رفاعة الرجل
آمن محمد علي منذ قَدِم إلى مصر أن سرَّ تفوُّق الغرب على الشرق إِنما هو علوم الغرب ونُظمه الجديدة؛ ولذلك اتَّجهت جهوده الإصلاحية كلها إلى نقْل هذه العلوم وهذه النظم إلى مصر. ولقد كان محمد علي حكيمًا الحكمةَ كلها في هذا، لأنه نقل الغرب إلى مصر ولم ينقِل مصر إلى الغرب، فاحتفظت مصر — وهي تَنقِل عن الغرب حضارته — بشرقِيَّتها.
وكان رِفاعة رافع الطهطاوي خير نموذج للرجل الذي أراد محمد علي أن يُخرِّجه ويكوِّنه للمشاركة في حكم مصر وتعليم المصريين العلوم الجديدة، فهو قد قبَس قبَسيْن: قبسًا من علم الشرق وقبَسًا من علم الغرب.
وقد فهِم رِفاعة عن محمد علي سياسته فاتَّبعَها مع تلاميذه في الألسن، وخرج تلاميذه — في جملتهم — صُورًا منه يُتقِنون اللغة العربية وعلومها واللغات الأجنبية وعلومها؛ وبهذا استطَاع محمد علي واستطاع رِفاعة أن يَصبِغا الثقافة المصرية في القرن التاسع عشر ويُوجِّهاها حتى اليوم الوِجْهَة الصالحة الطيبة.
كان أصحاب رِفاعة يسمُّونه «الشيخ رفاعة»، فلمَّا سافر إلى باريس كان أصدقاؤه من الفرنسيين والمُستشرقين ينادُونَه ﺑ «المسيو رفاعة». ولما عاد إلى مصر وعُيِّن في المدارس الجديدة سمَّته الحكومة «رفاعة أفندي»، ولكنه رُقِّي بعد ذلك إلى رُتبة القائمقام فأصبح لقبه «رفاعة بك». وقد رُقِّي رِفاعة — منذ عاد من باريس — في سُلَّم الرتب العسكرية من المُلازم الثاني إلى أمير الآلاي.
كان رِفاعة دائم العمل، دائِب النشاط، واسع العلم، وافر الذكاء، كثير الإنتاج، ومع هذا لم يُمنح في حياته لقب «الباشوية» ولم يصِل كغيره إلى مرتَبة «النِّظارة»، وهذا أمر يبدو غريبًا. وإن كان الأستاذ عبد الرحمن الرافعي بك يُعلِّله بما كان يَمْتاز به رِفاعة من شَممٍ وإباء وشهامة، فهو يقول: «ولا يُمكِن تعليل كلِّ ذلك من ناحية الكفاءة والجَدَارة؛ فإن كفاءة رِفاعة بك كانت مُنقطِعة النظير، وجَدَارته مُعترَفٌ بها من الجميع، فبقاؤه في «نظارة قلم الترجمة» وعدم بلوغه مرتبة الوزارة — وهي النهاية التي يتطلَّع إليها من ينتظمون في سلك المناصب الحكومية — لا بدَّ أن يكون ذلك راجعًا إلى ما اتَّصَف به رِفاعة بك من الشَّمَم والإباء؛ فإن هذه الصفات على كونها من أسمَى الفضائل ليستْ مُحبَّبة إلى الرؤساء وولاة الأمر، ولا تُرغِّبهم كثيرًا في أصحابها، ولا تَميل بهم إلى إسناد المَناصب الرفيعة إليهم.»
وصف صالح مجدي بك أُستاذه رِفاعة بأنه كان «قصير القامة، عظيمًا، واسِع الجبين، مُتناسِب الأعضاء، أسمر اللون، ثابِت السكون. وكان فيه دهاءٌ وحزم، وجرأة وثبات وعزم، وإقدام ورياسة، ووقوفٌ تامٌّ على أحوال السياسة، وتفرُّس في الأمور. وكان حميد السيرة، حسن السريرة.» ثم قال: «وكان فيه زيادةُ كرمٍ وسماحة، وفريد بلاغةٍ وفصاحة، كثير التواضع جمُّ الأدب، مُحبًّا للخير. وكان كُلَّما ارتقَى إلى أسنى المناصب، وجلس على أسمَى المراتب، ازداد تواضُعه للرفيع والوضيع، وتضاعف سعيُه في قضاء حوائج الجميع، ولم يغتَرَّ بزينة الدُّنيا وزخرفها. وكان قليل النوم كثير الانهِماك في التأليف والتراجم حتى إنه ما كان يعتَنِي بملابسه …»
هذه صورة تقريبية لرفاعة هي أقرب الصُّور للحقيقة؛ فراسِمُها تلميذ رِفاعة وأقرب الناس إليه وأكثرهم تَعاونًا معه. وهي إلى هذا صورة صادقة للعالِم الحقِّ الذي عاش ومات للعِلم وفي سبيل العلم، والذي أكسَبَه العلم صفاتِ العلماء الطيبةَ، وخاصةً التواضع وحب الخير والبعد عن زُخْرف الدنيا وزينتها.
وقد قاسَى رِفاعة كثيرًا في حياته وخاصةً في السنوات التي قضاها في السودان. ومع هذا فقد احتَمَل الألم في قوةٍ وصبرٍ شأنَ العظماء من الرجال.
وهناك صِفةٌ هامة من صفاتِ رِفاعة تستحِقُّ الالتفات والتسجيل؛ فقد كان فيها الرائد الأول للمصريين جميعًا في العصر الحديث، تلك هي عاطِفته الوطنية القوية. كان رِفاعة يُحبُّ مصر حبًّا قويًّا ملَكَ عليه نفسه، وكان الدافِعَ له إلى الإخلاص في عمله والتفاني في أداء واجبه. وقد تغنَّى بهذا الحبِّ كثيرًا في شِعره، بل نحن لا نعدُو الحقيقة إذا قُلنا إِنَّ مُعظم شِعره قصائد ومقطوعات وأناشيد وطنية لم يَسبِقه إليها أو إلى مثلها أحدٌ من المصريين.
وفي كُتُبه المُختلِفَة كان يعقِد الفصول الطوال للتحدُّث عن الوطن والوطنية وتحليل هذا المعنَى وضرْبِ الأمثلة بمَن عاشوا وضَحَّوا في سبيل أوطانهم. أثار هذه العاطفة في نفسه طبيعتُه الخيِّرة، وقوَّاها ثقافته الواسعة في باريس ودراسته للعلوم الفلسفية والاجتماعية والسياسة هناك، وأذكاها أيضًا أنه شاهَدَ ثورة الشَّعب الفرنسي في سنة ١٨٣٠م فقد رأى بعينِه كيف يَبذِل الفرنسيون أرواحهم في سبيل وطنِهم وحرِّيَّتهم.
وفي مصر لاحظ رِفاعة الجهود الجبارة التي بذَلَها محمد علي الكبير في إحياء مصر والنهضة بها حربيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا، وأعجبه من هذا البطل حبَّه للخير والإصلاح، فقال الشعر الكثير في مدْحِه والإشادة بفضله. وشِعر رِفاعة لا يرفعه إلى مرتبة الشعراء المُمتازين كشوقي ومدرسته، ولكنه يفضُل كثيرًا شِعرَ مُعاصِريه، فقد ارتفع به عن الأغراض المُتدَاوَلة في أيامه — كالمديح والرثاء وتاريخ المنشآت والغزل الرخيص في المرأة أو الغلمان — إلى أغراضه السامية من التغنِّي بحبِّ مصر والإشادة بذكرها وذكر جيشها المَجيد ومواقعه الحاسمة وأبطاله الصنادِيد … إلخ … إلخ. وشعر رِفاعة مُبعْثر — حتى الآن — في كُتُبه المؤلَّفة والمُترجَمة، ويحتاج في رأيي إلى من يجمعه في ديوانٍ خاصٍّ ويُعنَى بدراسته وتقديمه إلى القراء. وسننقِلُ هنا بعض أبياتٍ من مقطوعات رِفاعة الوطنية كنماذج لشعره. قال في قصيدة عنوانها «وطنية»:
•••
•••
وقال يُشيد بعظمَة الجيش المصري:
•••
•••
•••
•••
•••
واستمع أخيرًا إلى هذه الأنشودة التي يُخاطب بها المصريين:
إلخ … إلخ.