دُور التحصيل في باريس
في يوم الخميس السادس من شهر رمضان سنة ١٢٤١ﻫ/١٤ أبريل ١٨٢٦م أبحَرَت السفينة من الإسكندرية تحمل رِفاعة وزملاءه. وفي التاسع من شهر شوال وصلت بهم إلى «مارسيليا»، ومُذ وطئت قدما رِفاعة أرض هذه المدينة بدأ يتعلم اللغة الفرنسية. يقول في رحلته: «وتعلَّمنا في نحو ثلاثين يومًا التهجِّي.»
وفي باريس قضى تلاميذ البعثة جميعًا نحو سنة وهم يُقيمون معًا في بيتٍ واحد، ويشتركون معًا في دراسة مواد واحدة. يقول رفاعة: «كُنَّا نقرأ في الصباح كتاب تاريخ ساعتين، ثم بعد الظهر درس رسم، ثم درس نحو فرنساوي، وفي كل جُمعة ثلاثة دروس من علمَي الحساب والهندسة.»
وكانت هذه الخطَّة ترمِي إلى عزل تلاميذ البعثة حتى لا يُفسدِهم الاختلاط أو الحياة في باريس، وحتى يستطيعوا التوفُّر على دراستهم ليُحصِّلوا العلوم التي يُريدون على أحسن وجهٍ وفي أسرع وقت، ولكن هذه العلوم التي أُوفِدوا لدراستها مُودَعة في بطون المُؤلفات الفرنسية، ولا سبيل إليها إِلا إتقان هذه اللغة حديثًا وقراءةً وفهمًا. ولا سبيل إلى هذا الإتقان إلا أن يَختلط هؤلاء الشبَّان بأندادهم من الفرنسيين حتى تستقيم ألسنتهم.
أحسَّ هذا النقص المشرفون على البعثة، كما أحسَّ به أعضاء البعثة أنفسهم. يقول رفاعة: «مكثنا جميعًا في بيتٍ واحد دون سنة نقرأ معًا في اللغة الفرنسية وفي هذه الفنون المتقدمة، ولكن لم يحصُل لنا عظيم مَزيَّة إلا مجرَّد تعلُّم النحو الفرنساوي؛ لهذا صدَرت الأوامر بتوزيع هؤلاء المبعوثين، فتفرَّقوا «في مكاتب مُتعدِّدة، كل اثنين أو ثلاثة أو واحد في مكتب مع أولاد الفرنساوية، أو في بيتٍ مخصوص، عند معلِّمٍ مخصوص، بقدرٍ معلوم من الدراهم في نظير الأكل والشرب والسُّكنى والتعليم …» وفي هذه المكاتب، أو «البانسيونات» كان التلاميذ المصريون يقضُون ليلهم ونهارهم في التحصيل، ولم يكن يُسمَح لهم بالخروج إلا في يوم الأحد أو بعد ظهر الخميس أو في الأعياد الفرنسية. وكان يحدث أحيانًا أن يخرج بعضهم بعد العشاء إن لم يكن يشغله درس أو واجب.»
وكان رِفاعة أكثرهم انهماكًا في عمله وأشدَّهم إقبالًا عليه، ولم تكن تسعفه أوقات فراغه في النهار، فكان يقضِي مُعظم ساعات الليل ساهرًا بين كُتبه ودروسه، يقرأ ويتفهَّم ويُترجِم، حتى أصيبت عينه اليسرى بضعف، ونصحَه الطبيب بالراحة ونهاه عن المُطالعة في الليل، ولكنه «لم يمتثِل لخوف تعويق تقدُّمه.»
ولم يقنع رِفاعة بالكتب التي تُشترَى له على حساب البعثة، فقد أحسَّ لذة المعرفة، فأقبل يشتري كُتبًا أخرى من ماله الخاص، ثم أحسَّ أن دروس أساتذته لا تكفي لإشباع فهمه، فاستأجر مُعلِّمًا خاصًّا ظلَّ يدرِّس له أكثر من سنة وكان يدفع له أجره من مُرتبه الخاص.
أُرسِل رِفاعة إلى فرنسا ليكون إمامًا للبعثة، ولكن يبدو أن الأوامر صدَرَت في آخر لحظة أن يُسمَح له بالدراسة، فإن أقبلَ ووُفِّق فليُوجَّه إلى إِتقان الترجمة؛ وذلك لأن ثقافته الأزهرية في اللغة العربية تُرشِّحه لهذا العمل إذا ألمَّ باللغة الفرنسية وأتقنها. وهذا عملٌ واسع عريض لأنه غير محدود، فحكومة محمد علي كانت مُقبِلة على الترجمة في كلِّ علمٍ وفن: في الهندسة، والطب، والفنون العسكرية، والتاريخ، والجغرافيا … إلخ؛ فواجب رِفاعة إذن أن يقرأ كُتبًا في كل هذه العلوم وأن يُمرَّن على الترجمة فيها جميعًا، ويا له من واجبٍ شاق! ولكن همَّة رِفاعة كانت همَّةً عالية، فاستسهل الصعب، وأقبل ووُفِّق.
وقد ذَكر رِفاعة في رحلته العلوم والفنون التي درَسها، وعيَّن الكُتب التي قرأَها والتي ترجَمها أو بدأ يُترجِمها وهو في باريس. ومنها نلحَظ أن ثقافته كانت موسوعية، فقد قرأ كتبًا كثيرة في مُختلِف العلوم مع أساتذته، ثم قرأ كتبًا كثيرة أخرى وحده. وبرهن بهذا على أنه كان يتمتَّع بروحٍ جامعية حقَّة. ولا عجَب فقد ساعد على تزويده بهذه الروح أمور أربعة: المِران الذي اكتَسبه وهو يطلب العلم في الأزهر، والنفْحة التي أضفاها عليه أستاذه العطار، وحبُّه العجيب للعلم وشغَفه بالتحصيل، ثم نفسه العالية الطموح ورغبته في إشباع هذه النفس وإرضاء باعِثِه وباعث النهضة الجديدة في مصر «ولي النعم» محمد علي.
وكان هناك عاملٌ آخر، أو حافزٌ آخر بعَث رِفاعة على الجدِّ والاجتهاد لا يقلُّ عن العوامل السابقة إن لم يكن أقوى منها. ذلك أن رِفاعة درس دراسة دينية في أكبر جامعة دينية، ثم تخرَّج عالِمًا دينيًّا، وكان تلميذًا لشيخ الأزهر، كما كان قوي الإيمان متين العقيدة، وقد راعَه منذ اللحظة الأولى الفارق الكبير بين ما كانت تتمتَّع به ديار المسيحية من تقدُّم في مُختلِف نواحي الحياة، وبين ما كانت تتمتَّع به مصر وديار الإسلام من تأخُّر وخُمود وجُمود في مختلِف نواحي الحياة وخاصةً في الناحية العلمية. ورحلته مليئة بهذه المقارنات كما سبق أن ذكرنا؛ لهذا نُحسُّ في جهوده التي ذكرها أنه ما كان يفرغ من قراءة كتاب في أيِّ علمٍ أو فن حتى يُقبِل على ترجمته؛ يُريد بذلك أن ينقل لديار الإسلام وبنِيه هذا العلم الجديد؛ علَّه يبعثهم إلى نهضة جديدة تنتهي بهم إلى أن يكونوا كأبناء المسيحية حضارةً ورُقيًّا، ولكن أنَّى له الوقت لترجمة هذه الكتب جميعًا؟ ومع هذا فقد بدأ وترجَم كتبًا أو رسالات صغيرة ثم ترجم فصولًا من الكتب الكبيرة. وكأني به قد ترك الباقي حتى يعود لمصر فيُتمَّ ما بدأ، وقد فعل، ولكن جُهدَه جهدٌ إنسانيٌّ محدود، ووقته وقتٌ محدود، وهنا ترقَّب الفرص حتى سنحَت له فعرَض على محمد علي مشروعه لإنشاء مدرسة الألسن، وقد أُنشئت. واتسعت بعد إنشائها حركة الترجمة، واستطاع رِفاعة أن يحقِّق بعض آماله. ويؤيِّدنا في رأيِنا هذا أن مُعظم الكتب الأولى التي ترجمها خريجو الألسن هي الكتب التي قرأها رِفاعة في باريس والتي كان يتمنَّى أن يُترجِمها بنفسه.
والآن ليس أحسن من أن ننقل هنا تقرير رِفاعة نفسه عن الكتب التي قرأها، وعن جهوده في الدراسة والترجمة وهو في باريس، قال في رحلته:
في التاريخ: «ابتدأنا في بيت الأفنديَّة حين كُنا معًا بكِتاب سِيَر فلاسفة اليونان فقرأناه وتمَّمْناه، ثم ابتدأنا بعده في كتاب تاريخٍ عام مُختصر يشتمل على سِيَر قدماء المصريين والعراقيين وأهل الشام واليونان وقدماء العَجَم والرومانيين والهنود، وفي آخره نُبذة مُختصرة في علم «الميثولوجيا» يعني جاهلية اليونان وخرافاتهم، ثم قرأتُ عند مسيو «شواليه» كتابًا يُسمَّى لطائف التاريخ، يتضمَّن قصصًا وحكايات ونوادر، ثم بعدَه قرأت كتابًا يُسمَّى سِيَر أخلاق الأمم وعوائدهم وآدابهم، ثم تاريخ سبب عِظم دولة قياصرة الروم وانقراضها، ثم كتاب رحلة «أنخرسيس» الأصغر إِلى بلاد اليونان، ثم قرأتُ كتاب «سيغور» في التاريخ العام، ثم سيرة نابليون، ثم كتابًا في علم التواريخ والأنساب، ثم كتابًا يُسمَّى «بانوراما» العالم، يعني مرآة الدنيا، ثم رحلة صنَّفها بعض المُسافرين في بلاد الدولة العثمانية، ثم رحلة في بلاد الجزائر.»
في الجغرافيا: «وقرأت مع المسيو «شواليه» كتاب جغرافية يشتمل على الجغرافية التاريخية والطبيعية والرياضية والسياسية، ثم قرأتُ رسالة أخرى في الجغرافية الطبيعية مُقدمة لقاموس في الجغرافية يعني معجم البلدان، ثم قرأتُ الكتاب الأول بعينه مع معلِّم آخر غير مسيو «شواليه». وقرأت أيضًا مع مسيو «شواليه» جُملًا عظيمة من جغرافية «ملطبرون» ورسالة ألَّفها لتعليم بِنته في هيئة الدنيا. وقرأتُ وحدي مُؤلَّفات عديدة في هذا الفن.»
هذه هي العلوم التي درسها رفاعة، والكُتب التي قرأها، وهي تدلُّ — كما سبق أن ذكرنا — على أنه ثُقف ثقافةً موسوعية. وقد كان لا بدَّ له أن يَتثقَّف هذه الثقافة ما دام قد بُعث للتخصُّص في الترجمة؛ حتى إذا طُلِب له بعد عودته أن يُترجِم في أي علمٍ من العلوم لبَّى الطلب ونفَّذ الأمر. وهذا ما حدَث مثلًا، فإِنه عُيِّن بعد عودته مُترجمًا بمدرسة الطب، ثم نُقِل مُترجمًا بمكتب طرة الحربي. ولما أُنشئت الألسن كان يُشرف على أعمال خريجيها الذين ترجموا كُتبًا في كلِّ هذه العلوم والفنون.
قضَى رِفاعة سنة في باريس، ثم عُقِد له ولزملائه امتحان في نهاية هذه السنة، فنجح رِفاعة بتفوُّق، وأرسل إليه مسيو «جومار» مدير البعثة جائزة التفوق، وهي كتاب «رحلة أنخرسيس في بلاد اليونان» وهو «سبعة مُجلدات جيدة التجليد مُموَّهة بالذهب»، وأرسل إليه مع الجائزة خطابًا تاريخه أول أغسطس سنة ١٨٢٧م كله تشجيع وتقدير لِما بذل رِفاعة من جهدٍ ولِما نال من نجاح. جاء فيه: «قد استحقَّيتَ هدية اللغة الفرنساوية بالتقدم الذي حصَّلته فيها، وبالثمرة التي نِلتَها في الامتحان العام الأخير. ولقد حُقَّ لي أن أُهنئ نفسي بإرسالي لك هذه الهدية من الأفندية النظَّار دليلًا على التفاتِك في التعليم. ولا شكَّ أن وليَّ النعمة يُسرُّ متى أُخبر أن اجتهادك وثمرة تعليمك يُكافِآن المصاريف العظيمة التي يصرِفها عليك في تربيتك وتعليمك. وعليك منِّي السلام مصحوبًا بالمودة …»
وبعد عام آخر عُقد امتحان ثانٍ فوُفِّق فيه كما وُفِّق في سابقه، وكانت جائزته في هذه المرة كتابين من تأليف المُستشرق الفرنسي «دي ساسي»، وهما: «الأنيس المُفيد للطالب المُستفيد» و«جامع الشذور من منظوم ومنثور».
وفي باريس اتَّصل الشيخ رِفاعة بكبار المُستشرقين الفرنسيين، وخاصةً المسيو «سلفستر دي ساسي» والمسيو «كوسان دي برسيڨال» ونشأت بينه وبين هذين العالِمين صداقةٌ متينة، وكان كلٌّ منهما يقدِّر جهد الشيخ التلميذ وعلمه، وقد تُبُودلت بينه وبينهم كثير من الرسائل أثبت بعضها رِفاعة في رحلته، وقد أطلعهما قُبيل سفره على مخطوطة رحلته فأُعجِبا بها وكَتَبا عنها تقريظًا، وأرسل كلٌّ منهما للمسيو جومار بصفته مدير البعثة خطابًا كله ثناء وتقريظ لرفاعة وكتابه. قال دي ساسي: «إن مسيو رِفاعة أحسَنَ صرْفَ زمنه مُدةَ إقامته في فرنسا، وإنه اكتسب فيها معارف عظيمة وتمكَّن منها كلَّ التمكن حتى تأهَّل لأن يكون نافعًا في بلاده. وقد شهدتُ له بذلك عن طيب نفس، وله عندي منزلةٌ عظيمة ومحبَّة جسيمة …» وقال دي برسيڨال: «إن هذا التأليف «الرحلة» يستحقُّ كثيرًا من المدح، وإنه مصنوع على وجهٍ يكون به نفعٌ عظيم لأهالي بلد المؤلِّف؛ فإنه أهدى لهم نُبذاتٍ صحيحةً من فنون فرنسا وعوائدها وأخلاق أهلها وسياسة دولتها. ولما رأى أن وطنه أدنى من بلاد أوروبا في العلوم البشرية والفنون النافعة، أظهر التأسُّف على ذلك، وأراد أن يُوقظ بكتابه أهل الإسلام، ويُدخِل عندهم الرغبة في المعارف المُفيدة، ويولِّد عندهم محبَّة تعلُّم التمدُّن الإفرنجي والترقِّي في صنايع المعاش. وما تكلم عليه من المباني السلطانية والتعليمات وغيرها، أراد أن يذكُر به لأهالي بلده أنه ينبغي لهم تقليد ذلك. وما نظر فيه في بعض العبارات يدلُّ في الغالب على سلامة عقله وخلوِّه من التعسُّف والتحامل. وعبارة هذا الكتاب بسيطة، أي غير مُتكلَّف فيها التنميق، ومع ذلك فهي لطيفة … إلخ.»
وبعد خمس سنوات عُقد لرفاعةَ الامتحان النهائي، فجمع المسيو «جومار» «مجلسًا فيه عدة أناس مشاهير، ومن جُملتهم وزير التعليمات الموسقوبي رئيس الامتحان.» يقول رفاعة: «وكان القصد بهذا المجلس معرفة قوَّة الفقير في صناعة الترجمة التي اشتغلتُ بها مدَّةَ مُكثي في فرنسا …»
- (١)
نبذة في تاريخ إسكندر الأكبر مأخوذة من تاريخ القدماء.
- (٢)
كتاب أصول المعادن.
- (٣)
روزنامة (يقصد تقويم) سنة ١٢٤٤ﻫ، ألَّفه مسيو «جومار» لاستعمال مصر والشام، مُتضمنًا لشذَرَات علمية وتدبيرية.
- (٤)
كتاب دائرة العلوم في أخلاق الأمم وعوائدهم.
- (٥)
مُقدم جغرافية طبيعية مُصحَّحة على مسيو «دهنلبض».
- (٦)
قطعة من كتاب «ملطبرون» في الجغرافية.
- (٧)
ثلاث مقالات من كتاب «لجندر» في علم الهندسة.
- (٨)
نبذة في علم هيئة الدنيا.
- (٩)
قطعة من عمليات رؤساء ضباط العسكرية.
- (١٠)
أصول الحقوق الطبيعية التي تَعتبِرها الإفرنج.
- (١١)
نبذة في الميثولوجيا يعني جاهلية اليونان وخرافاتهم.
- (١٢)
نبذة في علم سياسات الصحة.
كذلك قدَّم رِفاعة للجنة الامتحان كراسة أخرى فيها مخطوطة رحلته إلى باريس؛ وذلك لأن هذه الرحلة ليست تأليفًا كلها، بل فيها نُبَذ كثيرة مُترجَمة في مختلِف العلوم، قصد بها رِفاعة إلى تقريب هذه العلوم إلى القارئ المصري، وشرح نهضة الفرنسيين العلمية ومَدى إقبالهم على الدروس والتحصيل. وفي هذه الرحلة أيضًا ترجَم رِفاعة الدستور الفرنسي الذي وضَعه «لويس الثامن عشر»، وسمَّاه: «شَرطة». وفيها أيضًا ترجَم بعض الأشعار الفرنسية إلى شعرٍ عربي، وبعض هذا الشعر لشعراء مجهولين، وبعضه أبيات «من القصيدة المُسمَّاة نظم العقود في كسر العود، للخواجة يعقوب، المصري منشأً الفرنساوي استيطانًا …» وقد ذكر رِفاعة أنه ترجمها في سنة ١٢٤٢ﻫ/١٨٢٦-١٨٢٧م، أي بُعيد وصوله إلى باريس بقليل. وقد أحسَّ أن الشعر يفقد كثيرًا من روعتِه إذا تُرجم من لغة إلى أخرى، فقال في نهاية القصائد التي ترجمها: «وهذه القصيدة كغيرها من الأشعار المُترجمة من اللغة الفرنساوية عالية النفس في أصلها، ولكن بالترجمة تذهب بلاغتُها فلا يظهر علوُّ نفس صاحبها. ومثل ذلك لطائف القصائد العربية، فإنه لا يُمكن ترجمتها إلى غالب اللغات الإفرنجية من غير أن يذهب حسنها، بل ربما صارت باردة …»
ولم تَقنَع لجنة الامتحان بهذه الجهود المكتوبة، ورأتْ أن تَختبره اختبارًا شفهيًّا لتتأكد من مَقدرته على الترجمة الصحيحة، فأحضرت له بعض الكتب المطبوعة في بولاق فترجم بعض فقراتها بسرعة، «ثم قرأ بالفرنساوي مواضع، منها ما هو صغير ومنها ما هو كبير في «كازيطة» مصر المطبوعة في بولاق» (يقصد الوقائع المصرية).
وبهذا تمَّ اختباره في الترجمة عن العربية إلى الفرنسية، ثم أعطته اللجنة النصَّ العربي للرسالة التي ترجَمها عن «عمليات رؤساءِ الضباط العسكرية»، وأمسك أحد أعضاء اللجنة النصَّ الفرنسي، وأعاد رِفاعة ترجمة النصِّ الذي بيدِه إلى الفرنسية. والمُمتحِنون يُقابلون بين ما يقول وبين النصِّ الأصلي الذي بأيديهم. ووُفِّق في ترجمته، وقرَّرت اللجنة أنه تخلَّص من هذا الامتحان على وجهٍ حسَن «فأدَّى العبارات حقها من غير تغيير في معنى الأصل المُترجم.» ولكنها أخذت عليه أنه «ربما أحوجه اصطلاح اللغة العربية أن يضع مجازًا بدَل مجازٍ آخر من غير خللٍ في المعنى المُراد. مثلًا في تشبيه أصل علم العسكرية بمعدن مُشبع يُستخرَج منه كذا، غيَّر العبارة بقوله: علم العسكرية بحرٌ عظيم تُستخرَج منه الدُّرَر. وقد اعتُرض عليه في الامتحان بأنه في بعض الأحيان قد لا يكون في ترجمته مُطابقة تامَّة بين المُترجَم والمُترجَم عنه، وأنه ربما كرَّر، وربما ترجم الجملة بجملٍ والكلمةَ بجملة، ولكن من غير أن يقع في الخلط، بل هو دائمًا مُحافظ على روح المعنى الأصلي. وقد عرَف الشيخ الآن أنه إذا أراد أن يُترجِم كُتُب علوم، فلا بدَّ له أن يترك التقطيع، وعليه أن يخترِع عند الحاجة تغييرًا مناسبًا للمقصود …»
وبنفس الطريقة اختُبر في كتاب آخر مما ترجَمَه، وهو: «مُقدمة القاموس العام المُتعلِّقة بالجغرافية الطبيعية»، ولاحظتِ اللجنة أن ترجمة هذا الكتاب ضعيفة، ولكنها التمَسَت لرفاعة العُذرَ لأنه ترجمه بُعيد وصوله إلى فرنسا ولم يكن قد وصل حينذاك إلى «درجته الآن في اللغة الفرنساوية»؛ ولهذا كانت ترجمته لهذا الكتاب أضعف من ترجمته للكتاب السابق، «وكان عيبه أنه لم يُحافظ على تأدِية عبارة الأصل بجميع أطرافها. وعلى كلِّ حال فلم يغيِّر في المعنى شيئًا، بل طريقته في الترجمة كانت مُناسبة.» وتَفرَّق المُمتحِنون أخيرًا وهم مُجمِعُون على إتقانه صناعة الترجمة، وعلى «أنه يُمكِنه أن ينفع في دولته بأن يُترجِم الكتب المهمَّة المُحتاج إليها في نشر العلوم والمرغوب في تكثيرها في البلاد المتمدِّنة …»
اجتاز رِفاعة الامتحان بعد أن قضى في فرنسا خمس سنواتٍ طوال أقبل فيها على الدرس والتحصيل إِقبال الطالب المُجدِّ المحبِّ لعمله. وقد قرأ في هذه السنوات كُتبًا شتَّى في علومٍ مُتبايِنة وتَرجَم الكثير من هذه الكتب، ولكنه — مُتأثرًا بمَيلِه الخاص وبدراسته الأدبية الأولى في الأزهر — شُغِف أكثر ما شُغِف بعلمَي التاريخ والجغرافيا، ورشح نفسه لترجمة هذين العِلمين. فهو يقول في خاتمة رحلته: «وإن شاء الله تعالى بأنفاس وليِّ النعم يصير التاريخ على اختلافه منقولًا من الفرنساوية إلى لُغتنا … فقد تكفَّلنا بترجمة عِلمَي التاريخ والجغرافيا بمصر السعيدة بمشيئته تعالى، وبِهمَّة صاحب السعادة مُحبِّ العلوم والفنون، حتى تُعد دولته من الأزمنة التي تُؤرَّخ بها العلوم والمعارف المُتجدِّدة في مصر مثل تجدُّدها في زمن خلفاء بغداد …»