نشأته الأولى
وُلِد رِفاعة في طهطا سنة ١٢١٦ﻫ/١٨٠١م، وإليها يُنسَب، وفيها تلقَّى علومه الأولى، وفي سنة ١٢٣٢ﻫ/١٨١٧م وفَد على القاهرة، والتَحق بالأزهر ومكَث به نحو خمس سنواتٍ ختَم فيها دروسَه؛ فلما أتمَّ الحادية والعشرين من عمُره أصبح أهلًا للتدريس، فدرَّس في الأزهر، وكان يتردَّد أحيانًا على مدينته طهطا فيُلقِي على أهلِيها بعض دروسه، وقد كان رِفاعة منذ عهده الأول مدرِّسًا ممتازًا، فأقبل عليه الطلاب وأفادوا منه، وكانت حلقات دروسه في السنتين التاليتين لتخرُّجه حافلة دائمًا بالمُستمِعين من التلامذة والمشايخ. يقول تلميذه ومُؤرِّخ حياته صالح مجدي: «وكان رحِمَه الله حسَن الإلقاء بحيث ينتفع بتدريسه كلُّ من أخذ عنه، وقد اشتغل في الجامع الأزهر بتدريس كُتُبٍ شتَّى في الحديث، والمنطق، والبيان، والبديع، والعَروض، وغير ذلك، وكان درسه غاصًّا بالجمِّ الغفير من الطلبة، وما منهم إلا من استفاد منه وبرع في جميع ما أخذه عنه؛ لِمَا علمتُ أنه كان حسَن الأسلوب، سهل التعبير، مُدققًا مُحققًا، قادرًا على الإفصاح عن المعنى الواحد بطُرُقٍ مُختلِفة بحيث يَفهم درسه الصغير والكبير بلا مشقَّةٍ ولا تعب، ولا كدٍّ ولا نصَب.»
ولقد كان من حُسن حظِّ رِفاعة أنه تتلمذ في الأزهر على الشيخ حسن العطار، فقد كان هذا الشيخ سابقًا لعصره، طوَّف في الأرض، وسافر برًّا وبحرًا، وزار الشام، ووصل في تَطوَافه إلى الآستانة وأقام بها سنوات، وأفاد من هذه الرحلات واتَّسع أفُق تفكيره، ولما نزلَتِ الحملة الفرنسية بأرض مصر اتَّصل ببعض علمائها ولقَّنهم اللغة العربية، كما أخذ عنهم بعض علومهم، وأُعجِب بما وصل إليه الشعب الفرنسي من رُقيٍّ وحضارة، وقارن في نفسه بين علوم الفرنسيين التي رأى بعض مظاهرها في دار المجمع، واستمع لبعض أفكارها في حديثه إلى علماء المجمع، وبين علوم المصريين التي درسها ويدرِّسها في الأزهر، فرأى الفرق كبيرًا والبَون شاسعًا، وتنبَّأ لهذا البلد بنهضةٍ علميةٍ سريعة ينهج فيها نهج فرنسا، قال: «لا بدَّ أن تتغيَّر حال بلادنا ويتجدَّد لها من المعارف ما ليس فيها.»
وبدأ هو بنفسه فأقبل على كُتُبٍ لم تكن تُدرَّس وقتذاك في الأزهر؛ أقبلَ على كُتب التاريخ والجغرافيا، والطب والرياضة، والفلك والأدب، وقرأ الكثير من هذه الكُتب وتفهَّمها. غير أنه يبدو أن نظام التدريس في الأزهر لم يكن ليسمحَ له أن يُدرِّس بعض هذه الكتب أو ما أفاد منها. وإن سَمحتِ النظم فإن المجموعة التي كانت تُحيط به من شيوخٍ وطلاب ما كانت لتستسيغ هذه العلوم أو تقبلها، بل لعلها كانت تتَّهم المُشتغلين بها بشيءٍ من الزَّيْغ عن الجادَّة والبُعد عن علوم السلف وعما يجب أن يَلزمه رجل الدين.
ولكن العطار كان ذا شخصيةٍ فذَّة وطريقةٍ جديدة؛ لهذا لم يلبثْ أن اختصَّ به نفَر من تلاميذه المُمتازين، فقرَّبهم إليه، وأقرأهم ما كان يقرأ، ورغَّبهم في هذه العلوم الجديدة فأقبلوا عليها. فلمَّا بدأ محمد علي نهضته واحتاج إلى بعض مشايخ الأزهر للتدريس في مدارسه الجديدة أو لتصحيح الكتب المُترجمة، كان تلاميذ العطار أمثال: التونسي، والدسوقي، والطنطاوي … إلخ خير من نُدِب، وخير من قام بالواجب الجديد في العهد الجديد.
وكان رِفاعة أقرب تلاميذ العطار وأحبَّهم إليه. وقد فرح الأستاذ بنبوغ تلميذه في التدريس بعد تخرُّجه فلَبث يَشمله برعايته وحُسن توجيهه. فلما طلَب إليه محمد علي أن يختار له إمامًا لإحدى فِرَق الجيش الجديد، أسرع فرشح رِفاعة لهذا المنصب. وعُيِّن الشيخ رِفاعة في سنة ١٢٤٠ﻫ / ١٨٢٤م واعظًا وإمامًا في آلاي حسن بك المناسترلي، ثم انتقل إلى آلاي أحمد بك المنكلي.
وفي سنة ١٢٤٢ﻫ/١٨٢٦م أُوفِدَت أول بعثة كبيرة إلى فرنسا. وهنا أيضًا طلب محمد علي إلى العطار أن يَنتخِب من علماء الأزهر إمامًا للبعثة «يرى فيه الأهلية واللياقة، فاختار الشيخ رِفاعة لتلك الوظيفة.»