رفاعة ناظر قلم الترجمة في عهد إسماعيل
في ٧ مارس سنة ١٨٦١م فُصل رِفاعة من خدمة الحكومة بعد إلغاء المدرسة الحربية بالقلعة، وظل كذلك إلى أن وُلي العرش إسماعيل، فبدأت تتَّجه إليه الأنظار من جديد.
كان إسماعيل يرمِي من يوم أن تولَّى الحكم إلى إصلاح القضاء في مصر ليفِلَّ من حدَّة الأجانب؛ ولهذا بدأ يُعدُّ العدَّة لهذا الإصلاح بوضع المشروعات لترجمة القوانين الفرنسية، وإعداد المصريين الذين يصلحون لتولِّي مناصب القضاء الجديد. ولترجمة القوانين أُنشئ قلم الترجمة الجديد. ولإعداد القُضاة أُنشئت مدرسة الألسن الجديدة.
-
قانون المحاكمات والمُخاصمات في المعاملات الأهلية المُعتادة، وترجمَه عبد الله أبو السعود أفندي وحسن فهمي أفندي.
-
قانون الحدود والجنايات، ترجمه العلَّامة محمد قدري باشا.
-
قانون (المَشيخة البلديَّة)، ترجمه محمد لاظ أفندي (في ٣ مجلدات)، وقد طُبعت هذه المجلدات جميعًا في بولاق بين سنتي ١٢٨٣ﻫ و١٢٨٥ﻫ.
كان هذا هو العمل الأساسيُّ لقلم الترجمة الجديد؛ ولهذا لا تجِد له أثرًا آخر غير هذا الأثر القانوني؛ ولهذا أيضًا نُلاحظ أن هذا القلم قد خضع لتطوُّراتٍ كثيرة فكانت الأوامر تصدر تباعًا بنقل مُترجِميه إلى أعمالٍ أخرى. وكان رِفاعة يُحسُّ أثر هذه التصرُّفات الغريبة فيتألم ويشكو، ففي سنة ١٨٦٤م نُقل المترجمان محمد لاظ وسيد مجدي والمبيضان محمد بهائي ومحمد أمين إلى قلم الترجمة بالمعية. وبعد قليلٍ أُلحق بالقلم بدوي بك فتحي (نجل رِفاعة بك) بعد أن تخرَّج في المدرسة الحربية ورُقِّي إلى رتبة اليوزباشي.
ثمَّ لم يلبث أن نُقل عضو من أهم أعضاء القلم وهو عبد الله السيد بك إلى عضوية مجلس الأحكام، فازداد قلَم الترجمة بذلك ضَعفًا على ضعف.
وفي هذا الحِين اقترح «ميرشير بك» ناظر المدارس الحربية إنشاء قلمٍ للترجمة مُلحقٍ بهذه المدارس لترجمة الكُتب العسكرية. غير أن ديوان المدارس لم يوافق على اقتراحه بل أشار بتقوية قلَم الترجمة الموجود وإِمداده بالمترجمين، فعُيِّن محمد أفندي أنسي (نجل عبد الله أبي السعود أفندي) مُترجمًا به؛ وذلك ليتمكن القلم من ترجمة ما يُرسَل إليه من الكتب الحربية.
كان يقوم بهذا الجهد الشاقِّ خمسةٌ من المترجمين غير رِفاعة بك، ثم طُلِب إليه أن يعمل على إتمام الأجزاء التي لم تُترجَم من جغرافية ملطبرون. وكان من المنتظر أن يرحب رِفاعة بهذا الطلب، ولكنه ضاق به وضجَّ بالشكوى، وأرسل يَعتذِر لأن القلم لم يبقَ به غير ثلاثة مترجمين هم أبو السعود وصالح مجدي وحسن الجبيلي.
وهكذا كان القلم يزداد ضعفًا يومًا بعد يومٍ لقلَّة المترجمين؛ ولهذا كان كلما أُحيل إلى القلم عمل جديد بادر رِفاعة بالاعتذار عن أدائه. فقد حدَث أن أُحيلت إليه بعض اللوائح والإرشادات الصحية لترجمتها فردَّها رِفاعة مُعتذرًا بكثرة ما بها من المصطلحات الطبية مُقترحًا إِحالتها إلى مدرسة الطب.
ومن الواجب هنا أن نُناقِش الأسباب التي أدَّت إلى إضعاف هذا القلم رغم ما كان يعقِده عليه رِفاعة من آمال. وأهم هذه الأسباب فيما نرى أن الغرض الأساسي الذي دفع الحكومة لإنشائه كان هو ترجمة القوانين الفرنسية فلما تمَّت ترجمة هذه القوانين قلَّت عناية الحكومة بالقلم.
أما السبب الثاني — ولعلَّه أهم وأقوى من السبب الأول — فيتلخَّص في أن قلم الترجمة الجديد لم تَقُم إلى جانبه المدرسة التي تُمدُّه بالمترجمين الصالحين كما كان الحال في عهد محمد علي. حقيقةً لقد أُنشئت في عهد إسماعيل مدرسة للألسن ولكنها كانت تختلِف اختلافًا كبيرًا عن سابقتها في عهد محمد علي.
أُنشئ قلم الترجمة في عهد إسماعيل في سنة ١٨٦٣م، ولم تُنشًأ مدرسة الألسن إلا في سنة ١٨٦٨م. وقد سُمِّيت المدرسة الجديدة باسم مدرسة الإدارة والألسن، وكانت برامجها ترمي إلى العناية بدراسة القوانين وإعداد القضاة ورجال القانون لا إعداد المترجمين؛ ولهذا لم تلبث أن تطوَّرت هذه المدرسة حتى أصبحت «مدرسة الحقوق»؛ ولهذا أيضًا بدأت الحكومة تُحسُّ حاجتها إلى مدرسة خاصة لإخراج المترجمين، فأنشأت هذه المدرسة باسم «مدرسة الألسن» ولكن في سنة ١٨٧٨م، أي في أواخر عهد إسماعيل وبعد وفاة رِفاعة بنحو خمس سنوات. وهذه المدرسة هي التي ستتحوَّل مع الزمان فتصبح مدرسةً للمعلمين.