بعد العودة
في رمضان سنة ١٢٤١ﻫ غادر رِفاعة الإسكندرية مُرتحِلًا إِلى فرنسا، وفي رمضان سنة ١٢٤٦ﻫ غادر باريس عائدًا إلى مصر. خمس سنوات كاملة تغيَّر فيها الشيخ عقلًا وعلمًا، وتفكيرًا وآمالًا، لكنه لم يتغير، بل لم يتأثَّر دينًا وأخلاقًا. يقول علي مبارك: «ولم تُؤثِّر إقامته بباريز أدنى تأثير في عقائده، ولا في أخلاقه وعوائده …»
وفي الإسكندرية تشرَّف بمُقابلة إبراهيم باشا، فرحب به لأنه سمع عنه ثناءً جمًّا أثناء زيارته لباريس، ولأنه كان يعرف أسرته في طهطا معرفةً وثيقة. وفي ختام المُقابلة وعَدَه إبراهيم باشا «بدوام الالتفات إليه»، وأنعم عليه بستَّةٍ وثلاثين فدانًا في الخانقاه، فكانت أول مكافأة مادية نالها رِفاعة على جِدِّه واجتهاده. وأول الغيث قطرة.
(١) في مدرسة الطب
وسافر إلى القاهرة، وحظِي بمقابلة وليِّ النعم محمد علي باشا، وكان محمد علي قد عرَفه معرفة أكيدة من تقارير مسيو «جومار» الكثيرة عنه، وكلها مدح وتقريظ لجهوده وتقدير لعمله. وفي هذه المُقابلة لقِي رِفاعة من مولاه كلَّ عطفٍ وتشجيع «ورأى من ميله إليه ما حمله على الثقة بنجاح البدء والنهاية». وصدر أمره العالي بتعيينه مُترجمًا بمدرسة الطب، فكان أول مصري يُعيَّن مُترجمًا بهذه المدرسة؛ فقد كانت هيئة المُترجِمين جميعًا حتى ذلك الوقت من السوريين؛ لهذا لم يلبث رِفاعة أن تفوَّق عليهم في عمله، فهو يتقن اللغة العربية إتقانًا لا يُدانيه فيه أحدٌ من هؤلاء المُترجمين السوريين وهو يُجيد الفرنسية مثلما يُجيدونها. وترجمته في النهاية صحيحة سليمة لا تحتاج — كترجمة السوريين — إلى مُراجعة أو تصحيح شيخٍ من شيوخ الأزهر المُحرِّرين بالمدرسة.
لبِث رِفاعة مُترجمًا في مدرسة الطب نحو سنتين، ولكنه يبدو أنه كان في هذه المدرسة مُصححًا ومُحررًا أكثر منه مُترجمًا، إذ لم يُعرَف أنه ترجَم في الطب غير الرسالة الصغيرة التي ترجمها وهو في باريس وضمَّنها رحلته، ولكنه قام في هذه الفترة بمراجعة كتاب «التوضيح لألفاظ التشريح» في الطب البيطري، الذي ترجمه يوسف فرعون وصحَّحه الشيخ مصطفى حسن كساب. فقد قرَّر مجلس الجهادية في ٢٠ جمادى الأولى سنة ١٢٤٨ﻫ «بناءً على ما ورد على مجلس المشورة في مدرسة الطب البيطري الموافقة على طبع كتاب التشريح الذي تُرجِم بعد مراجعة الترجمة بمعرفة الشيخ رِفاعة أفندي وهرقل البيكباشي واتِّضاح صحتها …» وقد ذُكر في خاتمة الكتاب أنه تم ترجمةً في التاسع عشر من شعبان سنة ١٢٤٧ﻫ، وأنه تم طبعًا في بولاق في غُرَّة صفر سنة ١٢٤٩ﻫ.
(٢) في مدرسة الطوبجية
(٣) في مدرسة التاريخ والجغرافيا
لم تُشِر المراجع التي كُتبت عن تاريخ التعليم في عصر محمد علي إلى هذه المدرسة، ولكن بعض وثائق العصر أشارت إلى وجودها. وأيَّد هذا الوجود رِفاعة نفسه في مقدِّمته للكتاب السابق الذكر، فقد صدَر أمر من محمد علي باشا إلى ناظر الجهادية في ١٤ جمادى الآخرة سنة ١٢٥١ﻫ (قُبيل إنشاء مدرسة الألسن) بتعيين «عبده» «مدرسًا للجغرافيا بمكتب البيادة بدمياط، وهو من ضمن الأربعة المُتمِّمين السابق إرسالهم لطرة للقيام بتدريس (يقصد تعلُّم) الجغرافيا بمدرستها، وهم من الذين ربَّاهم الشيخ رفاعة؛ وإرسال ١٠ شبان للشيخ لتربيَتهم …»
وهذه كما يتَّضح من نصِّ الأمر السابق لم تكن مدرسة بالمعنى الصحيح، ولكنها لم تَعْدُ أن تكون فصلًا مُلحقًا بمدرسة المدفعية خُصص لتعليم بعض الطلبة علم الجغرافية ليتخرجوا مدرسين لهذا العلم في المدارس الحربية الأخرى. غير أن رِفاعة يُسمِّي هذا الفصل مدرسة، ويذكر أنها أُنشئت بموافقة «مشورة الجهادية» لتعليم الجغرافيا والتاريخ، فلا بأس إذن من أن نحاول شرح الأسباب التي أدت إلى فتح هذا الفصل، أو المدرسة؛ فإِنها في نظري النواة التي نشأت عنها مدرسة الألسن بعد قليل.
لم يكن من المُنتظر إذن أن تحسُن العلاقات بين رِفاعة وبين هذا الناظر المُتعجرِف. وكان رِفاعة قد شُغِف — منذ كان طالبًا في باريس — بدراسة وترجمة علمَي التاريخ والجغرافيا، ورسم لنفسه أن يقوم بترجمة الكتب فيهما بعد عودته. فقد قال في رحلته: «وإن شاء الله تعالى بأنفاس وليِّ النِّعم يصير التاريخ على اختلافه منقولًا عن الفرنسية إلى لغتنا، وبالجُملة فقد تكفَّلنا بترجمة علمَي التاريخ والجغرافيا بمصر السعيدة بمشيئته تعالى وبهمَّة صاحب السعادة محبِّ العلوم والفنون …» فلعله رفع — وهو يُدرِّس الجغرافية بمدرسة طُرة — إلى محمد علي باشا أو إلى مشورة الجهادية اقتراحه بأن يُنشئ مدرسةً لتدريس هذين العلمين وترجمتهما، ولعل المشورة وافقت على إنشاء هذا الفصل كتجربة، فإذا تبيَّن نجاحه أكملتْه وزادت في اختصاصه. يقول رِفاعة في مقدمة «التعريبات الشافية» موضحًا لهذه الفكرة وداعيًا لها ومبينًا الغرض من ترجمة هذا الكتاب وطريقة ترجمته: «لمَّا سمَحت مَشورة الجهادية، ذات الآراء السَّنية الذكية، أن أفتح لفنون الجغرافيا والتاريخ مدرسة، تكون على قراءة هذه العلوم مؤسسة، لتشتهر ثمراتها الزاهرة، في إيالات أفندينا الفاخرة العامرة، فإن ذلك مما تدعو الحاجة إليه، ويتأكَّد العمل به والوقوف عليه، لا سيما لأرباب الدولة والسياسة المدنية، وأصحاب التدبير والإدارة الملكية، وأصول أهل المناصب وضباط الطوائف العسكرية، وكامل ذوي الصنايع والحِرف والمهمات التجارية. فكل من تأمَّل فيها وعرف، رُقِّي فيها إلى أعلى مراتب الفضل والشرف. على أن كثيرًا منها ما تُبنَى عليه أحكام شرعية، وحِكم وآداب عرفية، وقوانين بين سائر ملوك البرية. فهو لمثل هذا الغرض، يُعدُّ عند أرباب الصناعة من المفترض. أخذت عدة تلامذة لهذا المعنى الممدوح، وتوجَّهت بالقلب والقَالَب لتعليمهم بصدرٍ مشروح. وليس بيدي من كُتُب الجغرافيا شيء باللغة العربية يحتوي على التفصيل والترتيب على نسَق ما في الكُتب الإفرنجية؛ فلهذا اعتمدتُ كتابًا مُوجزًا في هذا الفن النفيس، موضوعًا لمدارس مبادئ العلوم بمدينة باريس، وشرعت في ترجمته درسًا بعد درس لهذا القصد؛ حتى لا يضيع السعي ولا يخيب الجد. ولما رأيت أن مؤلفه أطنَب في أوروبا لكونها وطنه، وأوجز في غيرها حيث لم تكن داره ولا سكنه، فبهذا الوصف لا يكون لنا كافيًا، ولا لغليلِ المُتطلِّعين إليه شافيًا. وكنت اطَّلعتُ على غيره من كُتب العلوم الجغرافية، ومارست كثيرًا منها وراعيتها حقَّ رعايتها مدَّة إقامتي بمملكة الفرنساوية، أردت أن أُتمِّم المَرام، بتلخيص ما يُناسب المقام؛ حتى تحصُل الموازاة والموازنة، والمعادلة والمقارنة.» إلى أن قال: «… وإن شاء الله يُترجَم من اللغة العربية إِلى اللغة التركية، حتى تكون ثمرته عامة جلية … إلخ.»
ولعلَّ الأمر الصادر من محمد علي في ٥ ذي الحجة سنة ١٢٤٩ﻫ «بطبع ألف نسخةٍ من كتاب الجغرافيا المُترجَم عن الفرنسية للعربية بمعرفة الشيخ رفاعة.» خاص بذلك الكتاب؛ فقد تمَّ طبعه في سنة ١٢٥٠ﻫ، وهو أول ما تُرجم من الكتب الجغرافية. وقد أشير في نفس الأمر إلى طبع «ألف نسخة من الأطلس بعد إتمام ترجمته بمعرفة المذكور.» وذلك «لِما في هذين الكتابين من المنفعة الكلية التي تعود على تلامذة المدارس.» غير أنني لم أعثر في فهارس الكُتب العربية المطبوعة على أثرٍ لهذا الأطلس، فلعلَّه لم يَتم ترجمةً، أو لعلَّه تُرجم ولم يُطبع.
- (١)
كتاب المعادن النافعة، تأليف «فرارد»، وهو رسالة صغيرة في ٤٧ صفحة من القِطع المتوسط. ذكر رِفاعة في خاتمته أنه ترجَمَه «بمشورة جناب مسيو جومار ناظر الأفندية بباريس، ومحبِّ الديار المصرية وعزيزها وليِّ النعم.» وقد تمَّ طبع هذا الكتاب في بولاق في شوال سنة ١٢٤٨ﻫ.
- (٢)
قلائد المَفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر، وهو رسالة صغيرة أيضًا تقع في ١١٢ صفحة من القطع المتوسط. ذكَر رِفاعة كذلك أنه ترجَمَها إجابةً لطلب المسيو جومار. فقد قال في مقدمته ص٣: «قد اشتُهر بين الخاصِّ والعام أن طائفة الإفرنج قد امتازت الآن بين الطوائف بالتجارات، والمخالطة لسائر البلاد، بل لقد اتَّخذت معرفة البلاد وأحوالها سببًا، وانتخبت بذلك نخبًا، فاتَّسعت معارفها في الجغرافيا والمِيقات، ولا زالت في الزيادة في العلوم على سائر الأوقات، فلا سبيل حينئذٍ في معرفة أحوال البلدان والخلائق إلا بنقلها عمَّن حقَّقَها من الإفرنج. ولا شكَّ أن من أعلمِ الإفرنج وأحكمهم طائفة الإفرنسيس؛ فإنها الآن بلاد الفنون والصنائع من غير شكٍّ وتلبيس. ولمَّا كان للفقير معرفة هذه اللغة، وفيه ملَكة مُطالعة عظيم كُتبها وتمييز الغثِّ من السمين، طلب مني الخواجة «جومار» مدير تعليم الأفندية المصريين المبعوثين من طرف حضرة وليِّ النعمة إلى باريس، كرسي الفرنسيس، أن أترجم إلى العربية كتابًا لطيفًا يُسمَّى بما معناه: ديوان قلائد المفاخر … إلخ، فأجبته لذلك، علمًا بأنه نصُوح في محبَّة أفندينا ولي النعم، ومحبٌّ لبلاد مصر كأنها وطنه. ولمَّا كان هذا الكتاب غير مقصور على مُجرَّد نقل العوائد، بل هو مُشتمِل على استحسان واستقباح بعضها، أشار عليَّ مدير التعليم المذكور أن أحذِف ما يذكُره مؤلف الكتاب من الحطِّ والتشنيع على بعض العوائد الإسلامية أو ممَّا لا ثمرةَ لذكره في هذا الكتاب … إلخ.»
وقد ذكر رِفاعة في خاتمة الكتاب أنه أتمَّ ترجمته في يوم الاثنين من العشر الأوائل من جمادى الآخرة سنة ١٢٥٤ﻫ، أي وهو في باريس، وأنه تمَّ طبعًا في بولاق في غُرة شعبان سنة ١٢٤٩ﻫ.
وهكذا كان رِفاعة بعد عودته، كما كان قبل عودته، دائم العمل، دائب النشاط. فقد استطاع في السنوات الثلاث التي تلتْ عودته أن يُراجع كُتبًا مُترجمة في الطب والجغرافية. وقدَّم للمطبعة كتابين ممَّا تَرجَم في باريس: أحدهما في علم المعادن، والثاني في علم الاجتماع، وترجم كتابين جديدين طُبِعا أيضًا في بولاق: أولهما في الهندسة، وثانيهما في الجغرافية. واستطاع بعد هذا كله أن يُوفَّق لفتح مدرسة صغيرة تولى وحده فيها تدريس علمَي التاريخ والجغرافيا …»
(٤) التمهيد لإنشاء مدرسة الألسن
تقدَّم رِفاعة بهذا الجزء من الجغرافيا العمومية إلى محمد علي، فحاز الكتاب القبول، وحاز رِفاعة الرضاء؛ فقد كان محمد علي مَعنيًّا — منذ بدأت حرب الشام الأولى — بالكُتب والمُصوَّرات الجغرافية، يريد أن يعرف — وهو يبني مُلكه الجديد — أين هو من الشرق القديم المُنحلِّ وأين هو من الغرب الجديد الناهض. وفي الوثائق المُعاصرة شواهد كثيرة على هذه العناية؛ فقد كتب سامي بك إلى الديوان الخديوي في ١٢ جمادى الأولى سنة ١٢٤٨ﻫ يُخبره «برغبة الجناب العالي في الاطِّلاع على خرائط الشام والأناضول، وبوجوب استدعاء أرتين أفندي للتفتيش عن هذه الخرائط في خزينة الأمتعة أو في خزينة القصر العيني أو في أي محلٍّ آخر …»
وبعد عشرة أيام من هذا الخطاب (٢٢ جمادى الأولى) صدر أمر من محمد علي إلى حبيب أفندي أشار فيه إلى أنه سبق أن طلب منه «خرائط رسم عن برِّ الشام والأناضول»، وأنه «علم مما ورَد منه عدَم وجود ذلك.» وأشار في هذا الأمر إلى أنه «مُتذكِّر وجود أطلس فلمنك، وآخر فرنساوي به رسم جميع الكرة الأرضية؛ فيجري البحث عن هذين الكتابين بخزينة الأمتعة أو بمحلِّ وجودها وإرسالها لطرفِه متى وُجدت …»
وفي ١٨ ذي القعدة سنة ١٢٤٨ﻫ كتَب إبراهيم باشا إلى سامي بك يأمره «بوجوب ترجمة الجغرافيتين البرية والبحرية بمعرفة إستيفان أفندي وأرتين أفندي، وبوجوب حفر الخرائط اللازمة بمعرفة الشيخ أحمد العطار الذي عاد من باريز.» وفي ٥ من ذي الحجة سنة ١٢٤٩ﻫ صدَر أمرٌ من محمد علي إلى وكيل الجهادية بطبعِ ألف نسخة من كتاب التعريبات الجغرافية «وكذلك ألف نسخة من الأطلس بعد إتمام ترجمته بمعرفة المذكور لِما في هذين الكِتابين من المنفعة الكلية …»
وفي غُرة ذي القعدة سنة ١٢٥٠ﻫ أُرسِلت إلى باغوص بك إفادة سَنية «تقتضي تقديم خريطة نهر الفرات ونواحيه إلى المقرِّ العالي.» … إلخ … إلخ.
كانت الفرصة سانحة إذن — ومحمد علي معنِيٌّ هذه العناية بالدراسات والرسوم الجغرافية — أن يتقدم إليه رِفاعة باقتراحه الجديد لتحقيق أمنيته القديمة. كان ذلك الاقتراح يتلخَّص في أن يؤذَن لرفاعة بافتتاح مدرسة للترجمة تُعلَّم فيها الألسن الشرقية والغربية، وبعض المواد المساعدة كالتاريخ والجغرافية والرياضة، ليقوم خريجوها بترجمة الكتب في العلوم المُختلفة.
ووافق محمد علي. وأُنشئت المدرسة في أوائل سنة ١٢٥٠ﻫ. وفي الفصل التالي تفصيل الحديث عنها وعن قَلَم الترجمة الذي أُنشئ مُلحقًا لها في سنة ١٢٥٨ﻫ/١٨٤١م.