نظرة جديدة للقرآن
(١) القرآن بوصفه «خطابًا»
إنَّ علماء القرآن في العصر الحديث يتبنَّون مفهومَ القرآن بوصفه «نصًّا»، رغم اختلاف نموذج «المعنى» الذي يحاول كلٌّ منهم فَهْمه من القرآن واستنباطه منه. وصحيحٌ أنَّ التعامل مع القرآن بوصفه «نصًّا» فحسب يعزِّز احتمالات التفسير وإعادة التفسير، لكنه يتيح أيضًا التلاعبَ الأيديولوجي بكلٍّ من «البنية» و«المعنى»، على غِرار التفسيرات الجدلية للمتكلمين.
بالنسبة إلى الباحثين المسلمين، كان القرآن نصًّا على الدوام، منذ لحظة تدوينه وجمعه حتى الآن. وقد حان الوقت الآن لأن نوليَ عنايةً خاصة للقرآن بوصفه خطابًا أو خطابات. فلم يَعُد يكفي الآن أن نعيدَ النظر في سياق سورة أو بعض السور حين نحتاج إلى مواجهة الحَرفية أو الأصولية، أو حين نحتاج إلى أن نطرح عنا ممارساتٍ تاريخية محددة تبدو غير ملائمة في سياقنا الحديث. ولم يَعُد يكفي أيضًا أن نستدعيَ علم التأويل الحديث لتبرير تاريخية كل نمط من أنماط الفهم، ومن ثَم نسبيته، مع الزعم في الوقت نفسه أنَّ تأويلنا الحديث هو الأنسب والأكثر صلاحية. ذلك أنَّ هذه النُّهُج غير الكافية لا تنتج إلا خطابًا تأويليًّا جدليًّا أو دفاعيًّا.
من دون تبني نظرة جديدة للقرآن، ومن دون استعادة وضعه الحي بوصفه «خطابًا»، سواء أكان ذلك في النطاق الأكاديمي أم في نطاق الحياة اليومية، لن يمكن تأسيس أي تأويل ديمقراطي. لماذا ينبغي أن يكون التأويل ديمقراطيًّا؟ لأن التأويل يتعلق ﺑ «معنى الحياة»؛ فلا بد أن يكون مفتوحًا بنحو ديمقراطي. إذا كنا صادقين بشأن تحرير الفكر الديني من استغلال السلطة، سياسيةً كانت أو اجتماعية أو دينية، لكي نعيدَ صياغة «المعنى» إلى مجتمع المؤمنين، فسنحتاج إلى تأسيس تأويل إنساني ديمقراطي مفتوح.
إنَّ التنوُّع التجريبي للمعنى الديني جزءٌ من تنوُّعنا الإنساني بخصوص معنى الحياة في العموم، وهو ما يُفترَض أن يكون قيمةً إيجابية في السياق الحديث الذي نحيا فيه. ولكي نعيد تأسيس الصلة بين معنى القرآن ومعنى الحياة، صار لزامًا علينا الآن أن نشيرَ إلى حقيقة أنَّ القرآن كان نتاج حوار وجدال وحِجاج وقبول ورفض، ولم يكن ذلك موجَّهًا لمعايير فترةِ ما قبل الإسلام وممارساتها وثقافتها فحسب، بل كان موجَّهًا أيضًا إلى تقييماته وافتراضاته وتأكيداته السابقة، إلى آخر ذلك.
ربما يكون من المفاجئ الزعم بأنه — في الفترة المبكرة من الإسلام وقبل أن يُدوَّن القرآن ويُجمع بالكامل، وقبل أن يصبح الإسلام مؤسسيًّا تمامًا بالطبع — تطوَّر التمييز بين القرآن: الخطاب الذي لا يزال حيًّا، وبين المصحف، النص الصامت، على خلفية دعوة لتسييس القرآن. وتلك لحظة من المهم تذكُّرها.
(٢) القرآن في مقابل المصحف: المتحدِّث والصامت
أودُّ أن أبدأ هنا بمقولةٍ تعود إلى الخليفة الرابع، علي، ابن عم النبي محمد وصهره، وهي مقولة يصف فيها المصحف بأنه صامت لا يتكلم، وإنما يتكلم به الرجال. ثمَّة أهمية كبيرة للسياق الذي ظهرت فيه هذه المقولة؛ إذ يمكن أن يوضح كثيرًا الوضع الحالي الذي قلما يغيب فيه التلاعب السياسي بمعنى القرآن.
تتفق الحركات الإسلامية السياسية الحديثة، سواء الأصولية أو الوسطية منها، على سلطة الله المطلَقة في تحديد قواعد السلوكيات التفصيلية للفرد وتشريعها، إضافةً إلى القواعد التي تحكم المجتمع ككلٍّ. وفي الخطاب التأويلي السياسي الحديث، يستند هذا الزعم بالمصدر الإلهي المطلَق للتشريع على دعوى مماثلة لتلك التي نادى بها المعارضون للتحكيم. فبينما صرخ معارضو القرن السابع: «لا حكم إلا لله»، مؤوِّلين الكلمة القرآنية «يحكم» بمعنى الفصل في النزاعات، فإنَّ المعارضين السياسيين في العصر الحديث يفهمون الكلمةَ نفسها بمعنى الحكم عن طريق التشريع.
يمكننا أيضًا أن نجدَ هذا التلاعب السياسي والأيديولوجي في الحِقبة الكلاسيكية للإسلام. وقد استمر هذا التلاعب بناءً على تأكيد واضح صريح على أنَّ القرآن نصٌّ فحسب.
(٣) إعادة بناء «النص» والتلاعب به
كان معارضو المعتزلة الفكريون هم التقليديين الذين تمسَّكوا بالتفسير الحَرفي لجميع آيات القرآن لدرجة أنهم أقروا بحقيقة وجود جميع الصفات الإلهية، وجميع الصور المتعلقة بالآخرة، وحتى فكرة إمكانية رؤية الله بالعين البشرية. احتجَّ المعتزلة على فكرتهم القائلة بأنَّ التفسير الحرفي للنص المقدس واجب ديني، ورأوا أنه يمثل عائقًا أمام استكمال مسيرة البشَر. فقد رأى المعتزلة أنَّ الله فرضَ على البشر واجبَ اكتساب المعرفة الحقيقية من خلال استخدام قدراتهم العقلية.
سوف أشرح لاحقًا أنَّ هذه الفرضية القائلة بوجود «المحكم» و«المتشابه» في القرآن جزء من الخطاب الحواري في القرآن، الحوار مع مسيحيي الجزيرة العربية: النصارى. ولكي يفترض عالِم الدين وجودَ قاعدة مؤسِّسة أو مبدأ للتأويل كان ذلك يستدعي افتراض «نصية» القرآن.
بالنسبة إلى الفقهاء، فقد استند نهجُهم على مبدأ بنيوي آخر يفرِّق بين «المتقدم» من الوحي و«المتأخر» منه. ووفقًا لهذا المبدأ، ينبغي ألا يوجد أيُّ تعارض فيما يتعلق بأي أمر محلَّل أو محرَّم؛ لأنَّ «المتأخر» ينسخ دائمًا «المتقدم».
- (١)
الآيات والسور التي حُذفَت تمامًا من «النص المغلق» الحالي؛ أي إنها كانت من القرآن فيما سبق، لكنها لم تَعُد كذلك الآن.
- (٢)
الآيات والسور التي عُطِّلَت تشريعاتها وأحكامها، لكنها لا تزال جزءًا من القرآن؛ لقد نُزِعَت قوَّتها التشريعية لكنها لا تزال تحتفظ بمكانتها الإلهية باعتبارها كلام الله.
- (٣)
الآيات والسور التي بقيت أحكامها وتشريعاتها رغم أنها حُذِفَت من القرآن؛ وتدخل ضمن هذه الفئة عقوبةُ الرجم على زنا المحصنين.
- (٤) وبالطبع الآيات والسور التي لم تخضع للنَّسخ.١٠
حتى الآن، يبدو أنَّ التأويل الصوفي، الذي يؤكد على التعدُّد الدلالي بما يتفق مع اشتراك المتلقي في إنتاج المعنى، أقربُ إلى إدراك طبيعة القرآن من تأويل علماء الكلام والفلاسفة (ربما باستثناء ابن رشد) والفقهاء. لقد استطاع الصوفيون، وفقًا لمفهوم اندماج الفرد مع القرآن، تطويرَ مفهوم «السماع»، ومن ثَم تقديم الوجه الآخر من العملة، وهو القرآن بمعنى الكلام والتلاوة. إن التعامل مع القرآن بوصفه نصًّا فحسب سيؤدي بنا إلى أن يكون التأويل هو الوجه الآخر من العملة، وهو تأويل المصحف في هذه الحالة لا القرآن.
إنَّ السؤال المطروح أمامنا الآن هو: «أيمكن لأي خطاب تأويلي أن يتجاهل حقيقةَ أنَّ القرآن ليس نصًّا «فحسب»؟» يوضح لنا تاريخ التفسير حتى الآن أنَّ التعامل مع القرآن اقتصر على النظر إليه بوصفه نصًّا لا يحتاج إلا إلى التحليل البنيوي والفيلولوجي للكشف عن معناه. يتضح هذا في نهج علماء الكلام والفلاسفة، الذي يتأسَّس على افتراضِ ثنائية «المحكَم والمتشابه»، التي تمكَّنت من البقاء حتى اليوم. ومثلما رأينا بالفعل، فإنَّ مثل هذه الثنائية تسهِّل التلاعبَ الدلالي بالمعنى القرآني. غير أنَّ التعامل مع القرآن بوصفه «خطابًا» سيقدِّم نموذجًا مختلفًا قد يعزِّز من خطابنا التأويلي المقترح.
ما سأعرضه فيما يلي لا يقدِّم سوى بعض الأمثلة على خصائص الخطاب القرآني؛ فالعرض الشامل المفصَّل لذلك يستلزم كتابًا كاملًا. وأنا لا آمُل سوى أن توفِّر الأمثلة التالية عمادًا لمشروع أكبر.
(٤) تعدُّد الأصوات لا الصوت الواحد: مَن يتحدَّث ومَن يستمع؟
القرآن كلامُ الله؛ ولا خلاف بشأن هذه العقيدة، لكنَّ بنية الخطاب القرآني تكشف عن وجود أصوات متعددة، لا صوت واحد. فالخطاب القرآني متعددُ الأصوات، لا أحادي الصوت؛ إذ يوجد العديد من الأصوات التي لا يكون فيها المتحدِّث بأحد ضميرَي المتكلم: «أنا» و«نحن» أو كليهما، الصوت الإلهي على الدوام. وفي بعض الأحيان، يُقدَّم الصوت الإلهي في صيغة ضمير الغائب «هو»، أو في صيغة ضمير المخاطب «أنت». على سبيل المثال، نجد الظهورَ الإلهي باستخدام الضمير «هو» مسبوقًا بفعل الأمر «قُل»، الذي ينطق به صوتٌ آخر — غير معروف على نحوٍ مؤكَّد — مخاطبًا محمد، في سورة الصمد، والتي تُعَد إحدى أوائل السور التي نزلت في مكة:
قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ.
وفقًا للاعتقاد الإسلامي، ينبغي أن يكون هذا الصوت غيرُ المحدَّد، هو صوت جبريل، وسيط الإله ورسوله الذي أوحى إلى محمد بالرسالة. وبصفته رسولًا، فإنه يبلِّغ الرسالة عبر صوته نيابةً عن الصوت الإلهي. وبعد ذلك، يتعيَّن إعلام الناس بما قاله هذا الصوت الإلهي المستتر الذي صار جليًّا لمحمد عبر صوت الملاك، من خلال صوت محمد البشري. وفي وجود هذه الأصوات الثلاثة المعنية، فإنَّ نمط الخطاب في هذه السورة هو النمط «الإعلامي».
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى * أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى * كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ.
إنَّ الخبر الذي ورد في «سيرة النبي»، والذي نعرف منه أنَّ محمدًا كان مترددًا في الامتثال لطلب الملاك القوي والمتكرر بأن «يقرأ»، يشير إلى أنَّ محمدًا ربما كان منخرطًا بالفعل في «قراءة» محدَّدة باسم إله محدَّد؛ إذ يبدو أنَّ صوت الملاك الذي كان يطالبه بالقراءة كان يهدف إلى إقناعه بالقراءة باسم «الإله» الذي يعرِّفه به. ونحن نجد أنَّ بنية الخطاب التي تتكرَّر فيها صيغة الأمر «اقرأ» مرتين تدعم هذا الاقتراح.
إضافةً إلى ذلك، ففي الآيات التعبُّدية و/أو الدعائية، نجد أنَّ صوت المتحدِّث هو الصوت البشري، بينما صوت المخاطَب هو الإله. ولعل المثال الأفضل على ذلك هو السورة الافتتاحية في القرآن، والتي تُقرأ في الصلوات اليومية الخمس المفروضة على كل مسلم.
الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.
ومن المثير للاهتمام أنه يُنظَر إلى قراءة هذه السورة باعتبارها طلبًا لاستجابة الإله، لكنَّ القراءة صريحة، والرد الإلهي ضمني. بعبارة أخرى، إنَّ قراءة هذه الآيات ينبغي أن تكون ببطء، مع توقُّف القارئ لتلقي الإجابة. يمكننا أيضًا القول إنَّ قراءة هذه السورة تتضمن كلًّا من النطق والسماع. ثمَّة خبر يرِد بصفته حديثًا قدسيًّا يقول فيه الله:
إنَّ هذا النوع من الحوار الضمني بين الإنسان والله، حيث يصبح الإنسان هو المتحدِّث رغم أنه يتلو كلام الله، ويصبح الله — المتحدِّث الافتراضي في القرآن المتلوِّ — هو المتلقي، جليٌّ للغاية في بنية القرآن. وبناءً على هذا، فإنَّ «الحوار» من السِّمات الأخرى التي ينبغي تقديمها ضمن نطاق بنية الخطاب القرآني المتعددة الأصوات.
(٥) الحوار
إنَّ الإشارة إلى ما يدخل ضمن فئة «آيات القول»، حيث يرِد تركيب: «يقولون … قل»، تكفي لضرب كثير من الأمثلة على «التحاور». قد يكون «الحوار» جدليًّا أو دفاعيًّا، وقد يكون استيعابيًّا أو إقصائيًّا، وقد يكون أيضًا بناءً أو هدامًا. وسوف أقتصر هنا على ذكرِ أنواع ثلاثة من أنواع الحوار أصنِّفها وفقًا للمخاطب: الحوار مع الكفار، والحوار مع اليهود والنصارى في الجزيرة العربية، والحوار مع المؤمنين.
لقد بدأ الحوار مع الكفار، مُشركي مكة، هادئًا وناعمًا، لكنه احتد تدريجيًّا. فعندما بدأ وثنيُّو مكة في التفاوض مع محمد، مقترحين أن يُبدي محمد الاحترامَ لآلهتهم في مقابل الاعتراف بربه، يبدو في سياق الحوار الهادئ الناعم أن محمدًا تقبَّله. يقودنا هذا إلى القصة المثيرة للاهتمام المذكورة في المصادر التاريخية القديمة، والتي تحكي أنَّ محمدًا كان يتلو سورة النجم في حضور عدد من مشركي مكة، وحين أتى على ذكرِ ثلاثة من آلهتهم المفضَّلة في الآيتين ١٩ و٢٠، نطق محمد بآيتين قصيرتين هما: «تلك الغرانيقُ العُلى/وإنَّ شفاعتَهن لتُرتَجي.» وحين وصل النبي في تلاوته إلى الآية الأخيرة من هذه السورة: «فاسجدوا لله واعبدوا»، سجد المشركون مع المسلمين في إشارة إلى الصلح بين محمد وأهل مكة.
يرفض العديد من الباحثين المسلمين هذه القصة باعتبارها بدعةً متأخرة، بينما يقبلها معظم كُتاب السِّير الأوروبيين باعتبارها قصةً تاريخية. ولسنا معنيين الآن بالدخول في هذا الجدل؛ لأنَّ القرآن نفسه يشير إلى هذه القصة في الآية ٥٢ من سورة الحج؛ إذ ينفي صحةَ الآيتين ويعزوهما إلى تدخُّل شيطاني على لسان محمد، ويقول إنه سيُنسَخ.
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
سواء أكان نفي القرآن لصحة الآيتين يعكس وجودَ عملية مفاوضات أم لا، تظل الحقيقة أنَّ ثَمة دليلًا قرآنيًّا على وقوع الحدث تاريخيًّا، وربما يُعَد هذا النفي الخطوة الأولى لتعيين حدٍّ فاصل مطلَق بين «التوحيد» و«الشرك». لكن كان ينبغي وضعُ هذا الحد تدريجيًّا.
وردت الخطوة الأولى للفصل المطلَق في إحدى أوائل السور، سورة الكافرون، التي يُنصَح فيها محمد، عن طريق صوت غير معروف — صوت الملاك — بألا يتفاوض مع الكافرين والمشركين بعد ذلك، وأن يميز اعتقاداته عن اعتقاداتهم.
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ.
إنَّ تَكرار نفيه لعبادةِ ما يعبدونه مرتين يشير إلى وجود معارضة قوية من جانب الكفار، مصحوبة بدعوة مضادة متكررة بالقوة نفسِها لتبادل العبادة. بعبارة أخرى، إنَّ البنية الأسلوبية لهذه السورة القصيرة تكشف عن وجود حوار نقلته هذه السورة.
لكن عندما يُهاجَم محمد ويُشكك في نبوته، يدافع القرآن عن محمد. لقد شكَّك أهلُ مكة في أصالة المصدر الإلهي للقرآن؛ مما كان يعني الطعن في صدقِ محمد وأمانته وجدارته أو مصداقيته. لا يأتي الخلاف بشأن الزعم باختلاق محمد للقرآن وافترائه، والرد على هذا الخلاف، بأسلوب «يقولون»، وإنما يُفهَم الرد من سياق التفنيد. ويُعَد ذلك من أبرز سِمات بنية «الخطاب»؛ اشتراكه مع خطاب آخر ضمني أو صريح، وتفاعله معه.
حاول العرب بكل طريقة أن يفسِّروا ما للقرآن من تأثير استثنائي عليهم، وذلك من خلال تفسير هذا التأثير في سياق جميع أنواع الخطابات المعروفة لديهم، مثل «الكهانة» والشِّعر وحتى السِّحر. وقد ذكر القرآن تفسيراتهم جميعها وفنَّدها. عندما يفسِّر العرب طبيعةَ القرآن بأنها «شِعر» ويتهمون النبي بتأليفه، تأتيهم الإجابة على مثل هذا التفسير والاتهام: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (يس، الآية ٦٩). وحين يقولون إنَّ محمدًا ليس سوى كاهن، يردُّ القرآن: فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (الطور، الآية ٢٩). وفي سياق هذا الجدال، زعم الكافرون أنَّ القرآن ليس سوى قصص اختلقها محمد الذي زعم أنها أُوحيت إليه من عند الله. وزعموا أنهم قادرون على الإتيان بخطابٍ مشابه. وفي مواجهة مثل هذا التحدي، أتى القرآن بتحدٍّ مقابل، طالبًا منهم أن يأتوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ (هود، الآية ١٣).
وحين عجز الكفار عن مواجهة هذا التحدي القوي، خفَّف القرآن منه بتقليله من «عشر» سور إلى «سورة» واحدة (يونس، الآية ١٣) متظاهرًا بتسهيله عليهم. وكانت الخطوة الأخيرة هي الإشارة إلى فشل العرب الذريع في تحدي أصالة القرآن:
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ. (البقرة، الآيتان ٢٣–٢٤)
لقد أدَّى هذا الخلاف والجدال مع مشركي العرب إلى تأسيس مبدأ الإعجاز؛ أي التفوُّق الأسلوبي والأدبي للقرآن واختلافه المنقطع النظير عن أي خطاب آخر.
ثمَّة شكل آخر من أشكال الحوار الشائعة في القرآن، وهو الحوار مع المؤمنين في صيغة: «يسألونك … قل»، وهي الصيغة التي وردت في القرآن خمس عشرة مرة. وتغطي هذه الأسئلة التي يجيب عنها القرآن عددًا مختلفًا من الجوانب المهمة. طُرِحَت الأسئلة عن الخمر والميسر (البقرة، الآية ٢١٩)، وعن اليتامى (البقرة، الآية ٢٢٠)، وعن المحيض (البقرة، الآية ٢٢٢)، وعن الأحكام المتعلِّقة بالطعام (المائدة، الآية ٤)، وعن الصدقة (البقرة، الآيتان ٢١٥ و٢١٩)، وعن تحريم القتال في الشهر الحرام (البقرة، ٢١٧)، وعن غنائم الحرب (الأنفال، الآية ١). ومن خلال تقديم الإجابات عن مثل هذه الأسئلة، صيغ الجزءُ الأكبر من الجانب التشريعي للقرآن تدريجيًّا، مما يعكس الطبيعة التفاعلية للقرآن مع الاهتمامات البشرية.
هل ستُعَد الإجابات المقدَّمة عن هذه الأسئلة في هذا السياق الحواري تشريعاتٍ نهائية؟ ماذا عن الإجابات المختلفة التي قُدمت لأسئلة تتعلق بقضية واحدة؟ لنتناول، على سبيل المثال، قضية الزواج المختلط التي تُثار دائمًا في أي نقاش يتعلق بحقوق الإنسان في الإسلام. فمع أنَّ الآية ٥ من سورة المائدة تسمح للمسلمين بالزواج من نساء غير مسلمات، يبدو أنَّ الآية ٢٢١ من سورة البقرة تلغي هذا. ويبقى السؤال: أي قاعدة هي التي ستسود؟ وثَمة سؤال آخر لم يظهر إلا في العصر الحديث، وهو يتعلق بما إذا كان هذا الإذن مكفولًا للرجال من المسلمين فحسب، أم ينبغي أن يمتد ليشمل النساء أيضًا؟
•••
إذا تعاملنا مع القرآن بصفته خطابًا، فسيمكننا تجاوز منظور الفقهاء الذي ينطلق من صياغة الأحكام، والذي يستلزم نمطًا معينًا من الثبات. كلٌّ من الآيتين خطاب مستقل؛ فبينما تعبِّر الآية ٢٢١ من سورة البقرة عن اتخاذ موقف لا يقبل التفاوض مع المشركين، وهو موقفٌ أشرنا إليه سابقًا، فإنَّ الآية ٥ من سورة المائدة، تعبِّر عن «التآلف» في الحياة الاجتماعية. تتحدَّث الآية عن «إباحة الطيبات»؛ فهي تبدأ بالحديث عن «الطعام»، مشيرةً إلى أنَّ «طعام الذين أوتوا الكتاب» حلالٌ للمسلمين، وليس ذلك فحسب، بل إنَّ «طعام المسلمين» هو أيضًا حلال لأهل الكتاب.
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ.
إنَّ هذا الخطاب يتحدَّث أولًا عن «إباحة الطيبات»؛ والمثال الأول على هذه «الطيبات» هو مشاركة الطعام. وبعد ذلك، يُقدَّم الزواج المختلط بصفته جزءًا لا يتجزأ من «الطيبات» مما يؤكِّد النداء الضمني ﻟ «التآلف» الاجتماعي.
إنَّ التبرير الذي قدَّمه العلماء في العصر الحديث للاحتفاظ بالرأي الكلاسيكي يمكن التفاوض بشأنه بسهولة. وفي مناقشة المسألة الحديثة فيما يتعلق بالمساواة في الزواج المختلط، يكفي أن نقول إنهم لا يزالون يعتقدون بسيادة الرجل في أمور الأسرة؛ ويحاجُّون بناءً على ذلك بأنَّ إيمان غير المسلمات اللائي يتزوجن من مسلمين سيحظى بالاحترام. غير أنهم يخشون من أن الزوج غير المسلم لن يحترم إيمان زوجته المسلمة. وقد أشاروا أيضًا إلى أنَّه لما كان الإسلام آخرَ رسالة نزلت من الله فهو يحترم كلًّا من المسيحية واليهودية؛ ومن ثَم فإنَّ إيمان الزوج المسلم يحمي إيمانَ زوجته غير المسلمة. أما الموقف المعاكس فهو غير ممكن؛ لأنَّ المسيحية لا تعترف إلا باليهودية، بينما لا تعترف اليهودية بالمسيحية ولا الإسلام.
من الجلي أنَّ العلماء لا يزالون أسرى «النظرة الأبوية» للعالم من ناحية، وﻟ «النظرة الدينية» له من ناحية أخرى. إنَّ قرار الزواج هو قرارٌ فردي — أو ينبغي له أن يكون كذلك — فتحديد الظروف التي ترغب المرأة في العيش وفقًا لها مع زوجها أو التي يرغب الرجل في العيش وفقًا لها مع زوجته هو قرار فردي. المسألة التي نناقشها إذن لا تتعلق بالزواج المختلط بقدْر ما تتعلق بالحرية الفردية، التي تتضمن حريةَ الدين والاعتقاد. لا يتَّسع المجال هنا لمناقشة هذه القضية. بالرغم من ذلك، فربما سيفي بالغرض أن نذكر أنه لا توجد آية واحدة في القرآن تنصُّ على عقاب دنيوي أو شرعي للرِّدة؛ فالعلماء — حتى التقليديون منهم — كثيرًا ما يستشهدون بصيغة «لا إكراه في الدين» دليلًا على حرية الاعتقاد الديني، وإن كانوا يفعلون ذلك على نحوٍ دفاعي.
(٦) التفاوض
مثلما بينَّا بالفعل، فإنَّ موقفَ عدم التفاوض مع المشركين يجلب نمطًا إقصائيًّا من الخطاب، حيث الطريقةُ الوحيدة الممكنة للتواصل هي الخلاف والجدال والرفض. أمَّا الخطاب مع المؤمنين، فيختلف وفقًا لطريقة تعاملهم مع مشكلتهم؛ فيُمدحون على نجاحهم ويُلامون على إخفاقهم وحتى يُدانون عليه. ينطبق ذلك على النبي محمد نفسه أيضًا. إذ بينما كان مشغولًا بوعظ أغنياء قريش أملًا في أن يقوُّوا من شوكة مجتمع المؤمنين حديث التشكل، لم ينتبه لرجل فقير أعمى — قال المفسِّرون الأوائل إنه ابن أم مكتوم — كان قد جاء طلبًا للنصيحة. ينتقد القرآن موقفَ محمد بشدة، مخاطبًا إياه في البداية بضمير الغائب، وهي علامة على التقصير.
عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى. (عبس، الآيات ١–١٠)
يطلِق القرآن على المسيح ألقابًا عديدة، من أشهرها «ابن مريم»، تأكيدًا على طبيعته البشرية. بالرغم من ذلك، فهو يصفه أيضًا بأنه «روح من الله» و«كلمته ألقاها إلى مريم» عن طريق الروح القُدس. عِلاوةً على ذلك، يذكر القرآن أنَّ المسيح هو مَن تنبأ بأنَّ «أحمد» — والمقصود به محمد — هو الرسول الذي سيأتي بعده.
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ. (الصف، الآية ٦)
في هذا السياق، فرض القرآن الصيام على المسلمين؛ وفيه أيضًا اتجه المسلمون في صلاتهم إلى حيث يتجه اليهود، إلى القدس. غير أنَّ العلاقة بين مجتمع المسلمين ومجتمع اليهود لم تستمر بهذه السلاسة التي بدأت بها. فقد اشتعلت الخلافات الجدلية التي اشترك فيها القرآن، الذي بدأ يغير مفهوم «الدين الواحد» الذي كان يتحدَّث عنه سابقًا ويسميه «الإسلام»، وهو دين جميع الأنبياء منذ آدم وحتى عيسى:
ربما يدُل تغيير قِبلة الصلاة من القدس إلى مكة على أول علامات الفصل بين المجتمعين. يصل الخلاف الجدلي في بعض الأحيان إلى حد الإدانة الحادة. غير أنه يصبح في أحيانٍ أخرى نوعًا من التذكير الهادئ بفضل الله على بني إسرائيل. يمكن تتبُّع هذا الخلاف الجدلي بصورتَيه: الحادة والهادئة، في سورة البقرة، لأنها تضم قصةً محددة تعكس غرور بني إسرائيل في الامتثال لأوامر أنبيائهم البسيطة. ونلاحظ الاستخدام المتكرر لصيغة الأمر من الفعل «ذكر» (إذ تكررت ١٩ مرةً تقريبًا في هذه السورة وحدها)، وهي موجَّهة إلى بني إسرائيل مباشرةً في استهلال سرد أجزاء من تاريخهم في التردُّد بشأن اتباع الطريق القويم ورفضه.
إنَّ عدم القدرة على استيعاب بنية «الخطاب» سيؤدي على الأرجح إلى توسيعه ليشمل كلَّ اليهود حتى العصر الحالي. المسألة لا تتعلق بالسياقية فحسب، وإن كان ذلك أمرًا مركزيًّا في تحليل الخطاب، لكن الأهم هو ما يخبرنا به الخطاب بشأن السياق والكيفية التي يخبرنا بها بذلك. إنَّ السؤال المطروح أمامنا الآن هو: ما التاريخي وما العالمي؟ وهو سؤال يشغل جميع المسلمين الليبراليين المعاصرين من الباحثين في علوم القرآن. إنَّ التقيُّد بالقرآن بوصفه «نصًّا» يؤدي إلى انتصار المحافظين في نهاية المطاف. فحين يؤكد الليبراليون على أنَّ «التآلف» مثلًا هو المبدأ العالمي الذي يحُد من «العداء» مقيدًا معناه بالماضي السلبي، فإنَّ المحافظين سيطبِّقون مبدأ «النَّسخ» ليصبح «التآلف» بذلك هو المبدأ التاريخي المنسوخ، بينما يصبح «العِداء» هو المبدأ العالمي الناسخ. تُرى أي التأويلين أو المعنيين سيفوز في السياق الحالي المتمثل في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؟ لا شك أنَّ المعنى الذي سيفوز هو معنى الجيتو؛ أي الانفصال والانعزال، معنى جدار السيد شارون.
ينطبق الأمر نفسه على الخلاف الجدلي مع المسيحيين، أو النصارى، فيما يتعلق بطبيعة المسيح. لقد أوضحنا بالفعل أنَّ القرآن يذكر أنَّ المسيح قد تنبأ بمجيء نبي اسمه أحمد. ورأينا أيضًا أن السورة التي تُسمَّى سورة «مريم» قد تُليَت في بلاط النجاشي وبحضور الأساقفة. إنَّ قراءةً سريعة لهذه السورة ومقارنتها مع إنجيل متَّى ستكشف لنا بسهولة عن وجود أرضية مشتركة. وبالرغم من ذلك، فثمَّة قضية لا تقبل التفاوض هي ما يبقي الحدود بين المسلمين والمسيحيين قائمةً إلى الدرجة التي تجعل مفهوم «التآلف» يكاد يكون منسيًّا.
تتمثَّل هذه القضية في الطبيعة البشرية للمسيح وفقًا للقرآن، وطبيعته الإلهية وفقًا للعقيدة المشتركة للكنائس المسيحية. إذا قيَّدنا أنفسنا بما ورد في سورة البقرة عند تناول الخطاب أو الخلاف القرآني مع اليهود، فسيجدُر بنا أيضًا أن نقيِّد تناولنا للخلاف القرآني مع النصارى، بما جاء في سورة آل عمران، التي تدافع في مستهلها في الآية ٣، عن صحة جميع الكتب المقدسة.
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ.
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. (آل عمران، الآية ٥٩)
قدَّم القرآن بعد ذلك تحديًا دينيًّا خطِرًا يبدو أنه تسبَّب في خوف الوفد. وهنا يمكننا أن ندرك «قوة» الخطاب، أو الخطاب بصفته «سلطويًّا»؛ إنَّ مثل هذا الخطاب القوي لم يكن ليظهر في مكة، ببساطة لأنَّ المسلمين كانوا مجموعةً صغيرة مستضعفة. ومثلما تخبرنا المصادر، فقد انسحب أفراد الوفد المسيحي مؤثِرين أن يدفعوا مبلغًا سنويًّا من المال يجمعونه فيما بينهم (الجزية) على أن يواجهوا لعنةً قد يجلبها القرآن.
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ. (آل عمران، الآية ٦١)
إنَّ القضية التي لا تقبل التفاوضَ بالنسبة إلى القرآن هي ألوهية المسيح، سواءٌ أكان ذلك بوصفه إلهًا أم ابنًا له؛ فهي أمرٌ غير مقبول على الإطلاق، مثلما أنه لا توجد أية إمكانية للتفاوض مع المشركين؛ ولهذا فإنَّ القرآن يسمي من يؤمنون بألوهية المسيح بالمشركين أو بالكفار. وبناءً على هذا، فإنَّ الإمكانية الوحيدة للاتفاق مع المسيحيين لا تتأتَّى إلا بتخلِّيهم عن الزعم بألوهية المسيح، وهذا في حد ذاته طلبٌ مستحيل. إضافةً إلى ذلك، يذكر القرآن حجج المسيحيين الخاطئة بشأن الأمور التي لا يعرفونها؛ إذ إنَّ الحقيقة النهائية هي التي نزلت على محمد. يوضح القرآن أنَّ زعم كلٍّ من اليهود والمسيحيين بأنهم وحدَهم ورثة النبي إبراهيم زعمٌ خاطئ. يوضح القرآن خطأ هذا الزعم بدليل أنَّ إبراهيم لم يكن يهوديًّا ولا نصرانيًّا؛ إذ لم تنزل التوراة والإنجيل إلا من بعده (راجع آل عمران، الآيات ٦٤–٦٧).
النقطة التي أرغب في الإشارة إليها الآن أنَّ القرآن لم يتبرأ قط من النصوص المقدَّسة اليهودية والمسيحية؛ فهو يعترف أنها جاءت من نفس المصدر الذي نزل منه القرآن، ألا وهو: الوحي. لكنَّ محلَّ الخلاف على الدوام هو كيفية فهْم أهل الكتاب لهذه النصوص وتفسيرهم إياها؛ فالقضية إذَن هي التأويل الخاطئ، وبهذا تتضح لنا أهميةُ الآية ٧ من سورة آل عمران، التي اتخذها علماء الدين المسلمون مبدأً أساسيًّا للتأويل. والآية هي:
تقييمي هنا هو أنه في سياق إنكار الفهم المسيحي فإن الآيات التي يصف فيها القرآن المسيح بأنه «روح» و«كلمة» من الله عُدت «متشابهة»، في حين عُدت تلك التي تؤكد على إنسانيته باعتباره نبيًّا ورسولًا فقط «محكمات»، بحيث تمثل عماد الكتاب.
من القضايا الخلافية بين المسلمين والمسيحيين أيضًا عقيدة الصلب، التي يؤمن المسلمون بأنَّ القرآن ينكرها. لا يرى المسلمون تضاربًا بين الموت العادي والرفع؛ فالقرآن يؤكد على كليهما. ولا يرى المسلمون تضاربًا بين الموت الطبيعي للمسيح ورفعه؛ فالقرآن يؤكد على كليهما. ليس السياق الذي تُذكَر فيه قضية الصلب سياقَ الخلاف مع المسيحيين، بل الجدال مع اليهود والخلاف معهم دفاعًا عن مريم والمسيح (النساء، ١٥٣–١٥٨). في هذا السياق، ينكر القرآن افتراء اليهود على مريم واتهامهم لها بالزنا ويدينه بشدة. وفي السياق نفسه، ينكر القرآن أيضًا زعمَ اليهود بأنهم قتلوا المسيح، وهو زعمٌ ينطوي على تهديد بأنهم قد يقتلون النبي محمدًا.
َسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا * وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا. (النساء، ١٥٣–١٥٨)
لو أنَّ لقضية صلبِ المسيح في القرآن أهميةً تعادل قضية طبيعته، لورد ذكرها مرارًا وفي سياقات مختلفة. وبما أنها لا توجد إلا في سياق الرد على زعم اليهود، فإنَّ بنية الخطاب تشير إلى إنكار مقدرة اليهود على أن يكونوا قد فعلوا ذلك، وإخبار محمد ضمنيًّا بأنَّ تهديدهم الضمني بقتله، كما قتلوا عيسى، غير ممكن؛ إذ لن يسمح الله بذلك. مرةً أخرى، نجد أنَّ السؤال المطروح أمامنا: أيٌّ من هذين المعنيين سيسود، التآلف أم الانعزال؟ لا شك أنَّ هذا يستدعي العلاقة بين الغرب والعالم الإسلامي إلى نقاشنا. فكيف تؤثِّر هذه العلاقة في كيفية تبني المسلمين لنظرة جديدة لتراثهم من أجل تحديث حياتهم دون التخلي عن قوَّتهم الروحية، لا سيما في ضوء المشروع الاستعماري الأمريكي؟
اسمحوا لي الآن أن أقدِّم لكم إمكانيةَ الإصلاح الحقيقي في مجال الشريعة، إذا كان المفهوم الذي قدَّمته للقرآن مقبولًا.
(٧) تفكيك الشريعة
هل سيساعد التعامل مع القرآن بوصفه خطابًا، منخرطًا للغاية في الحوار مع المؤمنين وغير المؤمنين أيضًا، في معالجة القضايا الشرعية الشائكة التي لم تُحَل بعدُ لأنَّ غالبية المسلمين يَعُدونها وحيًا إلهيًّا؟ ربما توجد بعض الجماعات الراديكالية التي لم تزل تصرخ وتقاتل من أجل استعادة الخلافة، لكن الدولة الوطنية الراسخة في جميع البلدان المسلمة في عصرِ ما بعد الاستعمار قد حقَّقت تحولًا باتجاه مسألة القانون. والآن، صار الالتزام بإقامة دولة إسلامية تحكمها الشريعة بالكامل قضيةً خلافية بين التوجهين الأساسيين في الخطاب الإسلامي الحديث. ونجد أنَّ دساتير جميع الدول الإسلامية تتضمن المادة «الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، ومبادئ الشريعة هي مصدر التشريع».
إنَّ الصراع بين الدول وبين الجماعات الراديكالية، الذي يتسم بالعنف والحِدة في بعض الأحيان، لا يرتبط كثيرًا بتطبيق الشريعة في الحياة الاجتماعية والفردية من عدمه. وإنما يتعلَّق أكثر بدرجة تطبيق الشريعة، وبما إذا كان النظام السياسي مستغرِبًا أم لا، ومن ثَم معاديًا للإسلام.
إذا كان كافيًا للفرد أن يشهد بالإسلام وأن يؤديَ الأركان الأربعة الأخرى: إقامة الصلوات اليومية الخمس، وصيام شهر رمضان، وأداء الزكاة، وأداء الحج إن توافرت لديه الاستطاعة المادية؛ فإنَّ ذلك غير كافٍ للمجتمع. ففي حالة عدم إقامة دولة إسلامية، سوف يُسأل كل فرد مسلم أمام الله عن هذا الفشل الديني؛ هذا ما يعظ به ممثلو الجماعات الإسلامية الراديكالية وممثلو ما يُسمى بالخطاب الإسلامي «الوسطي».
إنَّ المفكرين المسلمين الذين يتبنَّون وجهةَ نظر مختلفة بشأن العلاقة بين الإسلام والسياسة، يُدانون بوصفهم «مستغربين»؛ أي إنهم ليسوا بالمفكرين المسلمين الحقيقيين. ولا تشتهر آراء هؤلاء المفكرين المسلمين غير التقليديين وغير الراديكاليين خارج حدود العالم الإسلامي، لا سيما آراء مَن يفضِّلون مخاطبةَ قرائهم بلغتهم الإقليمية. أما الدعاة الراديكاليون المحرِّضون، فيحرص بشدةٍ الإعلام الغربي على تقديم أفكارهم، مما يخلق الانطباعَ لدى العقل الغربي بأنه ليس للإسلام سوى وجه واحد: وجه بن لادن.
اسمحوا لي الآن أن أطرح عليكم بإيجاز رؤيتي البحثية بشأن مفهوم الشريعة. وفقًا للمصادر التراثية، فإنَّ الآيات القرآنية التي تتضمَّن دلالات تشريعية وتُعتبر هي أساس الشريعة تبلغ حوالي ٥٠٠ آية. وبناءً على هذه الآيات، التي تمثِّل سدس القرآن أو ١٦٪ منه، بنى الفقهاء نظامًا من الاستنباط والاستدلال يُسمى ﺑ «علم أصول الفقه». ووفقًا لهذه المبادئ، أضافوا إلى القرآن مصدرًا ثانيًا، وهو «السُّنة النبوية». صنَّف الفقهاء السُّنة النبوية على أنها المصدر الثاني للتشريع، وقالوا بأنها إلهية بقدْر ما أنَّ القرآن ذاته إلهي. ولأنَّ مصدرين إلهيَّين لم يكونا كافيَين لحل المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والجنائية المتزايدة، اضطُر الفقهاء إلى تبني مبدأ ثالث يستند إلى القواعد الفقهية المتَّفق عليها بالفعل يُسمَّى «الإجماع»، ويُقصَد به إجماع جيل المسلمين الأول من صحابة النبي. ظهرت بعد ذلك حاجةٌ شديدة إلى وجود مبدأ رابع هو «الاجتهاد»؛ وذلك لحل المشكلات التي لم يجدوا حلًّا لها في المصادر الثلاثة السابقة. غير أنَّ مبدأ الاجتهاد هذا كان مقتصرًا في حقيقة الأمر على تطبيق طريقة القياس، التي تتمثَّل في التوصل إلى حلٍّ لمشكلة محدَّدة من خلال مقارنة هذه المشكلة مع أخرى مماثلة قد حلَّها أحد المصادر الثلاثة.
تستند أدبيات الشريعة بأكملها، في سياق المذاهب السُّنية الأربعة الكبرى على الأقل، على المبادئ التي سبق ذكرها، مما يعني أنَّ الشريعة منتجٌ بشري، وليست إلهية على الإطلاق. من المحال أيضًا أن ندعي صلاحيتها لكل زمان ومكان.
إذا درسنا سياق بعض التشريعات القانونية التي نصَّ عليها القرآن، مثل عقوبة الزنا أو السرقة أو الحِرابة أو القتل، والتي تُسمى بالحدود، فإنَّ السؤال الذي يُطرَح أمامنا هو: أكانت هذه العقوبات من ابتكار الإسلام بالكلية، ومن ثَم فهي إسلامية؟ والإجابة هي «لا» بكل تأكيد؛ فجميع هذه العقوبات ظهرت بوجه عام قبل الإسلام؛ إذ يعود بعضها إلى الديانة اليهودية التي كانت قد تبنَّتها أصلًا من القانون الروماني، وبعضها يعود إلى نظمٍ أقدمَ بكثير. ولا يجوز في عصرنا الحديث الذي نراعي فيه احترامَ حقوق الإنسان وسلامة جسده، أن نفكِّر في بتر أعضاء من الجسد البشري أو تطبيق عقوبة الإعدام باعتبارهما من العقوبات الدينية الإلزامية التي فرضها الله.
ثمَّة جوانبُ أخرى من الشريعة، مثل الجوانب المتعلقة بحقوق الأقليات الدينية وحقوق المرأة وحقوق الإنسان بصفة عامة، ينبغي مراجعتها أيضًا وتناولها بمنظور جديد. إنَّ وضع التشريعات القرآنية في سياقها، إضافةً إلى دراسة بنيتها اللغوية والأسلوبية — بوصفها خطابًا — سيوضح أنَّ وظيفة الفقهاء في الأصل كانت هي الكشف عن معنى تلك التشريعات، وإعادة توظيف هذا المعنى في سياقاتهم الاجتماعية المختلفة. فليس القرآن في حد ذاته كتابًا قانونيًّا، بل ترِد التشريعات القانونية — مثلما أثبتنا بالفعل — بأسلوب الخطاب، مما يعكس وجود سياق من التفاعل مع الاحتياجات البشرية في زمن محدَّد، مما يتيح بدوره تخصيص «المعنى» المقصود لكل نموذج من نماذج المعنى.
إنَّ التعامل مع القرآن بوصفه خطابًا يوفِّر خيارات متعددة وحلولًا متعددة ومجالًا مفتوحًا للفهم. وما نستنتجه إذَن هو أنَّ الزعم بأنَّ الشريعة ملزِمة لجميع المجتمعات المسلمة بصرف النظر عن الزمان والمكان هو ببساطة إضفاء للقداسة على الإنتاج الفكري التاريخي البشري. ولمَّا كانت الحال كذلك، فلا إلزام إذَن بإقامة دولة دينية تُدعى إسلامية. فليس هذا الطلب سوى دعوى أيديولوجية لتأسيس سلطة ثيوقراطية سياسية لا تخضع للمساءلة؛ ليس هذا الطلب سوى إعادة إحياء لأسوأ الأنظمة السياسية الديكتاتورية على حساب البُعد الروحاني والأخلاقي للإسلام.
(٨) تحدِّي الحداثة: سياق مُربِك
لم يفتأ المسلمون يعيدون التفكير في مصادر المعرفة الإسلامية ويعيدون تعريفها ويعدِّلونها. وخضعت أمورٌ مثل السُّنة والإجماع والقياس إلى مناقشات وجدالات عميقة وخلافية منذ القرن الثامن عشر. ولم يزل معنى القرآن، ومن ثَم معنى الإسلام، موضوعًا للاستقصاء والبحث والتخصيص وإعادة التخصيص والتفاوض منذ أواخر القرن التاسع عشر. كان الحافز الجوهري والأولي لهذا النوع من «النظرة الجديدة» هو السعي القوي لتطوير المجتمعات المسلمة في اتجاه الحداثة من جانب، والإبقاء على روح الإسلام وقواه من الجانب الآخر؛ فقد كانت الحداثة رغم كل شيء قوةً أجنبية فرضتها من أعلى الهيمنةُ الأوروبية الاستعمارية على العالم الإسلامي بأكمله بعد تفكيك الإمبراطورية العثمانية.
بنهاية القرن التاسع عشر، كانت بريطانيا قد نجحت بالفعل في استعمار الجزء الأكبر من الهند. ونجحت فرنسا، تحت قيادة نابليون بونابرت، في احتلال مصر عام ١٧٩٨. وبعد ذلك، احتلت فرنسا الجزائر في عام ١٨٣٠، ثم تونس في عام ١٨٨١، وزحفت بريطانيا على مصر عام ١٨٨٢. وقبل ذلك بفترة طويلة، كانت هولندا قد احتلت إندونيسيا بالفعل. وكانت هناك كثير من الحملات الأخرى خلال الفترة التي تكشَّف فيها برنامج الغرب الاستعماري في أنحاء العالم الإسلامي.
وفي هذا السياق، يمكن للمرء أن يذكر ثلاثة على الأقل من التحديات التي حفزت المسلمين على إعادة التفكير في تراثهم، وشكَّلت أيضًا كيفيةَ قيامهم بذلك. أول هذه التحديات الثلاثة هي الاكتشافات العلمية والتكنولوجيا المتقدمة. وبالنسبة إلى التحدي الثاني، فهو مسألة العقل والعقلانية، وأما التحدي الثالث فهو التحدي السياسي. وغنيٌّ عن القول أنَّ هذه التحديات الثلاثة، التي نطرحها هنا كلًّا على حدة، كانت متشابكة على الدوام في كلٍّ من توجُّهات التفسير التي سنعرضها.
-
(١)
عرف العالم الإسلامي العلومَ والتكنولوجيا الحديثة في شكل معدَّات عسكرية غريبة تسبَّبت في هزيمتهم أمام القوى الغربية التي تتبنَّى المنهج التجريبي، وأدَّت إلى احتلال غزاة غير مسلمين لبلادهم. فحين وصل الجيش الفرنسي إلى الإسكندرية عام ١٧٩٨، كان جنود المماليك جاهزين للقتال رجلًا لرجل. غير أنهم ذُهِلوا لرؤية المدافع القوية التي قتلت عشرات الجنود بقذيفة واحدة ومن مسافة بعيدة. أحضر نابليون بونابرت مع جيشه عددًا من علماء علوم الطبيعة والاجتماع. ويخبرنا الجبرتي في عمله التاريخي عن تلك الفترة عن ردِّ فِعل علماء الأزهر حين دُعوا لمشاهدة تجارب كيميائية في المختبر الذي أنشأه الفرنسيون بالقاهرة. لقد كانوا مرعوبين حتى إنَّ بعضهم قد فرَّ هاربًا وهو يتعوَّذ؛ إذ رأوا أنَّ هذه التجارب ضربٌ من السِّحر. كان هذا هو اللقاء الأول بين المفكِّرين المصريين والتكنولوجيا الحديثة الناتجة عن البحث والاستقصاء العلمي الحديث. وكانت استجابتهم لذلك أن يتعلموا ليكتسبوا القوة التي تمكِّنهم من المقاومة. إن تعلُّم العلوم الحديثة من خلال إرسال بعثات من الطلاب لدراسة العلوم في أوروبا واستيراد التكنولوجيا الحديثة، لا سيما الأسلحة العسكرية، كانت إذَن هي الاستجابة الأساسية التي صدرت عن كلٍّ من مصر وتركيا.
-
(٢)
وفي خِضم القوة العسكرية، كان ثمَّة سلاح فكري يعزو مسئولية ضَعف العالم الإسلامي إلى الإسلام. في هذا السياق، كانت عقلية المستعمِر تنظر إلى دول العالم الإسلامي وتتعامل معها وتخاطبها بصفتها مسلمة فقط، دون أي هوية فرعية أخرى، كالهوية الهندية أو الإندونيسية أو العربية. وازداد الأمر تعقيدًا حين قبِل المستعمَرون هذه الهويةَ التي فرضها عليهم المستعمِر دون أي مناقشة؛ ومن ثَم فقد تقمَّصوا هذه الهوية واختزلوا أنفسهم فيها، مما أدَّى إلى تشكيل أزمة هوية لديهم.
لقد ظهرت دعاوى صريحة بأنه لا بد لهذا الجزء من العالم أن يتجاهل الإسلام ويهجره إن كان له أن يحرز أيَّ تقدُّم في اللَّحاق برَكْب الحداثة. ويكفي أن نذكر ما قاله الفيلسوف الفرنسي إرنست رينان (١٨٣٢–١٨٩٢) والسياسي والمؤرخ الفرنسي جابرييل هانوتو (١٨٥٣–١٩٤٤)،٢٨ الذي شغل منصب وزير الشئون الخارجية من عام ١٨٩٤ حتى ١٨٩٨. رأى رينان أنَّ الإسلام لا يتلاءم إطلاقًا مع العلم أو الفلسفة. وزعم في رسالته للدكتوراه، التي صدرت عام ١٨٥٢ تحت عنوان «ابن رشد والرشدية» أنَّ أيًّا ما يُدعى بالعلوم الإسلامية والفلسفة الإسلامية ليس سوى ترجمة لما قاله الإغريق. ووفقًا لرينان، إن الإسلام، شأنه شأن العقائد الدينية الأخرى التي تستند إلى الوحي، يعادي المنطق والتفكير الحر. هانوتو أيضًا كان يرى أنَّ الإسلام مسئول عن تخلُّف العالم الإسلامي. وقد بنى زعمه بناءً على الاختلاف اللاهوتي بين الإسلام والمسيحية. فوفقًا لهانوتو، إنَّ عقيدة التجسُّد في المسيحية ينتج عنها بناءُ جسر بين الإنسان وبين الله، مما يحرِّر الإنسان من أي اعتقاد بالجبرية. على النقيض من ذلك، فإنَّ عقيدة التوحيد الخالص التي يتبنَّاها الإسلام قد خلقت فاصلًا واضحًا بين الإنسان والله، فلم تسمح بمجال للإرادة البشرية الحرة. وبناءً على هذا السبب اللاهوتي، فسَّر هانوتو الاستبداد السياسي الذي يميز العالم الإسلامي.٢٩هاجم كلٌّ من جمال الدين الأفغاني (١٨٣٨–١٨٩٧)٣٠ ومحمد عبده (١٨٤٨–١٩٠٥) هذه الادعاءات، مشيرين إلى أنَّ السبب في تخلُّف المسلمين لا يعود إلى الإسلام في حد ذاته، بل إلى سوء فهْم المسلمين المعاصرين للإسلام. وزعم كلاهما أنه إذا فُهِم الإسلام على نحو ملائم وفُسِّر على نحو صحيح، مثلما كانت الحال في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، فما كانت القوة الأوروبية لتهزم المسلمين ولا أن تهيمن عليهم بسهولة.كان السؤال الأساسي الذي واجه المصلحين المسلمين المعاصرين الأوائل هو هل كان الإسلام متوافقًا مع الحداثة أم لا. كيف يمكن لمسلم مخلِص أن يعيش في بيئة سياسية واجتماعية حديثة دون أن يفقد هُويته الإسلامية؟ هل يتلاءم الإسلام مع العلم والفلسفة؟ بعد ذلك، ظهر السؤال المتعلِّق بمدى ملاءمة الشريعة التي تحكم المجتمع التقليدي، ومدى ملاءمة القانون الوضعي الذي يحكم الدول الوطنية الحديثة. أيقبل الإسلام الأعراف السياسية الحديثة مثل الديمقراطية والانتخابات والبرلمان، وهل من الممكن أن تُستبدَل هذه الأعراف بمؤسسة «الشورى» التقليدية وسلطة نخبة العلماء «أهل الحَل والعَقد»؟
-
(٣)
إنَّ مناقشة مثل هذه الأسئلة تشكل جزءًا أساسيًّا من مسألة الدِّين والسياسة. لقد ظهرت مسألة الإسلام السياسي في ظل الاحتلال الاستعماري لمعظم الدول الإسلامية، وذلك منذ زمن بعيد يعود إلى عام ١٧٩٨ في مصر على سبيل المثال، حيث عرف المسلمون أنماطًا مختلفة من الحياة جلبها المستعمِرون إلى حياتهم اليومية. فهم يختلفون عنهم في الشكل وفي طريقة الملبس، وفي التصرفات، وفي اللغة التي يتحدثون بها. وهم يأكلون المحرَّم من الطعام ويشربون الخمر ويتواصلون بحرية مع نساءٍ لَسْن من محارمهم، وحتى نساؤهم يرتدين ثيابًا غير لائقة. باختصار، إنَّ وجود هؤلاء الدخلاء في إقليم إسلامي تمامًا هم وحدهم مَن يختلفون عنه كان انتهاكًا شديدًا للهوية الدينية والاجتماعية للمسلمين.
مما يدعو إلى السخرية، أو ربما المفارقة، أنَّ بونابرت قدَّم نفسه للعلماء المصريين بصفته حامي «الإيمان» في وجه كلٍّ من البابا الكاثوليكي والسلطان العثماني الفاسد. وبعد ذلك، عزَّز زعمه بالتظاهر بالدخول في الإسلام. غير أنَّ كِلا الزعمين لم يُجدِ شيئًا. وظهرت مشكلة السياسة بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية بنهاية الحرب العالمية الأولى. وأدَّى قرار الحركة التركية الوطنية الجديدة بإلغاء الخلافة إلى إثارة السؤال عما إذا كانت الخلافة مؤسَّسة إسلامية أم إنها كانت شكلًا من أشكال الأنظمة السياسية يمكن الاستعاضة عنه بنظام آخر دون التخلي عن الهوية الإسلامية. وفي خِضم هذا التوتر والغموض الذي يحيط بمثل هذه الفترات الانتقالية، وجد العالم الإسلامي نفسه مجردًا فجأةً من هويته، متمثلةً في الخلافة. وقد حاولت شخصياتٌ سياسية، مثل الملك فؤاد في مصر والشريف حسين في الجزيرة العربية، استعادةَ الخلافة، وسعى كلٌّ منهما لأن يُبايَع خليفةً لجميع المسلمين.
كان المصري علي عبد الرازق (١٨٨٨–١٩٦٦) هو مَن أيَّد إلغاء الخلافة مبرهنًا على أنه لا يوجد نظام سياسي محدَّد يوصَف بأنه إسلامي. لكنَّ استجابة محمد رشيد رضا (١٨٦٥–١٩٣٥) جاءت مختلفة. فقد دافع عن الخلافة بصفتها نظامًا إسلاميًّا أصيلًا لا بد من إقامته مجددًا، وإلا فسيعاني المسلمون العودةَ للجاهلية.٣١ وكردِّ فعلٍ سياسي على ذلك، تأسَّست جماعة الإخوان المسلمين في مصر عام ١٩٢٨. كان هدفها الأساسي هو إعادة تأسيس المجتمع الإسلامي في مصر باعتباره نموذجًا مثاليًّا ينبغي تطبيقه في كل مكان قبل استعادة الخلافة. ونتيجةً لهذا، أصبحت إعادة الأسلمة مضادةً للتحديث، الذي قُدِّم بصفته تغريبًا للمجتمع. إنَّ جميع الحركات الإسلامية السياسية الحديثة، التي توصَف عادةً في الخطاب العام الغربي بأنها حركات أصولية، تُعَد خلفًا لجماعة الإخوان المسلمين.في مثل هذا السياق التاريخي المربِك، لم يجرِ التعامُل عن قربٍ قَط مع السؤال المتعلق ﺑ «طبيعة» القرآن و«بنيته»، وكذلك خلفيته التاريخية. ولما كان القرآن هو النص التأسيسي الأسمى للإسلام، فقد ظل بعيدًا عن متناول أي دراسة نقدية؛ إذ إنه مصدر الوحي الأساسي والجوهري الأوحد الذي يمكن الاعتماد عليه؛ فهو، أولًا وأخيرًا، كلام الله. وقد نظر المسلمون إلى دراسة المستشرقين للقرآن وتاريخه وبنيته على أنها جزء من المؤامرة الأوروبية ضد الإسلام والمسلمين.
(٩) نظرة جديدة للتراث
بدايةً، أود أن أعرض بإيجاز الوجهَ الآخر من الإسلام الحديث، ذلك الوجه غير العنيف والأكثر انفتاحًا والليبرالي على الأرجح، الذي لا يعرفه سوى المخلصين من الباحثين غير المنحازين، وهو وجهٌ خفي بعض الشيء في وسائل الإعلام الغربية والشرقية على حد سواء، وصوت مكتوم فيها. وسيتضح من هذا العرض — كما أرجو — أنَّ مسألة «تبني نظرة جديدة للقرآن» ضرورية إن أراد المسلمون حقًّا تبنِّي مشروع الحداثة الأساسي والجوهري بمزيد من المشاركة البناءة.
ومن أجل تقديم سردٍ موجَز لهذه العملية، ينبغي تحديد المبادئ المعرفية للإسلام منذ بداياته إلى أن وصل إلى العصر الحديث، واستوجب الأمر تناوُله بنظرة جديدة. يجب أن أوضح أنَّ المصادر الأربعة التي سأذكرها هنا لا تمثل سوى وجهٍ واحد من الثقافة الإسلامية المتعددة الأوجه؛ وهو وجه الشريعة. هذه المبادئ هي المبادئ المعرفية التي تسمَّى أصولَ الفقه، والتي تُستخرج القواعدُ الفقهية وفقًا لها. وقد تأثَّرت كل الحركات الإحيائية إلى حد كبير بالظروف التي جرى فيها حصر الإسلام: إيمان قائم على الشريعة فقط. يعرف دارسو الإسلام أنَّ الشريعة هي وجه واحد فقط من الأوجه المتعددة للتقاليد والثقافات الإسلامية، وهو وجهٌ يمكن التفريقُ بينه وبين عدد من الأوجه المتعددة الأخرى، مثل الفلسفة وعلم الكلام والصوفية وغير ذلك.
إنَّ السبب وراء اختزال الإسلام في نموذج الشريعة هو أنَّ الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام الإسلامي وكذلك الفلسفة الصوفية الإبداعية قد هُمِّشَت تدريجيًّا منذ القرن الخامس الهجري؛ أي القرن الثاني عشر الميلادي. فقد عانى الفلاسفة وعلماء الكلام غير الأصوليين، كالعالم الشهير ابن رشد، درجاتٍ مختلفةً من الاضطهاد. ويكفي هنا أن نذكر اثنين فقط من كبار المتصوفين الذين أُعدموا، وهما: الحلاج (الذي أُعدم عام ٩١٠) وشهاب الدين يحيى السُّهرَوَردي (الذي أُعدم عام ١١٩١). ووفقًا لمذاهب الفقه الكبرى، مصادر المعرفة مرتبةٌ ترتيبًا هرميًّا كما يأتي:
يأتي في المرتبة الأولى على الإطلاق القرآن وتفسيره اللذان يمثِّلان النبع المعرفي الرئيسي؛ فهو كلام الله الموحى به بالعربية إلى النبي محمد في القرن السابع الميلادي. ورغم أنه يخاطب العرب بصفة أساسية، فإنَّ رسالته موجَّهة إلى البشرية جمعاء أيًّا كان زمانها ومكانها. فالقرآن هو مصدر الهداية والنور، وهو الخطة الإلهية النهائية للخلاص في هذا العالم وفي الحياة الأخرى.
في المرتبة الثانية بعد القرآن، تأتي أقوال النبي محمد وأفعاله، بما في ذلك ما استحسنه من أقوال صحابته وأفعالهم وما استهجنه منها. ويُعرَف هذا بالسُّنة النبوية. وقد اعتُبرَت السُّنة النبوية إلهية بقدر القرآن نفسه؛ لأنَّ كليهما وحي من الله. ووُضِّح الاختلاف بينهما من خلال التمييز بين «المحتوى» والتعبير اللغوي أو «الشكل» في كلٍّ منهما. فالقرآن كلام الله؛ ومن ثَم فكلٌّ من محتواه وشكله إلهي. على الجانب الآخر، فإنَّ محتوى السُّنة وحي من الله، لكنه بشري الشكل؛ أي إنَّ محمدًا هو مَن صاغه في كلمات. بالرغم من ذلك، فهي ليست أقل منزلة من القرآن، بل هي مساوية له في المكانة وإن كانت تالية له في الترتيب. لقد ذهب الفقهاء أيضًا إلى حد التأكيد على أنَّ القرآن يحتاج إلى السُّنة أكثر مما تحتاج السُّنة إلى القرآن. ليست السُّنة للتفسير فحسب، بل لتوضيحِ ما ذُكر فيه ضمنيًّا أيضًا، مثل كيفية أداء الصلاة والصيام أو معرفة شروط الطهارة ومقدار الزكاة التي ينبغي دفعها، وما إلى ذلك. فمن دون السُّنة، يصبح القرآن أقلَّ وضوحًا. وحتى فهمُ سياق آيات القرآن وسوره ومعرفة الأحداث التاريخية المحيطة بالوحي، وهي عملية استمرَّت على مدار أكثر من عشرين عامًا، أمرٌ لا يتحقَّق إلا من خلال المعلومات التاريخية التي تُقدِّمها السُّنة.
(١٠) الإجماع من منظور جديد: ظهور «العلماء» الجُدد
يبدو أنَّ آلية «تبني نظرة جديدة» للتراث، التي بدأت بصفتها استجابةً لانحدار وضع المجتمعات الإسلامية، قد اتخذت خطوتها الأولى بالمبدأ الثالث، الإجماع، وكان من السهل تخطِّيه من خلال الحاجة إلى نوع جديد من العلماء. يُعَد شاه ولي الله (١٧٠٢–١٧٦٢) الأبَ الروحي للإسلام «الإحيائي» في الهند. ونظرًا للتوجُّه الخاص للإسلام في الهند، فقد جاءت صيغته الإصلاحية مزيجًا من «الصوفية» والتفكير المعني بالشريعة. على عكس الحركة الوهابية التي بدأها محمد بن عبد الوهاب (١٧٠٣–١٧٩٢) في الجزيرة العربية، والتي اتخذت اتجاه الإصلاح الأصولي، يمكن تفسير الاختلافات بين كلتا الحركتين في ضوء الخلفية التاريخية والثقافية المختلفة للإسلام، في كلتا البيئتين الاجتماعيتين. فبينما أدَّى تفاعُل الإسلام في الهند مع التراث الهندي السابق على الإسلام مثل الهندوسية والبوذية إلى إعادة تشكيله، كان الإسلام في الجزيرة العربية متجذرًا إلى حد كبير في تراثه البدوي وعاداته.
ليس التشابه بين هذا النهج ونهج ابن عبد الوهاب بخفيٍّ؛ إذ يتمثَّل في الجمع بين السلطة السياسية وبين سلطة الفقيه للسعي نحو إحياء الإسلام من حالة التردي التي بلغها. بالرغم من ذلك، فلا يزال الاختلاف بين النهجين جليًّا في تلك الصبغة الصوفية التي تميز الإسلام في الهند.
في ظل هذه الصبغة الصوفية، وكي يتمكَّن من ترسيخ وضْع الفقيه بصفته شريكًا في أمور الدولة، تمكَّن شاه ولي الله من نقْد البنية الكلاسيكية للشريعة؛ فتمكَّن من رفضِ «التقليد»، الذي يعني الاتباعَ غير النقدي لآراء علماء مدارس الفقه الكلاسيكية، وإحياء الاهتمام بالاجتهاد، وذلك عن طريق القياس. ومن خلال إحياء مبدأ الاجتهاد، تمكَّن شاه ولي الله من تجاوز حالة الجمود التي سادت مجال دراسة الشريعة.
وبينما شجَّع الخطاب الهندي الإحيائي المبكر الذي طرحه شاه ولي الله على مزيد من التطورات، مثلما سيتضح لنا، فإنَّ الوهابية لم تتطوَّر قط عن أفكارها الأساسية التي صاغها مؤسِّسها في البداية. ذلك أنَّ الوحدة المطلَقة بين العقيدة والنظام السياسي لم تسمح بتوفير أيِّ نطاق للمعارضة السياسية، بل أيَّدت أيديولوجيات أكثرَ راديكالية وأصولية. والآن في سياق الضغط الأمريكي لإعادة تشكيل العالم العربي بأكمله سياسيًّا وفكريًّا، يوجد كثير من الاجتماعات والمؤتمرات وغير ذلك التي تهدف في الأساس إلى تقديم الوهابية بوصفها نظامًا ديمقراطيًّا ليبراليًّا منفتحًا. إنها محاولة لتجميل الوجه القديم ذاته.
من الجدير بالذكر أيضًا أنَّ المصلحين المسلمين تمكَّنوا من تجاوز مبدأ الإجماع بإحياء مبدأ الاجتهاد، وهو ما كان إلى حدٍّ كبير ميسورًا وناجحًا، عن طريق تأييد المبدأ الرابع المتمثل في القياس. ونتيجةً لتقويض مبدأ الإجماع، أصبحوا قادرين على مراجعة كتب الفقه، دون تقييد أنفسهم باتباع مذهب محدَّد، مما منحهم مزيدًا من الحرية في اختيار الآراء وبناء القياسات الفقهية. وقد صار لهذا النوع من الإصلاح دورٌ أساسي في مجال صياغة القانون وتقنين الشريعة في كثير من البلاد الإسلامية.
(١١) نظرة جديدة للسُّنة ونقد الحديث: ظهور تفسير جديد
تتضمن السُّنة، مثلما شرحنا سابقًا، أقوالَ النبي محمد وأفعاله، إضافةً إلى ما استحسنه من أقوال صحابته وأفعالهم أو ما استهجنه منها. وعلى خلاف القرآن الذي دُوِّن منذ فترة مبكرة، فقد نُقِلَت السُّنة شفاهيًّا قبل وضعِ كتب التراث قُرابة نهاية القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي. إنَّ حقيقة أنَّ جميع الأخبار الخاصة بالسُّنة قد نُقِلَت شفاهيًّا، مما يحمل احتمال التلفيق لمختلف من الأسباب والدوافع، جعلت علماء الحديث المبكرين الذين كانوا على دراية تامة بهذا الاحتمال يطوِّرون قواعدَ نقدية محدَّدة لتقييم أصالة النص، ومن ثمَّ تحديد ما ينبغي أن يُقبَل وتفادي دخول الأخبار الموضوعة إلى كتب الحديث.
وفي هذا السياق الحديث ﻟ «النظرة الجديدة»، استُدعي هذا النهج التقليدي في نقد الحديث وطُوِّر حتى تجاوز النموذجَ النقدي التقليدي الخاص به. ارتبطت النظرة الجديدة للسُّنة بالجهود الساعية إلى جعل معنى القرآن منفتحًا على معالجة القضايا الحديثة عن طريق محاولة تأسيس تفسير قرآني جديد لا يسرف في الاعتماد التقليدي على التراث، وهو النهج المعهود في التفاسير الكلاسيكية للقرآن. بعبارة أخرى، كان نقد السُّنة بصفة أساسية أحدَ نتائج انخراط المفكرين المسلمين في تفسير القرآن بطريقة مختلفة إلى حدٍّ ما عن طريقة التفاسير القديمة. وقد استلزمت هذه الحاجة القوية إلى نهج جديد في التعامل مع القرآن من أجل جعل معناه منفتحًا على التعامل مع الظروف الجديدة بتحدياتها، إبعادَ التفسير القرآني الجديد عن النوع التقليدي الممتلئ عن آخره بنصوص الحديث.
شهدت بداية القرن العشرين ظهورَ حركة أهل القرآن في الهند، بصفتها استجابة نقدية للتركيز الذي وضعته جماعة أهل الحديث على سلطة السُّنة، وهو تركيز أدَّى إلى الميل نحو النسخة الشعائرية من الإصلاح. لم يكن التحدي الأساسي الذي طرحته حركة أهل القرآن هو أصالة السُّنة بالشكل الذي نُقلت إلينا به من خلال الأحاديث، بل هو ما إذا كانت السُّنة تتخذ المكانة نفسها التي يتخذها القرآن باعتبارها وحيًا إلهيًّا أم لا. ثمة تحدٍّ إذَن قد واجه الرأي الكلاسيكي القائل بأنَّ السُّنة بصفتها شكلًا من أشكال الوحي تكافئ القرآن في السلطة وإن كانت تختلف عنه في القالب.
يجدُر بنا أيضًا ذكرُ قصة المعهد ودوره في بنية الدولة في باكستان؛ فهي توضِّح الدور الجوهري الذي اتخذه نقد السُّنة في عملية صياغة القانون الحديث. وتوضِّح أيضًا فشل الحركة الإصلاحية عندما تكون على اتصال وثيق بالسياسة البرجماتية للأنظمة السياسية. ويتكرَّر مثال باكستان وإن كان بدرجات مختلفة في غيرها من الدول الإسلامية حيث تتمكَّن الدولة من استغلال المفكرين لصالح الأيديولوجية التي يتبناها النظام.
كان المعهد بمثابة مؤسسة فكرية استشارية للمساعدة في العمل التشريعي، فقدَّم المادة البحثية لإعداد العديد من القوانين. وكان من مهامه أيضًا مساعدة المجلس الاستشاري الإسلامي الذي كان هو بدوره هيئةً استشارية للمجلس الوطني الباكستاني. لقد كانت القوانين الأسرية الباكستانية التي وُضعَت عام ١٩٦٢ تمثل تأويلًا ليبراليًّا للقرآن والسُّنة.
عارض المحافظون هذه القوانين لأنها وضعت قيودًا على تعدُّد الزوجات، وأعطت للنساء حقوقًا لا يسمح الفقه الإسلامي التقليدي بها. ونتيجةً لهذا، وجد المعهد نفسه هدفًا للدعاية المعادية. لُقِّب فضل الرحمن ﺑ «أبي الفضل»، الوزير السيئ السمعة للإمبراطور المُغولي أكبر الذي يُزعَم أنه أسَّس دينًا جديدًا.
عِلاوةً على ذلك، فقد أثار كتاب فضل الرحمن، «الإسلام: مقدمة عامة»، الذي كُتِب في الأصل دفاعًا عن الإسلام ضد النقاد الغربيين، كثيرًا من الجدل. فخرجت حشود من شعبٍ تبلغ نسبة الأمية فيه ٢٥٪ إلى الشوارع محتجين على كتاب لم يقرأه معظمهم وما كانوا يستطيعون. واستغلت المعارضة السياسية لأيوب هذا الموقف. فأعلن العلماء أنَّ فضل الرحمن زنديق. بدأ الاضطراب في دكا، وهي الدائرة الانتخابية التابعة لمولانا احتشام الحق تهانوي، الذي كان يقود هذا الاحتجاج ضد فضل الرحمن وأيوب خان. وفي عام ١٩٦٩، أدَّت الاضطرابات التي عمَّت أنحاء البلاد إلى استقالة أيوب. وبالنسبة إلى فضل الرحمن، فقد اضطُر إلى مغادرة البلاد، فعمل أستاذًا في جامعة شيكاغو التي واصل التدريس بها حتى وفاته عام ١٩٨٨.
(١٢) نظرة جديدة للقرآن
يمكننا بإيجاز تقسيمُ توجُّه التفسير الحديث للقرآن إلى ثلاثة جوانب أساسية، يعالج كلٌّ منها واحدًا من التحديات الصعبة، التي عرضنا لها من قبل، والتي طرحتها الحداثة على عقول المسلمين: العلم والعقلانية والسياسة.
(أ) الإسلام والعلم
كان الهندي، سيد أحمد خان، الذي ناقشنا أفكاره بالفعل، هو أولَ مَن تناول مسألةَ العلم في تفسيره للقرآن. فمثلما رأينا، كان الهدف من نقد الحديث وتبني نظرة جديدة للسُّنة هو تحرير تفسير القرآن من وطأة التراث الثقيلة، لكي يصبح من الأسهل تقديمُ فهمٍ أكثر حداثة لرسالة الله. ينتقد خان الشروحات الكلاسيكية للقرآن من حيث مصادرها والموضوعات التي تركز عليها، ولا يَقبل من هذه الشروحات إلا ما يتعلَّق منها بالجانب الأدبي في القرآن. ويشير خان إلى تناقضات في تفسير القرآن، ويرى أنَّ هذه التناقضات تفتقر حتى إلى أي مبادئ عامة يمكن فهْم النص المقدس بناءً عليها.
لقد انصبَّ اهتمام سيد أحمد خان الأساسي على التوفيق بين معنى القرآن والاكتشافات الحديثة التي توصَّلت إليها العلوم الطبيعية. فهو يؤكد أهميةَ مراعاة الاكتشافات العلمية الطبيعية عند تفسيرِ ما يتصل بها من آيات القرآن؛ إذ إنها لا تتضمن أيَّ شيء يتناقض مع «قانون الطبيعة».
(ب) الإسلام والعقلانية
تتجلى ثقةُ عبده في «العقل» في جميع نشاطاته، على الرغم من أنه يرى أنَّ «الدين» يوفِّر الأساس الذي يحمي «العقل» من الخطأ. وأدَّت به مسألة الإسلام والمعرفة الحديثة، وهي مسألة جوهرية في جميع كتابته، إلى فحصِ التراث الإسلامي من جديد، والدفعِ أكثر باتجاه إعادة فتح «باب الاجتهاد» في جميع جوانب الحياة الفكرية والاجتماعية. ولأنَّ الدين جزءٌ جوهري من الوجود البشري، فقد حاجج عبده بأنَّ السبيل الوحيد الذي يبدأ منه الإصلاح الحقيقي هو إصلاح التفكير الإسلامي.
إنَّ مجهود محمد عبده هو أول مجهود صريح في دراسة القرآن في سياق الخلفية الثقافية للقرن السابع، وهي طريقة طوَّرها بعده مفكرون مسلمون آخرون من المصريين والعرب. وهذه العملية المتمثلة في دراسة القرآن في سياقه التاريخي قد قادت محمد عبده إلى نزع الطابع الأسطوري عن السرد القرآني، وكذلك الاقتراب من إزالة الغموض عن النص المقدس.
بينما كان سيد أحمد خان يحاول التوفيق بين القرآن والعلم من خلال إيجاد معادلة بينهما — المعادلة بين «الوعد الإلهي في الواقع» و«الوعد الإلهي في الكلمات» — فقد اكتفى محمد عبده بوضع القرآن في سياق القرن السابع؛ ومن ثَم استبعاد أي محاولة للمقارنة بين القرآن والعلم.
من المهم هنا أن نركِّز على حقيقة أنَّ خطاب محمد عبده الفكري الليبرالي يمثل الجانب الفكري من مشروع التحديث الذي بدأه محمد علي (١٧٦٠–١٨٤٩) لتأسيس دولة حديثة في مصر، وهو المشروع الذي نفَّذه حفيده، الخديوي إسماعيل (١٨٦٣–١٨٧٩) الذي بدا واضحًا أنه كان يرغب في أن تصبح مصر مثل أي دولة أوروبية. كان لأفكار محمد عبده تأثيرٌ كبير خلال القرن العشرين على نطاق العالم الإسلامي بأكمله، وذلك بفضل مجلة «المنار» (١٨٩٨–١٩٣٦) التي أسَّسها رشيد رضا (١٨٦٥–١٩٣٥)، تلميذ محمد عبده وشريكه.
(ﺟ) الإسلام والسياسة
غنيٌّ عن القول أنَّ السياق الهندي تحت حكم الاحتلال البريطاني هو الذي شهد بداية تدهور العلاقة بين المسلمين والهندوس. فقد بدأ المودودي دراسته الموسَّعة لعقيدة الجهاد في منتصف عشرينيات القرن العشرين، ردًّا على اتهامات الهندوس بأنَّ الإسلام قد انتشر بحد السيف، بعد أن قام أحد المسلمين باغتيال قائد غير مسلم. وقدَّم هذا العمل، الذي نُشر في البداية على هيئة أجزاء مسلسلة ثم نُشر كاملًا تحت عنوان «الجهاد في الإسلام»، العناصر الأساسية لأفكاره اللاحقة. وفي عام ١٩٣٢، وفي المجلة الشهرية، «ترجمان القرآن»، والتي ستصبح الوسيلةَ الأساسية لنقل أفكاره لبقية حياته، بدأ المودودي في صياغة أفكاره عن الإسلام السياسي. ووضع أهدافَ مهمته الفكرية في السطور الآتية:
وفقًا لهذه الأيديولوجية التي يمثِّل فيها الغرب والإسلام ثنائية، فإنَّ المجتمعات الإنسانية المعقَّدة تُصنَّف إلى نوعين فحسب؛ فهي إما «إسلامية» وإما «جاهلية». وبناءً على رؤية المودودي الإسلامية، فما دام الكون «دولة منظمة» و«نظامًا شموليًّا»، تُخوَّل فيه جميع السلطات إلى الله، الحاكم الأوحد، فإنَّ دولة الإسلام، أو الدولة الإسلامية، هي ما ينبغي أن يمثل التجسيد الأرضي للكون.
إذا كان كلٌّ من محمد عبده وأحمد خان قد حاولا، كلٌّ بطريقته، وضْعَ القرآن في سياقه من أجل توسيع معناه عن طريق المجاز والمَثل، فإنَّ المودودي وسَّع من معناه الحرفي ليتعامل مع العالم الحديث. فعلى سبيل المثال، نجد أنَّ المودودي يتناول الآيات من ٤٢ إلى ٥٠ من سورة المائدة — التي تشتهر الآن بآيات «الحاكمية»، بمعنى أنَّ الله وحدَه هو صاحب السلطة المطلَقة، والتي كانت تخاطب الأشخاص الذين رفضوا الإسلام خلال زمن النبي — على أنها تخاطب المسلمين الآن؛ ويرى أنها لا تعني تطبيق القواعد التي شرعها الله فحسب، بل تنص أيضًا على إقامة دولة دينية.
بعد أن درس سلومب كتاب المودودي عن الجهاد بالتفصيل، يعلِّق عن وجه حق بأنَّ تأويل المودودي هو تأويل يجعل القرارات التي اتُّخذَت في لحظات تاريخية معينة قانونًا إلهيًّا أبديًّا. ونظرًا لأهمية تعليق سلومب، فمن الأفضل أن أقتبسه كاملًا.
يمكن استنتاج أنَّ سيد أحمد خان وعبده والمودودي قد مهَّدوا الطريق للمفكرين المسلمين على مدار القرن العشرين لتوسيع نطاق معنى القرآن بطرق مختلفة؛ ومن ثَم معنى الإسلام، بما يتوافق مع الحداثة. ومثلما أوضحنا، كان سيد أحمد خان منشغلًا بصفة جوهرية بتحدي العلوم الحديثة، وكان محمد عبده منشغلًا بقضية «العقلانية» في العموم، وكانت جهود المودودي استجابة لتحدي الهيمنة الغربية، ومن ثَم تغريب العالم الإسلامي. وإذا كان نهج خان يُعَد بذرة نهج «الإعجاز العلمي» وتوجُّه أسلمة العلوم والمعرفة، فإنَّ محمد عبده قد طوَّر نهجه فيما كان يُعرَف باسم «النهج الأدبي». وبالنسبة إلى نهج المودودي، فإنه يقف وحدَه بصفته المصدرَ الحقيقي لما تلاه من تأويل سياسي وأيديولوجي للقرآن. وبصرف النظر عن الاختلافات بين أمثلتنا الثلاثة، فيما يتعلَّق بالمنهجية والنتائج، فقد اتبعوا جميعًا الافتراضَ الكلاسيكي القائل بأنَّ القرآن نص.
مرةً أخرى، نجد أنَّ السؤال المطروح أمامنا الآن هو: أيُّ المعنيين سيسود؛ التآلف أم العزلة؟ وثمة سؤال آخر وثيق الصلة بذلك وهو: هل المسلمون مستعدون لتبني نظرة جديدة للقرآن أم لا؟ هل من الممكن أن نفكِّر في الخيارات المفتوحة التي يتيحها لنا الخطاب القرآني ونعيد النظر في المعنى الثابت الذي يطرحه علينا العلماء التقليديون؟ بعبارة أخرى، إلى أيِّ مدًى سيتطور إصلاح الفكر الإسلامي؟ إنَّ هذا السؤال يستوجب أن نستدعي إلى مناقشتنا العلاقةَ بين الغرب والعالم الإسلامي. كيف تؤثِّر هذه العلاقة في الكيفية التي يعمل بها المسلمون على «تبني نظرة جديدة» تجاه تراثهم لتحديث حيواتهم دون التخلي عن قوَّتهم الروحانية، لا سيَّما في ضوء المشروع الاستعماري لأمريكا؟ يؤسفني أنَّ الإجابة ليست إيجابية، لا سيما مع المشروع الاستعماري الأمريكي الجديد. فكلٌّ من المشروع الأمريكي الاستعماري والإمبريالي الجديد، وبناء مناطق منعزلة في الشرق الأوسط، ستؤيد على الأرجح الخطابَ الأكثر إقصائية في الفكر الإسلامي المعاصر. علينا إذَن أن ننتبه، وأن نحرص على توحيد جهودنا لمكافحة هذا بجميع الطرق الممكنة.
- (١)
«كشف الأسرار النورانية القرآنية فيما يتعلق بالأجرام السماوية والأرضية والحيوانات والنباتات والجواهر المعدنية»، محمد بن أحمد الإسكندراني، القاهرة، ١٢٩٧ / ١٨٨٠.
- (٢)
«تبيان الأسرار الربانية في النباتات والمعادن والخواص الحيوانية»، سوريا، ١٣٠٠ / ١٨٨٣.
- (٣)
«مقارنة بعض مباحث الهيئة بالوارد في النصوص الشرعية»، عبد الله فكري (كان وزير التعليم في مصر)، القاهرة، ١٣١٥ / ١٨٩٧.
- (٤)
«الجواهر في تفسير القرآن»، طنطاوي جوهري (المتوفى ١٩٤٠)، ٢٦ مجلدًا، تاريخ الطبعة الأولى مجهول، الطبعة الثانية، القاهرة، ١٣٥٠ / ١٩٧١. يقع هذا التفسير في عدة أجزاء، وفيه يحاول المؤلف جاهدًا أن يجد جميعَ ما يتعلق بالعلوم الحديثة والتكنولوجيا أو حتى الاكتشافات الحديثة في القرآن. على سبيل المثال، يعالج ست آيات (الآيات ٢٧–٣٢ من سورة المائدة) في ٢٥ صفحة التي تتضمن العديد من العناوين الفرعية التي تبدأ ﺑ «التفسير اللفظي» وتنتهي ﺑ «الخزائن الحديدية في القرآن». (قارن مع «الإسلام والحداثة»، عبد المجيد الشرفي، تونس، ١٩٩٠، الصفحات ٦٩–٧٦).