مقارنات وآمال
كانت نصيحة العطار لرفاعة أن يُسجِّل مشاهداته في رحلته في كتاب خاص، وقد استجاب التلميذ لنصيحة أستاذه، فبدأ منذ ركوبه السفينة في الإسكندرية يَفتح عينيه وأُذنيْه ليرى كل شيء ويسمع كل شيء. وكان كلما رأى جديدًا أو سمع جديدًا، انطوَى على نفسه يفكر فيما رأى وفيما سمع، ثم لا يَلبث أن يَستحضِر في مُخيِّلته الصورة المُقابلة — لِما رأى أو سمع — في وطنه، أو في ديار الإسلام عامة، ثم يترك نفسه على سجيَّتها يُلقِي النظرة بعد النظرة على الصورتين: الصورة القديمة التي عرَفها في وطنه أو في ديار الإسلام، والصورة الجديدة التي رآها في الغرب أو في ديار النصرانية، فإذا ملأ نظره من الصورتين انقلَب يُحلِّل ويُقارن؛ لأنه كان يرى دائمًا أن الصورة القديمة باهتة كريهة وأن الصورة الجديدة زاهية حيَّة محبوبة.
وقد حَملتْه هذه المُقارنات إلى عالم من الآمال العريضة، فهو كلَّما رأى خيرًا تمنَّاه لبلده ولمُواطنيه. ورحلته إلى باريس معرضٌ غنيٌّ بهذه الصور وهذه المُقارنات والآمال.
ترك رِفاعة مصر والعلم فيها مقصور على رجال الدين من خريجي الأزهر — وهو واحد منهم — ولكنَّه ألفَى العلم في باريس ميادين واسعة، له فروع كثيرة، وللفروع فروع، وهكذا … وقد تخصَّص كل عالِمٍ في دِراسة فرعٍ من هذه الفروع فوهَبه كلَّ وقته وجهده فأنتج فيه وابتكر. ووجد أن علماء الدين ليست لهم المكانة الأولى كما هي الحال في مصر أو في بُلدان العالم الإسلامي، فرسم لمواطنيه الصورة الجديدة للعلم والعلماء وكأنه يُوحي إليهم في كل سطر من السطور بأنَّ هذه هي الطريقة المُثلى والصورة الحقَّة للعلم والعلماء. وفي رأيي أن مُحاولتنا وصفَ هذه الصور التي رسَمها رِفاعة قد تؤدِّي إلى تشويه معالمها. والخير كلُّ الخير أن ننقل للقارئ بعض هذه الصور كما رسمها رِفاعة بقلمه. قال مُقارنًا بين العلم والعلماء في مصر وفي باريس: «وأمَّا علماؤهم فإنهم مَنزَع آخر، لتعلُّمهم تعلُّمًا تامًّا عدة أمور، واعتنائهم زيادة على ذلك بفرعٍ مخصوص، وكشفهم كثيرًا من الأشياء، وتجديدهم فوائد غير مسبوقين بها، فإن هذه عندهم هي أوصاف العالِم، وليس عندهم كلُّ مدرس عالِمًا، ولا كل مؤلف علَّامة، بل لا بدَّ من كونه بتلك الأوصاف، ولا بدَّ له من درجات معلومة، فلا يُطلَق عليه ذلك الاسم إلا بعد استيفائها والارتقاء. ولا تتوهَّم أن علماء الفرنسيس هم القسوس؛ لأن القسوس إنما هم علماء في الدين فقط، وقد يُوجَد من القسوس من هو عالِم أيضًا. وأمَّا ما يُطلَق عليه اسم العلماء فهو من له معرفة في العلوم العقلية، ومعرفة العلماء في فروع الشريعة النصرانية هيِّنة جدًّا، فإذا قيل في فرنسا: «هذا الإنسان عالِم.» لا يُفهم منه أنه يعرف في دينه، بل إنه يعرف علمًا من العلوم الأُخَر. وسيظهر لك فضل هؤلاء النصارى في العلوم عمَّن عداهم؛ وبذلك تعرف خُلوَّ بلادنا من كثير منها، وأن الجامع الأزهر المعمور بمصر القاهرة، وجامع بني أمية بالشام، وجامع الزيتونة بتونس، وجامع القرويين بفاس، ومدارس بُخارى، ونحو ذلك، كلها زاهرة بالعلوم النقلية، وبعض العقلية: كعلوم العربية، والمنطق، ونحوه من العلوم الآلية. والعلوم في مدينة باريس تتقدم كلَّ يوم، فهي دائمًا في الزيادة، فإنها لا تَمضِي سنة إلا ويكشِفون شيئًا جديدًا، فإِنهم قد يكشفون في السنة عدة فنون جديدة، أو صناعات جديدة، أو وسائط، أو تكميلات …»
وقال يصِف انتشار الثقافة العامة بين أفراد الشعب الفرنسي كبارًا وصغارًا: «ثم إن الفرنسيس يَميلون بالطبيعة إلى تحصيل المعارف، ويتشوَّفون إلى معرفة سائر الأشياء؛ فلذلك ترى أن سائرهم له معرفة مُستوعِبة إجمالًا لسائر الأشياء، فليس غريبًا عنها، حتى إنك إذا خاطبته تكلَّمَ معك بكلام العلماء ولو لم يكن منهم؛ فلذلك ترى عامة الفرنساوية يبحثون ويتنازعون في بعض مسائل علمية عويصة. وكذلك أطفالهم فإنهم بارعون الغايةَ من صغرهم … فإنك قد تُخاطب الصغير الذي خرج من سنِّ الطفولية عن رأيه في كذا وكذا، فيجيبك، بدلًا عن قوله «لا أعرف»: «أصل هذا الشيء ما معناه الحكم على الشيء فرع عن تصوُّره، ونحو ذلك، فأولادهم دائمًا مُتأهِّلون للتعلُّم والتحصيل، ولهم تربية عظيمة، وهذا في الفرنسيس على الإطلاق »…»
وبعد هذه التَّقِدمة انطلق رِفاعة يصِف دُور الكتب ومعاهد العلم في باريس، فهو يلاحظ أن «لكل إنسانٍ من العلماء أو الطلبة أو الأغنياء خِزانة كُتُبٍ على قدْر حاله، ويندُر وجود إنسان بباريس من غير أن يكون تحت مِلكه شيء من الكتب؛ لِمَا أنَّ سائر الناس تعرِف القراءة والكتابة … إلخ … إلخ.» وهو يعرِض بعد هذا وصفًا مُسهِبًا لمعاهد العلم المُختلفة، وكلها غريب عن مصر في ذلك الوقت، والمُسمَّيات غريبة عن اللغة العربية؛ لهذا بدأ رِفاعة محاولاته لترجمة هذه المُسمَّيات، فهو يُعرِّب بعضها تارةً، وهو يرسُم البعض الآخر كما هو تارةً أخرى. فالدور التي نحفظ فيها النماذج والآثار، سمَّيناها في القرن الماضي أسماء كثيرة، فكنَّا نُطلِق عليها دُور العاديَّات أو دُور الآثار ثم انتهينا إلى تَسميتها بالمتاحف. أما رِفاعة فقد سمَّاها: «خزائن المُستغرَبات»، وفسَّر اللفظ ليَدلَّ مواطنيه على معناه، فقال: «ويُوجَد بها ما تتشوَّق إليه نفوس الفضلاء، ليَستعينوا به على الغرض في الطبيعيات، كالمعادن، والأحجار، والحيوانات البرية والبحرية المحفوظة الجثة، وسائر المواليد من الأحجار والنباتات وسائر الأشياء التي فيها آثار القدماء … إلخ.»
وانتقل من هذا إلى وصف «بُستان النباتات السُّلطاني» وما به من أنواع النبات والحيوان المُختلفة، و«الرَّصْد السلطاني» وما به من آلاتٍ لرصد الكواكب؛ و«الكنسروتوار … ومعناه المَخزن أو المَحفظ … وفيه جميع الآلات … خصوصًا الآلات الهندسية كآلات الحيل وتحويل الأثقال.»
وذكر رِفاعة بعد ذلك أن في باريس المدارس الكثيرة لدراسة العلوم والفنون، ومنها «ما يُسمَّى أكدمة، ومنها ما يُسمَّى مَجمعًا أو مَجلسًا، والأنسطيوت عندهم اسم عام يشتمل على جميع اجتماع الأكدمات، أي المجالس الخمسة، وهي: أكدمية اللغة الفرنساوية، وأكدمية العلوم الأدبية ومعرفة الأخبار والآثار، وأكدمية العلوم الطبيعية والهندسية، وأكدمية الصنائع الظريفة، وأكدمية الفلسفة …» وبعد أن وصَف كل «أكدمية» من هذه «الأكدميات» وصفًا مُسهبًا، ذكر أن في باريس أيضًا «مدارس سُلطانية تُسمَّى الكوليچ، وهي مدارس يتعلَّم فيها الإنسان العلوم المهمَّة التي تكون وسائل في الأمور المقصودة منها، وهي خمسة كوليچات … إلخ.»
كان طبيعيًّا أن تَحظَى الحياة العلمية في باريس بهذه اللفتات من رِفاعة وهو خريج الأزهر والمبعوث إلى باريس لإتمام علومه، ولكننا نُلاحِظ أنه لم يُغمض عينيه عن مظاهر الحياة الأخرى، بل لقد كانت له نظرَات ولفتات إلى مُختلِف نواحي الحياة الاجتماعية والسياسية في فرنسا. والسمة الواضحة لهذه اللفتات جميعًا هي الظاهرة التي سجَّلناها قبلًا، أي المقارنة والأمل، فهو إذا وصَف نهر السين تذكَّر نهر النيل فقال: «… وشتان بين هذا وبين النيل والروضة والمقياس، فإن نزهة الإنسان في الروضة والمقياس لا تُضَاهى؛ لأن الخليج يعبر مصر، والسين يعبر باريس، إلا أن نهر السين بتمامه يشق باريز، وتجرِي به السفن العظيمة الوَسق، وبه الأرصفة الجيدة، والنظافة على حَوافيه، ومع ذلك فنزهته غير سارَّة. وشتَّان أيضًا بين ماء النيل والسين من جهةِ الطعم وغيره؛ فإن ماء النيل لو كانت العادة جرتْ بترويقِه قبل استعماله كما هي العادة في ماء نهر السين لكان من أعظم الأدواء. وأقول أيضًا إنه فرقٌ بعيدٌ بين طعم ماء نهر السين وماء العيون والقُطوع والسواقي ببلاد صعيد مصر …» وينتقل بعد هذا إلى المُقارنة بين الجوِّ في مصر وفي فرنسا، فيصِف شدَّة البرد في باريس إلى أن يقول: «وأمَّا مصر فإنها سليمة من مَكارِه برد باريس، كما أنها خالية أيضًا عن الأمور المُحتاج إليها في وقتِ الحر، مثل الاستعانة على تَطرِية الزمن. فإن أهل باريس مثلًا سهل عندهم رشُّ ميدان مُتَّسعٍ من الأرض وقتَ الحر، فإنهم يصنعون دنًّا عظيمًا ذا عجلات، ويُمشُّون العجلة بالخيل؛ ولهذا الدنِّ عدة بزابيز مصنوعة بالهندسة تدفع الماء بقوَّةٍ عظيمة وعزمٍ سريع، فلا تزال ماشية والبزابيز مفتوحة حتى ترشَّ قطعة عظيمة في نحو ربع ساعة لا يمكن رشُّها بجملة رجالٍ في أبلغَ من ساعة. ولهم غير ذلك من الحيل، فمصرُنا أولَى بهذا لِغلَبة حرِّها … ومن الأمور المُستحسَنة أيضًا أنهم يصنعون مجاري تحت الأرض تُوصل ماء النهر إلى حماماتٍ أخرى وسط المدينة أو إلى صهاريج بهندسة مُكمِّلة، فانظر أين سهولة هذا مع صهاريج مصر بِحَمل الجمال، فإن ذلك أهون مَصرفًا وأيسر في كلِّ زمن … وفي هذه المدينة (أي باريس) عدَّة فسحات عظيمة تُسمَّى المواضع يعني الميادين، كفسحة الرميلة بالقاهرة، في مُجرَّد الاتِّساع لا في الوساخة، وعددها خمسة وسبعون ميدانًا … إلخ.»
هذه صورة قد تبدو عادية للقارئ المصري الحديث، ولكنها كانت غريبةً الغرابةَ كلَّها لرفاعة وزملائه؛ فقد كانت الحياة في مصر في أوائل القرن الماضي تختلف عن مثيلتها في باريس اختلافًا بيِّنًا، وهذه الصور لا تعدو أن تكون نماذج لِما أثار انتباه رفاعة. أما الرحلة فمليئةٌ بعشرات من الصور الأخرى، وكلها طريف يستحقُّ القراءة والدراسة.