في السودان
في ١٣ ذي الحجة سنة ١٢٦٤ﻫ/١٠ نوفمبر ١٨٤٨م تُوفِّي إبراهيم باشا. وفي ٢٧ من نفس الشهر تولَّى عرش مصر عباس باشا الأول، وكان محمد علي لا يزال حيًّا يعاني من مرضه الأخير، فلم يجرؤ عباس على تغيير ما يُريد تغييره من الأوضاع القديمة. وفي ١٢ رمضان سنة ١٢٦٥ﻫ/٢ أغسطس ١٨٤٩م انتقل محمد علي إلى الرفيق الأعلى، فاستقلَّ عباس بالأمر.
ولم يكن عباس كجدِّه وعمِّه، بل لعلَّه كان على النقيض منهما؛ ولهذا يكاد يُجمِع مؤرخو عصره على وصْفه بالجمود والرجعية. فالأستاذ عبد الرحمن الرافعي بك يرى أنه كان «قبل ولايته الحكم وبعد أن تولَّاه خِلوًا من المزايا والصفات التي تجعلُ منه ملكًا عظيمًا يضطلع بأعباء الحكم ويسلك بالبلاد سبيل التقدم والنهضة … وبالجُملة فلم تكن له ميزة تلفت النظر سوى أنه حفيد رجلٍ عظيم أسَّس مُلكًا كبيرًا، فصار إليه هذا الملك دون أن تئول إليه مواهب مُؤسِّسِه، فكان شأنه شأن الوارث لتركة ضخمة جمعها مُورِّثه بكفاءته وحُسن تدبيره وتركها لمن هو خِلوٌ من المواهب والمزايا …»
ويرى المُؤرِّخ الإيطالي «ساماركو»: «أن أظهر ما تتَّسِم به حكومة عباس عداؤه الوحشي للحضارة الغربية، وكرهه العنيف لجميع الأعمال التي كوَّنت مَجد جدِّه، والتي بذل هو كلَّ الجهد في تحطِيمها شيئًا فشيئًا …»
ويرى الدكتور عزت عبد الكريم أن عبَّاسًا «أظهر منذ تولَّى الحكم في مصر أنه لن يكون الحاكم الذي يُتابع سياسة جدِّه ويحنو على مُؤسَّساته ويؤيِّد نُظمه.» وأن «سيرَته في الإصلاح الداخلي كانت فشلًا متَّصلًا. ولا يشفع له في ذلك أن حُكمه كان قصيدًا …» والسبب الأساسي لهذا كله في نظره يرجع إلى أن «سياسة عباس قامت على تَسفِيه الجهود التي بذلَها محمد علي وإبراهيم في ميدان الإصلاح الداخلي، والسياسة التي اعتقد أنهما كانا يتمسَّكان بها ويدعوان إليها في تَقريبِه علاقات مصر بالدولة العثمانية والدول الأوروبية …»
فإذا فهِمنا سياسة عباس الأول على هذا الأساس، لم يكن من العسير إذن أن نفهم لِمَ أُقفِلت مُعظم المدارس الخصوصية في أول عهده. وكانت مدرسة الألسن أول مدرسة أُلغيت؛ وذلك أن مُؤسِّسها وناظرها كانا من المُقرَّبين لمحمد علي وإبراهيم الحائزين لثقتهما؛ لهذا نشأ بين عباس ورفاعة نوعٌ من الكراهية وسوء التفاهم.
لم يوضِّح رِفاعة نفسه ولم يوضِّح المؤرخون المُعاصِرون أسبابه الحقيقية، ممَّا دعا المؤرخين المُحدثين إلى أن يذهبوا في تفسيره مذاهب شتَّى؛ فالأستاذ الرافعي بك يرى أن لكتاب رِفاعة «تخليص الإبريز» «سببًا يتَّصل بنفيه؛ إذ لا يخفَى أنه طُبِع للمرة الثانية سنة ١٢٦٥ﻫ، أي في أوائل عهد عباس باشا. والكتاب … يحوي آراءً ومبادئ لا يرغَب فيها الحاكم المُستبد. وعباس باشا الأول كان في طبعِه مُستبدًّا غشومًا، فلا بدَّ أنَّ الوُشاة قد لفتوا نظره إلى ما في كتاب رِفاعة بك ممَّا لا يروق عباس، فرأى أن يُبعِده إلى الخرطوم ليكون السودان منفًى له. ولا غرابةَ في ذلك، فلو أن هذا الكتاب ظهر في تركيا على عهد السلطان عبد الحميد لكان من المُحقَّق أن يكون سببًا في هلاك صاحبه، فمن الجائز أن يكون عباس باشا قد رأى نفيَ رفاعة وأمثال رفاعة إِلى السودان ليُبعِدهم ويُبعِد أفكارهم وثقافتهم عن مصر، واتَّخذ لنفيهم صورةً ظاهرةً وهي إنشاء مدرسة بالخرطوم …»
أما الدكتور عزت عبد الكريم فيرى أنَّ هناك احتمالَين لإبعاد رِفاعة إلى السودان، أولهما: سعي علي مبارك «الذي عاد من أوروبا مليئًا بالأطماع والذي كان يَحقِد على رِفاعة ما أصابَ من مكانة. وقد قرَّب عباس إليه علي مبارك وأبعد رِفاعة إلى السودان، فلما خلَفه سعيد قرَّب إليه رِفاعة وأبعد علي مبارك إلى القِرم. والثاني: ما يُحتمَل أن يكون رِفاعة قد لقِيَه من مُعارضة بعض المشايخ المُتعصِّبين الذين ربما عدُّوه مُتطفِّلًا على مَيدانهم في دراسة الشريعة والفقه …»
وهذه كلها تفسيرات احتمالية أو اجتهادية تفتَقر إلى سندٍ تاريخيٍّ مادي. وأصدَقُ منها في نظري ما ذكره رِفاعة نفسه من أنه سافر إلى السودان «بسعي بعض الأُمراء بضميرٍ مُستترٍ بوسيلة نظارة مدرسة بالخرطوم.» وإن كان لم يذكر أسماء هؤلاء الأمراء أو ماهية الوِشاية التي وشَوا بها ضِدَّه.
غير أنه عاد فأشار إليهم وإليها في إيضاحٍ مُستتر في قصيدة نظَمَها وهو في السودان مُستغيثًا مما هو فيه بحسَن باشا كتخدا مصر، قال فيها:
إلخ …
ويقول الأستاذ أحمد أمين بك: «وكان الشيخ ماكرًا فقد وضع القصيدة على وزن وقافية:
ومهما تكن الأسباب الحقيقية، فإن عباسًا قد أوعَز في شهر رجب سنة ١٢٦٦ﻫ إلى المجلس المخصوص برغبته. واقترح هذا المجلس أن تُؤسَّس مدرسة بالأقاليم السودانية إنقاذًا لأولاد أهلها والمستوطنين بها من جحيم الجهل، وأن يقوم على تأسيسها ونظارتها رِفاعة بك، وأن يشترك معه في التدريس علَم من أعلام النهضة العلمية التعليمية في عصر محمد علي؛ وهو محمد أفندي بيومي أستاذ الرياضيات في المهندسخانة ورئيس أحد أقلام غرفة الترجمة. وإنه من الجميل حقًّا أن نسجل لحكومة عباس أنها أول من فكرت في إنشاء مدرسة مصرية في ربوع السودان، لو أنه كان خالص النيَّة صادق الرغبة في خدمة السودان وأبنائه، ولكنه لم يكن كذلك، وإلا فإن إنشاء مدرسة ابتدائية في الخرطوم لم يكن يَستلزم أن يُشرِف عليها ويقوم بالتدريس فيها كبيرا رجال النهضة العلمية في مصر: رِفاعة وبيومي. ومع هذا فإن قرار المجلس المخصوص أخفى الأسباب الحقيقية وأظهر لنا الغرض من إنشاء المدرسة في صورةٍ أخَّاذةٍ براقة؛ فقد ذُكر في هذا القرار أنه: «لما كانت الأقاليم السودانية من البلاد الجسيمة، ولما لم يكن قد أُنشئت في تلك الديار المُتَّسعة مدرسة يُربَى فيها أولاد مشايخها، وغيرهم من أهلها، وأولاد الأتراك الذين ذهبوا إلى تلك الديار وتوطنوا بها منذ أعوام خلت، وكذلك أحفادهم، ليتعلموا فيها الفنون والقراءة والكتابة فيزدادوا ثقافة وفطنة، ولما كان المجلس المخصوص قد تشاور في جلسته التي عقدها أخيرًا، فقرَّر أمر إنشاء مدرسة بتلك البلاد بُغية إنقاذ أولادها من ظلمات الجهل وتنويرهم بأنوار المعارف بمقتضى مراحِم الذات الخديوية والمكارم السنية التي شملت جميع الرعايا والبرايا، فقد قرَّ الرأي على أن تُفتَح هذه المدرسة في عاصمة الخرطوم، وأن يكون نظامها موافقًا لأصول المدارس المصرية وعلى نمط ترتيب مدرستي المبتديان والتجهيزية، وأن يُقبل ويسجل فيها نحو مائتين وخمسين غلامًا من أولاد المشايخ، والأهلين القاطنين بدنقلة والخرطوم وسنار وتاكة وملحقاتها، وكذلك من أولاد الأتراك الذين توطَّنوا بتلك الديار وأحفادهم. هذا ويُولَّى عليها ناظر مُلمٌّ بأصول المدارس ليتمكن من ترتيبها كما ينبغي وتنظيمها على أحسن وجه، فاستحسن المجلس اختيار أمير الآلاي رِفاعة بك الذي بديوان المدارس ناظرًا للمدرسة المذكورة وإرساله إلى تلك الديار، وانتخاب المعلمين الذين تحتاج إليهم تلك المدرسة برأي البك المشار إليه … إلخ».»
قضى رِفاعة في السودان نحو ثلاث سنوات قاسى فيها الأمَرَّين، لا كُرهًا في السودان، فهو القائل على لسان مصر والسودان:
إنما آلمه في السودان شعوره بأنه مَنفِي، وتألمه لِما أصاب معظم زملائه من مرض ووفاة، وخاصةً بيومي أفندي صديقه في باريس ومصر، ووفيُّه في الجهاد العلمي، وصاحبه في السراء والضراء؛ يؤيد هذا قوله في قصيدته السابق الإِشارة إليها:
ومع ذلك فقد تذرَّع هناك بالصبر والإِيمان، وقام بواجبه في مدرسة الخرطوم خير قيام، وتخرَّج على يديه بعض أبناء مصر والسودان. وقد بثَّ شكواه في قصائد كثيرة تُعدُّ من أجلِّ ما قال من شعر. ولم ينسَ أخيرًا عمله الذي أحبه وأخلص له، وهو الترجمة، فشغل وقت فراغه بترجمة قصة «تليماك» التي طبعها أحد تلاميذه فيما بعد في بيروت بعنوان «مواقع الأفلاك في وقائع تليماك»، وقد أشار في مقدمتها إلى ما كان يُحسُّ وهو في منفاه من ألم مُمِضٍّ وكيف استعان على تحمُّل هذا الألم باشتغاله بترجمة هذا الكتاب، قال:
«وإنما فقط لما توجَّهت بالقضاء والقدر إلى بلاد السودان، وليس فيما قضاه الله مفر، أقمتُ بُرهةً خامد الهمة، جامد القريحة في هذه المُلِمَّة، حتى كاد يُتلفني سعير الإقليم الغائر بِحرِّه وسمومه، ويبلَعني فيل السودان الكاسر بخرطومه … فما تَسلَّيتُ إلا بتعريب «تليماك»، وتقريب الرجاء بدور الأفلاك …»