التأمل الخالص
(بالرغم من أنه ليس من الضروري أن يكون تأمُّلًا فينومينولوجيا)
بالمُعطى دون أن يدَّعي شيئًا للمستقبل، وهذا ما نستطيع أن نتحقق
منه عندما يقول أحدٌ في حومة الغضب «أكرهك»، ثم يراجع نفسه فيقول
«ليس صحيحًا، فإني لا أكرهك، ولكني قُلتُ ذلك في حومة غضب»؛ نجد
هنا تأمُّلَين: أحدهما غير خالص ومتواطئ يقوم على التوِّ بالانتقال
إلى ما لا نهاية ويُكوِّن فجأةً الكراهية من خلال (التجربة الحية)
Erlebniss بوصفها موضوعه
المُفارق، والآخر خالص يقتصر على الوصف ويوقف الشعور اللامتأمل
بردِّ لحظته الزمنية إليه. وقد أدرك هذان التأملان نفس المعطيات
اليقينية، ولكن أحدهما أثبت أكثر ممَّا يعرف، واتجه من خلال الشعور
المتأمل نحو الموضوع الموجود خارج الشعور.
٦
وبمجرد مغادرتنا ميدان التأمل الخالص، أو غير الخالص، وتدبُّرنا
نتائجه، نجد أنفسنا مدفوعين نحو الخلط بين المعنى المُفارق
Erlebniss (التجربة الحية)
وبين معناه الحالِّ، وبسبب هذا الخلط يقع عالم النفس في نوعين من
الخطأ؛ إمَّا أنه نظرًا لأني أخطئ في عواطفي ونظرًا لأنه يحدث لي
مثلًا اعتقادٌ بأني أحبُّ مع أني أكره؛ استنتج من ذلك أن الاستبطان
خادع، وفي هذه الحالة أُفرِّق نهائيًّا بين حالتي ومظاهرها، وأرى
ضرورة تفسير رمزي لكل المظاهر (بوصفها رموزًا)، كي أحدِّد العاطفة
مفترضًا علاقة علية بين العاطفة ومظاهرها، وها هو اللاشعور يظهر من
جديد، وإمَّا أنه، نظرا لأني أعرف، على العكس من ذلك، أن استبطاني
صحيح، وأنه لا يمكنني الشكُّ في شعوري بالنفور ما دام عندي، وأعتقد
أن باستطاعتي نقل هذا اليقين إلى العاطفة، فاستنتج من ذلك أن
كراهيتي يمكن حبسُها في الحلول وفي تطابق شعور لحظي.
والكراهية حالة. وقد حاولتُ بهذا اللفظ أن أُعبِّر عن صفة
السلبية التي تُكوِّنها. ورُبَّ قائلٍ يقول: إن الكراهية قوة ودافع
لا يمكن مقاومتُه … إلخ. ولكن تيَّار الكهرباء، أو سقوط المياه قوة
أيضًا يُخشى منها، فهل يمحو ذلك شيئًا من سلبيتها ومن سكون
طبيعتها؟ بل وأكثر من ذلك، هل تأخذ طاقتها من الخارج؟ إن سلبية شيء
محدَّد بالزمان والمكان تتكوَّن ابتداءً من نسبة وجودية، فلا يمكن
للوجود النسبي إلا أن يكون سلبيًّا، لأن أقلَّ نشاط قد يُحرِّره من
النسبي ويجعله مطلقًا، فكذلك الكراهية بوصفها وجودًا نسبيًّا يتعلق
بالشعور التأمُّلي، لها وجود ساكن. وبطبيعة الحال لا نقصد بالحديث
عن الوجود الساكن للكراهية، إلا أنها تظهر هكذا للشعور، ألا أقول
بالفعل: «أُنيرت كراهيتي …»، «تمَّت مقاومة كراهيته برغبة شديدة
نحو …»؟ ألم يتمَّ تصويرُ صراع الكراهية ضدَّ الأخلاق والرقابة …
إلخ، على أنه صراع بين القُوى الطبيعية، لدرجة أن بلزاك وأكثر
الروائيين (وأحيانًا بروست نفسه) يُطبِّقون على الحالات مبدأ
استقلال القُوى؟ إن كل «عِلم نفس» الحالات (وكل علم النفس غير
الفينومينولوجي بوجه عام) هو علم نفس للساكن.
وتوجَد الحالة بشكلٍ ما كوسيطٍ بين الجسم («الشيء» المباشر)
و«الخبرة الحية» (
Erlebniss)،
ولكنها لا توجَد بوصفها فعَّالةً بنفس الطريقة من جانب الجسم ومن
جانب الوعي. فمن جانب الجسم يكون فعلُها علِّيًّا صراحة، فهي سبب
إشارتي وسبب حركاتي، «لماذا كنت مُغضبًا هكذا لزيد؟ لأني أمقته.»
ولكن يختلف الأمر من ناحية الوعي (إلا في النظريات المبنية
قَبْليًّا على مفاهيم فارغة مثل الفرويدية). فالواقع أنه لا يمكن
للتأمل، في أيِّ حالة من الحالات، أن ينخدع بالنسبة لتلقائية
الشعور المتأمل. وهذا هو ميدان اليقيني التأمُّلي. وكذلك تتكوَّن
العلاقة بين الكراهية والشعور اللحظي بالاشمئزاز بحيث تتناول، في
نفس الوقت، مقتضيات الكراهية (إنها أولية وإنها المصدر)، والمعطيات
اليقينية للشعور (التلقائية)، ويظهر الشعور بالاشمئزاز للتأمل
كانبثاق تلقائي من الكراهية. وها نحن نرى لأول مرة مفهوم الانبثاق
الذي تظهر أهميتُه كلما حاولنا ربط الحالات النفسية الساكنة
بتلقائيات الشعور. أمَّا النفور فإنه يطرح نفسه بطريقةٍ ما وكأنه
مُنتِجًا لنفسه بمناسبة الكراهية وعلى حسابها، وتظهر الكراهية من
خلاله وكأنها منبثقة منه. ويُقرُّ عن طِيب خاطرٍ بأن علاقة
الكراهية بالخبرة الحية
(
Erlebniss) الخاصة بالنفور، ليست
علاقة منطقية بل سحرية يقينًا.
٧ لكننا أردنا الوصف فحسب، وإذا شئنا أكثر من ذلك فسنرى
فيما بعد أنه ينبغي استعمالُ ألفاظ سحرية صِرفة، للحديث عن علاقات
الذات بالشعور.
٨
(د) تكوين الأنا موجود بوصفه قُطبًا للأفعال والحالات
والكيفيات
عرفنا على التوِّ كيف نُفرِّق بين «العنصر النفسي» وبين الشعور؛
فالعنصر النفسي هو الموضوع المُفارق للشعور التأمُّلي.
١٠ وهو أيضًا موضوع العلم المُسمَّى بعلم النفس. ويظهر
الأنا موجود للشعور كموضوع مُفارق محقِّقًا التركيب الدائم للعنصر
النفسي. فالأنا موجود يصدر عن العنصر النفسي،
١١ ونلاحظ هنا أن الأنا موجود الذي نتحدث عنه هو نفسي،
وليس نفسي جسمي. وليس من قبيل التجريد هذه التفرقة بين وجهَي الأنا
موجود، فالذات النفسية الجسمية هي امتداد مركَّب للأنا موجود
النفسي الذي يمكنه أن يوجَد تمامًا في صورة حُرة (دون أيِّ اقتضاب
من أيِّ نوع)، وممَّا لا شكَّ فيه أنني عندما أقول مثلًا «أنا شخص
متردد» فإنني لا أقصد الذات النفسية الجسمية مباشرة.
وقد نميل إلى أن نُكوِّن الأنا موجود ﮐ «قطب للذات» مثل «قطب
الموضوع» الذي يضعه هوسرل كنواة لمضمون الشعور، وقطب الموضوع هذا
هو بمثابة «س» الذي يقبل التعينات.
«ومن المحمولات محمولات ﻟ «شيءٍ ما»، وهذا الشيء يتعلَّق أيضًا
بالنواة سالفة الذكر، ومن الواضح أنه لا يمكن الانفصالُ عنها، وهو
لُبُّ الوحدة المركزية التي تحدَّثنا عنها سالفًا، وهو حامل هذه
المحمولات ونقطة ارتباطها، ولكنه ليس وحدة المحمولات على الإطلاق.
وهو ليس كذلك بمعنى أنه مُركَّب منها أو مرتبط بها، بل ينبغي أن
يكون متميزًا عنها تمامًا، مع أنه لا يمكن إقصاؤه عنها أو الفصل
بينها. وبالمثل تكون هي أيضًا محمولاته ولا يمكن التفكير فيها
بدونه، ومع ذلك فهي متمايزة عنه.»
١٢
بهذا يريد هوسرل بيان أن الأشياء تركيبات يمكن تحليلُها على
الأقلِّ من الناحية المثالية. فمِمَّا لا شكَّ فيه أن هذه الشجرة
وهذه المنضدة مُركَّبات مُعقَّدة، ترتبط فيها كل كيفية بالأخرى.
ولكنها ترتبط بها بوصفها متعلقةً بنفس الموضوع «س». وأول شيء من
الناحية المنطقية هي هذه العلاقات ذات الطرف الواحد، حيث تتعلق
طبقًا لها (مباشرةً أو بطريقة غير مباشرة) كل كيفية بهذا اﻟ «س»
كتعلُّق محمول بموضوع. وينتُج عن ذلك أن أيَّ تحليل يكون مُمكنًا
على الدوام. بَيْدَ أن هذا التصوير يثير جدلًا بالضرورة،
١٣ ومع ذلك فالمجال لا يسمح بطرحه الآن. فالذي يُهِمُّنا
هو أن أيَّ مجموع كلي تركيبي لا يمكن فصمُه، وما يحمل ذاته ليس في
حاجة إلى حامل له، وليكُن «س» بشرط ألا يكون قابلًا للتحليل بطبيعة
الحال، سواء واقعيًّا أو عينيًّا، فمن العبث بالنسبة إلى اللحن
مثلًا أن نفترض وجود حامل «س» للأصوات المتباينة،
١٤ إذ تنشأ الوحدة هنا من عدم القابلية المطلقة للعناصر
على الحلِّ، والتي لا يمكن تصوُّرُها بالتجريد مُفرَّقة، ويكون
موضوع المحمول هنا هو المجموع الكلي للمحسوس، ويصبح المحمول كيفيةً
تنفصل بالتجريد عن المجموع الكُلي، ولا تأخذ معناها الكامل إلا إذا
ربطناها به.
١٥
ولنفس هذه الأسباب نرفض أن نرى في الأنا موجود نوعًا من القطب
«س» قد يكون حاملًا للظواهر النفسية، وقد يكون مثل هذا اﻟ «س» —
بحُكم ماهيته — لا يتصف بأيَّة صفة من الصفات النفسية التي يكون هو
حاملها، ولكن الأنا موجود، كما سنرى، ليس غريبًا عن حالاته، بل
«متواطئ» معها، ولهذا لا يمكن أن يتواطأ حاملٌ كهذا مع ما يحمله
إلا في حالة ما إذا حمل المجموع الكُلي العيني صفاته الخاصة وانطوى
عليها. فالأنا موجود ليس شيئًا آخر خارج المجموع الكُلي العيني
للحالات والأفعال التي يحملها. وممَّا لا شكَّ فيه أنه مُفارق لكل
الحالات التي يُوحِّد بينها، ولكنه لا يشبه «س» مجرَّدًا يقتصر
مهمَّته على التوحيد، بل على الأصحِّ إنه المجموع الكُلي اللانهائي
للحالات والأفعال، الذي لا يمكن اقتضابه إلى فعل واحد أو إلى حالة
واحدة. وإذا بحثنا عن مماثل للشعور اللامتأمل يعادل الأنا موجود
بالنسبة للشعور من الدرجة الثانية، نرى أنه من الأصحِّ التفكير في
العالم إذا تصوَّرناه كمجموع كُلي تركيبي لا نهائي لكل الأشياء.
والواقع أنه يحدث أيضًا أننا ندرك العالم فيما وراء محيطنا المباشر
كوجود رحب عيني، وفي هذه الحالة تظهر الأشياء التي تحيط بنا فقط
كالطرف الأقصى من هذا العالم الذي يتخطاها بدَوره ويحتويها. فعلاقة
الأنا موجود بالموضوعات النفسية كعلاقة العالم بالأشياء، إلا أن
ظهور العالم فيما وراء الأشياء نادر للغاية، ويجب أن تكون هناك
ظروف خاصة (وصفها هيدجر بكل توفيق في الوجود والزمان) حتى ينكشف
هذا العالم.
١٦ وعلى الضدِّ من ذلك يظهر الأنا موجود دائمًا في أفق
الحالات، فكل حالة وكل فعل يطرح نفسه وكأنه لا يمكنه الانفصالُ عن
الأنا موجود إلا عن طريق التجريد. وإذا فصل الحكم بين الأنا
وحالتها (كما هو الحال في عبارة «أنا أُحب») فذلك يحدث من أجل
ربطهما بعد ذلك. وقد تؤدِّي حركة الفصل إلى دلالة فارغة وخاطئة،
إنْ لم تطرح نفسها غير كاملة، وإنْ لم تكمل نفسها بحركة
تركيب.
ويشارك هذا المجموع الكُلي المُفارق في خاصية الشكِّ الذي
يُميِّز كل مُفارقة، أيْ إن كل ما تعطيه لنا حدوسنا الصادرة من
الأنا موجود يمكن معارضتُه بحدوس لاحقة، ويطرح نفسه على هذا النحو،
فمثلًا يمكنني أن أرى بوضوح أني غاضب، غيور … إلخ، ومع ذلك فقد
أنخدع، وبعبارة أخرى يمكنني أن أنخدع عندما أفكر في أنني أملك
ذاتًا كهذه، ولا يُرتكب الخطأ هنا على مستوى الحكم، بل على مستوى
الوضوح السابق على الحكم. ولا تعني خاصية الشكِّ هذه للأنا موجود
الذي لي — أو حتى الخطأ الحَدْسي الذي أرتكبه — أنني أملك ذاتًا
حقيقيةً أجهلها، بل تعني فقط أن الأنا موجود المقصود يحمل في نفسه
خاصية الشك (وفي بعض الحالات خاصية الخطأ). ومن ثَم فإن الفرض
الميتافيزيقي القائل بأن الأنا موجود الذي لي لا يتكون من عناصر
موجودة في الواقع (سواء منذ عشر سنوات أو منذ ثانية)، بل يتكون فقط
من ذكريات خاطئة؛ هذا الفرض لا يمكن رفضُه، لأن قدرة «الشيطان
الماكر» تشمل ذلك أيضًا.
ولكن إذا كان من طبيعة الأنا موجود أنه موضوع يمكن الشكُّ فيه،
فلا ينتُج عن ذلك أنه ظني. فالواقع أن الأنا موجود هو التوحيد
المُفارق التلقائي لحالاتنا ولأفعالنا، وبهذا المعنى فهو ليس
فرضًا. فأنا لا أقول لنفسي «ربما يكون لديَّ أنا موجود» كما يمكنني
أن أقول: «ربما أكره زيدًا»، فأنا هنا لا أبحث عن معنًى مُوحِّد
لحالاتي. فعندما أُوحِّد حالاتي تحت بند «كراهية» لا أضيف عليها
معنًى، بل أصفها، ولكن عندما ألحق حالاتي في المجموع الكلي العيني
للذات، فإني لا أضيف إليها شيئًا، لأن علاقة الأنا موجود بالكيفيات
والحالات والأفعال ليست في الواقع علاقة انبثاق (مثل علاقة الشعور
بالعاطفة)، ولا علاقة تحقُّق (مثل علاقة الصفة بالحالة)، ولكنها
علاقة إنتاج شعري (بمعنى Poiein)،
أو إنْ شئنا: علاقة خَلْق.
وعندما يرجع كل واحد منَّا لنتائج حَدْسه يمكنه التحقُّقُ من أن
الأنا موجود مُعطًى بوصفه مُنتِجًا لحالاته. وسنحاول هنا أن نقيم
وصفًا لهذا الأنا موجود المُفارق كما يكشف عن ذاته للحَدْس. فنحن
نبدأ إذَن من هذه الواقعة التي لا يمكن إنكارها: كل حالة جديدة
مرتبطة مباشرةً (أو عن طريق غير مباشرة بواسطة الكيفية) بالأنا
موجود بوصفه مصدرًا لها، وهذا النمط من الخلْق هو خَلْق من العدم،
بمعنى أن الحالة لم تكُن مُعطاةً قبل ذلك في الذات، حتى ولو
أُعطِيَت الكراهية بوصفها تحقيقًا لقوة حقد أو كراهية مُعيَّنة،
فإنها تبقى شيئًا جديدًا بالنسبة للقوة التي تُحقِّقها، وعلى هذا
يربط فعل التأمل المُوحِّد كل حالة جديدة، بطريقة خاصة للغاية،
بالمجموع الكُلي العيني؛ ذات، ولا يقتصر هذا المجموع الكُلي على
إدراك الذات بوصفها مُلحَقةً به وقائمةً عليه، بل يقصد علاقةً تجري
في الزمان في الاتجاه العكسي وتجعل الذات مصدرًا للحالة. وبطبيعة
الحال، تكون علاقة الأفعال بالأنا على نفس النمط. أمَّا بالنسبة
للكيفيات فبالرغم من أنها تصف الذات، إلا أنها لا تَهَب نفسها
كشيءٍ تُوجَد الذات بواسطته (كما هو الحال مثلًا في أيِّ بناء؛ كل
حجر، وكل قالب يُوجَد بنفسه، ومجموعها يُوجَد بكل واحد منها)، بل
على الضدِّ من ذلك يحافظ الأنا موجود على كيفياته عن طريق خَلْق
حقيقي مستمر. ومع ذلك، فنحن في نهاية الأمر لا ندرك الأنا موجود
كمصدر خلَّاق خالص تحت الكيفيات. ويبدو لنا أننا لا نستطيع إيجاد
قُطب هيكلي لو انتزعنا كل الكيفيات واحدةً تِلوَ الأخرى. ولو ظهر
الأنا موجود فوق كل كيفية، أو فوقها كلها، فذلك لأنه كثيف مثل
موضوعٍ ما، فيجب أن نبدأ بفرز لا نهائي لاستئصال كل قُواه، وبعد
انتهاء الفرز لن يبقى شيء. وقد يمَّحي الأنا موجود، فالأنا موجود
خالقٌ لحالاته ويحمل كيفياته في الوجود بنوع من التلقائية
المحافظة. ويجب ألا نخلط بين التلقائية الخالقة، أو المحافظة، وبين
المسئولية، وهي حالة خاصة لنتاجٍ خالقٍ ابتداءً من الأنا موجود.
وقد يكون من المُهمِّ دراسة الأنماط المختلفة لفيض الأنا موجود
مُنتِجًا حالاته، وفي أغلب الأحيان يكون هذا الفيض سحريًّا، وفي
حالات أخرى قد يكون عقليًّا (في حالة الإرادة للتأمل مثلًا)، ولكن
في جوٍّ عام من اللامعقولية سنذكر سببها الآن. ويختلف المعنى
الدقيق للخَلْق مع مجموعات الشعور المختلفة (السابقة على المنطق،
الطفولية، الفصامية، المنطقية … إلخ)، ولكنه يبقى دائمًا إنتاجًا
شعريًّا. وهناك حالة خاصة للغلبة لها أهمية قصوى؛ وهي حالة مرض
التأثير النفسي. فماذا يقصد المريض بهذه الكلمات: «يجعلني الناس
أحصل على أفكار سيئة»؟ سنحاول أن ندرس ذلك في كتاب آخر.
١٧ ومع ذلك فلنلاحظ هنا أن تلقائية الأنا موجود لم
تُنكَر، بل تمَّ تغليفُها بطريقةٍ ما، ولكنها باقية.
١٨
ولكنْ لا يجب الخلط بين هذه التلقائية وبين تلقائية الشعور،
فالواقع أن الأنا موجود سلبي لأنه موضوع. أمامنا إذَن تلقائية
خادعة تجد رموزًا ملائمة في انبثاق منبع أو بئر … إلخ، أيْ إن
الأمر لا يتعدَّى إلا المظهر، أمَّا التلقائية الحقَّة فيجب أن
تكون واضحةً تمامًا، فهي ما تنتج، ولا يمكن أن تكون غير ذلك، وبما
أنها مربوطة بطريقة تركيبية بشيء آخر غيرها، فإنها تحتوي في الواقع
بعض الغموض، بل وعلى شيء من السلبية في التغيير. فيجب في الحقيقة
الاعتراف بانتقال من الشيء نفسه إلى شيء آخر يفترض أن التلقائية
تندُّ عن ذاتها. فتلقائية الأنا موجود تندُّ عن ذاته لكراهية الأنا
موجود — بالرغم من أنها لا يمكن أن تُوجَد بنفسها وبمفردها —
استقلالًا مُعيَّنًا بالنسبة للأنا موجود، بحيث إن ما يُنتِجه
الأنا موجود يتجاوزه، مع أنه من وجهة نظر أخرى يجب أن يكون الأنا
موجود هو ما يُنتِجه. ومن هنا تأتي هذه الدهشات التقليدية: «أنا
استطعتُ أن أفعل هذا!» «أنا أستطيع أن أكره أبي!» … إلخ. وهنا
بوضوح تام يثقل المجموع العيني للذات المدرك حَدْسيًّا، حتى الآن،
هذا الأنا المنتج ويحجزه قليلًا إلى الوراء عمَّا أنتجه على
التوِّ، وتظلُّ علاقة الأنا موجود بحالاته تلقائيةً لا معقولة،
١٩ وهي التلقائية التي وصفها برجسون في المعطيات
المباشرة، وهي الحرية عنده، دون أن يدريَ أنه يصف موضوعًا وليس
شعورًا، وأن العلاقة التي يصفها لا عقلية حتمًا، لأن المنتج سلبي
بالنسبة إلى الشيء المخلوق. ومهما تكُن هذه العلاقة لا عقليةً،
فليست هي العلاقة التي نتحقَّق منها في حَدْس الأنا موجود. والأن
ندرك معناها؛ الأنا موجود موضوع مُدرَك بالفهم، ولكنه مُكوَّن
أيضًا بالعلم التأمُّلي، فهو موطن ضمني للوحدة يُكوِّنه الشعور في
الاتجاه المعاكس للاتجاه الذي يتبعه الإنتاج الواقعي. فما هو
أوَّلي في الواقع هو مجموعات الشعور التي تتكوَّن الحالاتُ من
خلالها، كما يتكوَّن الأنا موجود من خلال هذه الحالات. ولكنْ بما
أن الشعور الذي يسجن نفسه في العالم، كي يهرب منه، قد قَلَب الآية،
لذا تُعطَى مجموعات الشعور بوصفها منبثقةً من الحالات، والحالات
بوصفها ناتجةً من الأنا
٢٠ موجود. وينتُج من ذلك إسقاط الشعور تلقائيته الخاصة،
على موضوع الأنا موجود، كي يُعطيَه القوة الخالقة الضرورية له على
الإطلاق، ولكن هذه التلقائية التي تمَّ تمثُّلها وتحوُّلها إلى
أقنوم في موضوع، تصبح تلقائيةً مُخلَّطة هابطة تحفظ قُوَّتها
الخالقة بطريقة سحرية، بالرغم من بقائها سالبة، ومن هنا تأتي
اللاعقلية الجذرية لفكرة الأنا موجود. ونحن نعلم أوجهًا أخرى
هابطةً للتلقائية الشعورية، وسأذكر واحدًا منها: يمكن لإشارة
تعبيرية رقيقة
٢١ أن تمدنا باﻟ
Erlebniss (التجربة الحية)
لمحاورنا بكل معناها، وبكل دقيقاتها، وبكل جِدَّتها، تعطيها لنا
هابطة، أيْ سالبة، وهكذا نحن محاطون بموضوعات سحرية تحفظ تلقائية
الشعور كذكرى، وفي نفس الوقت تبقى موضوعات في العالم، وهذا هو
السبب في أن الإنسان دائمًا مشعوذ بالنسبة للإنسان. فالواقع أن هذه
العلاقة الشعرية بين السالبتَين — حيث تخلق الأولى الثانية
تلقائيًّا — هي أساس الشعوذة، وهي المعنى العميق ﻟ «المشاركة»،
ولهذا السبب نحن مشعوذون بالنسبة لأنفسنا في كل مرة نعتبر فيها
ذاتنا.
ونظرًا لهذه السلبية، يتعرض الأنا موجود للتأثر، فلا يمكن لشيء
أن يؤثر على الشعور لأنه سبب نفسه، ولكن على العكس يتحمل الأنا
موجود المنتج الصدمة كردِّ فعل لما يُنتجه، إذ إنه «متلبس»
٢٢ بما ينتجه. وهنا تنقلب العلاقة؛ ينقلب الفعل أو الحالة
إلى الأنا موجود لوصفه، وهذا يقودنا أيضًا إلى علاقة الاشتراك، فكل
حالة جديدة يُنتجها الأنا موجود تصبغه وتميزه في اللحظة التي
يُنتجها الأنا موجود، فيتغلف الأنا موجود بطريقةٍ ما بهذا الفعل
ويشارك فيه. ولا تلتصق الجريمة التي ارتكبها راسكولينكوف بالأنا
موجود الذي له، أو على الأصحِّ، كي نكون أكثر دقة، هي الجريمة ولكن
بشكل مُركَّز في صورة تقتيل. وعلى هذا فإن كل ما يُنتجه الأنا
موجود يؤثر عليه، ويجب أن نضيف: ما يُنتجه فقط. ويمكن الاعتراضُ
على ذلك بأن الذات يمكنها أن تتغير عن طريق حوادث خارجية (تحطيم،
حزن، خيبات الأمل، تغيير البيئة الاجتماعية … إلخ)، ولكن بوصفها
فقط مناسباتٍ لحالات ولأفعال. وكل شيء يحدث وكأن الأنا موجود محفوظ
من كل اتصال مباشر بتلقائيته الشبحية، وكأنه لا يمكنه الاتصالُ
بالعالم إلا عن طريق الحالات والأفعال. وسبب هذه العزلة ببساطة هو
أن الأنا موجود موضوع لا يظهر إلا للتأمل، وأنه لهذا السبب منفصل
عن العالم ولا يحيا على نفس المستوى.
وكما أن الأنا موجود مُركَّب لا عقلي من الإيجاب والسلب، فإنه
أيضًا مُركَّب من جوانية ومن مُفارقة، فهو بمعنًى ما أكثر «جوانية»
من الحالات بالنسبة للشعور، فهو بالضبط جوانية الشعور المتأمل الذي
يتأمله الشعور التأمُّلي. ولكن من السهل فهم أن التأمل يجعل من
الجوانية التي يتأملها موضوعًا أمامه، ولكن ماذا نعني حقيقةً عندما
نقول الجوانية؟ نقصد ببساطة أن الوجود ومعرفة النفس شيء واحد
بالنسبة للشعور، وهو ما يمكن التعبير عنه بطرُق متعددة؛ يمكنني أن
أقول مثلًا إنه بالنسبة للشعور يكون المظهر مطلقًا بوصفه مظهرًا،
أو أقول إن الشعور موجود تحتوي ماهيته على وجوده،
٢٣ وتسمح لنا هذه التعبيرات المختلفة أن نستنتج أننا نحيا
الجوانية، أيْ إننا «نُوجَد جوانيًّا»، ولكننا لا نتأملها لأنها
نفسها، بغضِّ النظر عن التأمل، شرط له. أمَّا الاعتراض القائل بأن
التأمل يضع الشعور المتأمل وبالتالي يضع جوانيته، فإنه لن يؤدِّيَ
إلى شيء. فالحالة هنا خاصة؛ لأن التأمل والمتأمَّل شيء واحد كما
أوضح هوسرل ذلك تمامًا،
٢٤ وجوانية أحدهما تمتزج مع جوانية الآخر. ولكن وضع
الجوانية أمام الذات يثقلها بالضرورة ويحيلها إلى موضوع، وكأنها
تنغلق على نفسها ولا تكشف لنا إلا عن برانيها، وكأنه لا بدَّ من
«الدوران حولها» لفهمها، وبالمثل يكشف الأنا موجود عن ذاته للتأمل
بوصفه جوانيةً منغلقةً على نفسها، فهو جواني لذاته وليس للشعور،
وبطبيعة الحال نجد أنفسنا أمام أمر مُعقَّد متناقض، فالواقع أن
جوانيةً مطلقةً لا يكون لها براني أبدًا، ولا يمكن أن يتمَّ
تصوُّرُها إلا بنفسها، ولهذا السبب لا يمكننا أن ندرك مجموعات شعور
الآخرين (لهذا السبب فقط، وليس لأن الأجسام تفرقنا). والواقع أنه
يمكن تحليلُ هذه الجوانية المتهاوية واللاعقلية في تكوينَين؛
الحياة الخاصة واللاتميز. فالأنا موجود يَهَب نفسه بوصفه حياةً
خاصةً بالنسبة للشعور، وكل شيء يحدث وكأن الأنا موجود من الشعور،
مع فارق وحيد جوهري هو على وجه التقريب كثافته بالنسبة له، وهذه
الكثافة يمكن إدراكُها بوصفها لا تميزًا. واللاتميز الذي نستعمله
دائمًا بصور عديدة في الفلسفة هو الجوانية منظورًا إليها من
الخارج، أو إذا فضَّلنا إسقاط الجوانية المتهاوي. ونجد مثلًا هذا
اللاتميُّز في «تعدُّد التداخلات» الشهير عند برجسون، وهو أيضًا
اللاتميز السابق على التحديدات النوعية للطبيعة المطبوعة، الذي
نجده في تصوُّر كثير من الصوفية لله، فمرةً يمكن فهمُها بوصفها لا
تنوعًا أوليًّا لكل الكيفيات، ومرةً كصورة خالصة للوجود سابقة على
كل وصف بالكيف. وتنطبق هاتان الصورتان للاتميُّز على الأنا موجود
وفقًا للطريقة التي تنظر إليه بها. فمثلًا في الانتظار (أو عندما
يُبيِّن مارسل أرلان أنه يجب أن تكون هناك حادثة خارقة للعادة تكشف
عن الذات الحقيقية)،
٢٥ يكشف الأنا موجود عن نفسه كقوة عارية تتعيَّن وتتجمَّد
بالاتصال بالحوادث،
٢٦ وعلى الضدِّ من ذلك، يبدو أن الأنا موجود يقوم باحتواء
الفعل بعد وقوعه في تداخلات عديدة. وفي كلتا الحالتين يتعلق الأمر
بمجموع كلٍّ عيني، ولكن يعمل المُركَّب الكُلي حسب مقاصد مختلفة.
وقد لا نذهب بعيدًا إذا قُلنا إن الأنا موجود بالنسبة للماضي إنْ
هو إلا تعدُّد من التداخلات، وبالنظر إلى المستقبل مجرَّد قوة.
ولكن يجب أن نكون هنا على حذر من الوقوع في أيِّ تخطيط هيكلي
مُفرط.
وتبقى الذات، وهي على هذا الحال، غير معروفة لنا، ويمكننا فهم
ذلك بسهولة؛ تَهَب الذات نفسها كموضوع وتُعرَف بمنهج واحد، وهو
الملاحظة والتقريب والانتظار والخبرة. ولكن هذه الطرُق التي تتفق
تمامًا مع كل مُفارق لا يتعلق بالحياة الخاصة؛ لا تلائم هنا، نظرًا
للحياة الخاصة التي تتمتع بها الذات، فهي حاضرة وزيادة لدرجة أننا
لا نستطيع أن نفرض عليها وجهة نظر خارجية حقيقة. فإذا رجعنا إلى
الوراء كي ندرك المجال عن بُعد، تصاحبنا الذات في هذا التراجع، فهي
قريبة للغاية، ولا يمكنني أن أدور حولها. هل أنا مجتهد أم كسول؟
سأقرِّر ذلك دون شكٍّ عندما أتوجَّه إلى هؤلاء الذين يعرفونني،
وعندما أطلب رأيهم، أو باستطاعتي أن أجمع الوقائع التي تخصُّني،
وأحاول تفسيرها بطريقة موضوعية طالما أن الأمر يتعلق بآخر، ولكن من
العبث التوجُّه للذات مباشرةً ومحاولة استغلال حياتها الخاصة
لمعرفتها، لأنها على الضدِّ من ذلك هي التي تقف في طريقنا. وعلى
هذا تتمُّ «معرفة النفس جيدًا»، بأخذ وجهة نظر الآخر ضرورة، وهي
وجهة نظر خاطئة حتمًا،
٢٧ وجميع هؤلاء الذين حاولوا معرفة أنفسهم يوافقون على أن
هذه المحاولة للاستبطان تظهر في مبدئها كأنها جهد لتكوينٍ ما قد
أُعطي أصلًا مرةً واحدة، وبفعل واحد، باستعمال قِطع منفصلة، وشذرات
منعزلة، ويكون حَدْس الأنا موجود أيضًا سرابًا خادعًا باستمرار،
لأنه في نفس الوقت يكشف كل شيء ولا يكشف شيئًا. فضلًا عن هذا، كيف
يكون الأمر بخلاف ذلك، والأنا موجود ليس المجموع الكُلي الواقعي
لمجموعات الشعور (وقد يحتوي هذا المجموع الكُلي الواقعي على تناقض
شأن كلٍّ لا نهائي بالفعل)، بل الوحدة المثالية لجميع الحالات
والأفعال؟ وبطبيعة الحال يمكن لهذه الوحدة بوصفها مثاليةً أن
تحتويَ على عدد لا نهائي من الحالات. ولكننا ندرك جيدًا أن ما
ينكشف للحَدْس العيني الممتلئ؛ هو فقط هذه الوحدة بوصفها متجسمةً
للحالة الحاضرة، وابتداءً من هذه النواة العينية تتجه كمية صغيرة،
أو كبيرة، من المقاصد الفارغة (عدد لا نهائي من حيث المبدأ) نحو
الماضي ونحو المستقبل، ترمي إلى رؤية الحالات والأفعال غير
المُعطاة في الحاضر. وهؤلاء الذين على دراية، ولو عابرة،
بالفينومينولوجيا يدركون دون صعوبة أن الأنا موجود هو في نفس الوقت
وحدة مثالية لحالات يغيب معظمُها، ومجموع كُلي عيني يَهَب نفسه
كُليَّةً للحَدْس. وهذا يعني ببساطة أن الأنا موجود وحدة تتعلق
بمضمون الفكر لا بصورته، فلا تُوجَد شجرة، ولا يُوجَد كرسي على
نحوٍ آخر. وبطبيعة الحال يمكن للمقاصد الفارغة دائمًا أن تمتلئ،
ويمكن لأيِّ حالة، ولأيِّ فعل، دائمًا، أن يظهر من جديد للشعور،
وكأن الأنا موجود هو الذي يُنتج هذا الفعل وهذه الحالة، أو الذي
أنتجهما بالفعل.
وأخيرًا، فإن الذي يمنع منعًا باتًا من معرفة الأنا موجود معرفةً
حقيقية، هو الطريقة الخاصة للغاية التي يَهَب ذاته بها للشعور
التأمُّلي، فالواقع أن الأنا موجود لا يظهر بتاتًا إلا إذا لم ننظر
إليه. فيجب أن نحدق النظرة المعكوسة في اﻟ
Erlebniss (التجربة الحية)
بوصفها منبثقةً من الحالة. عندئذٍ يظهر الأنا موجود وراء الحالة في
الأفق، ولا يمكن رؤيتُه بتاتًا إلا من «زاوية العين»، ويتلاشى
بمجرَّد ما أتوجَّه بنظرتي نحوه، وأريد أن أدركه دون المرور باﻟ
Erlebniss (بالتجربة الحية)
وبالحالة؛ وذلك لأنني في الواقع عندما أحاول إدراك الأنا موجود
لذاته وبوصفه موضوعًا مباشرًا لشعوري، أرتدُّ من جديد إلى مستوى
اللامتأمَّل، ومن ثَم يختفي الأنا موجود مع الفعل التأمُّلي، ومن
هنا يأتي هذا الشعور المزعج بعدم اليقين، الذي يُعبِّر عنه كثير من
الفلاسفة عندما يضعون الأنا تحت حالة الشعور، وعندما يؤكدون أن
الشعور يجب أن يرتدَّ إلى نفسه كي يدرك الأنا الذي وراءه، ولكن ليس
هذا هو السبب، فالأنا موجود بطبيعته هارب.
ومع هذا، فإنه ممَّا لا شكَّ فيه ظهور الأنا على مستوى
اللامتأمَّل. فإذا سألني أحد: «ماذا تفعل؟» وأجيب منشغلًا: «أحاول
أن أنتزع هذه اللوحة» أو «أصلح العجلة الخلفية»، فإن هذه العبارات
لا تحيلنا إلى مستوى التأمل، بل أنطق بها دون أن أتوقف عن العمل،
ودون أن أتوقف عن الانشغال بالأفعال التي قمتُ بها أو التي أزمع
القيام بها وحدها وليس باعتباري أني أقوم بها الآن. ولكن هذا
«الأنا» الذي نتحدث عنه ليس مع هذا مجرَّد صورة من التركيب اللغوي،
فهو ذو معنًى، وهو مجرَّد مفهوم فارغ، مصيرُه أن يظلَّ فارغًا.
وبالمثل يمكنني التفكيرُ في كرسي في غياب كل كرسي بمجرَّد المفهوم،
كما يمكنني التفكير في الأنا في غياب الأنا، وهذا يوضح استعمال
عبارات مثل «ماذا تفعل بعد الظهر هذا؟»، «اذهبْ إلى المكتب»، أو
«قابلتُ صديقي زيد»، أو «يجب أن أكتب له» … إلخ، ولكن الأنا عندما
ترتدُّ من مستوى المتأمَّل إلى مستوى اللامتأمَّل، لا تفرغ فحسب،
بل تتحلَّل وتفقد حياتها الخاصة. وقد لا يمتلئ المفهوم بتاتًا
بمُعطيات الحَدْس، لأنه يهدف في هذه اللحظة إلى رؤية شيء آخر
غيرها. فالأنا الذي نحن بصدده هو، على نحوٍ ما، حاملٌ للأفعال التي
أقوم بها، أو التي يجب عليَّ القيامُ بها في العالم، من حيث هي
كيفيات للعالم وليست وحداتٍ لمجموعات الشعور. مثلًا: يجب أن ينكسر
الخشب إلى قطع صغيرة كي تشعل النار، ﻓ «يجب أن ينكسر» صفة للخشب،
وعلاقة موضوعية بين الخشب والنار التي يجب إشعالها. والآن أنا أكسر
الخشب، أيْ إن الفعل يتحقَّق في العالم، وإن الأنا كمفهوم هو
الدعامة الموضوعية الفارغة لهذا الفعل. وهذا هو السبب في أن الجسم
وصور الجسم يمكنه أن يمتصَّ الهبوط الشامل للأنا العيني الخاص
للتأمل، كي يصبح الأنا كمفهوم مُعطِيًا إياه ملاءً خادعًا.
٢٨ فأنا أقول «أنا» أكسر الخشب وأرى موضوع «الجسم»
وأُحسُّ به، وهو يَهُمُّ بكسر الخشب، فيستخدم الجسم إذَن كمركز
مرئي ملموس للأنا. وهكذا تظهر للعيان سلسلة الانكسارات والتناقضات
التي يجب أن تكون موضع اهتمام «علم الذات».
مستوى المتأمَّل |
شعور متأمَّل – محايثة – جوانية |
أنا موجود (حَدْس) – مفارقة – حياة خاصة |
(ميدان النفسي) |
مستوى اللامتأمِّل |
أنا كتصوُّر (إضافي) – فراغ مُفارق – دون حياة
خاصة
|
جسم مليء خادع للأنا كتصوُّر |
(ميدان النفسي الجسمي) |