تلاميذ رفاعة من خريجي الألسن
- (١)
إعداد مُترجمين في مختلِف الفنون والعلوم.
- (٢)
إعداد مُدرِّسين للغة الفرنسية في المدارس التجهيزية والخصوصية.
وقد قدَّر خِرِّيج آخر من خريجي المدرسة — محمد قدري باشا — الكُتب التي ترجمها خريجو الألسن — ما طُبع منها وما لم يُطبع — بنحو ألفي كتاب.
ومهما كان عدد الخريجين أو عدد الكُتب التي تُرجِمت، فقد أشاع رِفاعة في هذا الرعيل قبَسًا من روحه ونفحةً من نشاطه، فكانوا أركان النهضة في عهد محمد علي، ثم كانوا القائمين على إحيائها والإشراف عليها في عهد إسماعيل، وقد أجْملَ رِفاعة القول في جُهده وجهودهم في مُقدمته لقصة تليماك، قال: «لقد تقلَّدتُ بعِناية الحكومة المصرية الفائقة على سائر الأمصار، في عصر المُدَّة المحمدية العَلوية السامي على سائر الأعصار، بوظيفة تربية التلاميذ مدَّةً مديدة، وسنين عديدة، نظارةً وتعليمًا، وتعديلًا وتقويمًا، وترتيبًا وتنظيمًا، وتخرَّج من نظارات تعليمي من المُتفنِّنين رجال لهم في مِضمار السَّبقِ وميدان المعارف وَسِيعُ مَجال، وفي صناعة النثر والنظم أبْهر بديهةٍ وأبهَى رويةٍ وأزهى ارتجال، وحماة صفوفٍ لا يبارَون في نضالٍ ولا سجال، وعرَّبت لتعليمهم من الفرنساوية المؤلفات الجمَّة، وصحَّحتُ لهم مُترجمات الكُتب المهمة، من كل كتابٍ عظيم المنافع، وتوَفَّق حسن تمثيلها في مطبعة الحكومة وطبعها، ومالت طباع الجميع إِلى مطبوع ذوقها وطبعها، وسارت بها الرُّكبان في سائر البلدان، وحَدا بها الحادي في كل وادٍ وقصدها القُصَّاد كأنها قصائد حسان، وكان زمني إلى ذلك مصروفًا، ودَيدَني بذلك معروفًا، مجاراة لأمير الزمن (يقصد محمد علي)، على تحسين حال الوطن، الذي حبُّه من شُعَب الإيمان … إلخ.»
ووصف علي مبارك خريجي الألسن بأنهم كانوا «جميعهم في الإنشاءات، نظمًا ونثرًا، أطروفة مصرهم، وتحفة عصرهم …»
- أولًا: بالجِدِّ والنشاط في التحصيل منذ اللحظة الأولى، فكان «لا يقف في اليوم والليلة على
وقت محدود … وربما عقد الدرس للتلامذة بعد العشاء أو عند ثلث الليل الأخير، ومكث نحو
ثلاث
أو أربع ساعاتٍ على قدميه في درس اللغة أو فنون الإدارة والشرائع الإسلامية والقوانين
الأجنبية … إلخ.» وبهذا استطاع أن يعهَد لبعض النابغين من تلاميذه بترجمة الكتب في السنوات
الأولى من إنشاء المدرسة. ومن عجب أن نرى بعض الكتب قد تُرجِمت وطُبعت قبل أن تخرِّج
المدرسة
دفعتها الأولى؛ ففي سنة ١٢٥٢ﻫ، أي بعد إنشاء المدرسة بسنة واحدة، ظهر كتاب تاريخ الفلاسفة
اليونانيين مُترجَمًا بقلم عبد الله أفندي حسين الذي يقول في مُقدِّمته: «وكنت وقتَ ترجمته
بمدرسة
الألسن بالأزبكية»، أي كان لا يزال تلميذًا بها.
وبعد نحو ٣ سنوات من إنشاء المدرسة (١٢٥٤ﻫ) أخرَجَتْ كتابين آخرين، وهما: «تنوير المشرق بعلم المنطق» ترجمة خليفة أفندي محمود، و«بداية القُدَماء وهداية الحُكَماء» وقد اشترك في ترجمته مصطفى الزرابي أفندي، ومحمد عبد الرازق أفندي، وأبو السعود أفندي، وهم جميعًا من تلاميذ المدرسة.
- ثانيًا: وأخذ رِفاعة تلاميذه أيضًا بما أخَذ به نفسه من قبل، من إقبالٍ على الترجمة في مُختلِف العلوم والفنون، فلم تعرِف المدرسة ولم يعرِف خريجوها التخصُّص في ترجمة علم بعينه، وإنما كان يَفرَغ أحدهم من ترجمة كتاب في التاريخ فيُعهَد إليه بترجمة آخر في الطب ثم ثالثٍ في الكيمياء أو في الجغرافيا وهكذا. ولكننا نُلاحظ أن ميول الخريجين الخاصة ووظائف الترجمة التي تولَّوها بعد تخرُّجهم قد وجَّهتْ كلًّا منهم إلى نوعٍ من التخصُّص في الترجمة أو التأليف في علمٍ من العلوم، فاتَّجه محمود خليفة وأبو السعود ومصطفى الزرابي ومحمد مصطفى البياع إلى ترجمة الكتب التاريخية، واتَّجه صالح مجدي وأحمد عبيد الطهطاوي إلى ترجمة الكُتب الهندسية والحربية، ومحمد الشيمي والسيد عمارة وحسين علي الديك إلى ترجمة الكُتب الرياضية، وعبد الله بك السيد ومحمد قدري باشا إلى ترجمة الكُتب القانونية والتأليف فيها … وهكذا.
ورغبةً في ترجمة أكبر عددٍ مُمكن من الكُتب وإِنجاز الترجمة في أسرع وقت، كانت الكتب تُوزَّع على المُترجمين أجزاءً إذا كان الكتاب يتكوَّن من أجزاءٍ كثيرة، أو فصولًا إذا كان الكتاب جزءًا واحدًا. وكان يُحدَّد لكل مُترجِم وقتٌ معيَّن لإنجاز الترجمة حسب كبر الجزء أو الفصل أو صغره، وكانت تتراوح هذه المدَّة بين أربعة عشر شهرًا وخمسة أشهر.
وكان رِفاعة يُشرِف بنفسه على مُراجعة وتصحيح مُعظم الكتب، إن لم يكن كلها. يَشهَد بذلك المُترجمون من تلاميذه جميعًا في مقدِّمات كُتبِهم؛ فهذا عبد الله حسين يقول في مقدمة تاريخ الفلاسفة: «فاستعنت في مشكلات الكتاب وتحرير ترجمته بمدير تلك المدرسة البهية.» وهذا خليفة محمود يقول في مقدمة «إتحاف الملوك الأَلِبَّا بتقدُّم الجمعيات في بلاد أوروبا»: «وحيث إنها باللغة الفرنساوية من مُستصْعَبات التآليف، ومُختصَرات التصانيف، استعنتُ في تَذلِيل صعابها، وكشفِ نقابها، بمراجعةِ مَن لسانُ القلَمِ في مدحِه ووصفِه قصير، ومن أتى في مدحه بأبدَعِ مقالٍ فإنما هو آتٍ بيسير من كثير، حضرة رِفاعة أفندي مدير مدرسة الألسن، حيث التوَقُّف والحاجة إلى ذلك، وهو أيضًا الذي صحَّحَها على أصلها وقابلها كلَّ المُقابلة. فبهذا كانت خير ترجمة، لا سيما من أمثالي؛ حيث إنه لم يكُن لي في مدرسة الألسن غير سنتين، في اشتغالي بهاتين اللغتين … إلخ.» وقال في مقدمة «إتحاف ملوك الزمان بتاريخ الإمبراطور شارلكان»: «بذلتُ الهمَّة في تعريبه وتنقِيحه وتهذيبه، وازداد تهذيبًا بمقابلته مع ربِّ البلاغة والتدقيق، من أُوتِي في هذا الفنِّ مفاتيح كنوز الحقيقة والتحقيق، حضرة رِفاعة أفندي ناظر قلَم الترجمة … إلخ.»
ولم يكُن من المُستطَاع أن يقوم رِفاعة بمراجعة وتصحيح كل الكتب المترجمة — على كثرتها واختلافها — بنفسه؛ ولهذا أخذ بعد حين يُشرِك معه في هذا العمل بعض مُدرِّسي المدرسة ومُصحِّحيها، وخاصةً الشيخ محمد قطة العدوي. قال أحمد عبيد الطهطاوي في خاتمة كتاب «الروض الأزهر في تاريخ بطرس الأكبر»: «يقول مُترجِمه: لقد صرفتُ في ترجمته — على صُعوبته — الهمة، وسهرتُ في مُطالعَته وفَهمه الليالي المُدلهِمَّة، واستعنتُ — فيما حواه من المشكلات، وما اشتمل عليه من المُعضِلات — بمراجعة صاحب الرفعة رِفاعة بك ناظر قلم الترجمة، وتصحيح غالِبه بمعرفة العلَّامة الشيخ محمد قطة العدوي.» وقال حسن قاسم في كتاب «تاريخ ملوك فرنسا»: «وكان تصحيح هذا الكتاب الفائق … بمعرفة حضرة العلَّامة الأوْحد، سعادة الميرالاي رِفاعة بك الأمجد، وعلى يد المستنصر بربه القوي، محمد قطة العدوي، مُصحِّح قلم الترجمة …»
وممن شارك مشاركةً جِدِّية في مُراجعة وتصحيح الكتب التي تُرجمت في مدرسة الألسن وقلم الترجمة: الشيخ أحمد عبد الرحيم الطهطاوي كبير مُصحِّحي الألسن، فقد عُيِّن في المدرسة منذ إنشائها، ولم يُطبَع من كُتبها كتاب «إلا طالَعَه وتصفَّحه، وقابله وصحَّحَه، وهو يشتغل ليلًا ونهارًا …»
أما اختيار الكتب التي تُترجَم فقد كان مَوكولًا لرفاعة بك. وقد بدأ كما ذكَرْنا فاختار لتلاميذه بعض الكتب التي قرَأها ودرَسها وهو في باريس ككتاب «تاريخ الفلاسفة اليونانيين»، وكتاب «بداية القدماء وهداية الحكماء»، وكتاب «دي مارسيه» في المنطق الذي تُرجِم بعنوان: «تنوير المشرق بعلم المنطق» … إلخ … إلخ.
غير أنه كان يَحدُث أحيانًا أن يَكتب ديوان المدارس إلى مدرسة الألسن مُشيرًا بترجمة كُتُبٍ معينة. وإِذا قُلنا ديوان المدارس فإنما نعنِي في الواقع مُديره أدهم بك، فقد كان رجلًا مثقَّفًا واسع الثقافة، وخاصةً في اللغة الفرنسية والعلوم الرياضية والحربية؛ ولهذا نلاحظ أن معظم الكُتب التي أشار ديوان المدارس بترجمتها كانت إما كُتبًا رياضية وإما كتبًا في الرحلات. قال السيد أفندي عمارة في مقدِّمة كتاب «تهذيب العبارات في فنِّ أخذ المساحات»: «فمُذ حللتُ كغيري بتلك المدرسة (الألسن) اجتنَيتُ من ثمَر اللغة العربية والفرنساوية أنفَسَه، بإرشاد ناسِج حُلَّة بُردها، وناظم جَوْهر عِقدها … العلَّامة السيد رِفاعة أفندي بدوي رافع، فلمَّا علِم منِّي الرغبة في التحصيل … حباني من فضله إمْداده، إلى أن بلغتُ المأمول وزيادة، وأمَرَني — عملًا بما صدَر من ديوان المدارس المصرية — أن أُترجِم كتابًا للمؤلِّف «لوكوه» يتضمَّن بيان المسافات وفنَّ أخذ المساحات … إلخ.» وقال سعد نعام في مُقدمة «سياحة في أمريكا»: «قد صدَر الأمر بتعريبه، وتفسير تراكيبه، من ديوان المدارس المصرية، التي هي بكسْبِ العلوم حَرِيَّة، بأنفاس مُدِيرها حضرة البك المُفخَّم، سعادة ميراللوا إبراهيم أدهم … إلخ.»
وقال إبراهيم مصطفى البياع (الصغير) في مُقدمة «سياحة في الهند»: «هذه خدمة يسيرة، وتعريب رحلة صغيرة، للمؤلِّف «أوبير ثرولد»، ألَّفها في سياحته إلى بلاد الهند، وُجدَت في كُتبخانة حضرة البك المُفخَّم مدير المدارس … سعادة أمير اللواء أدهم بك … فصدر الأمر بترجَمتها من الديوان، إلى حضرة علَّامة الزمان، من رَقِي في مَراقِي الشرف أرفع محلٍّ وأعظمه، حضرة أمير الآلاي رِفاعة بك ناظر قلم الترجمة، فعيَّنني — حفظه الله — لترجمتها … إلخ.»
ويبدو لي أن رِفاعة كان يُراعِي رغبات وحاجات الوالي والحكومة والمدارس في اختيار الكتب التي تُترجَم، ولكنه كان يَتخيَّر الكتب التاريخية تبعًا لخطَّةٍ خاصة رسمها لنفسه؛ فإنه يتَّضِح من مُراجعة هذه الكتب أنه كان يُريد أن يُترجِم كُتبًا مُختلفة تُغطِّي تاريخ العالم منذ أقدم العصور حتى أحدَثِها. وإن كان تاريخ فرنسا قد حَظِي منه بعناية خاصة، فقد تُرجم فيه أكثر من كتاب، ولعلَّ هذا راجع لثقافة رِفاعة الفرنسية وميله إلى هذه الدولة، أو للعلاقات التي كانت تربط بين مصر وفرنسا منذ نزلتْ بأراضيها الحملة، أو لاستِعانة محمد علي بالفرنسيين في إصلاحاته وإيثاره فرنسا بإيفاد مُعظم البعثات إليها.
وقد عُني رِفاعة بعلم التاريخ هذه العناية، وعهِد إلى تلاميذه بترجمة الكتب الكثيرة فيه لأسباب كثيرة، أولها ميله الخاص، وثانيها وأهمها ما كان يُحسُّه من شغَف محمد علي باشا الشديد بدراسة حوادث الأمم وتراجم عظماء الرجال. ورفاعة حريصٌ الحرصَ كلَّه في كلِّ ما يعمل على أن يُرضِي «وليَّ النِّعم».
بدأ رِفاعة بتنفيذ هذه الخطة، فاختار كتابًا في تاريخ الدول والشعوب القديمة: من مصريين، وسريانيين، وبابليين، وأكراد، وفُرس، ويونانيين … إلخ، وعهِد إلى تلاميذه في مدرسة الألسن بترجمته، ولما كان هذا الكتاب في أصله الفرنسي «ناقصًا تاريخ الخليقة والعَرب، وكان في كتاب عماد الدين أبي الفداء سلطان حماة ما يفِي بالأرب.» فقد أضاف رِفاعة إليه فصولًا من هذا الكتاب: «لِكمال المطلوب وبلوغ المرغوب».
والمطلوب والمرغوب كما رجَّحنا هو تغطية تاريخ العالم بسلسلة من الكتب؛ ولهذا نراه لا يتقيَّد بنصوص المؤلِّفين عند الترجمة، بل يُبيح لنفسه إِضافة أجزاءٍ من كُتبٍ عربية قديمة ليُكمِل بها ما في هذه الكتب من نقصٍ وليحقِّق خطَّته التي رسمها لنفسه.
وقد كتب رِفاعة مُقدِّمة لهذا الكتاب — وهو أول كتابٍ تاريخي تُترجِمه مدرسة الألسن، فقد طُبع في سنة ١٢٥٤ﻫ — فلْسَف فيها دعوته لدراسة التاريخ، وأوضح الأغراض من دراسته، وأشار إلى شغَف محمد علي بهذا العلم، وهي مُقدِّمة طيِّبة لا يَشُوبها — فيما نرى — إلا التزامه السجْع في فقراتها، ولكنه كان مُضطرًّا إلى هذا اضطرارًا، فقد كان مُتأثرًا بتقاليد العصر الأدبية. قال في هذه المقدمة: «من المعلوم أن الإنسان مدنيٌّ بطبعه، مائل إلى التآنس والعمران بأصله وفرعه، مُضطرٌّ إلى السياسة والرياسة، وحُسن الاجتماع والكياسة، وما يكون به استِجْلاب كماله، ومعرفة أسباب حفظه أو تحوُّله وانتقاله، وما يكون عليه حال الملك في نفسه أو مع رعيته، وعمارة مدائن مَملكته؛ حيث احتاج إلى ذلك تنظيم المصالح، وضبط المهمات على وجهٍ راجحٍ ناجح، لما أنه يُستنبَط من ذلك كمال فوائده، من كان تدريب التجارب نُصبَ مصادره وموارده، ولا يشَمُّ ذلك إلا مَن للأخبار اختَبر، وللسِّيَر وللتواريخ سبَر، حتى تضلَّع من وقائع المشارق والمغارب، وتجرَّع من مُحيطها بأنواع الأذواق والمشارب، ورجع عن طُروق الشُّبه إلى أهلِ الذكر، وهُرِع إلى طرق التاريخ بالهمة والفكر، لِما أنه يجُود بذكر ما جرى عليه النسيان، ويُجيد حوادث الحدثان، ويُخرِجها من حيِّز الخفاء إلى حيِّز العيان. ولولا أن مِصباح التاريخ به الاستِصْباح، لأصبَحَ ما مضى هشيمًا تذرُوه الرياح، فمنفعته عامة، للخاصة والعامة، وهو مُشِير كلِّ أمير، وأمير كلِّ مُشِير، وسَمير كلِّ وزير، وظهير كلِّ سمير، إذا سُئل أجاب، وأبدى العجَب العُجاب، ترتاح به الأرواح الفاضلة، وتلتَاح إليه النفوس الكاملة، من الحكماء والأساطين، والملوك والسلاطين؛ فلذا كانت مَطمَح نظر الخديو الأعظم، ومَلمَح بصر الداوري الأفخم، نادرة الدهر، أنموذج الفخر، سيد مصر، وصاحب العصر، مغناطيس التعجب، صاحب اليد البيضاء التي لا تُوارَى، والحسنات الجمَّة التي لا تُجارى، من به اضمحَلَّ الظلم وتلاشى، أفندينا ولي الممالك محمد علي باشا، الذي سارت الرُّكبان بذِكره في كلِّ ناد … وتلقَّب بأعظم الألقاب، لا سيما عند ملوك أوروبا، أَوَليس أنه يلقَّب عندَهم مُعيد تَمدُّن الإسلام، ومُبيد تمكُّن الأوهام …»
«ولما كان تولُّعه بالتواريخ شديدًا، وتطلُّعه لأخبار الملوك الماضين مَزيدًا، وله في معرفة فحول رجال القرون الأولى، المادة الغزيرة واليد الطولى، والقريحة الوقَّادة، والبصيرة النقَّادة، وكان تاريخ تلك العصور، بالكُتب العَربية في غاية القصور، لا سيما تاريخ اليونان، المُشتمِل على فحول رجال تلك الأزمان … وكان بمدرسة الألسن من يقوم بتعريب طرفه، ويُخرج دُرَّه من صَدَفه، أعطيتُه لعدة أفراد، لتعريب المراد، في أقرب ميعاد … إلخ.»
وقد اشترك في ترجمة هذا الكتاب مصطفى الزرابي أفندي، ومحمد عبد الرازق أفندي، وعبد الله أبو السعود أفندي.
وبعد الانتهاء من ترجمة هذا الكتاب في تاريخ العالم القديم، تخيَّر رِفاعة كتابًا آخر في تاريخ العصور الوسطى، وعهِد لمصطفى الزرابي أفندي بترجمته، فخرج كتابًا كبيرًا في جُزءين، يقع الجزء الأول في ٢٦٨ صفحة، والثاني في ٣٥٩ صفحة، وقدَّم له رِفاعة بما يُؤكد خطَّته التي زعمنَاها، قال: «… يقول الفقير إلى الله تعالى رِفاعة رافع ناظر مدرسة الألسنة: هذه رسالة في تاريخ القرون المُتوسِّطة تكملة لتاريخ القدماء الذي طبَعَه وليُّ النعم، صاحب الجود والكرم …» وقد سُمِّي هذا الكتاب: «قُرَّة النفوس والعيون بِسِيَر ما توسَّط من القرون».
تناول هذان الكتابان تاريخ العالم في العصور القديمة والمتوسطة. وقد انقسم العالم في العصور الحديثة إلى دُوَلٍ كثيرة مُختلفة، ولكلِّ دولة تاريخها، وقد عُنِي رِفاعة بتاريخ فرنسا خاصة للأسباب المُتقدِّم ذكرها، فعهد إلى أحد النابغين من تلاميذه — أبي السعود أفندي — بترجمة كتاب «نَظْم اللآلئ في السلوك فيمن حَكم فرنسا من الملوك»، فترجمه وطُبع في بولاق سنة ١٢٥٧ﻫ.
وبعد سنواتٍ قليلة من ترجمة هذا الكتاب أهدى المؤرخ الفرنسي «مونيقورس» كتابه في «تاريخ ملوك فرنسا» إلى شريف باشا «مدير عموم المالية»، «وبالمُذاكَرة مع حضرة البك المُفخَّم، مدير عموم المدارس إبراهيم أدهم، استقرَّ الرأي على طبعه، وأن يُطبَع على ذمَّة حضرة الباشا المشار إليه، مكافأة لمؤلِّفه في نظير الإهداء …»
وقد قام بترجَمته حسن قاسم أفندي أحد خريجي الألسن، وطُبع في بولاق في سنة ١٢٦٤ﻫ.
وقد عرَف رِفاعة أن محمد علي يُعنَى عنايةً خاصة بدراسة سِيَر أمثاله من الملوك المُصلحين الذين نهَضوا بأُمَمهم نهضاتٍ يذكُرها التاريخ؛ لهذا «اختار تاريخ ملكٍ من ملوك الإفرنج، تعلو هِمَّته بينهم على المريخ، وهو تاريخ بطرس الأكبر، الذي فَضْله بين ممالك أوروبا أشهر من أن يُذكَر.» وعهِد إلى نابغٍ آخر من تلاميذه ومواطنيه — وهو أحمد عبيد الطهطاوي أفندي — بترجمته. والكتاب من تأليف الفيلسوف الفرنسي المعروف «فولتير».
ومِن كُتُب التَّراجم التي عرَّبها خريجو الألسن كذلك: كتاب «مطالع شموس السِيَر في وقائع كارلوس الثاني عشر»، ترجَمَه محمد مصطفى الزرابي أفندي، «وكانت ترجمته بأوامِر مدير المدارس، لا زال مُختارًا لإِبراز الدُّرَر والنفائس.»
ولما كان الكتاب يؤرِّخ لمملكة «أسوج» — السويد — حتى عهد كارلوس الثاني عشر، فقد رأى المُترجِم أنه من المُناسب أن يُذيِّله «بتذْيِيلٍ لطيفٍ يذكُر فيه من حَكَمها بعده من الملوك إلى عَهدِنا هذا — طُبع الكتاب في ١٢٥٧ﻫ — على طريق الإيجاز، لتُعلَم أحوال تلك البلاد الشمالية، وتَتمَّ بذلك فائدة الكتاب …» وقد انتخَب المُترجِم هذا التذييل من «كتاب المؤلِّف راغوان في أحوال القرن الثامن عشر».
ذَكَرنا قبل هذا أن خِريجي الألسن في نحوِ عشر سنواتٍ يترَاوحُون بين السبعين والمائة، وأنهم تَرجموا ما يقرُب من الألفَي كتاب. ومن العسير أن نُترجِم هنا لجميع هؤلاء الخريجين أو أن نذكُر بالتفصيل جهودهم العلمية، فاكتفينا بعرْض التيارات العامة التي كانت تُوجِّه تلاميذ رِفاعة في قَلَم الترجمة المُلْحَق بالألسن. وتحدَّثنا حديثًا مُوجزًا عن بعض جهود هؤلاء التلاميذ تحت ضَوء هذه التيارات، وسنتخيَّر هنا علَمَين من أعلام هؤلاء التلاميذ فنتحدَّث عن حياتهما وجهودهما.
هذان العلَمَان هما: عبد الله أبو السعود أفندي، والسيد صالح مجدي أفندي (بك فيما بعد)، وقد دفعَنا إلى اختيارهما أنهما كانا أكثر الخريجين اتِّصالًا بأستاذهم رِفاعة في عهد محمد علي ثم في عهد إسماعيل، وأنهما كانا أكثر الخريجين إنتاجًا وترجمةً بل وتأليفًا فيما بعد.
أما أبو السعود أفندي فقد وُلِد في دهشور سنة ١٢٣٦ﻫ، وكان والده قاضيًا، ثم اختير ناظرًا لأحد المكاتب التي أنشأها محمد علي، وهو مكتب البدرشين، وذلك في سنة ١٢٤٨ﻫ، فألحَقَ ابنه تلميذًا بهذا المكتب، ومنه اختاره رِفاعة بك في سنة ١٢٥٠ﻫ ليكون تلميذًا بمدرسة الألسن. وفيها تفوَّق على أقرانه وخاصةً في اللغة العربية، فاختير في سنة ١٢٥٤ﻫ مدرِّسًا لهذه اللغة خلَفًا لأستاذه الشيخ حسنين الغمراوي، ومُنح رتبة المُلازم الثاني.
وبعد قليلٍ رُقِّي إلى رُتبة الملازم الأول، ونُقل إلى مدرسة المهندسخانة فكان يدرِّس بها اللغة الفرنسية، ويشترك في تصحيح الكُتب الرياضية التي يُترجِمها مدرسوها. ولم يكتفِ في هذه السنوات بالثقافة التي تلقَّاها في الألسن، بل كان يحضُر دروس الفقه في الجامع الأزهر، ومن أساتذته هناك: الشيخ خليل الرشيدي، والشيخ أحمد المرصفي، والشيخ المنصوري، والشيخ التميمي المغربي. وفي سنة ١٢٥٩ﻫ، عندما أُعيد تنظيم قلَم الترجمة المُلحَق بالألسن تحت رئاسة رِفاعة بك ونظارة كاني بك، نُقل إليه أبو السعود أفندي، ولم يُترجِم في تلك الفترة إلا كتاب «نظم اللآلئ في السلوك فيمن حكم فرنسا ومن قَابَلَهم على مصر من الملوك». والثلثان الأوَّلان من الكتاب مُترجَمان عن الفرنسية وموضوعهما تاريخ ملوك فرنسا من الدولة «الميروفنجية» إِلى عهد الملك «لوي فيليب». أما الثلثُ الأخير فمِن وضْعِه وقد ضمَّنه تاريخ حكام مصر وولاتها منذ عهد الخليفة أبي بكر الصدِّيق إلى عهد السلطان عبد المجيد. وقد طُبع هذا الكتاب في بولاق سنة ١٢٥٧ﻫ.
وفي عهد عباس الأول انزَوى أبو السعود أفندي مُوظَّفًا عاديًّا لا جُهد له ولا نشاط. ولا عجَب فهو تلميذ رفاعة، فلمَّا تولَّى سعيد باشا الحكم عاد أبو السعود إلى الحياة، وسافر مع الوالي إلى السودان كاتبًا لمعيَّته، وبعد عودته عُيِّن بقلم الترجمة بالخارجية. وفي أوائل عهد إسماعيل عاد إلى قلم الترجمة المُلحَق بديوان المدارس ليعمل من جديد بالاشتراك مع زميله صالح مجدي تحت رئاسة أستاذهما القديم رِفاعة بك.
وفي هذا العهد بلغ نشاطه في الترجمة والتأليف أَوْجَه، فترجَم سبعةَ كُتُب، مُعظمها في التاريخ — وهو العِلم الذي تخصَّص فيه — وبعضها في الزراعة أو الكيمياء أو القانون أو الجغرافيا.
وفي هذا العهد أيضًا خطا أبو السعود خطوةً جريئة، فأنشأ في مصر أول صحيفةٍ وطنيةٍ شعبية، هي جريدة «وادي النيل». وقد كان لهذه الصحيفة شأنٌ كبيرٌ في التمهيد للحركة الوطنية في عهد إسماعيل.
وقد سَاهَم أبو السعود في تحرير أول مجلةٍ مصرية ظهرت في ذلك الوقت، وهي «روضة المدارس»، ثم اختِير في أُخريات أيامه ناظرًا لقلم الترجمة خلَفًا لأُستاذه رفاعة، ثم كان مُدرِّسًا للتاريخ بمدرسة دار العلوم، وعضوًا بمجلس الاستئناف إلى أن تُوفِّي في الثامن من صفر سنة ١٢٥٩ﻫ.
أما السيد صالح مجدي فهو من أسرة عربية الأصل، وُلِد في قرية أبي رجوان من أعمال مديرية الجيزة في سنة ١٢٤٢ﻫ أو سنة ١٢٤٣ﻫ، وتلقَّى علومه الأولى في مكتب حلوان الأميري، ومنه اختِير — كما اختِير زميله أبو السعود — ليكون تلميذًا بمدرسة الألسن، فأُلحق بها في سنة ١٢٥٢ﻫ.
وفي عهد تَلْمَذته بهذه المدرسة ظهر نُبوغه في اللغتين العربية والفرنسية، فلما أُنشئ قَلَم الترجمة في سنة ١٢٥٨ﻫ، وجُعل من أقسامه قسم لترجمة الكتب الرياضية تحت رئاسة بيومي أفندي، جُعل السيد صالح مجدي وكيلًا لهذا القسم، وفيه ترجم كتابين: أحدهما جداول المهندسين، وثانيهما تطبيق الهندسة على الميكانيكا والفنون.
وفي سنة ١٢٦٠ﻫ نُقل إلى مدرسة المهندسخانة، خلَفًا لزميله أبي السعود الذي نُقل من المُهَندسخانة إلى قلم الترجمة في سنة ١٢٥٩ﻫ. وفي هذه المدرسة عُيِّن مجدي «لتدريس اللغتين الفرنساوية والعربية، وتعليم نُجبَاء تلامذتها فنَّ الترجمة، وتعريب فروع الرياضيات التي تُدرَّس بها على القواعد العربية.» ويقول علي مبارك في خُطَطِه: «إني قد كنتُ من رجال هذه المدرسة، فعرفتُ المُترجِم فيها واتَّخذتُه لي صاحبًا وصديقًا، وكنت قد تعَيَّنت في سنة ستِّين التي التحق هو فيها بتلك المدرسة للسفر مع عدَّةٍ من أمثالي إلى مملكة الفرنسيس لتكميل العلوم الرياضية وتحصيل الفنون العسكرية المُتعلِّقة بالطوبجية والاستحكامات، فلما رجعتُ إلى مصر بعد خمس سنين وجدتُه قد وصل إلى رُتبة يوزباشي وأخبرَني أنه أحرزها في سنة ١٢٦٢ﻫ، وأنه عرَّب في هذه المُدَّة عدة كُتُب في فروع الرياضيات، منها كتاب في الطبوغرافيا والچيودوزيه، وكتاب ميكانيكا نظرية، وكتاب ميكانيكا عملية، وكتاب أدروليكا، وكتاب حساب آلات، وكتاب طبيعة، وكتاب هندسة وصفية، وكتاب في حفر الآبار، ورسالة في الأرصاد الفلكية تأليف الشهير «أرجو». ولمَّا أُحِيلت على عُهدتي نظارة المهندسخانة وما معها سنةَ ستٍّ وستِّين بعد انتقالي من رتبة صاغقول أغاسي إلى رتبة أميرالاي كان لي المُترجِم رفيقًا مع قيامه بوظائفه. وطالما استعنتُ بقَلَمه على تأليف كُتُبٍ مُتنوعة في فنونٍ شتَّى. وقد ترجَم في تلك المُدَّة عدَّة كُتُبٍ في الرياضة، منها كتاب في الحساب، وكتاب في الجبر، وكتاب في تطبيق الجبر على الأعمال الهندسية، وكتاب في الظلِّ والمنظور، وكتاب في حساب المُثلثَّات، وكتاب في الهندسة الوصفية، وكتاب في قَطْع الأحجار والأخشاب، وهي كُتُب جارٍ عليها العمَلُ إلى الآن في المدارس. وله غير ذلك من الكُتُب التي تَجِلُّ عن الحصر …»
وهكذا كان صالح مجدي أسْعدَ حظًّا من صديقه أبي السعود؛ فقد مَهَّدت له معرفته بعلي مبارك السبيل إلى البقاء في مدرسة المُهندسخانة في عهد عباس. وفي هذه المدرسة قضَى نحو عشر سنواتٍ أنتج فيها هذا الإنتاج الضخم.
وفي عهد سعيد باشا عاد أُستاذه رِفاعة من السودان. غير أنه ظلَّ مدَّةً عاطلًا، فنُقِل مجدي في سنة ١٢٧٢ﻫ وكيلًا لمأمورية أشغال الطَّوابي بالقلعة السعيدية، وعُهد إِليه بترجمة الكتب العسكرية ثم مُباشرة طبْعها في مطبعة بولاق. ثم لم يلبثْ أن جذَبَه رِفاعة إليه، فنُقِل ناظرًا لقَلَم الترجمة المُلحَق بالمدرسة الحربية بالقلعة التي كان يتولَّى نِظارَتَها رفاعة.
وفي أوائل عهد إسماعيل أُعيدَ إنشاء قلَم الترجمة المُلحَق بديوان المدارس، وتولَّى الإشراف عليه رئيسه القديم رِفاعة بك، وكان من مُترجِميه أبو السعود وصالح مجدي، بل لقد أتى على هذا القلم وقتٌ لم يكن به من المُترجِمين غير صاحِبَيْنا وزميل ثالث لهما كان له شأنٌ أيُّ شأنٍ في ترجمة الكتب التاريخية في عصر محمد علي وهو حسن أفندي الجبيلي.
وفي كلِّ تلك العهود كان علي باشا مبارك يَستَعين به وبجهوده وعلمه في تأليف وتصنيف مُعظم كُتبه؛ فقد قال في الخُطط: «وفي سنة ثلاثٍ وثمانين ومائتين بعد الألف أحيلت على عُهدَتي — وأنا إذ ذاك ناظر القناطر الخيرية — مأمورية تأليف كتاب الهِجاء والتمرين، فطلبتُ المُترجم من ديوان المدارس بأمرٍ عال، فحضَر عندي، واشتَغَل معي بالكتاب المذكور حتى تمَّ على أحسن حال … وتكرَّر طبعه حتى زادت نُسَخه على خمسة عشر ألفًا …» ثم قال: «ولمَّا أُحيلتْ على عُهدَتي نظارة عدَّة دواوين ومصالح في آنٍ واحد استعنتُ بقلَمه على تحرير عِدَّة لوائح وترتيباتٍ نافعة لإدارة هذه المصالح …» وقال أيضًا: «وباشر معي بعضَ التاريخ الذي عملتُه للديار المصرية في عدَّة مجلدات، وبعض رسائل جمعتُها، وطُبعَت بمعرفته في جرنال روضة المدارس …»
وقال محمد مجدي في ترجمة والده التي نشَرَها في مقدِّمة ديوانه أنهما — أي علي مبارك وصالح مجدي — أتَمَّا من هذا الكتاب: «ما يتعلَّق بالفراعنة والأكاسرة والبطالسة والرومانيين. ووصلا فيه في مدَّة الإسلام إلى سنة ستِّين ومائة بعد الألف من الهجرة، وبلغ ما جُمع فيه من المُجلَّدات نحو أربعمائة كراسة. وهو الآن لدى سعادة علي مبارك باشا، والغالب أنه مُهيَّأٌ للطبع …» وقد ظن البعض أن المقصود بهذا الكتاب هو كتاب الخُطط التوفيقيَّة. غير أن الخُطط تمَّ طبعها في سنة ١٣٠٤–١٣٠٦ﻫ/١٨٨٦–١٨٨٩م، وديوان صالح مجدي طُبع في سنة ١٩١١م، فكأن الكتاب الذي كان مُهيَّأً للطبع في سنة ١٩١١م هو غير الخُطط قطعًا، وخاصةً أن موضوعه هو تاريخ مصر في مُختلِف العصور لا طوبغرافيتها. غير أني رجعتُ إِلى قائمة المطبوعة التي ألَّفها كلٌّ من علي مُبارك وصالح مجدي، فلم أجِد من بينها كتابًا في تاريخ مصر، فلعلَّه لم يُطبَع.
هذا هو صالح مجدي، وهذا مُوجَزٌ عن جهوده، فقد قضى العُمُر كله يُترجِم ويؤلِّف حتى زادتْ ترجماته ومؤلَّفاته — كما يقول علي مبارك — «على خمسةٍ وستِّين كتابًا ورسالة».
أبو السعود وصالح مجدي علَمَان كما قُلنا من أعلام خِرِّيجي الألسن، وهما خير نموذجين لهؤلاء الخرِّيجين. وعلى مِثالِهما بذَل إخوانُهما الجهد في الترجمة والتأليف. ومن صنفهما: محمد عثمان جلال في ميدان الأدب، وقدري باشا في ميدان القانون.
وقد ربَطتِ الحوادث بين هذين العلَمَين وبين أستاذهما رفاعة، فعَمِلا معه في قلَم الترجمة في عصرَي محمد علي وإسماعيل، واشتركا معه في تحرير روضة المدارس وفي ترجمة قانون نابليون. غير أنهما رغم هذا اختَلَفا الواحد عن الآخر في ميادين أخرى، فقد كان صالح مجدي أقرَبَ إلى علي مبارك في دراساته وثقافَته الرياضية والعسكرية، ولهذا تعَاوُنٌ في إنتاجه العلمي مع علي مبارك أكثرَ من تعاوُنِه مع أستاذه رفاعة. ومع هذا فقد كان فضْلُ رِفاعة عليه كبيرًا، فإن ثقافته الفرنسية والعربية التي تلقَّاها في مدرسة الألسن هي التي رشَّحتْه للعمل في قلم الترجمة في عهدَي محمد علي وإسماعيل، وهي التي رشَّحته للعمل في مدرسة المُهندسخانة في عهدي محمد علي وعباس. وثقافته القانونية في الألسن أيضًا هي التي رشَّحته للعمل في ترجمة القوانين ثم لتولِّي وظيفة القضاء في عصر إسماعيل؛ لهذا كان مجدي أبرَّ التلاميذ بأستاذه، فهو الوحيد من بين تلاميذ رِفاعة الذي أرَّخَ له بعد وفاته، فكتب عنه كتابَه القيِّم — رغم صغره — «حِلية الزمن بِذِكْر مَناقِب خادِم الوطن».
أما أبو السعود فكان أكثر تأثُّرًا بأُستاذه، فقد تخرَّج من الألسن شغِفًا كأستاذه بعِلمَي التاريخ والجغرافيا؛ ولهذا كانت مُعظم مُترجماته ومؤلفاته في هذين العِلْمَين. وقد اعترَف بفضل رِفاعة عليه وتأثُّره به في هذا الميدان في مُقدِّمة كتابٍ عرَّبه في الجغرافية في عصر إسماعيل، ونشره بالتَّتَابُع في صحيفته وادي النيل، ثم طبَعَه على حِدةٍ تحت عنوان: «الدرس المختصر المفيد في علم الجغرافيا الجديد». قال: «وكان قد سبَقَني في انتهاج هذا المنهاج … في مُنتصَف هذا القرن الأخير (١٩) وأول عهد المرحوم محمد علي باشا الكبير، حضرة أستاذي رِفاعة بك أفندي الشهير. وهو وإن كان لم يزَل له فضل السبق، وكان بالاحترام والتبجيل أَحَق، ولربما جئتُ بالغثِّ وجاء بالسمين، وتَزيَّيتُ بالرَّثِّ وتَزيَّى بالثمين، غير أنه لمَّا كان هذا العلم عبارةً عن استقصاء حقيقة أحوال هذا العالم السريع الانتقال من حالٍ إلى حال، واستمرار تنقُّل المِلل والنِحل، وغير ذلك من التقلُّبات الموالية على مَمَرِّ الأوقات واللحظات، احتاج هذا العلم لمن يقِفُ له بالمِرصاد، ويبذل في خِدمته على الدَّوام — كالحاصل في البلاد المُتمدِّنة — كل الاجتهاد؛ فلذلك قَفوتُ من أستاذي الأثَر، وحَذوتُ حَذْوه في مشقَّة ذلك السفر … وإذا كان أستاذي حفِظَه الله قد أتى من هذا الأُكُل بالباكُورة فقد أتيتُ بوفرة الثمَر، أو كان قد بدَر بالبدْر فقد جئتُ بالشمس والقمَر. وإذا كان قد جاء بالتعريبات الشافِية في علم الجغرافيا، فهذه الرسالة بحمد الله هي الخلاصة الكافية …»