مقدمة الكتاب
لحضرة الفاضل الأديب الأمير شكيب أرسلان الكاتب العربي المشهور
بسم الله الرحمن الرحيم
أبدأ بحمد الله، المنشئ البديع على مزيدِ نوالِه، وأشفع بالصلاة على رسول الله، السيد الشفيع، وعلى صحبه وآله. وبعد، فقد رأينا إخواننا طلابَ العربية أعظمَ ما كانوا عليها منذ أمدٍ إقبالًا، وأشدَّ ما عانوا في تحرِّي فوائدها إيجافًا وإيغالًا، وأحثَّ مما وجدناهم في سبيلها اجتهادًا، وأبصرَ ما عهدناه في مظانِّ تحصيلها ارتيادًا. رأينا الجمَّ الغفيرَ منهم — والحق يقال — دائبًا في إصلاح لغته وتثقيف مَلَكته، حريصًا على تقويم لسانه وإحكام بيانه، متوخِّيًا طرق الانطباع على بليغ الكلام، منتهجًا خطط الوصول إلى الطبقة العالية من القول، مما يجب أن يُلتمَس في كتب السلف، ويُنشَد في منشآت الأوَّلين من أهل هذا اللسان، السابقين في حلبة البيان، بالاستكثار من حفظ تراكيبهم، وتحدي أساليبهم، ومحاكاة نغمتهم، والاحتذاء على أمثلتهم، حتى تتحصَّل للمعاني منهم ملَّة راسخة، يصدر عنها في إنشائه، فلا يكون من شأنه أن يعلو ويسفل، ويغلو ويبذل، ولكنه يجري على نمط متناسب، ويفرغ في قالب واحد. وكانت هذه الغاية وتلك العناية بصناعة الإنشاء عمومًا، وبهذا النوع المرسل منه خصوصًا، أجدر ما تُصرَف نحوه الهمة، وأفضل ما تُثنى إليه الأزمَّة، لا سيَّما في هذا العصر الذي ازدحمَت فيه المعاني، وتعدَّدت المناجي، وتضاعفت المقاصد، واختلفت المواضيع، وتَوسَّع فيه مَن أمكَنَه القول ما كان من قبلُ حرجًا، وأوجد فيه ما لم يكن موجودًا، وأخرج ما لم يكن مخرجًا. وهو الذي اشتبكت فيه الوسائل وأثَّت العلائق، وتطالعت العقول، وتكاشفت الألباب، وتشارفت المعارف المتباينة، وتشاركت المدارك المتنابذة، حتى إن الأمم أمة واحدة، وكأن الأمة فرد واحد في تناول البعيد، وتقيُّد الشارد، والإحاطة بالمجهول. فتداعت من أجل ذلك المعاني من كلِّ جانبٍ بالسيل المتدفِّق، والعارض المُغْدق على رءوس الكتاب، لا تجد منصرفًا إلا من صنابير الأقلام وأنابيب اليراع.
وقد كان مكان الإنشاء كما كان على أدائه من العناية حقه، وتوفيره من المزاولة قسطه، والزمان على غير هذا الوضع، ونطاق العلوم أضيق، ومقاصد الكلام ولا ريب في كثير أقل، ومواطن التعبير تكاد تكون محصورة في جمٍّ من المواضيع، فكيف بالكاتبين والمعرِّبين من أهل هذه الأيام، وقد لزمهم من أدوات الكتابة بعض ما لم يلزم غيرهم، واعترضهم كثير من عقباتها التي لم تَعترِض مَن قبلهم، ومست بهم الحاجة إلى استغراق سيل هذه المعاني بمادة غزيرة، وعدة متينة من الألفاظ على نسَقٍ محمودٍ من التراكيب، فإن المعاني إذا كثرت على الألفاظ ضاق دونها ذرع الكتبة، فذهبوا في إبرازها إلى الخلق وعرضها على الأذهان مذاهب الضعف ومسالك السخف، فأقسَوا لغتهم وأعجموا منطقهم. وإذا كثرت الألفاظ على المعاني بين قوم سادت بينهم الصناعة اللفظية، وَلَها المشتغلون بنوع من الحفظ لم يُقصَد لذاته، فكان العِي والحصر أحسن منه، فكانت البُغية كل البغية في تناسُب القوتين، وتعادُل المتنين، وتضارُع المادتين، حتى يتوفَّر لكل معنًى نديده من اللفظ، ويتسنَّى بإزاء كلِّ مغزًى ضريبُه من السَّبك، ويُودِع كلُّ خاطر قالَبه الأليَق، ويلبس كلُّ فكر ثوبَه الألبق، وهي غاية من أبعد البعيد، وعقبة عنود لدى التصعيد، ولكنها رأس النصح في خدمة اللغة، وأول الواجب في حق اللسان، وإنما يُتذرَّع إلى تسهيلها وتمهيد طرُق تحصيلها، بإدمان النظر وإدامة السهر، في التطبُّع على بلاغة الأولين وتقليد مناهج السالفين. وكذلك كان أسنى ما تُخدم به هذه اللغة الشريفة لهذا العهد إثارة دفائن كنوزها، ونفض كنائن رموزها، واستخراج جواهرها التي أحرز منها النزر اليسير، وبقي الجم الكثير، وإنه لو لم يكن بين أيدينا — وايم الله — كلامه القديم، وحديث رسوله عليه التحية والتسليم، وإنهما بهذا اللسان، لَحَكما بأن هذه العربية لم تزلْ بكرًا لم تُفترَع، وسرًّا لم يُخترع؛ لقلة ما وصل إلى أيدي طلابها من نفائسها، وكثرة ما احتجب عن أعين خُطابها من عرائسها، فإن أكثر مشاهير الكُتاب ومَصَاقع الخطباء من أهل المئات الأُوَل بعد الهجرة لم تظفر الأيدي بكلامهم إلا قليلًا منه، منثورًا في بعض التآليف والمجاميع، متفرقًا منقطعًا بعضه عن بعض، مع أنهم العمدة في هذه الغاية والقدوة في هذا السبيل.
والناس في الأدب إنما تلتقط من فضلات مآدبهم، وتترشف من أسآر مشاربهم؛ ولذلك جعلتُ من بعض همي، مع عدم اتساع البال، ونصْب النفس لهذه الأشغال، التنقيبَ عن بعض آثار القوم، أهل هذا الشأو البعيد، والشأن الخطير، حتى ظفرتُ وأنا في هذه الأيام بدار الخلافة العظمى بجملة من الكتب، منها هذه الدرة اليتيمة لعبد الله بن المقفع المنشئ المشهور، معرِّب كتاب كليلة ودمنة، فاخترت عموم الفائدة بطبعها؛ لأنها — مع صغر حجمها — قد جمعت بين أعلى طبقات البلاغة، وأسمى درجات الحكمة، وتضمنت من الحِكَم البوالغ والحُجَج الدوامغ، ما لم يتضمنه كتاب قبلها ولا بعدها، فكانت حَرِيَّةً بأن يتخذها الكاتب منتجعَ لُبِّه وحماطة قلبه، وأن يجعلها دستور إنشائه ومثال احتذائه، وحقيقةً بأن يتخذها الإنسان نُصْب ناظره، وشغل خاطره، يهتدي بنور حكمها في ظُلَم المعاضل، ومُدلهمات المشاكل، ويتدرَّب بما أوضحته من سبل التصرف الحكيمة، ونهجته من جوادِّ الكمال القويمة، على امتزاج لحكمتها بقواعد الكون، ودخولها تحت طور الطوق. وما أنا محدث عن ابن المقفع وهو رب هذا الأمر، وواسطة هذا العقد، وفي شهرته ما يغني عن الإفاضة والإشادة، وفي الاطلاع على هذه الرسالة ما يكفي الشاهد مؤنة الشهادة. ولعمري لو استفرغ مجتهدٌ وسعه في إهداء أرباب الأقلام طُرفة تُعجبهم، فقصاراه نشر كلام مثل ابن المقفع؛ إذ لا يجد في هذا الباب أجزل لهم نفعًا ولا أسنى لديهم وقعًا؛ ولذلك كان لا شبهة عندي في أن ما توخيه من الفائدة يلاقي إقبال الطلاب، ويقتضي ثناءهم بحسن الانتخاب، فقد يكون من فضل المرء في حسن انتقائه ما يربو على فضله في حسن إنشائه، إذ كان من الاختيار ما هو أنطق بالفضل، وأدل على العقل، على حد قول القائل: «قد عرفناك باختيارك؛ إذ كان دليلًا على اللبيب اختيارُه.»