مقدمة
لقد أصبح العالَم بالفعل — سواء أكان ذلك جيدًا أم سيئًا — قريةً صغيرة واحدة لا يمكن لثقافة منغلقة منعزلة أن تواصل الحياةَ فيها، هذا إن كان لمثل هذه الثقافة وجودٌ في الأساس. على الثقافات أن تتفاوض، عليها أن تعطيَ وتأخذ، عليها أن تُعِير وتستعير، وليس ذلك بظاهرة جديدة أو مبتدَعة في سياق العولمة الحديث. يخبرنا تاريخ ثقافات العالَم أنَّ موجة الحضارة قد وُلدت على الأرجح في مكانٍ ما حول أحواض الأنهار، ربما في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى أو مصر أو العراق، ثم انتقلت إلى اليونان، وعادت بعدها إلى الشرق الأوسط في صورة الثقافة الهيلينية. ومع ظهور الإسلام، بزغت ثقافةٌ جديدة استوعبت عناصرَ الثقافة الهيلينية وكذلك الهندية والإيرانية، وأعادت صياغتها، ثم انتقلت هذه الثقافة الجديدة إلى العالَم الغربي الجديد عبر إسبانيا وصقلية.
هل لي أن أذكرَ هنا الفيلسوف المسلم ابن رشد، الذي يُعرَف في السياقات اللاتينية باسم أفيروس، وأهمية كتاباته في التوليف بين الإرث الأرسطي والإرث الإسلامي، لينتشر بذلك نورًا فكريًّا جديدًا في خِضم عصور الظلام في أوروبا؟
أودُّ أن أنتهزَ هذه الفرصة للتعبير عن امتناني إلى مؤسسة «سقراط» الإنسانية، ومنظمة التنمية الإنسانية، والمعهد الإنساني للتعاون الإنمائي «هيفوس»، ومجلس محافظي جامعة الإنسانيات بأوترخيت، وذلك لمبادرتهم المهمة جدًّا المتمثِّلة في تأسيس كرسي أكاديمي للدراسات الإسلامية والإنسانية بالاسم العربي، ابن رشد، بدلًا من الاسم اللاتيني أفيروس. وإنني ليشرفني للغاية أن أكونَ أولَ باحث يَشغل هذا الكرسي؛ واتساقًا مع فكر ابن رشد، فإنني أرجو ألا يقتصر جهدي اليوم على تقديم تلك المحاضرة التي ألقيها بمناسبة قبولي لهذا الكرسي، بل آمُل أن يمتدَّ إلى المساهمة في عملية بناء جسور متينة بين الإسلام والمذهب الإنساني.
لماذا يُعد تناوُل القرآن بنظرة جديدة أمرًا في غاية الأهمية للمسلمين اليوم؟ في سياق رُهاب الإسلام الذي نشهده في الغرب اليوم، لا سيَّما بعد أزمة الحادي عشر من سبتمبر، وما تلتها من عمليات إرهابية في كل مكان بالعالم الإسلامي وغير الإسلامي أيضًا، مما اختزل الإسلام في الأصولية والعنف والإقصاء، ينبغي للمرء أن يركِّز على أهمية هذه الدعوة إلى «النظرة الجديدة للقرآن» بالنسبة إلى المسلمين في العموم، والمسلمين الذين يعيشون في أوروبا على وجه الخصوص. ولست أدَّعي هنا أنني أقوم بأي مهمة تبشيرية لصياغة نسخة محدَّدة من الإسلام، وإنما أقدِّم موقفي التأويلي فحسب.
غير أنَّ آلية «النظرة الجديدة للتراث» والتفاوض بشأن «معنى» القرآن في العالَم الإسلامي لم تزل تشهد تطورًا منذ القرن الثامن عشر. إنني لن أدعوَ هنا إلى استمرارية آلية هذه النظرة الجديدة فحسب، بل أدعو أيضًا إلى تطويرها نحو صياغة منهجية بنَّاءة للمسلمين، أينما كانوا، لكي ينخرطوا بفاعلية في تشكيل «معنى الحياة» في العالَم الذي يعيشون فيه.
في عام ٢٠٠٠، شرُفت بأن اختارتني اللجنة المسئولة في جامعة لايدن لاعتلاء كرسي كليفرينخا للقانون والحرية والمسئولية، ولا سيما حرية الدِّين والضمير، ذلك الكرسي الذي يشغَله صاحبه مدة عام واحد. وفي محاضرتي الافتتاحية التي ألقيتها قبل ثلاثة أعوام ونصف بالضبط، في يوم الاثنين الموافق السابع والعشرين من نوفمبر لعام ٢٠٠٠، قدمتُ مفهومَ القرآن بوصفه مجالًا للتواصل بين الإله والإنسان. جاءت المحاضرة بعنوان «القرآن: التواصل بين الله والإنسان»، وقد حاولتُ أن أقدِّم فيها قراءةً جديدة، ومن ثَم تفسيرًا جديدًا، لبعض الافتراضات الأساسية الموجودة في المجالات الكلاسيكية المعروفة باسم «علوم القرآن»، لا سيَّما تلك العلوم التي تتناول طبيعة القرآن وتاريخه وبِنيته.
في هذه القراءة الجديدة وذلك التفسير الجديد، استخدمتُ بعضَ النُّظم المنهجية، مثل علم الدلالة وعلم العلامات (السيميوطيقا)، إضافةً إلى النقد التاريخي وعلم التأويل (الهرمنيوطيقا)، وكلها من المجالات التي لا تُطبَّق بصفة عامة في الدراسات القرآنية التقليدية في العالم الإسلامي، ولا تحظى بالتقدير الملائم لها. وقد ركَّزتُ في تحليلي على البُعد «الرأسي» للوحي؛ أي عملية التواصل بين الله والنبي محمد التي أنتجت القرآن. ولما أنتج هذا التواصل الرأسي، الذي استمر على مدار أكثر من عشرين عامًا، مجموعةً متعدِّدة من الخطابات (في صورة آيات وسور قصيرة وطويلة)، فقد كان لهذه الخطابات ترتيبٌ زمني.
في عملية تدوين القرآن وجَمْعه التي انبثقَ منها النص المقدَّس في صورة «المصحف»، لم يُحفظ هذا الترتيب الزمني، بل استُبدل به ما يُعرَف الآن ﺑ «ترتيب التلاوة»، بينما صار الترتيب الزمني يُعرَف الآن ﺑ «ترتيب النزول». وفقًا للنظرة التقليدية، فإنَّ القرآن قد حُفظ على نحوٍ تام شفويًّا منذ البداية، ثم دوِّن خلال حياة النبي محمد أو بعد وفاته بفترة قصيرة حين «جُمِع» ورتِّب للمرة الأولى على يد صحابته. ويُعتقد أنَّ النص الثابت الكامل تأسَّس في عهد الخليفة الثالث، عثمان (٦٤٤–٦٥٦)، بينما استقر النص المُشكل النهائي في بدايات القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي. ومن المهم لنا — حتى إذا تبنَّينا النظرةَ السلفية دونما نقد — أن ندركَ وجود بُعد بشري آخر في عملية تدوين القرآن وجمعه هذه، استدعى عمليةَ إعادة الترتيب التي جرَت مبكرًا، والتطبيق المتأخر لعلامات التشكيل على النص الثابت.
واليوم، أودُّ أن أُطوِّر أكثرَ أطروحتي عن الجانب البشري من القرآن، منتقِلًا من البُعد الرأسي إلى البُعد «الأفقي». وما أعنيه بالبُعد الأفقي يتجاوز عمليةَ التدوين والجمع، أو يمكن القول إنه يتجاوز ما يعرِّفه بعضُ الباحثين الآخرين بأنه فِعل الإبلاغ التدريجي من جانب النبي محمد لرسالة القرآن بعد تلقيها، أو نشر الرسالة عبر «النص التفسيري»، وفقًا لمحمد أركون. ما أقصده هو البُعد «الأفقي» المضمَّن في بنية القرآن، والذي تجلَّى خلال عملية الاتصال نفسها. ولا يمكن إدراكُ هذا البُعد الأفقي إلا إذا حوَّلنا إطارنا المفاهيمي من النظر إلى القرآن بوصفه «نصًّا»، ونظرنا إليه بوصفه «خطابًا».