أمير الآلاي رفاعة بك
في ٢٠ شوال سنة ١٢٧٠ﻫ/يوليو ١٨٥٤م تولى سعيد باشا عرش مصر، فأسرع رِفاعة ورفاقه بالعودة إلى مصر. وسرعان ما تكررت الرواية القديمة؛ فكما أن عباسًا عند توليه الحُكم قد أبعد رِفاعة إلى السودان وقرَّب إليه علي مبارك وعيَّنه ناظرًا لمدرسة المهندسخانة وعهد إليه بالإشراف على شئون التعليم، كذلك بدأ سعيد فأرسل علي مبارك ليكون قائدًا من قواد الحملة المصرية إلى القرم وقرَّب إليه رِفاعة وحباه بعطفه.
بدأ رِفاعة يرسم لنفسه الخطط ويعقد الآمال العريضة. ونظم في هذه الفترة القصائد الكثيرة يمدَح بها سعيدًا ويُشيد بصفاته وعهده. غير أن سعيدًا لم يلبثْ أن أصدر أوامره في ١٠ ربيع الأول سنة ١٢٧١ﻫ بإلغاء ديوان المدارس وتصفية حساباته.
ولكن يبدو أن سعيدًا لم يكن يؤمن بفائدة هذا المشروع، كما أنه كان مشغولًا في ذلك الحين بأمورٍ يراها أكثر أهمية من مشروع مكاتب الملة كقناة السويس، وإصلاح الجيش، وبناء القلعة السعيدية … إلخ.
ومرَّت الأيام والشهور ورفاعة ينتظر دون أن يُعهَد إليه بعمل ما، فبدأ يُحسُّ الضيق ماديًّا ومعنويًّا. وأخيرًا تقدَّم إلى الحكومة بالتماسٍ يرجو فيه أن يُعيَّن هو وتلميذه القديم خليفة أفندي محمود في أي مصلحة من المصالح وأن يُعهَد إليهما بترجمة الكتب النافعة. غير أن سعيدًا كان كثير التنقل — ومعه فِرَق من جيشه — في أنحاء مصر المختلفة، فلم يجد الوقت الكافي للنظر في مثل هذا الاقتراح والبتِّ فيه.
وكان سعيد شديد العناية بجيشه؛ ولهذا عهد في أوائل سنة ١٢٧٢ﻫ/١٨٥٥م إلى سليمان باشا الفرنساوي بإنشاء مدرسة حربية جديدة لإعداد ضباط يكونون أركان حرب للجيش. وأنشأ سليمان المدرسة وألحق رِفاعة وكيلًا له، وبعد قليل التمس سليمان باشا إحالته على المعاش فعُيِّن رِفاعة ناظرًا للمدرسة.
قد يبدو هذا التعيين غريبًا، ولكن مبرراته أن رِفاعة كان يحمل لقب أمير آلاي، فقد كان الموظفون جميعًا مدنيين وعسكريين يُمنَحون الألقاب العسكرية في عهد محمد علي. وبهذا أصبح رِفاعة — الشيخ سابقًا والأمير آلاي حاليًا — ناظرًا للمدرسة الحربية بالقلعة. فماذا هو فاعل وثقافته دينية مُذ كان يطلب العلم في الأزهر، أو مدنية مُذ كان يطلب العلم في باريس؟
لقد أتقَن رِفاعة اللغتين العربية والفرنسية، وتخصَّص في فنِّ الترجمة واشتغل بها، وكوَّن جيلًا من المُترجمين هم خريجو الألسن، وكان يرجو أن يوفَّق في عهد سعيد أن يعيد للألسن عهدها، وأن يجمع تلاميذه حواليه فيستأنِف نشاطه القديم وُيترجِم إلى العربية كنوز المعرفة الغربية. وها هي الأقدار تُنصِّبه ناظرًا للمدرسة الحربية.
لم ييأس رفاعة، بل رحَّب بالمركز الجديد، فقد كانت له صِلة قديمة بالمدارس الحربية منذ كان مُترجمًا بمدرسة الطوبجية بُعَيد عودته من باريس، وبدأ يستعين بمن معه من رجال الجيش، ولكنه سعى حتى صَبغ المدرسة الجديدة بصِبغةٍ مدنيةٍ واضحة، وأقحم الدراسات التي يُتقِنها ويَميل إليها في المنهاج إقحامًا، فجعل دراسة اللغة العربية واجبة على الجميع، وترك للتلاميذ حرية اختيار إِحدى اللغتين الشرقيتين: الفارسية والتركية، وإحدى اللغات الأوربية: الإنجليزية والفرنسية والألمانية.
ولقد كان رِفاعة يقصِد بهذه المُحاولات أن يُحيي عهد مدرسته القديمة الحبيبة إلى نفسه: الألسن؛ فإنه لم يلبث بعد هذه الخطوات الأولى أن أنشأ بالمدرسة الجديدة فرقة خاصة للمحاسبة، ثم أَلحَق بها بعد قليلٍ قلمًا للترجمة اختار لرياسته تلميذه القديم الذي تخصَّص في ترجمة الكتب الرياضية والحربية: السيد صالح مجدي بك.
قَنَع رِفاعة بمركزه الجديد، واحتال كما رأينا حتى أضاف لمناهج الدراسة ما يُرضِي ميوله ورغباته، ثم لم يلبَث أن أقبل على العمل بنشاطه القديم الذي عرفناه، فعُهد إليه بنظارة مدرستَي الهندسة الملكية والعمارة وتفتيش مصلحة الأبنية. ثم رأى أن النهضة العلمية لا يجب أن تَعتمِد على الترجمة وحدها، بل يجب أن تَعتمِد أيضًا على إحياء المؤلفات القديمة ونشرها، فسعى حتى حصَل على موافقة سعيد باشا. وصدرت الأوامر كما يقول علي مبارك «بطبع جملة كُتُبٍ عربية على طرف الحكومة وعمَّ الانتفاع بها في الأزهر وغيره، منها: تفسير الفخر الرازي، ومعاهد التنصيص، وخزانة الأدب، والمقامات الحريرية، وغير ذلك من الكتب التي كانت عديمة الوجود في ذلك الوقت …»
وبهذا يكون رِفاعة أول واضع لعِمادين من عَمَد النهضة الثقافية الحديثة، وهما الترجمة والنشر. وسنرى فيما بعد أنه سيشارك أيضًا في وضع العماد الثالث وهو التأليف ولكن في عهد إسماعيل.
وفي أوائل سنة ١٢٧٨ﻫ/أغسطس ١٨٦١م أُلغيَت هذه المدرسة الحربية، أي بعد خمس سنواتٍ من إنشائها، وبعد أن بدأت تثمر وتؤتي أُكلها، وكانت قد ظهرت كما يقول علي مبارك «نجابة تلامذتها واستفادتهم استفادة جيدة في أقرب وقت.» وهكذا أمسى رِفاعة بلا عملٍ مرةً أخرى، وظلَّ كذلك نحو السنتين إلى أن وُلِّي إسماعيل العرش في سنة ١٨٦٣ﻫ.