بعد العودة

في رمضان سنة ١٢٤١ﻫ غادر رِفاعة الإسكندرية مُرتحِلًا إِلى فرنسا، وفي رمضان سنة ١٢٤٦ﻫ غادر باريس عائدًا إلى مصر. خمس سنوات كاملة تغيَّر فيها الشيخ عقلًا وعلمًا، وتفكيرًا وآمالًا، لكنه لم يتغير، بل لم يتأثَّر دينًا وأخلاقًا. يقول علي مبارك: «ولم تُؤثِّر إقامته بباريز أدنى تأثير في عقائده، ولا في أخلاقه وعوائده …»

وفي الإسكندرية تشرَّف بمُقابلة إبراهيم باشا، فرحب به لأنه سمع عنه ثناءً جمًّا أثناء زيارته لباريس، ولأنه كان يعرف أسرته في طهطا معرفةً وثيقة. وفي ختام المُقابلة وعَدَه إبراهيم باشا «بدوام الالتفات إليه»، وأنعم عليه بستَّةٍ وثلاثين فدانًا في الخانقاه، فكانت أول مكافأة مادية نالها رِفاعة على جِدِّه واجتهاده. وأول الغيث قطرة.

(١) في مدرسة الطب

وسافر إلى القاهرة، وحظِي بمقابلة وليِّ النعم محمد علي باشا، وكان محمد علي قد عرَفه معرفة أكيدة من تقارير مسيو «جومار» الكثيرة عنه، وكلها مدح وتقريظ لجهوده وتقدير لعمله. وفي هذه المُقابلة لقِي رِفاعة من مولاه كلَّ عطفٍ وتشجيع «ورأى من ميله إليه ما حمله على الثقة بنجاح البدء والنهاية». وصدر أمره العالي بتعيينه مُترجمًا بمدرسة الطب، فكان أول مصري يُعيَّن مُترجمًا بهذه المدرسة؛ فقد كانت هيئة المُترجِمين جميعًا حتى ذلك الوقت من السوريين؛ لهذا لم يلبث رِفاعة أن تفوَّق عليهم في عمله، فهو يتقن اللغة العربية إتقانًا لا يُدانيه فيه أحدٌ من هؤلاء المُترجمين السوريين وهو يُجيد الفرنسية مثلما يُجيدونها. وترجمته في النهاية صحيحة سليمة لا تحتاج — كترجمة السوريين — إلى مُراجعة أو تصحيح شيخٍ من شيوخ الأزهر المُحرِّرين بالمدرسة.

لبِث رِفاعة مُترجمًا في مدرسة الطب نحو سنتين، ولكنه يبدو أنه كان في هذه المدرسة مُصححًا ومُحررًا أكثر منه مُترجمًا، إذ لم يُعرَف أنه ترجَم في الطب غير الرسالة الصغيرة التي ترجمها وهو في باريس وضمَّنها رحلته، ولكنه قام في هذه الفترة بمراجعة كتاب «التوضيح لألفاظ التشريح» في الطب البيطري، الذي ترجمه يوسف فرعون وصحَّحه الشيخ مصطفى حسن كساب. فقد قرَّر مجلس الجهادية في ٢٠ جمادى الأولى سنة ١٢٤٨ﻫ «بناءً على ما ورد على مجلس المشورة في مدرسة الطب البيطري الموافقة على طبع كتاب التشريح الذي تُرجِم بعد مراجعة الترجمة بمعرفة الشيخ رِفاعة أفندي وهرقل البيكباشي واتِّضاح صحتها …» وقد ذُكر في خاتمة الكتاب أنه تم ترجمةً في التاسع عشر من شعبان سنة ١٢٤٧ﻫ، وأنه تم طبعًا في بولاق في غُرَّة صفر سنة ١٢٤٩ﻫ.

(٢) في مدرسة الطوبجية

وفي سنة ١٢٤٩ﻫ نُقل رِفاعة من مدرسة الطب ليكون مُترجمًا بمدرسة الطوبجية بطرة خلَفًا للمُستشرق الشاب «كنيك Koenig». وفي هذه المدرسة قام رِفاعة بترجمة بعض الكتب الهندسية والجغرافية اللازمة لمدرسة الطوبجية وغيرها من المدارس الحربية، فأتمَّ أولًا ترجمة كتاب «مبادئ الهندسة» الذي طُبع في سنة ١٢٤٩ﻫ.
أما علم الجغرافيا، وهو العلم الحبيب إلى رِفاعة منذ كان يتلقَّى العلم في باريس، فقد كان علمًا هامًّا وضروريًّا لتلاميذ المدارس الحربية، ولم يكن في مُتناول أيديهم حتى ذلك الحين كتابٌ واحد في هذا العلم باللغة العربية أو التركية، فأشار «سكويرابيك Don Antonio de Seguera Bey» ناظر المدرسة بأن يُعيد طبع كتاب «الكنز المُختار في كشف الأراضي والبحار»، وهو كتاب جغرافي صغير سبق أن طُبع في مالطة. غير أن رِفاعة وجد أن عبارة الكتاب «مالطية وحشية»، فأعاد تصحيحها وتحريرها حتى خرجت الطبعة الثانية «بالنسبة للعبارة أظرف من طبعة مالطة وأجمل.» ومع هذا فإن رِفاعة لم يقنع بأن يعتمِد على مجهود غيره، وقد كان في عزمه منذ عاد من البعثة أن ينقل كُتُب الجغرافية التي قرأها إلى العربية، فبدأ بترجمة كتاب خاص أسماه: «التعريبات الشافية لمريد الجغرافية»، وهو — كما يتَّضح من مُقدمته — أصول دروسه في هذا العلم، تخيرها من كُتبٍ فرنسية مختلفة، لا من كتاب واحد، وألقاها على تلاميذ مدرسةٍ خاصة أُنشئت فيما يبدو مُلحقة بمدرسة طرة لتدريس علم الجغرافيا ولتخريج مدرِّسين مُختصِّين في هذا العلم يتولَون تدريسه في المدارس الحربية الأخرى.

(٣) في مدرسة التاريخ والجغرافيا

لم تُشِر المراجع التي كُتبت عن تاريخ التعليم في عصر محمد علي إلى هذه المدرسة، ولكن بعض وثائق العصر أشارت إلى وجودها. وأيَّد هذا الوجود رِفاعة نفسه في مقدِّمته للكتاب السابق الذكر، فقد صدَر أمر من محمد علي باشا إلى ناظر الجهادية في ١٤ جمادى الآخرة سنة ١٢٥١ﻫ (قُبيل إنشاء مدرسة الألسن) بتعيين «عبده» «مدرسًا للجغرافيا بمكتب البيادة بدمياط، وهو من ضمن الأربعة المُتمِّمين السابق إرسالهم لطرة للقيام بتدريس (يقصد تعلُّم) الجغرافيا بمدرستها، وهم من الذين ربَّاهم الشيخ رفاعة؛ وإرسال ١٠ شبان للشيخ لتربيَتهم …»

وهذه كما يتَّضح من نصِّ الأمر السابق لم تكن مدرسة بالمعنى الصحيح، ولكنها لم تَعْدُ أن تكون فصلًا مُلحقًا بمدرسة المدفعية خُصص لتعليم بعض الطلبة علم الجغرافية ليتخرجوا مدرسين لهذا العلم في المدارس الحربية الأخرى. غير أن رِفاعة يُسمِّي هذا الفصل مدرسة، ويذكر أنها أُنشئت بموافقة «مشورة الجهادية» لتعليم الجغرافيا والتاريخ، فلا بأس إذن من أن نحاول شرح الأسباب التي أدت إلى فتح هذا الفصل، أو المدرسة؛ فإِنها في نظري النواة التي نشأت عنها مدرسة الألسن بعد قليل.

لم يكن رِفاعة على اتفاق مع «سكويرابك» ناظر مدرسة الطوبجية، فقد عُرِف هذا الرجل باعتداده الزائد بنفسه، وبحدَّة طبعه، وبعدائه للفرنسيين، وبالتالي للمثقفين ثقافة فرنسية، فهو إسباني الأصل، وكان قبل حضوره إلى مصر ضابطًا برتبة «كولونل» في سلاح المدفعية في الجيش الإسباني، وإليه كما يقول الدكتور عزت عبد الكريم «يرجع الفضل في إنشاء المدفعية المصرية ومدرسة المدفعية بطرة.» غير أنه للأسباب السابق ذكرها كان يرفض أن يستمع لأوامر مختار بك مدير المدارس، كما كان يكره سليمان باشا الفرنساوي مفتش المدارس الحربية كُرهًا شديدًا ويطعن في معارفه العسكرية وخاصةً في فنِّ المدفعية. وقد أدَّت هذه السياسة وهذا الخُلق إلى عزله في سنة ١٨٣٦م/١٢٥١ﻫ، ففي تلك السنة صدَرت أوامر محمد علي بتكوين لجنة لتنظيم التعليم في مصر. ورأت اللجنة أن يكتب كل عضو فيها اقتراحاته، ثم يجتمع الأعضاء فينظرون في هذه المقترحات مُجتمعين، ولكن «سكويرابك» رفض وحده هذا الرأي، قائلًا إنه لا يخضع لرأي غيره، ولا يعمل إلا ما يراه هو صالحًا، «فكان ذلك سبب عزله لاعتباره أجنبيًّا عن مصلحة الجناب العالي، وليس من العقل ائتمان الأجنبي المُتجنِّب على المصالح، كما كان عزله سببًا في طاعة بقية نظار المدارس، فانصرفوا ينفِّذون القرار ويدوِّنون مقترحاتهم …»١

لم يكن من المُنتظر إذن أن تحسُن العلاقات بين رِفاعة وبين هذا الناظر المُتعجرِف. وكان رِفاعة قد شُغِف — منذ كان طالبًا في باريس — بدراسة وترجمة علمَي التاريخ والجغرافيا، ورسم لنفسه أن يقوم بترجمة الكتب فيهما بعد عودته. فقد قال في رحلته: «وإن شاء الله تعالى بأنفاس وليِّ النِّعم يصير التاريخ على اختلافه منقولًا عن الفرنسية إلى لغتنا، وبالجُملة فقد تكفَّلنا بترجمة علمَي التاريخ والجغرافيا بمصر السعيدة بمشيئته تعالى وبهمَّة صاحب السعادة محبِّ العلوم والفنون …» فلعله رفع — وهو يُدرِّس الجغرافية بمدرسة طُرة — إلى محمد علي باشا أو إلى مشورة الجهادية اقتراحه بأن يُنشئ مدرسةً لتدريس هذين العلمين وترجمتهما، ولعل المشورة وافقت على إنشاء هذا الفصل كتجربة، فإذا تبيَّن نجاحه أكملتْه وزادت في اختصاصه. يقول رِفاعة في مقدمة «التعريبات الشافية» موضحًا لهذه الفكرة وداعيًا لها ومبينًا الغرض من ترجمة هذا الكتاب وطريقة ترجمته: «لمَّا سمَحت مَشورة الجهادية، ذات الآراء السَّنية الذكية، أن أفتح لفنون الجغرافيا والتاريخ مدرسة، تكون على قراءة هذه العلوم مؤسسة، لتشتهر ثمراتها الزاهرة، في إيالات أفندينا الفاخرة العامرة، فإن ذلك مما تدعو الحاجة إليه، ويتأكَّد العمل به والوقوف عليه، لا سيما لأرباب الدولة والسياسة المدنية، وأصحاب التدبير والإدارة الملكية، وأصول أهل المناصب وضباط الطوائف العسكرية، وكامل ذوي الصنايع والحِرف والمهمات التجارية. فكل من تأمَّل فيها وعرف، رُقِّي فيها إلى أعلى مراتب الفضل والشرف. على أن كثيرًا منها ما تُبنَى عليه أحكام شرعية، وحِكم وآداب عرفية، وقوانين بين سائر ملوك البرية. فهو لمثل هذا الغرض، يُعدُّ عند أرباب الصناعة من المفترض. أخذت عدة تلامذة لهذا المعنى الممدوح، وتوجَّهت بالقلب والقَالَب لتعليمهم بصدرٍ مشروح. وليس بيدي من كُتُب الجغرافيا شيء باللغة العربية يحتوي على التفصيل والترتيب على نسَق ما في الكُتب الإفرنجية؛ فلهذا اعتمدتُ كتابًا مُوجزًا في هذا الفن النفيس، موضوعًا لمدارس مبادئ العلوم بمدينة باريس، وشرعت في ترجمته درسًا بعد درس لهذا القصد؛ حتى لا يضيع السعي ولا يخيب الجد. ولما رأيت أن مؤلفه أطنَب في أوروبا لكونها وطنه، وأوجز في غيرها حيث لم تكن داره ولا سكنه، فبهذا الوصف لا يكون لنا كافيًا، ولا لغليلِ المُتطلِّعين إليه شافيًا. وكنت اطَّلعتُ على غيره من كُتب العلوم الجغرافية، ومارست كثيرًا منها وراعيتها حقَّ رعايتها مدَّة إقامتي بمملكة الفرنساوية، أردت أن أُتمِّم المَرام، بتلخيص ما يُناسب المقام؛ حتى تحصُل الموازاة والموازنة، والمعادلة والمقارنة.» إلى أن قال: «… وإن شاء الله يُترجَم من اللغة العربية إِلى اللغة التركية، حتى تكون ثمرته عامة جلية … إلخ.»

ولعلَّ الأمر الصادر من محمد علي في ٥ ذي الحجة سنة ١٢٤٩ﻫ «بطبع ألف نسخةٍ من كتاب الجغرافيا المُترجَم عن الفرنسية للعربية بمعرفة الشيخ رفاعة.» خاص بذلك الكتاب؛ فقد تمَّ طبعه في سنة ١٢٥٠ﻫ، وهو أول ما تُرجم من الكتب الجغرافية. وقد أشير في نفس الأمر إلى طبع «ألف نسخة من الأطلس بعد إتمام ترجمته بمعرفة المذكور.» وذلك «لِما في هذين الكتابين من المنفعة الكلية التي تعود على تلامذة المدارس.» غير أنني لم أعثر في فهارس الكُتب العربية المطبوعة على أثرٍ لهذا الأطلس، فلعلَّه لم يَتم ترجمةً، أو لعلَّه تُرجم ولم يُطبع.

انتهى رِفاعة من ترجمة هذا الكتاب في الشهر الأخير من سنة ١٢٤٩ﻫ، ثم أسلَمه للمطبعة في أوائل سنة ١٢٥٠ﻫ، فطُبِع. وكان قد قدَّم للمطبعة في هذه السنوات الثلاث التي مرَّت منذ عودته من فرنسا (١٢٤٦–١٢٤٩ﻫ) كتابين ممَّا تَرجَم وهو في باريس، وهما:
  • (١)

    كتاب المعادن النافعة، تأليف «فرارد»، وهو رسالة صغيرة في ٤٧ صفحة من القِطع المتوسط. ذكر رِفاعة في خاتمته أنه ترجَمَه «بمشورة جناب مسيو جومار ناظر الأفندية بباريس، ومحبِّ الديار المصرية وعزيزها وليِّ النعم.» وقد تمَّ طبع هذا الكتاب في بولاق في شوال سنة ١٢٤٨ﻫ.

  • (٢)

    قلائد المَفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر، وهو رسالة صغيرة أيضًا تقع في ١١٢ صفحة من القطع المتوسط. ذكَر رِفاعة كذلك أنه ترجَمَها إجابةً لطلب المسيو جومار. فقد قال في مقدمته ص٣: «قد اشتُهر بين الخاصِّ والعام أن طائفة الإفرنج قد امتازت الآن بين الطوائف بالتجارات، والمخالطة لسائر البلاد، بل لقد اتَّخذت معرفة البلاد وأحوالها سببًا، وانتخبت بذلك نخبًا، فاتَّسعت معارفها في الجغرافيا والمِيقات، ولا زالت في الزيادة في العلوم على سائر الأوقات، فلا سبيل حينئذٍ في معرفة أحوال البلدان والخلائق إلا بنقلها عمَّن حقَّقَها من الإفرنج. ولا شكَّ أن من أعلمِ الإفرنج وأحكمهم طائفة الإفرنسيس؛ فإنها الآن بلاد الفنون والصنائع من غير شكٍّ وتلبيس. ولمَّا كان للفقير معرفة هذه اللغة، وفيه ملَكة مُطالعة عظيم كُتبها وتمييز الغثِّ من السمين، طلب مني الخواجة «جومار» مدير تعليم الأفندية المصريين المبعوثين من طرف حضرة وليِّ النعمة إلى باريس، كرسي الفرنسيس، أن أترجم إلى العربية كتابًا لطيفًا يُسمَّى بما معناه: ديوان قلائد المفاخر … إلخ، فأجبته لذلك، علمًا بأنه نصُوح في محبَّة أفندينا ولي النعم، ومحبٌّ لبلاد مصر كأنها وطنه. ولمَّا كان هذا الكتاب غير مقصور على مُجرَّد نقل العوائد، بل هو مُشتمِل على استحسان واستقباح بعضها، أشار عليَّ مدير التعليم المذكور أن أحذِف ما يذكُره مؤلف الكتاب من الحطِّ والتشنيع على بعض العوائد الإسلامية أو ممَّا لا ثمرةَ لذكره في هذا الكتاب … إلخ.»

وقد ذكر رِفاعة في خاتمة الكتاب أنه أتمَّ ترجمته في يوم الاثنين من العشر الأوائل من جمادى الآخرة سنة ١٢٥٤ﻫ، أي وهو في باريس، وأنه تمَّ طبعًا في بولاق في غُرة شعبان سنة ١٢٤٩ﻫ.

ولم يذكر رِفاعة في المقدمة أو الخاتمة اسم مؤلف الكتاب. وقد رجَّح المستشرق الفرنسي «بيانكي Bianchi» — في مقاله عن الكتب التي طُبعت في مطبعة بولاق الذي نشره في مجلة الجمعية الآسيوية سنة ١٨٤٣ﻫ — أنه من تأليف Depping، فقد قال عند ذكر هذا الكتاب: Ceci est, Je pense, l’ouvrage de Depping, intitulé: “Moeurs et usage des nations”.
وقد أكَّد رِفاعة نفسه هذا الترجيح؛ فقد أورَد في رحلته ترجمة رسالة وصلته — قُبيل عودته إِلى مصر — من المُستشرق الفرنسي مسيو «رينو Reinaud»، جاء فيها: «… قد حمَّلني مسيو «دبنغ» أن أسأل عن ترجمتك لكتاب العلوم الصغير المُشتمل على أخلاق الأمم وعوائدهم وآدابهم؛ لأن مسيو «دبنغ» مؤلف هذا الكتاب. فإذا كانت ترجمتك تنطبع في مصر، هل يتيسر لمؤلف الأصل أن يُقيِّد اسمه لتحصيل عدة نُسخٍ من هذا الكتاب بالشراء؟»

وهكذا كان رِفاعة بعد عودته، كما كان قبل عودته، دائم العمل، دائب النشاط. فقد استطاع في السنوات الثلاث التي تلتْ عودته أن يُراجع كُتبًا مُترجمة في الطب والجغرافية. وقدَّم للمطبعة كتابين ممَّا تَرجَم في باريس: أحدهما في علم المعادن، والثاني في علم الاجتماع، وترجم كتابين جديدين طُبِعا أيضًا في بولاق: أولهما في الهندسة، وثانيهما في الجغرافية. واستطاع بعد هذا كله أن يُوفَّق لفتح مدرسة صغيرة تولى وحده فيها تدريس علمَي التاريخ والجغرافيا …»

(٤) التمهيد لإنشاء مدرسة الألسن

وفي أوائل سنة ١٢٥٠ﻫ ظهر في مصر مرض الطاعون، وانتشر في القاهرة وكثير من البلدان الأخرى، فطلب رِفاعة إجازةً وسافر إِلى بلده طهطا، ولبث هناك نحو ستة أشهر زار خلالها الأهل والأقارب، ولكنه لم ينعَم في خلالها بالراحة، بل حمَل معه الجزء الأول من جغرافية «ملطبرون Malte Brun»، وكان قد بدأ فترجَم منه صفحاتٍ وهو في باريس، فأكمل ترجمة الجزء الأول كله. يقول في المقدمة: «وكان ذلك في نحو سبعة أشهر مع تراكم غيره من الأشغال عليَّ من ترجمة هندسة أو طبعِ ما كان وقت تعريبه بين يديَّ.» ويتَّضح من مقدمة هذا الجزء أن رِفاعة عرض على محمد علي رغبته في ترجمة هذا الكتاب، فطلب منه الباشا أن يُترجِم هذا الجزء في مدةٍ لا تزيد على هذه الشهور السبعة؛ ولهذا بذل رِفاعة الجهد كلَّ الجهد ليَفِي بوعده، وقد فعل، وذلك: «قصدًا لكسبِ رضاء وليِّ النعم الأكرم، الذي أمر بترجمته في نحو هذا الزمن وحتَّم …» وقد عاونه في تَبييض الكتاب وتحريره أثناء الترجمة الشيخ محمد هدهد الطنتدائي «فقام بواجبات هذه الوظيفة وزيادة من غير ارتِياب، وربما تصرَّف بعد مشاورتي في بعض عبارات، وأشار عليَّ بتغيير ما يظنُّ أنه يعسُر فهمه على من لم يسبِق له في هذا الفنِّ علمه، فأجبته حيث قام عندي على صحة ذلك أمارات … إلخ»

تقدَّم رِفاعة بهذا الجزء من الجغرافيا العمومية إلى محمد علي، فحاز الكتاب القبول، وحاز رِفاعة الرضاء؛ فقد كان محمد علي مَعنيًّا — منذ بدأت حرب الشام الأولى — بالكُتب والمُصوَّرات الجغرافية، يريد أن يعرف — وهو يبني مُلكه الجديد — أين هو من الشرق القديم المُنحلِّ وأين هو من الغرب الجديد الناهض. وفي الوثائق المُعاصرة شواهد كثيرة على هذه العناية؛ فقد كتب سامي بك إلى الديوان الخديوي في ١٢ جمادى الأولى سنة ١٢٤٨ﻫ يُخبره «برغبة الجناب العالي في الاطِّلاع على خرائط الشام والأناضول، وبوجوب استدعاء أرتين أفندي للتفتيش عن هذه الخرائط في خزينة الأمتعة أو في خزينة القصر العيني أو في أي محلٍّ آخر …»

وبعد عشرة أيام من هذا الخطاب (٢٢ جمادى الأولى) صدر أمر من محمد علي إلى حبيب أفندي أشار فيه إلى أنه سبق أن طلب منه «خرائط رسم عن برِّ الشام والأناضول»، وأنه «علم مما ورَد منه عدَم وجود ذلك.» وأشار في هذا الأمر إلى أنه «مُتذكِّر وجود أطلس فلمنك، وآخر فرنساوي به رسم جميع الكرة الأرضية؛ فيجري البحث عن هذين الكتابين بخزينة الأمتعة أو بمحلِّ وجودها وإرسالها لطرفِه متى وُجدت …»

وفي ١٨ ذي القعدة سنة ١٢٤٨ﻫ كتَب إبراهيم باشا إلى سامي بك يأمره «بوجوب ترجمة الجغرافيتين البرية والبحرية بمعرفة إستيفان أفندي وأرتين أفندي، وبوجوب حفر الخرائط اللازمة بمعرفة الشيخ أحمد العطار الذي عاد من باريز.» وفي ٥ من ذي الحجة سنة ١٢٤٩ﻫ صدَر أمرٌ من محمد علي إلى وكيل الجهادية بطبعِ ألف نسخة من كتاب التعريبات الجغرافية «وكذلك ألف نسخة من الأطلس بعد إتمام ترجمته بمعرفة المذكور لِما في هذين الكِتابين من المنفعة الكلية …»

وفي غُرة ذي القعدة سنة ١٢٥٠ﻫ أُرسِلت إلى باغوص بك إفادة سَنية «تقتضي تقديم خريطة نهر الفرات ونواحيه إلى المقرِّ العالي.» … إلخ … إلخ.

كانت الفرصة سانحة إذن — ومحمد علي معنِيٌّ هذه العناية بالدراسات والرسوم الجغرافية — أن يتقدم إليه رِفاعة باقتراحه الجديد لتحقيق أمنيته القديمة. كان ذلك الاقتراح يتلخَّص في أن يؤذَن لرفاعة بافتتاح مدرسة للترجمة تُعلَّم فيها الألسن الشرقية والغربية، وبعض المواد المساعدة كالتاريخ والجغرافية والرياضة، ليقوم خريجوها بترجمة الكتب في العلوم المُختلفة.

ووافق محمد علي. وأُنشئت المدرسة في أوائل سنة ١٢٥٠ﻫ. وفي الفصل التالي تفصيل الحديث عنها وعن قَلَم الترجمة الذي أُنشئ مُلحقًا لها في سنة ١٢٥٨ﻫ/١٨٤١م.

١  الدكتور أحمد عزت عبد الكريم: تاريخ التعليم في عصر محمد علي، ص٤١٥-٤١٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤