إصلاحات رفاعة في التعليم والمجتمع
يقول الأستاذ أحمد أمين بك في مَقالاته عن رفاعة: «كان من العادات الظريفة التي اندثرت أن يجتمع الجمُّ الغفير من العلماء والأمراء والأغنياء والتُّجار في ليلةٍ من ليالي رمضان في بيت السادات في «بركة الفيل»، ويجلس الشريف الحسيب النسيب شيخ السادات مجلِسَه الفخم الوقور يمنح الرُّتَب والألقاب لمن شاء من الزوار، ولكن ليست رتبة «بك» ولا «باشا» ولا نحو ذلك، إنما هي ألقابٌ وكُنًى يستمِدُّها من الوحي الصوفيِّ والإلهام اللدُنِّي؛ فهذا أبو الأنوار، وهذا أبو الوفاء، وهذا أبو البركات، وهذا أبو الخير. ففي ليلةٍ من هذه الليالي الرمضانية كان من الزوار شيخنا الشيخ رفاعة، فتفرَّس فيه شيخ السادات، ونظر إليه بقلبه، ثم قال له: «اذهب فأنت أبو العزم»، وكذلك كان، وكانت كُنيَةً موفَّقة، فأبرزُ صفات الشيخ رِفاعة عزمه.»
أجل، فقد كانت أبرز صفات رِفاعة عزمه، وعزمه القوي الذي لا يكلُّ ولا يفل. وقد لاحظْنَا كيف كان الرجل دائبَ العمل جمَّ النشاط في كلِّ أدوار حياته. وقد ظلَّت هذه الصفات تُلازمه حتى آخرِ سنِي حياته، فنلاحظ أنه لم يَقنع بعمله في قلم الترجمة رغم كثرته، فامتدَّ نشاطه إلى ميادين أخرى كثيرة تتَّصل كلها بالتعليم وإصلاحه وبالتأليف والترجمة.
ففي هذا العهد عُيِّن رِفاعة عضوًا دائمًا «بقومسيون المدارس»، وهو المجلس الذي كان ينظر في السياسة العليا للتعليم ويضع النظم والقوانين والبرامج للمدارس، وكان رِفاعة العضو الدائم الوحيد بهذا «القومسيون»، أما بقية الأعضاء فهم نظار المدارس العليا، وكانوا يتغيَّرون بين الحين والحين، كما أنهم كانوا يُستَدعَون كلما اقتضت الضرورة استدعاءهم.
وقد كان لرفاعة جهد مشكور في تنظيم تدريس اللغة العربية ومحاولات طيِّبةٌ لإصلاح هذا التدريس، فكان يَمتَحِن الشيوخ والفقهاء كل عام ليَتخيَّر من بينهم الأكفاء الصالحين لوظائف التدريس.
وكان يزور المدارس للتفتيش على هؤلاء المُدرسين واختبار كفايتهم، ثم يترك لهم قبل مُغادرة المدرسة التقارير الصالحة وفيها بيانٌ إرشاديٌّ لخير الوسائل المُمكِن اتباعها لتدريس اللغة العربية مع مراعاة الظروف المُختلفة كنوع المدرسة وسن التلاميذ ومدَّة الدرس … إلخ.
ولاحظ رِفاعة بعد هذه الجولات التفتيشية أن الكتب التي بين أيدي التلاميذ كُتُب غير صالحة، فبدأ يضع بنفسه كُتبًا جديدة هي الخطوة الأولى بحقٍّ في سبيل النهضة بالكتب المدرسية في تاريخنا التعليمي. وكان رِفاعة يَسترشِد في عمله الجديد بما رأى وما درَس من كُتُبٍ فرنسية أثناء تلقِّيه العلم في فرنسا.
بدأ رِفاعة بكُتبِ النحوِ فلاحظ أن الكتب الأزهرية القديمة التي يَستعمِلها التلاميذ كُتُب عقيمة لم تعُد تصلح للعصر الحديث، فوضع كتابًا جديدًا أسماه «التحفة المكتبية في القواعد والأحكام والأصول النحوية بطريقة مُرضية»، حاول فيه تبسيط القواعد النحوية وجعله في شكل جداول مُختلفة ليسهُل على الطلبة فهمُها وحفظُها.
ولاحظ رِفاعة أيضًا أنه لا يُوجَد بين أيدي التلاميذ كُتُب للمُطالعة مع فائدتها التي لا تُنكَر في تزويد الأولاد بالمعارف العامة، فوضع كتابه الطريف «مباهج الألباب المصرية في مناهج الآداب العصرية» ليسد به هذا النقص، وحاول فيه لأول مرة أن يبُثَّ في نفوس النشء معنى الوطن والوطنية، فهو يتحدَّث فيه حديثًا مُفصَّلًا عن «المنافع العامة» وينقل في حديثه الشواهد من الشرق والغرب، تُسعفه في ذلك ثقافته الإسلامية الفرنسية، ويختم الكتاب بفصلٍ عما يجب «للوطن الشريف على أبنائه من الأمور المُستحسَنة.»
ويُعتبَر رِفاعة بحقٍّ أول داعية لتعليم المرأة في مصر بل في الشرق كله؛ فقد ذكر يعقوب أرتين باشا في كتابه عن التعليم العام في مصر أن لجنة تنظيم التعليم في سنة ١٨٣٦م (أي في عهد محمد علي باشا) اقترحت العمل لتعليم البنات في مصر، وقد كان رِفاعة عضوًا من أعضاء تلك اللجنة. غير أن هذا الاقتراح لم يُنفَّذ لأن المُجتمع المصري لم يكن على استعدادٍ وقتذاك لقبول هذه الفكرة، واكتُفِي بإنشاء مدرسة المُولِّدات والقابِلات.
وفي عهد إسماعيل تجدَّدت الفكرة، وكان رِفاعة من أكبر الداعين لها، ففي سنة ١٨٧٣م أُنشئت أول مدرسة لتعليم البنات في مصر، أنشأتها «جشم آفت هانم» إحدى زوجات الخديو إِسماعيل. وقبل إنشاء المدرسة بسنة واحدة أخرج رِفاعة كتابه «المرشد الأمين للبنات والبنين»، وفيه يدعو للفكرة ويُمهِّد لظهورها فيقول: «ينبغي صرف الهمة في تعليم البنات والصبيان معًا لحُسن معاشرة الأزواج، فتتعلم البنات القراءة والكتابة والحساب ونحو ذلك، فإن هذا مما يَزيدهنَّ أدبًا وعقلًا، ويَجعلهن بالمعارف أهلًا، ويُصلِحهنَّ به لمشاركة الرجال في الكلام والرأي، فيعظُمنَ في قلوبهم، ويعظم مقامُهنَّ، لزوال ما فيهن من سخافة العقل والطيش مما ينتُج من معاشرة المرأة الجاهلة لامرأة مثلها، وليمكِّن المرأة عند اقتضاء الحال أن تتعاطَى من الأشغال والأعمال ما يتعاطاه الرجال على قدر قوَّتِها وطاقتها، فكل ما يُطيقُه النساء من العمل يباشِرنَهُ بأنفسهن، وهذا من شأنه أن يَشغَل النساء عن البطالة، فإن فراغ أيديهن عن العمل يشغل ألسنتَهنَّ بالأباطيل، وقلوبهن بالأهواء وافتعال الأقاويل، فالعمل يصون المرأة عما لا يَليقُ ويقرِّبها من الفضيلة. وإذا كانت البطالة مذمومة في حقِّ الرجال فهي مَذمَّة عظيمة في حقِّ النساء، فإن المرأة التي لا عمل لها، تقضِي الزمن خائضة في حديث جيرانها، وفيما يأكلون ويشربون، ويلبسون ويفرشون، وفيما عندهم وعندها، وهكذا. أما القول بأنه لا ينبغي تعليم النساء الكتابة وأنها مكروهة في حقِّهن ارتكانًا على بعض الآثار فينبغي ألا يكون ذلك على عمومه. ولا نظر إلى من قال إن من طبعهن المكر والدهاء والمُداهنة فتعليم القراءة والكتابة ربما حمَلَهنَّ على الوسائل غير المُرضية … فمثل هذه الأقوال لا تُفيد أن جميع النساء على هذه الصفات المذمومة. وكم من نهيٍ ورَدَت به الآثار كمُقاربة السلاطين والتحذير من الغنى، وقد حُمِل كلُّ ذلك على ما يعقُبُه شرٌّ وضرر مُحققٌّ، وتعليم البنات لا يتحقَّقُ ضررُه. وكيف ذلك وقد كان من أزواجه ﷺ من يكتب ويقرأ كحفصة وعائشة … إلخ.»
هذا ملخص الدِّعاية الجريئة التي دعاها رِفاعة لتعليم البنت وذلك قبل قاسم أمين بنيِّفٍ وثلاثين عامًا.
ومن هذه الجهود السابقة نلمَح كيف خَطا رِفاعة الخطوة الثانية، فبدأ إِلى جانب الترجمة يؤلِّف ويصنف، بل إن جهوده في التأليف في عصر إسماعيل تفُوق جهوده في الترجمة، ولم يُقصر جهوده في هذا الميدان على الكتب المدرسية والتعليمية فحسب، بل وضع مشروعًا لإخراج مؤلَّف كبير في تاريخ مصر من أقدم العصور إلى عهده، ولكنه لم يخرج منه إلا الجزء الأول وعنوانه: «أنوار توفيق الجليل في أخبار مصر وتوثيق بني إسماعيل»، وقد تناول فيه الكلام عن تاريخ مصر القديم وتاريخ العرب قبل الإسلام. ويقول تلميذه ومؤرِّخ حياته صالح مجدي بك إنه أتمَّ الجزء الثاني، ولكننا لم نعثر عليه.
وفي هذا العهد أيضًا أخرج رِفاعة مؤلَّفًا تاريخيًّا آخر عن سيرة الرسول عليه السلام، وعنوانه: «نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز»، وكان قد نشرَه فصولًا في مجلة روضة المدارس.
وفي غمرة هذا النشاط فكَّر علي مبارك باشا في إصدار مجلة علمية تُكتب فيها الأبحاث باللغة العربية، ولم يلبث أن أخرج فكرته إلى حيز التنفيذ، وعهد برئاسة تحرير المجلة إلى رِفاعة بك يُعاونه ابنه علي بك فهمي رِفاعة مُدرِّس الإِنشاء بمدرسة الإِدارة والألسن وقتذاك.
تلك هي روضة المدارس أول مجلة مصرية، وقد صدر العدد الأول منها في ١٥ المحرم سنة ١٢٨٧ﻫ/١٨٧٠م أي قبل وفاة رِفاعة بثلاث سنوات، وقد اشترك في تحرير أعدادها المختلفة نخبة طيبة من أعلام المصريين في القرن الماضي، أشهرهم: علي مبارك باشا، وعبد الله فكري باشا، والشيخ حسين المرصفي، ومحمد قدري باشا، ومحمود الفلكي باشا، وإسماعيل الفلكي باشا، والمسيو بروكش ناظر مدرسة اللسان المصري القديم، وأحمد ندا بك العالِم النباتي الكبير، وصالح مجدي بك، وعبد الله أبو السعود أفندي، والشيخ حسونة النواوي، والشيخ عبد الهادي نجا الإبياري، والشيخ حمزة فتح الله، والشيخ عثمان مدوخ. وكانت موضوعاتها متنوِّعة تتناول النواحي والدراسات الأدبية والعلمية والفقهية والاجتماعية والتاريخية، كما كانت تُنشر بها بعض المقطوعات الشعرية وخاصةً «للشاب النَّجيب إسماعيل أفندي صبري أحد تلامذة مدرسة الإدارة».
وظلَّ رِفاعة يتولَّى رئاسة تحرير الروضة إلى أن مات فتولَّاها من بعده ابنه علي بك فهمي.