أدهم
١
كان مكان حارتنا خلاء؛ فهو امتداد لصحراء المقطم الذي يربض في الأفق. ولم يكن بالخلاء من قائم إلا البيت الكبير الذي شيَّده الجبلاوي كأنما ليتحدى به الخوف والوحشة وقُطَّاع الطريق. كان سوره الكبير العالي يتحلق مساحةً واسعة، نصفها الغربي حديقة، والشرقي مسكن مكوَّن من أدوار ثلاثة.
ويومًا دعا الواقفُ أبناءه إلى مجلسه بالبهو التحتاني المتصل بسلاملك الحديقة؛ وجاء الأبناء جميعًا، إدريس وعباس ورضوان وجليل وأدهم، في جلابيبهم الحريرية، فوقفوا بين يدَيه وهم من إجلاله لا يكادون ينظرون نحوه إلَّا خلسة. وأمرهم بالجلوس فجلسوا على المقاعد من حوله، وراح يتفحصهم هنيهة بعينَيه النافذتَين كعينَي الصقر، ثم قام متجهًا نحو باب السلاملك. ووقف وسط الباب الكبير ينظر إلى الحديقة المترامية التي تزحمها أشجار التوت والجميز والنخيل، وتعترش في جنباتها الحناء والياسمين، وتثب فوق غصونها مزقزقة العصافير. ضجت الحديقة بالحياة والغناء، على حين ساد الصمت بالبهو. وخُيِّل إلى الإخوة أن فتوة الخلاء قد نسيهم، وهو يبدو بطوله وعرضه خلقًا فوق الآدميين كأنما من كوكبٍ هَبَط. وتبادلوا نظراتٍ متسائلة. إن هذا شأنه إذا قرر أمرًا ذا خطر، وما يقلقهم إلا أنه جبار في البيت كما هو جبار في الخلاء وإنهم حياله لا شيء. التفت الرجل نحوهم دون أن يبرح مكانه، وقال بصوتٍ خشنٍ عميق تردد بقوة في أنحاء البهو الذي توارت جدرانه العالية وراء ستائر وطنافس: أرى من المستحسن أن يقوم غيري بإدارة الوقف …
وتفحَّص وجوههم مرةً أخرى، ولكن لم تنمَّ وجوههم عن شيء. لم تكن إدارة الوقف مما يغري قومًا استحبوا الفراغ والدعة وعربدة الشباب، وفضلًا عن هذا فإدريس الأخ الأكبر هو المرشح الطبيعي للمنصب، فلم يعد أحد منهم يتساءل عما هنالك. وقال إدريس لنفسه: «يا له من عبء! هذه الأحكار لا حصر لها، وهؤلاء المستأجرون المناكيد!» أما الجبلاوي فاستطرد قائلًا: وقد وقع اختياري على أخيكم أدهم ليدير الوقف تحت إشرافي.
عكست الوجوهُ وقعَ مفاجأةٍ غير متوقَّعة، فتبودلت النظرات في سرعة وانفعال، إلا أدهم فقد غضَّ بصره حياءً وارتباكًا، وولَّاهم الجبلاوي ظهره وهو يقول في عدم اكتراث: لهذا دعوتكم!
تفجر الغضب في باطن إدريس، فبدا كالثمل من شدة مقاومته، ونظر إليه إخوته بحرج، ودارى كلٌّ منهم — عدا أدهم طبعًا — غضبه لكرامته باحتجاجه الصامت على تخطي إدريس، الذي كان تخطيًا مضاعفًا لهم. أما إدريس فقال بصوتٍ هادئ كأنما يخرج من جسمٍ آخر: ولكن يا أبي …
قاطعه الأب ببرود وهو يلتفت نحوهم: ولكن؟!
فغضُّوا الأبصار حذرًا من أن يقرأ ما في نفوسهم، إلا إدريس فقد قال بإصرار: ولكنني الأخ الأكبر …
فقال الجبلاوي مستاءً: أظن أنني أعلم ذلك، فأنا الذي أنجبتك.
فقال إدريس وحرارة غضبه آخذة في الارتفاع: للأخ الأكبر حقوق لا تهضم إلا لسبب!
فحدجه الرجل بنظرةٍ طويلة كأنما يمنحه فرصةً طيبة لتدبُّر أمره وقال: أؤكد لكم أني راعيت في اختياري مصلحة الجميع.
تلقَّى إدريس اللطمة بصبرٍ ينفد. إنه يعلم كم يضيق أبوه بالمعارضة، وأن عليه أن يتوقع لطماتٍ أشد إذا تمادى فيها، ولكن الغضب لم يدع له فرصة لتدبُّر العواقب، فاندفع خطوات حتى كاد يلاصق أدهم، وانتفخ كالديك المزهو ليعلن للأبصار فوارق الحجم واللون والبهاء بينه وبين أخيه، وانطلق الكلام من فيه كما ينطلق نثار الريق عند العطس بغير ضابط: إني وأشقائي أبناء هانم من خيرة النساء، أما هذا فابن جارية سوداء!
شحب وجه أدهم الأسمر دون أن تندَّ عنه حركة، على حين لوَّح الجبلاوي بيده قائلًا بنبرات الوعيد: تأدب يا إدريس!
ولكن إدريس كانت تعصف به عواصف الغضب المجنونة فهتف: وهو أصغرنا أيضًا، فدلَّني على سبب يرجحني به إلا أن يكون زماننا زمان الخدم والعبيد!
– اقطع لسانك رحمة بنفسك يا جاهل!
– إن قطع رأسي أحب إليَّ من الهوان!
ورفع رضوان رأسه نحو أبيه وقال برقَّةٍ باسمة: نحن جميعًا أبناؤك، ومن حقنا أن نحزن إذا افتقدنا رضاك عنا، والأمر لك على أي حال .. وغاية مرامنا أن نعرف السبب.
وعدل الجبلاوي عن إدريس إلى رضوان، مروِّضًا غضبه لغاية في نفسه، فقال: أدهم على دراية بطباع المستأجرين، ويعرف أكثرهم بأسمائهم، ثم إنه على علم بالكتابة والحساب.
وعجب إدريس من قول أبيه كما عجب إخوته. متى كانت معرفة الأوشاب ميزة يفضل من أجلها إنسان؟! ودخول الكُتَّاب، أهو ميزةٌ أخرى؟! وهل كانت أمُّ أدهم تدفع به إلى الكتَّاب لولا يأسها من فلاحه في دنيا الفتونة؟! وتساءل إدريس متهكمًا: أتكفي هذه الأسباب لتبرير ما يراد بي من مذلة؟
فأشار الجبلاوي نحوه بضجر وقال: هذه إرادتي، وما عليك إلا السمع والطاعة!
والتفت الرجل التفاتةً حادة صوب أشقاء إدريس وهو يسأل: ما قولكم؟
فلم يحتمل عباس نظرة أبيه، وقال وهو واجم: سمعًا وطاعة.
وسرعان ما قال جليل وهو يغضُّ طرفه: أمرك يا أبي.
وقال رضوان وهو يزدرد ريقه الجاف: على العين والرأس.
عند ذاك ضحك إدريس ضحكة غضب تقلصت لها أساريره حتى قبَّحت وجهه وهتف: يا جبناء، ما توقعت منكم إلا الهزيمة المزرية. وبالجبن يتحكم فيكم ابن الجارية السوداء!
فصاح الجبلاوي مُقطِّبًا عن عينَين تتطاير منهما النذر: إدريس!
ولكن الغضب كان قد اقتلع جذور عقله فصاح بدوره: ما أهون الأبوة عليك! خلقت فتوةً جبارًا فلم تعرف إلا أن تكون فتوةً جبارًا، ونحن أبناءك تعاملنا كما تعامل ضحاياك العديدين!
اقترب الجبلاوي خطوتَين في بطء كالتوثب، وقال بصوتٍ منخفض وقد أنذرت أساريره المنقبضة بالشر: اقطع لسانك!
ولكن إدريس واصل صياحه قائلًا: لن ترعبني. أنت تعلم أنني لا أرتعب، وأنك إذا أردت أن ترفع ابن الجارية عليَّ فلن أُسمِعك لحن السمع والطاعة.
– ألا تدرك عاقبة التحدي يا ملعون؟
– الملعون حقًّا ابن الجارية!
فعَلت نبرات الرجل واخشوشنت وهو يقول: إنها زوجتي يا عربيد، فتأدَّب وإلا سويت بك الأرض!
وفزع الإخوة وأولهم أدهم؛ لدرايتهم ببطش أبيهم الجبار، ولكن إدريس كان قد بلغ من الغضب درجة لم يعد يدرك معها خطرًا كأنه مجنون يهاجم نارًا مندلعة، فصاح: إنك تبغضني، لم أكن أعلم هذا، ولكنك تبغضني دون ريب، لعل الجارية هي التي بغَّضتنا إليك، سيد الخلاء وصاحب الأوقاف والفتوة الرهيب، ولكن جاريةً استطاعت أن تعبث بك، وغدًا يتحدث عنك الناس بكل عجيبة يا سيد الخلاء.
– قلت لك اقطع لسانك يا ملعون.
– لا تسبَّني من أجل أدهم، طوب الأرض يأبى ذلك ويلعنه، وقرارك الغريب سيجعلنا أحدوثة الأحياء والحواري!
فصاح الجبلاوي بصوتٍ صكَّ الأسماع في الحديقة والحريم: اغرب بعيدًا عن وجهي!
– هذا بيتي، فيه أمي، وهي سيدته دون منازع.
– لن تُرى فيه بعد اليوم، وإلى الأبد …
واكفهرَّ الوجه الكبير حتى حاكى لونه النيل في احتدام فيضانه، وتحرك صاحبه كالبنيان، مكوِّرًا قبضة من صوان، وأيقن الجميع أن إدريس قد انتهى، ما هو إلا مأساةٌ جديدة من المآسي التي يشهدها هذا البيت صامتًا. كم من سيدةٍ مصونة تحوَّلت بكلمة إلى متسولةٍ تعيسة! وكم من رجل غادره بعد خدمةٍ طويلة مترنحًا يحمل على ظهره العاري آثار سياط حملت أطرافها بالرصاص والدم يطفح من فيه وأنفه. والرعاية التي تحوط الجميع عند الرضا لا تشفع لأحد وإن عزَّ جانبه عند الغضب. لهذا أيقن الجميع أن إدريس قد انتهى. حتى إدريس بكري الواقف ومثيله في القوة والجمال قد انتهى. وتقدم الجبلاوي خطوتَين أخريَين وهو يقول: لا أنت ابني ولا أنا أبوك، ولا هذا البيت بيتك، ولا أم لك فيه ولا أخ ولا تابع، أمامك الأرض الواسعة فاذهب مصحوبًا بغضبي ولعنتي، وستعلمك الأيام حقيقة قدرك وأنت تهيم على وجهك محرومًا من عطفي ورعايتي!
فضرب إدريس البساط الفارسي بقدمه وصاح: هذا بيتي، ولن أغادره!
فانقضَّ عليه الأب قبل أن يتَّقيه، وقبض على منكبه بقبضة كالمعصرة، ودفعه أمامه والآخر يتراجع متقهقرًا، فعبرا باب السلاملك، وهبطا السلم وإدريس يتعثر، ثم اخترق به ممرًّا تكتنفه شجيرات الورد والحناء مفروشًا بالياسمين حتى البوابة الكبيرة فدفعه خارجًا وأغلق الباب. وصاح بصوتٍ سمعه كل من يقيم في البيت: الهلاك لمن يسمح له بالعودة أو يعينه عليها!
ورفع رأسه صوب نوافذ الحريم المغلقة وصاح مرةً أخرى: وطالقة ثلاثًا من تجترئ على هذا!
٢
منذ ذلك اليوم الكئيب وأدهم يذهب كل صباح إلى إدارة الوقف في المنظرة الواقعة إلى يمين باب البيت الكبير. وعمل بهمة في تحصيل أجور الأحكار وتوزيع أنصبة المستحقين وتقديم الحساب إلى أبيه. وأبدى في معاملة المستأجرين لباقة وسياسة، فرضوا عنه على رغم ما عُرِف عنهم من مشاكسة وفظاظة، وكانت شروط الواقف سرًّا لا يدري به أحد سوى الأب، فبعث اختيار أدهم للإدارة الخوف أن يكون هذا مقدمة لإيثاره في الوصية. والحق أنه لم يبدُ من الأب قبل ذلك اليوم ما ينمُّ عن التحيُّز في معاملته لأبنائه. وعاش الإخوة في وئام وانسجام بفضل مهابة الأب وعدالته، حتى إدريس — على قوَّته وجماله وإسرافه أحيانًا في اللهو — لم يسئ قبل ذلك اليوم إلى أحد من إخوته. كان شابًّا كريمًا حلو المعشر حائزًا الود والإعجاب. ولعل الأشقاء الأربعة كانوا يضمرون لأدهم شيئًا من الإحساس بالفارق بينهم وبينه، ولكن أحدًا منهم لم يعلن هذا ولا اشتُمَّ منه في كلمة أو إشارة أو سلوك. ولعل أدهم كان أشد إحساسًا منهم بهذا الفارق، ولعله قارن كثيرًا بين لونهم المضيء ولونه الأسمر، بين قوَّتهم ورقَّته، بين سمو أمهم ووضاعة أمه، ولعله عانى من ذلك أسًى مكتومًا وألمًا دفينًا، ولكن جو البيت المعبَّق بشذا الرياحين، الخاضع لقوة الأب وحكمته، لم يسمح لشعورٍ سيئ بالاستقرار في نفسه، فنشأ صافي القلب والعقل.
وقال أدهم لأمه قُبيل ذهابه إلى إدارة الوقف: باركيني يا أمي، فما هذا العمل الذي عُهد به إليَّ إلا امتحانٌ شديد لي ولكِ.
فقالت الأم بضراعة: ليكن التوفيق ظلك يا بنيَّ، أنت ولدٌ طيِّب والعقبى للطيبين.
ومضى أدهم إلى المنظرة ترمقه العيون من السلاملك والحديقة ومن وراء النوافذ، وجلس على مقعد ناظر الوقف وبدأ عمله. وكان عمله أخطر نشاطٍ إنساني يُزاوَل في تلك البقعة الصحراوية ما بين المقطم شرقًا والقاهرة القديمة غربًا. واتخذ أدهم من الأمانة شعارًا، وسجل كل مليم في الدفتر لأول مرة في تاريخ الوقف. وكان يُسلِّم إخوته رواتبهم في أدب يُنسيهم مرارة الحنق، ثم يقصد أباه بحصيلة الأموال. وسأله أبوه يومًا: كيف تجد العمل يا أدهم؟
فقال أدهم بخشوع: ما دمتَ قد عهدتَ به إليَّ فهو أعظم ما في حياتي.
فشاعت في الوجه العظيم البشاشة؛ إذ إنه على جبروته كان يستخفه طرب الثناء. وكان أدهم يحب مجلسه، وإذا جلس إليه اختلس منه نظرات الإعجاب والحب. وكم كان يسعده أن يتابع أحاديثه وهو يروي — له ولإخوته — حكايات الزمان الأول، ومغامرات الفتوة والشباب، إذ هو ينطلق في تلك البقاع ملوِّحًا بنبُّوته المخيف غازيًا كل موضع تطؤه قدماه. وبعد طرد إدريس ظل عباس ورضوان وجليل على عادتهم من الاجتماع فوق سطح البيت، يأكلون ويشربون ويقامرون. أما أدهم فلم يكن يطيب له الجلوس إلا في الحديقة؛ كان عاشقًا للحديقة منذ درج، وكان عاشقًا للناي. ولازمته تلك العادة بعد اضطلاعه بشئون الوقف وإن لم تعد تستأثر بجُلِّ وقته. فكان إذا فرغ من عمله في الوقف افترش سجادة على حافة جدول، وأسند ظهره إلى جذع نخلة أو جميزة، أو استلقى تحت عريشة الياسمين، وراح يرنو إلى العصافير، وما أكثر العصافير! أو يتابع اليمام، وما أحلى اليمام! ثم ينفخ في الناي محاكيًا الزقزقة والهديل والتغريد، وما أبدع المحاكاة! أو يمد الطرف نحو السماء خلال الغصون، وما أجمل السماء! ومرَّ به أخوه رضوان وهو على تلك الحال فرمقه بنظرةٍ ساخرة وقال: ما أضيع الوقت الذي تنفقه في إدارة الوقف!
فقال أدهم باسمًا: لولا إشفاقي من إغضاب أبي لشكوت.
– فلنحمد نحن المولى على الفراغ!
فقال أدهم ببساطة: هنيئًا لكم.
فسأله رضوان وهو يداري الامتعاض بالابتسام: أتودُّ أن تعود مثلنا؟
– خير ما تمضي الحياة في الحديقة والناي!
فقال رضوان بمرارة: كان إدريس يود أن يعمل …
فغضَّ أدهم بصره وهو يقول: لم يكن عند إدريس وقت للعمل، ولاعتباراتٍ أخرى غضب، أما السعادة الحقة ففي هذه الحديقة تجدها.
ولما ذهب رضوان قال أدهم لنفسه: «الحديقة، وسكانها المغردون، والماء، والسماء، ونفسي النشوى، هذه هي الحياة الحقة. كأنني أَجِدُّ في البحث عن شيء. ما هذا الشيء؟ الناي أحيانًا يكاد يجيب. ولكن السؤال يظل بلا جواب. لو تكلمتْ هذه العصفورة بلغتي لشفت قلبي باليقين. وللنجوم الزاهرة حديث كذلك. أما تحصيل الإيجار فنشاز بين الأنغام.»
ووقف أدهم يومًا ينظر إلى ظله الملقى على الممشى بين الورود، فإذا بظلٍّ جديد يمتد من ظله واشيًا بقدوم شخص من المنعطف خلفه. بدا الظل الجديد كأنما يخرج من موضع ضلوعه. والتفت وراءه فرأى فتاةً سمراء وهي تهمُّ بالتراجع عندما اكتشفت وجوده، فأشار إليها بالوقوف فوقفت، وتفحصها مليًّا، ثم سألها برقَّة: مَن أنتِ؟
فأجابت بصوتٍ ملعثم: أميمة.
إنه يذكر الاسم، فهو لجارية قريبة لأمه، وكما كانت أمه قبل أن يتزوج منها أبوه.
ومال إلى محادثتها أكثر، فسألها: ماذا جاء بك إلى الحديقة؟
فأجابت مسبلة الجفنَين: حسبتها خالية …
– لكن ذلك محرم عليكن!
فقالت بصوت لم يكد يُسمع: أخطأت يا سيدي …
وتراجعت حتى توارت وراء المنعطف، ثم ترامى إلى أذنَيه وقع أقدامها المسرعة، وإذا به يغمغم متأثرًا: «ما أملحكِ!» وشعر بأنه لم يكن قط أدخل في خلائق الحديقة منه في هذه اللحظة، وإن الورد والياسمين والقرنفل والعصافير واليمام ونفسه نغمةٌ واحدة. وقال لنفسه: «أميمة مليحة، حتى شفتاها الغليظتان مليحتان، وجميع إخوتي متزوجون عدا إدريس المتكبر، وما أشبه لونها بلوني! وما أجمل منظر ظلها وهو مفروش في ظلي كأنه جزء من جسدي المضطرب بالرغبات! ولن يسخر أبي من اختياري، وإلا فكيف جاز له أن يتزوج من أمي؟!»
٣
رجع أدهم إلى إدارة الوَقْف بقلبٍ مفعَمٍ بجمالٍ غامض كالعبير. وحاول كثيرًا أن يراجع حساب اليوم، ولكنه لم يرَ في صفحة عقله إلا السمراء. ولم يكن عجيبًا أن يرى أميمة اليوم لأول مرة، فالحريم في هذا البيت كالأعضاء الباطنية يعرفها صاحبها على نحو ويعيش بفضلها ولكنه لا يراها، واستسلم أدهم إلى تيار أفكاره الوردية حتى انتزع منه على صوتٍ مُرعدٍ قريب كأنما انفجر في المنظرة نفسها وهو يصيح: «أنا هنا، في الخلاء يا جبلاوي، ألعن الكل، اللعنة على رءوسكم نساءً ورجالًا، وأتحدى مَن لم تعجبه كلماتي، سامعني يا جبلاوي؟!» وهتف أدهم: «إدريس!» وغادر المنظرة إلى الحديقة فرأى أخاه رضوان متجهًا نحوه في اضطراب ظاهر، وبادره قائلًا: إدريس سكران، رأيته من النافذة مختلَّ التوازن من السُّكْر، أي فضائح تخبئ الأقدار لأسرتنا؟
فقال أدهم وهو يغضي ألمًا: قلبي يتقطع أسفًا يا أخي!
– وما العمل؟! إن كارثة تتهدَّدنا!
– ألا ترى يا أخي أنه يجب علينا أن نحدث أبانا في الأمر؟
فقطَّب رضوان قائلًا: أبوك لا يراجَع في أمر، وحال إدريس هذه لا شك ضاعفت من غضبه عليه …
فغمغم أدهم في كآبة: ما كان أغنانا عن هذه الأحزان!
– نعم، النساء يبكين في الحريم، عباس وجليل معتكفان من الكدر، وأبونا وحده في حجرته لا يجرؤ أحد على الاقتراب منه …
فتساءل أدهم في قلق وهو يشعر بأن ملابسات الحديث تدفعه إلى مأزق: ألا ترى أنه ينبغي أن نعمل شيئًا؟
– يبدو أن كل واحد منا يود أن يلوذ بالسلامة، ولا يهدد السلامةَ مثل طلبها بأي ثمن، غير أني لن أجازف بمركزي ولو انطبقت السماء على الأرض، أما كرامة أسرتنا فتتمرغ الساعة في التراب في ثوب إدريس!
لماذا قصدتني إذن؟! بين يوم وليلة انقلب أدهم غراب بَيْن ينعق! وتنهَّد قائلًا: إني بريء من كل هذا، ولكن لن تطيب لي الحياة إن سكتُّ .. فقال رضوان وهو يهم بالذهاب: لديك من الأسباب ما يوجب عليك العمل!
ومضى راجعًا. ولبث أدهم وحده وأذناه تردِّدان هذه العبارة: «لديك من الأسباب …» نعم. إنه المتهم دون ذنب جناه، كالقُلة التي تسقط على رأس؛ لأن الريح أطاحت بها. وكلما أسف أحد على إدريس لُعِن أدهم. واتجه أدهم نحو الباب ففتحه في رفق ومرق منه، رأى إدريس غير بعيدٍ يترنح دائرًا حول نفسه، يقلب عينَين زائغتَين، وقد تشعَّث رأسه وانحسر جيب جلبابه عن شعر صدره. ولما عثرت عيناه على أدهم توثب للانقضاض كأنه قطة لمحت فأرًا، ولكن أعجزه السُّكْر فمال نحو الأرض وملأ قبضته ترابًا ورمى به أدهم، فأصاب صدره وانتثر على عباءته. وناداه أدهم برقَّة: أخي …
فزمجر إدريس وهو يترنح: اخرس يا كلب يا ابن الكلب، لا أنت أخي ولا أبوك أبي، ولأدكَّنَّ هذا البيت فوق رءوسكم!
فقال أدهم متوددًا: بل أنت أكرم هذا البيت وأنبله …
فقهقه إدريس من فِيهِ دون قلبه وصاح: لماذا جئت يا ابن الجارية؟ عُد إلى أمك وأنزلها إلى بدروم الخدم!
فقال أدهم دون أن تتغير مودته: لا تستسلم للغضب، ولا توصد الأبواب في وجه الساعين لخيرك.
فلوَّح إدريس بيده ثائرًا وصاح: ملعون البيت الذي لا يطمئن فيه إلا الجبناء، الذين يغمسون اللقمة في ذل الخنوع، ويعبدون مُذلَّهم. لن أعود إلى بيت أنت فيه رئيس، فقل لأبيك إنني أعيش في الخلاء الذي جاء منه، وإنني عدت قاطع طريق كما كان، وعربيدًا أثيمًا عاتيًا كما يكون، وسيشيرون إليَّ في كل مكان أعيث فيه فسادًا ويقولون: «ابن الجبلاوي!» بذلك أمرغكم في التراب يا مَن تظنون أنفسكم سادة وأنتم لصوص!
وتوسل أدهم قائلًا: أخي أفق، حاسب نفسك على كل كلمة توجب اللوم، ليس الطريق مسدودًا في وجهك إلا أن تسده بيدَيك، وإني أعدك بأن يعود كل شيءٍ طيب إلى أصله.
فخطا إدريس نحوه خطوة بصعوبة كأن ريحًا ترجعه وقال: بأي قوة تعدني يا ابن الجارية؟
فقال وهو يرمقه بحذر: بقوة الأخوة.
– الأخوة؟! قذفت بها في أول مرحاض صادفني …
فقال أدهم متألمًا: ما سمعت منك من قبلُ إلا الجميل …
– طغيان أبيك أنطقني بالحق!
– لا أحب أن يراك الناس على هذه الحال.
فأرسل إدريس ضحكةً معربدة وصاح: وسيرونني على أسوأ منها كل يوم، العار والفضيحة والجريمة ستحلُّ بكم على يدي، طردني أبوك دون حياءٍ فليتحمل العواقب!
ورمى بنفسه نحو أدهم فتنحَّى هذا عن موقفه دون تردد، فكاد إدريس يهوي على الأرض لولا أن استند إلى الجدار، ولبث يلهث حانقًا، وينظر في الأرض مُفتشًا عن حجر، فتراجع أدهم بخفة إلى الباب ودخل، واغرورقت عيناه من الحزن. وكان صياح إدريس ما زال صاخبًا. وحانت منه التفاتة نحو السلاملك فلمح أباه خلال الباب وهو يعبر البهو، فمضى نحوه وهو لا يدري، متغلبًا على خوفه بحزنه. ونظر إليه الجبلاوي بعينَين لا تُفصِحان عن شيءٍ، وكان يقف بقامته المديدة ومنكبَيه العريضَين أمام صورة محراب نقشت على جدار البهو خلفه. وأحنى أدهم رأسه قائلًا: السلام عليكم.
فتفحَّصه الجبلاوي بنظرةٍ عميقة، ثم قال بصوت نفذ إلى أعماق قلبه: صرِّح بما جئت من أجله …
فقال أدهم بصوتٍ مهموس: أبي، إن أخي إدريس …
فقاطعه الأب بصوت كضربة الفأس في الحجر: لا تذكر اسمه أمامي …
ثم وهو يمضي إلى الداخل: اذهب إلى عملك!
٤
توالى مشرق الشمس ومغيبها على هذه البقعة الخلاء، وإدريس يتردى في مهاوي الشقاوة. في كل يوم يسجل في كتابه حماقةً جديدة. كان يدور حول البيت ليقذفه بأقذع الشتائم. أو يجلس على كثب من الباب، عاريًا كما ولدته أمه كأنما يتشمَّس، وهو يترنم بأفحش الأغاني، وكان يتجول في الأحياء القريبة في خيلاء الفتوات، يتحدى كل عابر بنظراتٍ هجومية، ويتحرَّش بكلِّ مَن يعترض سبيله، والناس يتحاشونه كاظمين، وهم يتهامسون: «ابن الجبلاوي!» ولم يحمل لغذائه همًّا، فكان يمد يده بكل بساطة إلى الطعام حيث وجده، في مطعم أو على عربة، فيأكل حتى يكتظ ثم يمضي دون شكر من ناحيته أو محاسبة من الآخرين. وإذا تاقت نفسه إلى العربدة مال إلى أول حانة تصادفه، فتُقدَّم إليه البوظة حتى يَسكر، ثم ينطلق لسانه كالنافورة بأسرار أسرته وأعاجيبها، وتقاليدها السخيفة وجبنها المهين، منوهًا بثورته على أبيه، جبار هذه الأحياء جميعًا، ثم يدخل في قافية ليغرق في الضحك، ويغني إذا لزم الحال ويرقص، وتتناهى مسرته إذا ختمت السهرة بمعركة، ثم يذهب مشيَّعًا بالتحيات.
وفي كل مكان اشتهر بهذه السيرة، فتحاماه الناس ما استطاعوا، ولكنهم سلموا بأمره كأنه مصيبة من مصائب الدهر. ونال الأسرة من ذلك ما نالها من الغم والكرب. وغلب الحزن أمَّ إدريس فشُلَّت واحتُضرت. وجاء الجبلاوي ليودعها فأشارت نحوه بيدها السليمة محتجَّة وفاضت روحها في أسًى وغضب. وخيم الحزن على الأسرة كخيوط العنكبوت، فتوقف سمر الإخوة فوق السطح، وسكت ناي أدهم في الحديقة.
ويومًا تفجر الأب عن ثورةٍ جديدة كانت ضحيته تلك المرة امرأة؛ إذ تعالى صوته الجهير وهو يلعن نرجس الخادمة ويطردها من البيت. وعُلم في نفس اليوم أن أعراض الحمل ظهرت على المرأة، فقُررت حتى أقرت بأن إدريس اعتدى عليها قبل طرده. وغادرت نرجس البيت وهي تُصوِّت وتلطم خدَّيها، وهامت على وجهها سحابة النهار حتى عثر عليها إدريس فألحقها بركابه دون ترحيب، ودون جفاء كذلك؛ إذ لم تكن تخلو من نفع عند الحاجة.
على أن كل مصيبة وإن جلَّت لا بد يومًا أن تُؤلف؛ لذلك أخذت الحياة تعود إلى مجراها المألوف في البيت الكبير كما يعود السكان إلى ديارهم عقب زلزال أكرههم على الفرار منها. عاد رضوان وعباس وجليل إلى ندوة السطح، كما عاد أدهم إلى سهرة الحديقة يناجي الناي فيناجيه. ووجد أميمة تضيء خواطره وتدفئ مشاعره، وصورة ظلها المعانق لظله ترتسم بوضوح في مخيلته، فقصد مجلس أمه في حجرتها حيث كانت تطرز شالًا، فأفضى إليها بذات نفسه، إلى أن قال: إنها أميمة يا أمي، قريبتك …
فابتسمت أمه ابتسامةً باهتة دلَّت على أن فرحة الخبر لم تستطع التغلب على عناء مرضها وقالت: نعم يا أدهم، إنها فتاةٌ طيبة، تصلح لك كما تصلح لها، وستسعدك بمشيئة المولى.
ولما رأت تورُّد البهجة في وجنتَيه استدركت قائلة: لا ينبغي أن تدلِّلها يا بني حتى لا تفسد حياتك، وسأخاطب أباك في الأمر لعلِّي أنعم برؤية ذريتك قبل أن يدركني الموت.
وعندما دعاه الجبلاوي إلى مقابلته وجده يبتسم ابتسامةً لطيفة حتى قال لنفسه: «لا شيء يعادل شدة أبي إلا رحمته.» وقال الأب: ها أنت ذا تطلب زوجة يا أدهم، ما أسرع الزمن! وهذا البيت يحتقر المساكين، ولكنك باختيار أميمة تكرم أمك، لعلك تنجب ذريةً صالحة. لقد ضاع إدريس، وعباس وجليل عقيمان، ورضوان لم يعش له ولد حتى اليوم، وجميعهم لم يرثوا عني إلا كبريائي، فاملأ هذا البيت بذريتك، وإلا ذهب عمري هباء.
وكانت زفة أدهم التي لم يشهد لها الحي نظيرًا من قبلُ. وحتى اليوم يجري ذكرها مجرى الأمثال في حارتنا. تدلَّت ليلتذاك الكلوبَّات من غصون الأشجار ومن فوق السور حتى بدا البيت بحيرة من نور وسط الخلاء المظلم، وأقيم سرادق فوق السطح للمغنِّين والمغنيات، وامتدت موائد الطعام والشراب في البهو والحديقة والخلاء المتصل بمدخل البيت الكبير. وبدأت زفة أدهم من أقصى الجمالية عقب منتصف الليل، سار فيها كل من يحب الجبلاوي أو يخافه حتى انتظمت الجميع. وخطر أدهم في جلبابٍ حريري ولاسةٍ مزركشة بين عباس وجليل، أما رضوان فسار في المقدمة، وعلى اليمين وعلى اليسار حاملو الشموع والورود، وتقدَّم الموكبَ مجموعةٌ ضخمة من المنشدين والراقصين، وتعالى الغناء، وتبعته تأوُّهات المطربين وتحيات المعجبين بالجبلاوي وأدهم، حتى استيقظ الحي ودوَّت الزغاريد. وسار الموكب من الجمالية فالعطوف ثم كفر الزغاري والمبيضة، ينهال عليه الترحيب حتى من الفتوات، وحطَّب من حطَّب، ورقص من رقص، ووزعت الحانات البوظة مجانًا فسكر حتى الغلمان، وتهادت الجوزة من جميع الغرز في طريق الموكب هدية للمحتفلين فعبق الجو بحَسن كيف والهندي.
وفجأة لاح إدريس كمارد انشقت عنه الظلمة في آخر الطريق. لاح عند المنعطف المفضي إلى الخلاء على ضوء الكلوبَّات التي تتقدم الموكب، فتوقف حاملو الكلوبات عن السير وانتشر التهامس باسم إدريس. ولمحته أعين المنشدين فاعترض الخوف حناجرهم فكفَّت عن الغناء، ورآه الراقصون فجمدت أوساطهم. وسرعان ما سكتت المزامير وخرست الطبول، وغاضت الضحكات. وتساءل كثيرون عما يفعلون، فهم إن استكانوا لم يأمنوا الأذى وإن ضربوا لم يضربوا إلا ابن الجبلاوي. ولوَّح إدريس بنبُّوته وهو يصيح: لمَن الزفة يا حثالة الجبناء؟
فساد الصمت واشرأبت الأعناق نحو أدهم وإخوته، وعاد إدريس يتساءل: متى كنتم لابن الجارية أو لأبيه أصدقاء؟
عند ذاك تقدم رضوان خطوات وهتف قائلًا: أخي، من الحكمة أن تدع الزفة تمرُّ …
فصاح إدريس مقطبًا: أنت آخر مَنْ يتكلم يا رضوان، أنت أخٌ خائن وابنٌ جبان، وذليل يشتري رغد العيش بالكرامة والأخوة!
فقال رضوان بإشفاق: لا شأن للناس باختلافاتنا.
فقهقه إدريس قائلًا: الناس يعلمون بخزيكم، ولولا جبنهم العريق ما وجدتْ هذه الزفة زامرًا أو منشدًا!
فقال رضوان بعزمٍ ثابت: أبوك عهد إلينا بأخيك، ولا بد أن نحفظه!
فعاد إدريس يقهقه وهو يتساءل: أرأيت أنك تدافع عن نفسك لا عن ابن الجارية؟
– أين رشادك يا أخي؟ بالحكمة وحدها تعود إلى بيتك.
– إنك كاذب، وأنت تعلم أنك كاذب …
فقال رضوان في حزن: لن ألومك فيما يخصني، ولكن دع الزفة تمر بسلام …
فكان جوابه أن انقضَّ على الموكب كالثور الهائج. وأخذ نبُّوته يرتفع ويهوي فتتحطم الكلوبات وتتصدع الطبول وتتبعثر الورود؛ وراح الناس يولون مذعورين كالرمال أمام العاصفة. وتكاتف رضوان وعباس وجليل أمام أدهم فتضاعف غضب إدريس: يا أنذال، تدافعون عمن تكرهون خوفًا على الطعام والشراب!
وهجم عليهم، فتلقَّوا ضرباته بنبابيتهم دون أن يردوا عليها وهم يتراجعون. وإذا به يرمي بنفسه فجأة بينهم فيشق سبيلًا إلى موقف أدهم، فعلا الصوات في النوافذ، وهتف أدهم وهو يتحفز للدفاع عن نفسه: إدريس، لستُ عدوًّا لك فارجع إلى عقلك!
ورفع إدريس نبوته. وهنا صاح صائح: «الجبلاوي!» وصاح رضوان مخاطبًا إدريس: أبوك قادم …
فوثب إدريس إلى جانب الطريق والتفت إلى الوراء فرأى الجبلاوي قادمًا وسط هالة من الخدم يحملون المشاعل. وعضَّ إدريس على أسنانه ثم هتف ساخرًا: سأهبك عما قريب حفيدًا من الزنى تقرُّ به عينك.
واندفع نحو الجمالية والناس توسع له على الجانبَين حتى ابتلعته الظلمة. وبلغ الأب موقف الإخوة وهو يتظاهر بهدوء تحت آلاف الأعين المحدقة فيه، ثم قال بلهجةٍ آمرة: ليعدْ كل شيء إلى أصله!
ورجع حَمَلة الكلوبات إلى مواقعهم، ودقَّت الطبول، وعزفت المزامير، ثم غنى المنشدون، ورقص الراقصون، واستأنفت الزفة مسيرها …
وسهر البيت الكبير حتى الصباح في طرب وشراب وغناء. وعندما دخل أدهم حجرته المطلة على خلاء المقطم وجد أميمة واقفة إلى جانب المرآة، والنقاب الأبيض لا يزال يغطي وجهها. كان مخمورًا مسطولًا لا تكاد قدماه تحملانه، فاقترب منها وهو يبذل جهدًا شديدًا ليتمالك أعصابه، ورفع النقاب عن وجهها الذي طالعه في أحسن رواء، وهوى برأسه حتى لثم شفتَيها المكتنزتَين، ثم قال بلسان مخمور: لتهن الهموم جميعًا ما دمتِ حسن الختام …
واتجه نحو الفراش، يستقيم خطوة ويترنح خطوة، حتى استلقى على عرض السرير باللاسة والمركوب، وكانت أميمة تنظر إلى صورته المنعكسة على المرآة وهي تبتسم في إشفاقٍ وحنان …
٥
وجد أدهم في أميمة سعادة لم يعرفها من قبلُ. ولبساطته أعلن عن سعادته بأقواله وأحواله حتى تندر به إخوته. وعند ختام كل صلاة كان يبسط يدَيه هاتفًا: «الحمد لصاحب المنن؛ على رضا أبي الحمد له، على حب زوجتي الحمد له، على المنزلة التي أحظى بها دون مَن هم أجدر مني بها الحمد له، على الحديقة الغناء والناي الرفيق الحمد له.» وقالت كل امرأة من نساء البيت الكبير: إن أميمة زوجةٌ واعية، فهي ترعى زوجها كأنه ابنها، وتتودَّد حماتها وتخدمها حتى أسَرَتْها، وتولي مسكنها العناية التامة كأنه قطعة من جسدها .. أما أدهم فكان زوجًا مترع القلب بالمحبة وحسن المعاشرة. وكما شغلته إدارة الوقف عن جزء من ملاهيه البريئة في الحديقة من قبلُ، فقد شغل الحبُّ بقية يومه، واستبدَّ به حتى نسي نفسه.
وتوالت أيامٌ هانئة، وامتدت فوق ما قدر رضوان وعباس وجليل الساخرون، ولكنها ارتطمت في النهاية بذاك الهدوء الحكيم كما تنتهي مياه الشلال المتدفقة الراغية المزبدة في النهر الرصين. وعاد التساؤل يحتل مكانه في قلب أدهم، فشعر بأن الزمن لا يمر في غمضة عين، وأن النهار يعقبه الليل، وأن المناجاة إذا تواصلت إلى غير نهاية فقدت كل معنًى، وأن الحديقة ملهاةٌ صادقة لا يجدر به أن يهجرها، وأن شيئًا من هذا لا يعني بحال أن قلبه تحوَّل عن أميمة، فلا تزال في صميمه، ولكن للحياة أطوارًا لا يخبرها المرء إلا يومًا بيوم. وعاد إلى مجلسه عند القناة، وأجال بصره في الأزهار والعصافير ممتنًّا ومعتذرًا. وإذا بأميمة تلحق به مشرقة بالبهجة، فجلست إلى جانبه وهي تقول: نظرت من النافذة لأرى ما أخَّرك، لماذا لم تدعُني معك؟
فقال باسمًا: خفت أن أتعبك.
– تتعبني؟ طالما أحببت هذه الحديقة، أتذكر أول لقاء لنا هنا؟
وأخذ يدها في يده، وأسند رأسه إلى جذع النخلة مرسلًا طرفه إلى الغصون، وإلى السماء خلال الغصون، وعادت هي تؤكد له حبها للحديقة، وكلما أمعن في الصمت أمعنت في التوكيد؛ إذ إنها كانت تكره الصمت بقدر ما تحب الحديقة، وكان حديث حياتها أطيب حديث. ولا بأس بالوقوف بعض الوقت عند أهم الأحداث في البيت الكبير، وبخاصة ما يتعلق بزوجات رضوان وعباس وجليل، ثم تغير صوتها مائلًا نحو العتاب وهي تقول: أنت تغيب عني يا أدهم …!
فابتسم إليها قائلًا: كيف وأنت ملء القلب؟!
– ولكنك لا تصغي إليَّ …!
هذا حق. ومع أنه لم يرحب بمقدمها فإنه لم يضق به. ولو همت بالرجوع لأمسك بها صادقًا. والحق أنه يشعر بأنها جزء لا يتجزأ منه. وقال كالمعتذر: إني أحب هذه الحديقة، لم يكن في حياتي الماضية أطيب من جلستها، وتكاد أشجارها الباسقة ومياهها المفضَّضة وعصافيرها المزقزِقة تعرفني كما أعرفها، وأودُّ أن تقاسميني حبها. أرأيتِ إلى السماء كيف تبدو خلال الغصون؟
فرفعت عينَيها مقدار لحظة ثم نظرت إليه باسمة وقالت: إنها جميلة حقًّا، وجديرة بأن تكون أطيب ما في حياتك.
فآنس من قولها العتاب دون إفصاح، وبادرها قائلًا: بل كانت كذلك قبل أن أعرفكِ …
– والآن؟
فضغط على يدها بحنو قائلًا: لا يتم جمالها إلا بك!
فقالت وهي تحدُّ بصرها نحوه: من حسن الحظ أنها لا تؤاخذك على انصرافك عنها إليَّ …
فضحك أدهم وجذبها نحوه حتى التصق خدها بشفتيه، ثم سألها: أليست هذه الأزهار أجدر بالتفاتنا من الكلام عن زوجات إخوتي؟!
فقالت أميمة باهتمام: الأزهار أجمل، ولكن زوجات إخوتك لا يكففن عن الحديث عنك .. إدارة الوَقْف، دائمًا إدارة الوقف، وثقة أبيك فيك، يُبدئن ويُعدن في هذا …
وقطَّب أدهم غائبًا عن الحديقة، وقال بحدة: لا شيء ينقصهن!
– الحق أني أخاف عليك العين!
فهتف أدهم غاضبًا: لعنة الله على الوقف، أرهقني وغيَّر القلوب عليَّ وسلبني راحة البال، فليذهب في داهية!
فوضعت أصبعها على شفتَيه وهي تقول: لا تكفر بالنعمة يا أدهم، إن إدارة الوقف شأنٌ خطير، وقد تجر وراءها نفعًا لا يخطر بالبال …
– جرَّت حتى الآن المتاعب .. وحسبنا مأساة إدريس!
فابتسمت، لكن ابتسامتها لم تنم عن بهجة وإنما دارت بها اهتمامًا جديًّا تجلى في نظرة عينيها، وقالت: انظر إلى مستقبلنا كما تنظر إلى الغصون والسماء والعصافير!
وواظبت أميمة على مشاركته جلسته في الحديقة. ولم تكن تعرف الصمت إلا في النادر. لكنه اعتادها، كما اعتاد الإصغاء بنصف انتباه أو من دون ذلك، وعند الحاجة يتناول الناي لينفخ فيه ما شاء له الطرب. واستطاع أن يقول في رضًا تام إن كل شيء طيِّب. حتى شقاوة إدريس باتت شيئًا مألوفًا. لكن المرض اشتد على أمه. وعانت آلامًا لم تعرفها من قبلُ تقطَّع لها قلبه. وكانت تدعوه إلى جانبها كثيرًا فتسبغ عليه أكرم الدعاء. ومرة قالت له بتوسل حار: «ادعُ ربك دائمًا أن يقيك الشر ويهديك سواء السبيل.» ولم تدعه يذهب. وظلت تراوح بين الأنين وبين مخاطبته وتذكيره بوصيتها حتى فاضت روحها بين يديه. وبكاها أدهم، وبكتها أميمة، وجاء الجبلاوي فنظر في وجهها مليًّا ثم سجاها باحترام وقد تجلَّت في عينيه الحادتَين نظرةٌ كئيبة مليئة بالشجن.
وما كاد أدهم يعود رويدًا إلى مألوف الحياة حتى ارتطم بتغير طارئ على أميمة لم يعرف له علة. بدأ بانقطاعها عن مجلسه في الحديقة، فلم يسرَّ بذلك كما كان يتوهم أحيانًا. وسألها عن سر انقطاعها فاعتلَّت بأعذارٍ شتى كالعمل أو التعب. ولاحظ أنها لم تعد تقبل عليه بالاندفاع المعهود، فإذا أقبل هو عليها لاقته دون عاطفةٍ حقيقية، كأنما تجامله، وكأنما مجاملته عناء. وتساءل عما هنالك! لقد مر بشيءٍ شبيه بهذا، ولكن حبه صمد له وتغلب عليه. وكان بوسعه أن يقسو عليها، وودَّ أحيانًا لو يفعل ذلك ولكن منعه انكسارها وشحوبها ومغالاتها في التأدب معه. أحيانًا تبدو حزينة، وأحيانًا تبدو حائرة، ومرة باغت في عينيها نظرةً نافرة حتى ركبه الغضب والجزع معًا. وقال لنفسه: «فلأصبر عليها قليلًا، إما ينصلح حالها أو فلتذهب في ألف داهية!»
وجلس إلى أبيه في مخدع الرجل ليعرض عليه حساب الشهر الختامي، وتفحصه الأب دون أن يعنى بمتابعته وسأله: ما لك؟
فرفع أدهم رأسه نحوه في دهش وقال: لا شيء يا أبي.
فضيق الرجل عينَيه وتمتم: خبِّرني عن أميمة.
فانخذلت عيناه تحت نظرة أبيه النافذة وقال: بخير، كل شيء طيب.
فقال الجبلاوي بضجر: صارحني بما عندك.
فصمت أدهم مليًّا، وهو يؤمن بأن أباه قادر على معرفة كل شيء، ثم قال معترفًا: تغيرت كثيرًا، وتبدو كالنافرة!
فتجلَّت في عينَي الأب نظرةٌ غريبة وقال: هل وقع بينكما خلاف؟
– أبدًا.
فقال الجبلاوي في ارتياح وهو يبتسم: يا جاهل، ترفَّق بها، لا تقترب منها حتى تدعوك، سوف تكون أبًا عما قريب.
٦
جلس أدهم في إدارة الوقف يستقبل مستأجري الأحكار الجدد، واحدًا بعد آخر، وقد وقفوا طابورًا، أوله أمامه وآخره في نهاية المنظرة الكبيرة. ولما جاء آخر المستأجرين سأله أدهم دون أن يرفع رأسه عن دفتره في عجلة وضجر: اسمك يا معلم؟
فجاءه صوت يقول: إدريس الجبلاوي.
فرفع أدهم رأسه في فزع فرأى أخاه واقفًا أمامه، ثم وقف متوثبًا للدفاع عن نفسه وهو ينظر نحوه بحذر. لكن إدريس بدا في مظهرٍ جديد لا عهد لأحد به. بدا رث الهيئة، هادئًا، متواضعًا، حزين الطرف، مأمون الجانب، كالثوب المنشَّى بعد نقعه في الماء. ومع أن هذا المنظر استلَّ من نفس أدهم كل حنق قديم إلا أنه لم يطمئن إلى السلامة كل الاطمئنان، فقال في تحذيرٍ مشوب بالرجاء: إدريس!
فأحنى إدريس رأسه قائلًا في رقةٍ عجيبة: لا تخف، لست إلا ضيفك في هذا البيت إذا وسعني كرم أخلاقك.
أهذا الكلام اللطيف يصدر عن إدريس حقًّا؟! هل أدَّبَته الآلام؟ الحق إن خشوعه محزن كفجوره. وألا تعد استضافته له تحديًّا للأب؟ لكنه جاء دون دعوة منه. ووجد نفسه يشير إليه بالجلوس على مقعدٍ قريب من مقعده، فجلسا معًا وهما يتبادلان النظر في غرابة حتى قال إدريس: اندسست في جموع المستأجرين؛ لأتمكن من الانفراد بك.
فتساءل أدهم في قلق: ألم يرك أحد؟
– لم يرني أحد من البيت، اطمئن إلى هذا، لم أجئ لأكدر صفوك، ولكني ألجأ إلى لطف أخلاقك.
فغضَّ أدهم عينَيه متأثرًا وقد تصاعد الدم إلى وجهه، فقال إدريس: لعلك تعجب لما غيَّرني، لعلك تتساءل أين ذهب تكبره وصلفه؟ فاعلم أنني قاسيت آلامًا لا يقدر عليها أحد، وعلى رغم هذا كله فإنني لا أقف موقفي هذا من أحد سواك؛ إذ إن مثلي لا ينسى كبرياءه إلا حيال الخلق اللطيف.
فغمغم أدهم قائلًا: خفف الله عنك وعنا، فكم نغص مصيرك حياتي وكدرها!
– كان ينبغي أن أعرف هذا من أول الأمر، ولكن الغضب جنَّني، وفتكت الخمر بكرامتي، ثم أجهزت حياة التشرد والبلطجة على الرمق الأخير من إنسانيتي، أعهدت مثل ذاك السلوك في أخيك الأول؟!
– أبدًا، كنتَ خير أخٍ وأنبل إنسان!
فقال إدريس بصوت المتوجع: حسرة على تلك الأيام، لست اليوم إلا شقيًّا أخبط في الخلاء جارًّا ورائي امرأةً حبلى، أشيَّع في كل مكان باللعنات، وأشتري رزقي بالمنكر والعدوان.
– إنك تمزق قلبي يا أخي.
– معذرة يا أدهم، لكن هذه هي طويتك التي خبرتها منذ قديم، ألم أحملك صغيرًا على يديَّ؟ ألم أشهد صباك ويفاعتك وألمس فيهما نبلك وسجاياك الحميدة؟ لعن الله الغضب حيثما احترق.
– لعنة أبدية يا أخي.
وتنهد إدريس وهو يقول وكأنما يخاطب نفسه: شدَّ ما أسأت إليك، إن ما حاق بي من شر وما سيحيق لهو دون ما أستحق من جزاء.
– خفف الله عنك، أتدري أنني لم أيئس أبدًا من عودتك؟ حتى في إبان غضب أبينا جازفت بمخاطبته في شأنك.
فابتسم إدريس عن أسنان علاها الاصفرار والقذارة وقال: هذا ما حدثتني به نفسي، قلت إن يكن ثمة رجاء في مراجعة أبي فلن يتأتى عن سبيل سواك.
فلمعت عينا أدهم وهو يقول: إني ألمس الهداية في روحك الكريم، ألا ترى أنه قد آن الأوان لكي نخاطب والدنا في الأمر؟
فهزَّ إدريس رأسه الأشعث في يأس وقال: أكبر منك بيوم يعرف أكثر منك بسنة، وأنا أكبرك بعشر سنوات لا بسنةٍ واحدة، فاعلم أن أبانا يغفر كل شيء إلا أن يهينه أحد. لن يعفو عني أبوك بعد ما كان، ولا أمل لي في العودة إلى البيت الكبير.
لا شك فيما قاله إدريس، وهذا ما زاده حرجًا وضيقًا، وتمتم في كآبة: ماذا في وسعي أن أفعل من أجلك؟
فابتسم إدريس مرةً أخرى قائلًا: لا تفكر في مساعداتٍ مالية، فإني واثق من أمانتك كمدير للوقف، واعلم أنك إذا مددت لي يد المعونة فسيكون من حر مالك وهو ما لا أقبله، إنك اليوم زوج وغدًا أب، وأنا لم أجئك مدفوعًا بفقري، ولكني جئت لأعلن لك ندمي عما فرط مني في حقك، ولأسترد مودتك، ثم إن لي رجاء.
فتطلع إليه أدهم باهتمام وتساءل: قل يا أخي ما رجاؤك؟
فأدنى إدريس رأسه من أخيه كأنما يخشى أن تسمعه الجدران وقال: أريد أن أطمئن على مستقبلي بعد أن خسرت حاضري. سأكون أبًا مثلك، فما مصير ذريتي؟
– ستجدني رهن إشارتك في كل ما أستطيع …
فربت إدريس كتف أدهم بامتنان وقال: أريد أن أعرف هل حرمني أبي حقي في الميراث؟
– كيف لي بمعرفة هذا؟! ولكن إن سألتني عن رأيي …
فقاطعه إدريس قلقًا: إني لا أسألك عن رأيك ولكن عن رأي أبيك …
– إنه كما تعلم لا يصارح أحدًا بما يدور في رأسه …
– ولكنه دون شك قد سجله في حجة الوقف!
فهزَّ أدهم رأسه دون أن ينبس، فعاد إدريس يقول: كل شيء في الحجة …
– لا علم لي بها، وأنت تعلم أن أحدًا في بيتنا لا يدرى عنها شيئًا، وعملي في الإدارة يسير تحت إشراف أبي الكامل.
فحدجه إدريس بنظرةٍ حزينة وقال: الحجة في مجلدٍ ضخم، وقد لمحته مرة في صباي وسألت أبي عما فيه — وكنت وقتذاك قرة عينه — فقال لي إنه يضم كل شيء عنا، ولم نعد إلى الحديث عنه، ولم يسمح لي بذلك حين بدا لي أن أسأل عن بعض ما جاء فيه، ولا أشك الآن في أن مصيري قد تقرر فيه.
فقال أدهم وهو يشعر بأنه ينحصر في ركن ضيق: الله أعلم.
– إنه في الخلوة المتصلة بمخدع أبيك، ولا شك في أنك رأيت بابها الصغير في نهاية الجدار الأيسر. وهو بابٌ مغلق دائمًا، لكن مفتاحه مودع في صندوقٍ فضيٍّ صغير في درج الخوان القريب من الفراش، أما المجلد الضخم فعلى ترابيزة في الخلوة الضيقة.
فرفع أدهم حاجبيه الخفيفين في انزعاج وتمتم: ماذا تريد؟
فقال إدريس متنهدًا: إن كان ثمة راحة بال باقية لي في هذه الدنيا فهي رهن بمعرفتي ما سجِّل في الحجة عني.
فقال أدهم في ارتياع: أهون عليَّ أن أسأله عما في الشروط العشرة صراحة!
– لن يجيب، وسيغضب، وربما أساء بك الظن، أو خمن الدافع الحقيقي وراء سؤالك فثار سخطه، وكم أكره أن تخسر ثقة أبيك جزاء إحسانك إليَّ! وهو لا شك لا يريد أن يذيع شروطه العشرة، ولو أراد ذلك لعرفناها جميعًا، فلا سبيل مأمونًا إلى الحجة إلا السبيل الذي وصفته لك، وهو ميسور جدًّا عند الفجر حين يتجول أبوك في الحديقة …
فامتقع وجه أدهم وهو يقول: ما أفظع ما تدعوني إليه يا أخي!
فدارى إدريس خيبته بابتسامةٍ شاحبة وقال: ليس جريمة أن يطلع ابن على ما يخصه في حجة أبيه.
– لكنك تطلب إليَّ سرقة سر يحرص أبونا على صونه!
فتنهد إدريس بصوتٍ مسموع وقال: قلت لنفسي عندما قررت اللجوء إليك: «ما أصعب أن أقنع أدهم بعمل يعتبره مخالفًا لإرادة الأب!» ولكن داعبني أملٌ قوي فقلت: «لعله يقدم إذا لمس مدى حاجتي إلى معونته.» وليس في الأمر جريمة، وسَيَمُر بسلام، وستجد أنك انتشلت روحًا من الجحيم دون أدنى خسارة.
– ليحفظنا المولى من الأخطاء!
– آمين، لكني أتوسل إليك أن تنقذني من العذاب.
نهض أدهم في جزع واضطراب، فنهض إدريس في أثره، وابتسم ابتسامةً دلَّت على تسليمه باليأس، وقال: أزعجتك حقًّا يا أدهم؛ من أمارات تعاستي أنني لا ألقى شخصًا حتى تدركه المتاعب على وجه أو آخر. بات إدريس لعنةً سافرة …
– كم يعذبني عجزي عن مساعدتك، إنه عذاب ما بعده عذاب!
فدنا منه حتى وضع يده على منكبه في رقَّة، ثم لثم جبينه في عطف، وقال: لا يسأل عن تعاستي إلا نفسي، لماذا أحملك فوق ما تطيق؟ دعني أتركك بسلام وليفعل الله ما يشاء!
قال إدريس ذلك ثم ذهب.
٧
دبَّت الحيوية في وجه أميمة لأول مرة منذ عهدٍ غير قصير، فسألت أدهم باهتمام: ألم يحدثك أبوك عن الحجة من قبلُ؟
كان أدهم متربعًا على الكنبة، ينظر من النافذة إلى الخلاء الغارق في الظلمة. فأجابها: لم يحدث أحدًا عنها قط.
– لكن أنت …
– لست إلا أحد أبنائه الكثيرين!
فابتسمت ابتسامةً خفيفة وقالت: لكنه اختارك أنت لتدير الوقف!
فالتفت نحوها قائلًا بحدة: قلت إنه لم يحدث أحدًا عنها قط!
فابتسمت مرةً أخرى كأنما لتلطف حدته، ثم قالت بمكر: لا تشغل بالك، إدريس لا يستحق ذلك، إن إساءاته لك لا تُنسى أبدًا!
فحوَّل أدهم رأسه نحو النافذة، وقال بحزن: إدريس الذي جاءني اليوم غير إدريس الذي أساء إليَّ، إن منظره النادم الحزين لا يبرح مخيلتي!
فقالت بارتياحٍ ظافر: هذا ما أدركته من حديثك، وهو سر اهتمامي بالأمر، ولكنك تبدو ضيق الصدر بخلاف عادتك.
كان ينظر إلى ظلام الليل الكثيف، لكن رأسه المشغول لم يستجب له، فقال: لا فائدة ترجى من الاهتمام!
– لكن أخاك النادم يسألك الرحمة!
– العين بصيرة واليد قصيرة.
– يجب أن تحسن علاقتك به، وبإخوته، وإلا وجدت نفسك يومًا وحيدًا أمامهم.
– إنك تهتمين بنفسك لا بإدريس.
فهزت رأسها كأنما تزيح عنه نقاب المكر وقالت: من حقي أن أهتم بنفسي، ومعنى هذا أن أهتم بك وبما في بطني.
ماذا تريد المرأة؟ وهذا الظلام ما أشد كثافته! حتى المقطم العظيم قد ابتلعه. وأراح نفسه بالصمت. وإذا بها تسأله: ألا تذكر أنك دخلت الخلوة أبدًا؟
فأجاب خارجًا من صمته القصير: أبدًا، أحببت في صباي أن أدخلها فمنعني أبي، ولم تكن أمي تسمح لي بالاقتراب منها.
– لا شك في أنك كنت تتمنى دخولها!
ما حادثها في الأمر إلا وهو ينتظر أن تدفعه عنه لا أن تجذبه إليه. كان بحاجة إلى من يؤكد له صواب موقفه من أخيه. كان بحاجةٍ ماسة إلى ذلك ولكنه كمن كان ينادي في الظلام خفيرًا فيخرج إليه قطَّاع الطريق. وعادت أميمة تسأله: والخوان الذي به الصندوق الفضي هل تعرفه؟
– كل من دخل الحجرة يعرفه، لماذا تسألين عنه؟
تزحزحت من مجلسها على الكنبة مقتربة منه وسألته بإغراء: بربك ألا تود أن تطلع على الحجة؟
فأجاب بحدة: كلا، لماذا أود ذلك؟
– من ذا يقاوم الرغبة في الاطلاع على المستقبل؟
– تعنين مستقبلكِ أنتِ؟!
– مستقبلي ومستقبلك، ومستقبل إدريس الذي حزنتَ عليه على رغم ما سبق منه ضدك!
المرأة تعرب عما في نفسه. وهذا ما يثير حنقه. ومدَّ رأسه نحو النافذة كأنما يهرب منها وهو يقول: لا أود ما لا يود أبي!
فرفعت حاجبَيها المزجَّجين متسائلة: لماذا يخفي هذا الأمر؟
– ذلك شأنه، ما أكثر أسئلتك الليلة!
فقالت وكأنما تخاطب نفسها: المستقبل! نعرف مستقبلنا ونقدم إحسانًا كبيرًا إلى إدريس التعيس، لن يكلفنا هذا كله إلا قراءة ورقة دون أن يدري أحد، وأتحدى أي صديق أو عدو أن يثبت علينا سوء نية في عملنا هذا أو أنه يمس من قريب أو من بعيد والدك المحبوب!
وكان أدهم يراقب نجمًا فاق الأنجم بضيائه اللامع فقال متجاهلًا قولها: ما أجمل السماء! لولا رطوبة الليل لجلست في الحديقة أراقبها من خلال الغصون.
– لا شك في أنه ميَّز البعض في شروطه.
فهتف أدهم: ما أزهدني في امتياز لا يجرُّ وراءه إلا المتاعب!
فقالت متنهدة: لو كنت أعرف القراءة لذهبت بنفسي إلى الصندوق الفضي.
تمنى لو كان ذلك كذلك. وتضاعف حنقه عليها وعلى نفسه، بل شعر بأنه قد وقع في المحظور فعلًا وأنه يفكر فيه كحدث مضى. وتحول نحوها مقطبًا فبدا وجهه على ضوء المصباح المرتعش بالنسيم المتسلل من النافذة مهتمًّا ضعيفًا، على رغم تجهمه، وقال: لعنت حين أفضيت إليك بالخبر!
– لا أريد بك شرًّا، ومحبتي لوالدك مثل محبتك له …
– دعيك من هذا الحديث المتعب، في هذه الساعة تستحب الراحة.
– يبدو أن قلبي لن يرتاح قبل الإقدام على هذا العمل السهل.
فنفخ قائلًا: اللهم أَرْجِعْ إليها عقلها!
فرمقته بنظرة المتحفز ثم سألته: ألم تخالف أباك باستقبالك إدريس في المنظرة؟!
فاتسعت عيناه دهشة وقال: وجدته أمامي فلم يسعني إلا استقباله!
– هل أخبرت والدك بنبأ زيارته؟
– ما أثقلكِ الليلة يا أميمة!
فقالت بصوت الظافر: إذا جاز لك أن تخالفه فيما قد يضرك فكيف لا تخالفه فيما يفيدك ويفيد أخاك ولا يضر أحدًا؟!
بوسعه أن يقطع الحديث لو شاء، ولكن المنحدر كان شديد الانحدار. والحق أنه لم يتركها تسترسل في حديثها إلا لأن جزءًا من نفسه كان بحاجة إلى تأييدها. وتساءل فيما يشبه الغضب: ماذا تعنين؟
– أعني أن تسهر حتى الفجر، أو حتى يخلو المكان لنا …
فقال بامتعاض: ظننت الحمل قد أفقدك عاطفتك وحدها، ولكن ها هو ذا يفقدك عقلك أيضًا!
– أنت مقتنع بما أقول وحقِّ من خلق الروح في بطني، ولكنك خائف، والخوف لا يليق بك!
فاكفهرَّ وجهه اكفهرارًا منقطع الأسباب بالتراخي الساري في داخله وقال: سنذكر بهذه الليلة أول زعل فرَّق بيننا.
فقالت برقَّة عجيبة: أدهم، دعنا نفكر جادين في الأمر.
– لن نجني خيرًا!
– هذا قولك ولكنك سترى.
شعر بوهج النار وهو يقترب منها. قال لنفسه: «إذا احترقت فلن تُجدي دموعي في إخمادها.» وحول رأسه إلى النافذة فخيل إليه أن سكان ذلك النجم اللامع سعداء لبعدهم عن هذا البيت. وتمتم بصوتٍ ضعيف: لم يحب أحد أباه كما أحبه.
– ما أبعدك عما يسيئه!
– أميمة، ما أحوجك إلى النوم!
– أنت الذي طيرت النوم عن عيني.
– أملت أن أسمع عندك صوت العقل.
– ما أسمعتك غيره.
وساءل نفسه بصوتٍ منخفض كالهمس: ترى هل أندفع نحو الخراب؟!
فربتت يده الملقاة على مسند الكنبة وقالت بعتاب: مصيرنا واحد يا ناكر الحب!
فقال في استسلامٍ دلَّ على أنه اتخذ قراره: ولا هذا النجم يدري ما مصيري!
فقالت بانطلاق: ستقرأ مصيرك في الحجة!
ومدَّ بصره نحو النجوم الساهرة، وقِطع السحاب المستضيئة بنورها الهادئ، وخيل إليه أنها مطلعة على نجواه فغمغم: «يا لطف السماء!» ثم سمع أميمة وهي تقول في نبراتٍ مداعبة: أنت علمتني حب الحديقة، دعني أرد إليك الجميل!
٨
وعند الفجر غادر الأب حجرته قاصدًا الحديقة. كان أدهم بأقصى الردهة يترقب، وأميمة خلفه ممسكة بكتفه في الظلام. تابعا وقع الأقدام الثقيل المتزن ولكنهما لم يتبينا اتجاهها في الظلام، وكان من عادة الجبلاوي أن يسير في هذه الساعة دون حاجة إلى ضوء أو رفيق. وسكت الصوت فالتفت أدهم نحو زوجه هامسًا: ألا يحسن بنا أن نعود؟
فدفعته وهي تهمس في أذنه: عليَّ اللعنة إن كنت أضمر سوءًا لإنسان.
فتقدم بخطواتٍ حذرة، في اضطرابٍ أليم، ويده قابضة على شمعةٍ صغيرة في جيبه، وجعل يتحسس الجدار حتى مسَّت يده مصراع الباب. وهمست أميمة: سأبقى هنا لأرقب المكان، اذهب مصحوبًا بالعناية.
ومدت يدها فدفعت الباب حتى انفتح ثم تراجعت. ومضى أدهم نحو الحجرة بخطواته الحذرة فتلقى من داخلها رائحةً مسكية شديدة النفاذ. ورد الباب وراءه ووقف يحملق في الظلام حتى تبين له خصاص النوافذ المطلة على الخلاء وهي تنضح بنور الفجر. شعر أدهم بأن الجريمة — إن كان ثمة جريمة — قد وقعت بدخوله الحجرة وأن عليه أن يتم عمله. سار مع الجدار الأيسر، مرتطمًا أحيانًا بالمقاعد، مارًّا في طريقه بباب الخلوة، حتى بلغ نهايته، ثم مال مع الجدار الأوسط، وما لبث أن عثر على الخوان. جذب الدرج، وتحسس ما بداخله حتى وجد الصندوق، ثم شعر بحاجته إلى الراحة ليأخذ نفسه. ورجع إلى باب الخلوة، ففتش عن ثقبه، ثم وضع فيه المفتاح وأداره، وفتح الباب، وإذا به يتسلل إلى الخلوة التي لم يدخلها أحد قبله إلا الأب.
رد الباب، وأخرج الشمعة، ثم أشعلها، فرأى مربعًا ذا سقفٍ عالٍ لا منفذ فيه إلا الباب، مفروش الأرض بسجادةٍ صغيرة، وعند ضلعه الأيمن ترابيزة أنيقة عليها المجلد الكبير الذي ثبت في الجدار بعلاقة من صُلْب. ازدرد أدهم ريقه الجاف بشيء من الألم كأن وعكة أصابت اللوزتين، وعضَّ على أسنانه، كأنما ليعصر الخوف الساري في أوصاله والمرعِش للشمعة في يده. واقترب من الترابيزة وهو يحملق في غلاف المجلد المزخرف بخطوطٍ مموَّهة بالذهب، ثم مدَّ يده ففتحه. وجد مشقة في تركيز ذهنه ونفض الاضطراب عنه. وبدأ يقرأ بالخط الفارسي «باسم الله …»
لكنه سمع الباب وهو يفتح بغتة. انجذب رأسه نحو الصوت بقوة ومن دون وعي كأن الباب شده إليه وهو ينفتح. رأى الجبلاوي على ضوء شمعته يسد الباب بجسمه الكبير ملقيًا عليه نظرةً باردةً قاسية. حملق أدهم في عينَي أبيه في صمت وجمود، وتخلَّت عنه قوى الكلام والحركة والتفكير. وأمره الجبلاوي قائلًا: اخرج!
لكن أدهم لم يستطع حراكًا. بقي في موقفه كالجماد إلا أن الجماد لا يشعر بالقنوط. وهتف الأب: اخرج!
أيقظه الرعب من تجمده فتحرك، وتخلى الأب عن الباب، فغادر أدهم الخلوة والشمعة لا تزال تحترق في يده. ورأى أميمة واقفة وسط الحجرة صامتة، والدمع ينحدر تباعًا من مقلتَيها. وأشار له الأب أن يقف إلى جانب زوجته ففعل، ثم خاطبه بصرامة قائلًا: عليك أن تجيب عن أسئلتي بالصدق.
فنطقت أساريره بالامتثال. وسأله الرجل: مَن الذي أخبرك بالكتاب؟
فقال أدهم دون تردد كوعاء تحطم فسال ما فيه: إدريس.
– متى؟
– صباح الأمس.
– كيف تم اللقاء بينكما؟
– اندسَّ بين المستأجرين الجدد وانتظر حتى انفرد بي.
– لماذا لم تطرده؟
– عزَّ عليَّ طرده يا أبي.
فقال الجبلاوي بحدة: لا تخاطبني بالأبوة.
فاستجمع أدهم قواه قائلًا: إنك أبي على رغم غضبك وعلى رغم حماقتي.
– أهو الذي أغراك بفعلتك؟
وأجابت أميمة دون أن يوجه إليها السؤال: نعم يا سيدي.
فهتف الجبلاوي: اخرسي يا حشرة! (ثم موجهًا الخطاب إلى أدهم): أجب!
– كان يائسًا حزينًا نادمًا وود لو يطمئن على مستقبل ذريته.
– وفعلت هذا من أجله!
– كلا … اعتذرت له عن عجزي.
– وماذا غيَّرك؟
فتنهد أدهم يائسًا وتمتم: الشيطان!
فسأله ساخرًا: هل أخبرت زوجتك بما جرى بينك وبينه؟
هنا انتحبت أميمة فنهرها الجبلاوي أن تخرس، وحثَّ أدهم على الإجابة بإشارة من أصبعه، فقال: نعم.
– وماذا قالت لك؟
لاذ أدهم بالصمت كي يزدرد ريقه فصاح به: أجب يا وضيع!
– وجدت بها رغبة في الاطلاع على الوصية، وظنت أن ذلك لن يضر أحدًا.
فحدجه باحتقارٍ شديد وقال: وهكذا انصعت إلى خيانة من فضَّلك على من هم خير منك.
فقال أدهم بصوت كالأنين: لن يسعفني دفاع عن ذنبي، لكن مغفرتك أكبر من الذنب والدفاع.
– تتآمر عليَّ مع إدريس الذي طردته إكرامًا لك؟
– لم أتآمر مع إدريس، لقد أخطأت، ولا نجاة لي إلا بمغفرتك.
وهتفت أميمة بتوسل: سيدي …
فقاطعها قائلًا: اخرسي يا حشرة.
وجعل يردد عينَيه بينهما عابسًا، ثم قال بصوتٍ رهيب: اخرجا من البيت.
وهتف أدهم: أبي …
فقال الرجل بصوت غليظ: غادرا البيت قبل أن تُلقيا خارجًا.
٩
فُتح باب البيت الكبير ليشهد هذه المرة خروج أدهم وأميمة مطرودَين. خرج أدهم يحمل بقجة ملابس، وتبعته أميمة حاملة بقجةً ثانية وأطعمةً خفيفة. خرجا ذليلَين حزينَين باكيَين بلا أمل. وعندما سمعا صوت الباب وهو يغلق خلفهما ارتفع صوتاهما بالنحيب. وقالت أميمة وهي تنشج: الموت دون ما أستحق من جزاء!
فقال أدهم بصوتٍ متهدج: لأول مرة تصدقين، ولكن الموت دون ما أستحق كذلك!
وما كادا يبتعدان قليلًا عن البيت حتى دوَّت ضحكةٌ ساخرةٌ مخمورة، فنظرا نحو مصدرها، فرأيا إدريس أمام كوخه الذي بناه من الصفائح والأخشاب وقد جلست امرأته نرجس وهي تغزل صامتة. كان إدريس يضحك في سخرية وشماتة حتى ذُهل أدهم وأميمة فوقفا يحملقان فيه. وراح إدريس يرقص ويفرقع بأصابعه حتى ضجرت نرجس فآوت إلى الكوخ. تابعه أدهم بعينَين محمرَّتَين من البكاء والغضب. أدرك في لحظةٍ المكر الذي مكره فتكشف له عن حقيقته الخبيثة المجرمة. وأدرك أيضًا مدى حمقه وغبائه الذي يرقص له المجرم شماتة وفرحًا. هذا هو إدريس الذي استحال شرًّا مجسَّدًا. وغلى دمه حتى فار فأغرق مخه. وقبض على حفنة من تراب ورماه بها وهو يصيح بصوتٍ مختنق بالغضب: يا قذر، يا لعين، إن العقرب بالقياس إليك حشرةٌ مستأنسة!
فأجاب إدريس بمزيد من حركاته الراقصة؛ هزَّ رقبته يمنة ويسرة، ولعَّب حاجبيه وما زال يفرقع بأصابعه. وتضاعف غضب أدهم فصاح: الفساد والدناءة والوضاعة هذه هي صفات المخادعين الكاذبين.
فراح إدريس يهزُّ وسطه بمثل الرشاقة التي هزَّ بها رقبته ويرسم بفيه ضحكةً صامتةً قبيحة، فصاح أدهم دون التفات إلى أميمة التي حاولت أن تدفعه إلى المسير: حتى الدعارة تجربها يا أقذر من خُلق!
فمضى إدريس يهز عجيزته وهو يدور حول نفسه في بطء ودلال، فأعمى الغضب أدهم فرمى بالبُقْجَة أرضًا ودفع أميمة التي همت بالتعلق به وجرى نحوه حتى قبض على عنقه وشد عليه بكل قوته. لم يبدُ على إدريس أنه تأثر بالمنقضِّ ولا بقبضته، وواصل الرقص وهو يتأنق في تأوُّده؛ وجن جنون أدهم فانهال على إدريس ضربًا ولكن إدريس ازداد عبثًا وراح يغني بصوتٍ كريه:
وتوقف بغتة وهو يزمجر، ثم دفع أدهم في صدره دفعةً قوية تقهقر على أثرها يترنح ثم اختل توازنه فسقط على ظهره. وهرعت إليه أميمة صارخة فساعدته على النهوض وأخذت تنفض الغبار عن ثوبه وتقول: ما لك أنت وهذا الوحش؟! فلنبتعد عنه!
وتناول البقجة صامتًا، وحملت زوجه بُقْجَتَها وابتعدا حتى طرف البيت الآخر، وكان الإعياء قد نال منه فرمى بالبقجة وجلس عليها وهو يقول: «لنسترح قليلًا.» فجلست المرأة قبالته وقد رجعت تبكي. وإذا بصوت إدريس يترامى إليهما قويًّا كالرعد وصاحبه يقف ناظرًا إلى البيت الكبير نظرة التحدي ويصيح: طردتني إكرامًا لأحقر من أنجبت، أرأيت كيف كان سلوكه نحوك؟! ها أنت ذا ترميه بنفسك إلى التراب. عقاب بعقاب والبادي أظلم، كي تعلم أن إدريس لا يقهر، فلتبقَ وحدك مع أبنائك العقماء الجبناء. لن يكون لك حفيد إلا من يسعى في التراب ويتقلب في القاذورات. غدًا يسرحون بالبطاطة واللب، غدًا يتعرضون لصفعات الفتوات في العطوف وكفر الزغاري، غدًا يمتزج دمك بأحقر الدماء، وتقبع أنت وحيدًا في حجرتك تبدل وتغير في كتابك كيف شاء لك الغضب والفشل، وتعاني وحدة الشيخوخة في الظلام، حتى إذا جاء الأجل فلن تجد عينًا تبكيك.
ثم التفت صوب أدهم وواصل صياحه الجنوني: وأنت أيها الضعيف كيف تلقى الحياة وحدك؟! لا قوة فيك تؤيدك ولا قويَّ لديك تعتمد عليه، وماذا تفيدك مبادئ القراءة والحساب في هذا الخلاء؟! ها .. ها .. ها!
ولم تزل أميمة تبكي حتى ضاق بها أدهم فقال في فتور: كُفِّي عن البكاء.
فقالت وهي تجفف عينَيها: سأبكي كثيرًا، أنا الآثمة يا أدهم!
– لستُ دونكِ إثمًا، لو لم تلقي مني ضعيفًا نذلًا ما وقع الذي وقع.
– الذنب ذنبي وحدي.
فهتف بغيظ: إنكِ تحملين على نفسك لتتقي حملتي عليك!
فباخت حميتها في اتهام نفسها وأحنت رأسها مليًّا، ثم عادت تقول بصوتٍ ضعيف: لم أكن أتصور أن تبلغ قسوته هذا الحد!
– إني أعرفه، ولا عذر لي.
فترددت قليلًا ثم قالت: كيف أعيش هنا وأنا حبلى؟!
– في هذا الخلاء نعيش بعد البيت الكبير، ليت للدموع جدوى، ولكن ليس أمامنا إلا أن نقيم كوخًا لنا.
– أين؟
فنظر فيما حوله، ووقف نظرُه قليلًا صوب كوخ إدريس، ثم قال بقلق: لا يجوز أن نبتعد كثيرًا عن البيت الكبير ولو اضطررنا إلى البقاء غير بعيد من كوخ إدريس، وإلا هلكنا وحدنا في أطراف هذا الخلاء.
ففكرت أميمة قليلًا، ثم قالت بوجه مال إلى الاقتناع برأيه: نعم، ولكي نبقى على مرمى بصره لعلَّه يرق لحالنا.
فتأوَّه أدهم قائلًا: الحسرة تقتلني، ولولاكِ لتوهمت ما بي كابوسًا، هل يجفوني قلبه إلى الأبد؟ لن أتطاول عليه كإدريس، هيهات، لست كإدريس في شيء، فهل ألقى المعاملة نفسها؟
فقالت أميمة في حنق: لم تعرف هذه الأحياء أبًا مثل أبيك.
فتساءل بعينين حادَّتَين: متى يتوب لسانك؟!
فانفعلت قائلة: والله ما ارتكبت جريمة ولا إثمًا، خبِّر مَن تشاء بما فعلت وبما نلت جزاء ما فعلت، وأراهنك على أنه سيضرب كفًّا بكف، والله ما عرفت الأبوة أبًا كأبيك.
– ولا عرفت الدنيا رجلًا مثله، هذا الجبل وهذه الصحراء وهذه السماء تعرفه، ومثله يُجنُّ عند التحدي.
– بهذا الجبروت لن يبقى في البيت أحد من أبنائه.
– نحن أول الخارجين فنحن شر من فيه.
فقالت بامتعاض: لست كذلك، لسنا كذلك.
– الحكم الصحيح لن يكون إلا عند الامتحان.
لاذ كلاهما بالصمت. لم يكن بالخلاء حي يُرى، إلا بعض العابرين عن بُعد عند سفح الجبل. وكانت الشمس ترسل أشعةً حامية من سماء صافية فتغمر الرمال المترامية حيث يلمع الحصى أو قطع الزجاج المتناثرة. ولم يكن من قائم إلا الجبل في الأفق، وصخرةٌ كبيرة في الشرق كأنها رأس جسمٍ مطمور في الرمال، وكوخ إدريس عند الطرف الشرقي للبيت الكبير ينغرس في الأرض متحديًا بهيئته الزرية. كان الجو كله ينذر بالشقاء والتعب والخوف. وتنهدت أميمة بصوتٍ مسموع وقالت: سنتعب كثيرًا حتى تتيسر لنا الحياة.
فرنا أدهم إلى البيت الكبير وقال: وسنتعب أكثر حتى ينفتح لنا هذا الباب مرةً أخرى.
١٠
شرع أدهم وأميمة في إقامة كوخ لهما عند الطرف الغربي للبيت الكبير. كانا يجيئان بالأحجار من المقطم، ويجمعان الصفائح من سفح الجبل، ويلتقطان الأخشاب من مشارف العطوف والجمالية وباب النصر. وتبين لهما أن بناء الكوخ سيستغرق وقتًا أطول مما قدرا، وصادف ذلك نفاد الزاد الذي حملته أميمة من البيت من جبن وبيض وعسل أسود، فقرر أدهم أن يبدأ بالسعي في سبيل رزقه. ورأى أن يبيع بعض ثيابه الثمينة؛ ليشتري بثمنها عربة يد لبيع البطاطة والملانة والخيار وغيرها على حسب المواسم. وعندما أخذ في جمع ثيابه أجهشت أميمة في البكاء من شدة التأثر، ولكنه لم يستجب لعواطفها، فقال وهو بين السخط والسخرية: لم تعد هذه الثياب تناسبني، أليس من المضحك أن أسرح ببطاطة وأنا متلفع بعباءة مزركشة من وبر الجمل؟!
ثم شهده الخلاء وهو يدفع عربته نحو الجمالية؛ الجمالية التي لم تنسَ بعد زفته، وانقبض قلبه وانحبس صوته فكف عن النداء، وكادت تغرورق عيناه. واتجه نحو الأحياء البعيدة متهربًا. وكان يواظب على المشي والنداء من الصباح إلى المساء حتى كلَّت يداه وانجرد نعلاه وسرت الأوجاع في قدمَيه ومفاصله. وكم كان يشق عليه مساومات النسوان، أو أن يضطره الإعياء إلى افتراش الأرض لصق جدار، أو أن يقف في ركن ليفك حصره. بدت الحياة غير حقيقية، وأيام الحديقة وإدارة الوقف والمخدع المطل على المقطم كالأساطير. وجعل يقول لنفسه: «لا شيء حقيقيًّا في هذه الدنيا، هي البيت الكبير، هي الكوخ الذي لم يتم، هي الحديقة، هي عربة اليد، هي الأمس واليوم والغد، لعلي أحسنت صنعًا بالإقامة قبالة البيت حتى لا أفقد الماضي كما فقدت الحاضر والمستقبل، وهل من عجب أن أخسر الذاكرة كما خسرت أبي وكما خسرت نفسي؟!» فإذا عاد أول الليل إلى أميمة فليس إلى الراحة يعود، ولكن ليواصل العمل في بناء الكوخ.
ومرة جلس في حارة الوطاويط عند الظهر ليستريح فنعس. واستيقظ على حركة فرأى غلمانًا يسرقون عربته فنهض مهددًا. ورآه غلام فنبه أقرانه بصفير ودفع العربة ليشغله بها عن مطاردتهم فاندلق الخيار على الأرض على حين تفرق الغلمان مسرعين كالجراد. وغضب أدهم غضبًا شديدًا حتى قذف فوه المهذب بسيل من أقذع الشتائم، ثم انكبَّ على الأرض يجمع الخيار الذي لوِّث بالطين. وتضاعف غضبه دون أن يجد له متنفسًا فراح يقول بتأثر وانفعال: «لماذا كان غضبك كالنار تحرق بلا رحمة؟ لماذا كانت كبرياؤك أحب إليك من لحمك ودمك؟ وكيف تنعم بالحياة الرغيدة وأنت تعلم أننا نداس بالأقدام كالحشرات؟ والعفو واللين والتسامح ما شأنها في بيتك الكبير أيها الجبار؟!» وقبض على يدي العربة وهمَّ يدفعها بعيدًا عن الحارة اللعينة، وإذا بصوت يقول متهكمًا: بكم الخيار يا عم؟
رأى إدريس واقفًا يبتسم ابتسامةً ساخرة، رافلًا في جلبابٍ مقلم بألوانٍ زاهية، وعلى رأسه لاسة بيضاء. رآه باسمًا ساخرًا لا ثائرًا ولا هائجًا؛ فضاقت لمنظره الدنيا في عينيه على رغم ذلك. ودفع العربة ليذهب، ولكن إدريس اعترض سبيله وهو يقول في دهشة: ألا يستحق زبون مثلي حسن المعاملة؟
فارتفع رأس أدهم في عصبية وهو يقول: دعني وشأني.
فأمعن إدريس في السخرية متسائلًا: ألم تجد خيرًا من هذه اللهجة تخاطب بها أخاك الأكبر؟
فقال أدهم بلهجة المتصبِّر: يا إدريس أما كفاك ما فعلت بي؟ لا أريد أن تعرفني أو أن أعرفك!
– كيف يتأتى هذا ونحن في حكم الجيران؟!
– ما أردت جوارك ولكني قصدت أن أبقى قريبًا من البيت الذي …
فقاطعه هازئًا: الذي طردت منه!
فسكت أدهم وقد تجلى الضيق في شحوب وجهه، فاستطرد الآخر قائلًا: النفس تتعلق بالمكان الذي تطرد منه، أليس كذلك؟
فلم يخرج أدهم عن صمته، فقال الآخر: إنك تطمع في العودة إلى البيت يا ماكر، إنك ضعيف حقًّا ولكنك مليء بالمكر. ألا فاعلم بأني لن أسمح لك بالعودة وحدك ولو انطبقت السماء على الأرض.
فتساءل أدهم ومنخراه يتحركان من الحنق: ألم يكفك ما فعلت بي؟
– ألم يكفك أنت ما فعلت بي؟ من أجلك طردتُ وكنت كوكب البيت المنير.
– بل طردتَ بسبب نفسك المتعجرفة.
فقهقه إدريس قائلًا: وطردت أنت بسبب نفسك الضعيفة، فلا مكان في البيت الكبير للقوة ولا للضعف! فانظر إلى استبداد أبيك. إنه لا يسمح باجتماع القوة والضعف في نفس إلا نفسه هو، إنه القوي لحد الفتك بفلذات كبده، الضعيف لحد التزوج من أمٍّ كأمك.
فقطب أدهم غاضبًا وقال بتهدج: دعني أذهب، وتحرش إذا شئت بقويٍّ مثلك.
– أبوك يتحرش بالأقوياء والضعفاء.
فصمت أدهم وازداد وجهه عبوسًا، فقال إدريس هازئًا: لا تريد أن تتورط في تجريحه! هذا مكر من مكرك، ودليل على أنك ما زلت تحلم بالعودة.
– ثم تناول خيارة وأخذ ينظر إليها باشمئزاز ثم قال: كيف سولت لك نفسك أن تسرح بهذا الخيار الملوث؟! ألم تجد عملًا أشرف من هذا؟
– إني راضٍ عنه!
– بل اضطرتك الحاجة إليه، على حين ينعم أبوك بالعيش الرغيد. فكر قليلًا في الأمر، أليس من الأكرم لك أن تنضم إليَّ؟!
فقال أدهم في ضجر: لم أخلق لحياتك!
– انظر إلى جلبابي! كان صاحبه يرفل فيه أمس دون وجه حق!
فلاح التساؤل في عيني أدهم وقال: وكيف حصلت عليه؟
– كما يفعل الأقوياء!
أسرق أم قتل؟! وقال بحزن: لا أصدق أنك أخي إدريس!
فقال وهو يقهقه: لا تعجب ما دمت تعلم أنني ابن الجبلاوي!
فهتف أدهم في نفاد صبر: هلا أوسعت لي الطريق؟
– كما تشاء لك حماقتك!
وملأ جيبه بالخيار، وألقى عليه نظرة ازدراء، ثم بصق على العربة ومضى.
ووقفت أميمة تستقبله وهو يقترب من الكوخ. كانت الظلمة تغشى الخلاء. وفي داخل الكوخ شمعة تحترق كأنها رمق في صدر محتضر. أما في السماء فالنجوم تزهر، وعلى ضوئها يبدو البيت الكبير كشبح عملاق. أدركت أميمة من صمته أنه على حال يستحسن معها تجنبه. قدمت إليه كوز ماء؛ ليغسل أطرافه وجاءته بجلبابٍ نظيف. وغسل وجهه وقدمَيه وبدل جلبابه ثم جلس على الأرض ومدَّ ساقيه. واقتربت منه في حذر فجلست وهي تقول بلهجة الاسترضاء: ليتني أتحمل عنك بعض تعبك.
وكأنها حكَّت أجرب فصاح: اخرسي يا أصل الشر والتعاسة!
فتزحزحت بعيدًا عنه حتى كادت تختفي، ولكنه صاح: إنك خير مَن يذكرني بغفلتي وحماقتي، ملعون اليوم الذي رأيتكِ فيه.
فجاءه في الظلام انتحابها ولكنه ضاعف من غضبه فقال: سحقًا لدموعك! إن هي إلا عَرق الخبث الذي يمتلئ به جسدك.
فجاءه صوتها الباكي قائلًا: كل قول يهون بالقياس إلى عذابي.
– لا تسمعيني صوتكِ، وابعدي عن وجهي.
وكور ثوبه المخلوع ورماها به، فتأوهت قائلة: «بطني!» وسرعان ما برد غضبه، وأشفق من العواقب. وآنست هي من صمته تراجعًا فقالت بصوت المتوجع: سأذهب بعيدًا كما تريد.
وقامت فمضت تبتعد حتى صاح بها: هل ترين الوقت مناسبًا للدلال؟
ثم تحفَّز للقيام وهو يصيح: ارجعي لا رجعتْ إليك الراحة.
وأحدَّ بصره في الظلام حتى رأى شبحها يعود فأسند ظهره إلى جدار الكوخ ورفع رأسه نحو السماء. وود لو يطمئن على بطنها ولكن أبت كبرياؤه. أجَّل ذلك إلى أجلٍ قريب. ثم مهد له بقوله: اغسلي بعض الخيار للعشاء.
١١
مجلس لا يخلو من الراحة. لا نبت فيه ولا ماء، ولا عصافير تزقزق فوق الغصون، لكن أرض الخلاء الجرداء المشاكسة تكتسي في الليل حُلةً غامضة يخالها الحالم ما يشاء. وفوقه قبة السماء المرصعة بالنجوم والمرأة داخل الكوخ، والوحدة ناطقة، والحزن كالجمر المدفون تحت الرماد. وسور البيت العالي يعاند المشتاق، وهذا الأب الجبار كيف السبيل إلى إسماعه أنيني. ومن الحكمة نسيان الماضي، لكن ليس لنا من زمن غيره، لذلك كرهت ضعفي ولعنت نذالتي ورضيت الشقاء رفيقًا وسألد له أبناء. والعصفورة التي لا تصدها قوة عن الحديقة أسعد من أحلامي، وعيناي احترقتا شوقًا إلى المياه الجارية بين شجيرات الورد، وأين عبير الحناء والياسمين؟ أين؟ أين خلو البال والناي؟ أين أيها القاسي؟ مضى نصف عام فمتى يذوب ثلج قسوتك؟!
وعن بُعد ترامى صوت إدريس مغنيًا بصوت كريه: «عجايب والله عجايب». وإذا به يوقد نارًا أمام كوخه فاشتعلت كأنها شهاب هوى فانغرس في الأرض، وكانت زوجه تذهب وتجيء ببطنها المتدلي؛ لتقدم طعامًا أو شرابًا. ولطمته موجة سُكر فصاح في السكون موجهًا الخطاب إلى البيت الكبير: «هذا أوان الملوخية والفراخ المحمرة، اطفحوها سمًّا يا أهل البيت!» ثم عاد إلى الغناء.
وقال أدهم لنفسه متأسفًا: «كلما خلوت إلى نفسي في الظلام جاء الشيطان فأشعل ناره وعربد فأفسد عليَّ خلوتي!» وظهرت أميمة عند باب الكوخ فعلم أنها لم تنم على خلاف ظنه. وكانت من الحمل في إعياء، ومن الجهد والفقر على حال لا تسر. وقالت برقَّة وإشفاق: ألا تنام؟!
فقال في ضجر: دعيني للساعة الوحيدة التي تطيب فيها الحياة!
– ستسعى بعربتك مع الصباح الباكر، فما أحوجك إلى الراحة!
– في وحدتي أرتدُّ سيدًا أو شبه سيد، أتأمل السماء وأتذكر الأيام الخالية.
فتنهدت بصوتٍ مسموع وقالت: أود لو رأيت أباك ذاهبًا من البيت أو راجعًا إليه أن أرمي بنفسي تحت أقدامه وأن أستغفره.
فقال أدهم في جزع: قلت لك مرارًا أن تقلعي عن هذه الأفكار، فليس بهذه الوسيلة يمكن أن نسترد عطفه.
فصمتت مليًّا، ثم قالت همسًا: إني أفكر في مصير الشيء الذي في بطني.
– ولا شغل لي إلا هذا على رغم أني لم أعد إلا حيوانًا قذرًا.
فتمتمت بحزن: والله إنك خير الرجال جميعًا.
فضحك أدهم ساخرًا وقال: لم أعد إنسانًا، فالحيوان وحده هو الذي لا يهمه إلا الغذاء.
– لا تحزن، كم من رجل بدأ مثلك، ثم تيسر له العيش الرغيد، فملك الدكاكين والبيوت!
– أراهن على أن أوجاع الحَبَل قد بلغت رأسك!
فقالت بإصرار: ستكون رجلًا ذا شأن، وسينشأ وليدنا في أحضان النعيم.
فضرب أدهم كفًّا بكف وتساءل ساخرًا: أأبلغ ذلك بالبوظة أم بالحشيش؟
– بالعمل يا أدهم.
فقال في سخط: العمل من أجل القوت لعنة اللعنات، كنت في الحديقة أعيش، لا عمل لي إلا أن أنظر إلى السماء أو أنفخ في الناي، أما اليوم فلست إلا حيوانًا، أدفع العربة أمامي ليلَ نهارَ في سبيل شيءٍ حقير نأكله مساءً ليلفظه جسمي صباحًا، العمل من أجل القوت لعنة اللعنات، الحياة الحقة في البيت الكبير، حيث لا عمل للقوت، وحيث المرح والجمال والغناء.
وإذا بصوت إدريس يقول: نطقت بالحق يا أدهم، العمل لعنة، وهو ذل لم نعتده، ألم أعرض عليك الانضمام إليَّ؟!
التفت أدهم نحو الصوت فرأى شبح إدريس واقفًا على قرب منه. هكذا يتسلل في الظلام دون أن يشعر به فينصت إلى الحديث ما شاء له الإنصات، ويشترك فيه إذا حلا له ذلك. ووقف أدهم منفعلًا وهو يقول: عد إلى كوخك.
فقال إدريس بلهجةٍ جديةٍ مفتعلة: إني مثلك أقول: إن العمل لعنة لا تليق بكرامة الإنسان.
– إنك تدعوني إلى البلطجة وهي أقذر من اللعنة.
– إذا كان العمل لعنة والبلطجة قذارة، فكيف يعيش الإنسان؟
فلم يرتح إلى محادثته فصمت، وانتظر إدريس أن يتكلم فلم يتكلم، فقال: لعلك تريد رزقًا بلا عمل؟ ولكن ذلك سيكون حتمًا على حساب الآخرين!
وثابر أدهم على صمته فعاد الآخر يقول: أم لعلك تريد رزقًا بلا عمل دون أن يضارَّ به أحد؟!
وضحك ضحكةً كريهة وقال: هذه فزورة يا ابن الجارية!
وصاحت أميمة بغضب: عد إلى كوخك واخزِ الشيطان.
ونادته امرأته بحدة، فرجع من حيث أتى وهو يترنم: «عجايب والله عجايب».
وتوسلت أميمة إلى زوجها قائلة: تجنب الاشتباك معه بأي ثمن.
– إني أجده فجأة فوق رأسي دون أن أدري كيف جاء.
وساد صمت اتخذا منه مسكنًا لانفعالهما. وعادت أميمة تقول برقَّة: قلبي يحدثني بأنني سأجعل من كوخنا بيتًا شبيهًا بالبيت الذي طردنا منه، لن تنقصه الحديقة ولا البلابل، وسيلقى وليدنا فيه كل راحة ومتعة.
فوقف أدهم وهو يبتسم ابتسامة لم ترها في الظلام، وقال ساخرًا وهو ينفض التراب عن جلبابه: الخيار القشطة .. الخيار السكر! والعرق يتصبب من جسدي والغلمان يتسلون بمعاكستي، والأرض تأكل قدميَّ، في سبيل ملاليم!
ودخل الكوخ فتبعته وهي تقول: لكن سيأتي يوم المرح والغناء.
– لو كنتِ تشقين ما وجدت وقتًا للأحلام.
ورقد كلٌّ منهما على خيشةٍ محشوة بالقش، وهي تقول: أليس الله بقادر على أن يجعل من كوخنا بيتًا كالبيت الكبير الذي طُردنا منه؟
فقال أدهم وهو يتثاءب: أمنيتي أن أعود إلى البيت الكبير.
ثم وهو يتثاءب بدرجةٍ أعلى: العمل لعنة!
فقالت بصوتٍ هامس: ربما، ولكنها لعنة لا تزول إلا بالعمل!
١٢
وذات ليلة استيقظ أدهم على تأوهاتٍ عميقة. ولبث وهو بين النوم واليقظة حتى تبين صوت أميمة وهي تتوجع هاتفة: «آه يا ظهري … آه يا بطني!» فجلس من فوره وهو يحملق صوبها، ثم قال: هذا حالك هذه الأيام ثم ينجلي عن لا شيء، أشعلي الشمعة.
فقالت وهي تئنَّ: أشعلها بنفسك، هذه المرة جدٌّ.
فقام يتحسس موضع الشمعة بين أدوات الطهي حتى عثر عليها، فأشعلها، وثبتها على الطبلية، فبدت أميمة على الضوء الخافت جالسةً متكئة على ساعديها، تئن، وترفع رأسها؛ لتتنفس بصعوبةٍ ظاهرة. وقال الرجل بقلق: هذا ما تظنينه كلما شعرت بوجع.
فقالت بوجهٍ متقلص: كلا، أنا متأكدة أن هذه المرة جدٌّ.
وساعدها حتى أسند ظهرها إلى جدار الكوخ، ثم قال: هو شهرك على أيِّ حال. تجلَّدي حتى أذهب إلى الجمالية لأحضر لك الداية.
– صحبتك السلامة. ما الوقت الآن؟
مضى أدهم خارج الكوخ، وجعل ينظر إلى السماء، ثم قال: الفجر قريب، لن أغيب إلا مسير الطريق.
واندفع يسير على عجل نحو الجمالية. ثم عاد يشق الظلام وهو قابض على يد الداية العجوز ليهديها السبيل. وعند اقترابه من الكوخ ترامى إليه صراخ أميمة الذي مزق السكون، فخفق قلبه وأوسع خطاه حتى تشكت الداية. ودخلا الكوخ معًا، فخلعت المرأة ملاءتها وهي تقول لأميمة ضاحكة: جاء الفرج، وما بعد الصبر إلا الراحة.
وسألها أدهم: كيف حالك؟
فقالت في صوت كالأنين: أكاد أموت من الألم، جسمي يتفكك، وعظامي تتكسر، لا تذهب.
فقالت الداية: بل ينتظر في الخارج بسلام.
وغادر أدهم الكوخ إلى العراء، فلمح شبحًا واقفًا عن قرب، عرفه قبل أن يتبيَّنه، فانقبض صدره، ولكن إدريس قال مصطنعًا لهجة الأدب: جاءها الطلق؟ مسكينة، مرت زوجي بهذه الحالة كما تعلم منذ زمنٍ قصير، إنه ألمٌ كاذب لا يلبث أن يزول، ثم تتلقى نصيبك من عالم الغيب كما تلقيت هند. إنها طفلةٌ ساحرة، ولكنها لا تكف عن التبول والبكاء، تجلَّد.
فقال أدهم على مضض وضيق: الأمر لصاحب الأمر.
فصدرت عن إدريس ضحكةٌ خشنة وتساءل: جئت لها بداية الجمالية؟
– نعم.
– امرأةٌ قذرة، وطماعة، جئتُ بها أيضًا فغالت في تقدير أتعابها فطردتها، ولا تزال تدعو عليَّ كلما رأتني مارًّا ببيتها.
فقال أدهم بعد تردد: ما ينبغي أن تعامل الناس هكذا.
– يا ابن الأكابر، علمني أبوك أن أعامل الناس بالفظاظة والقسوة.
وارتفع صوت أميمة بصراخ كأنما هو صدًى للتمزق الذي يقع في جوفها، فانطبقت شفتا أدهم على ما همَّ بقوله، واقترب من الكوخ قلقًا، وهتف بصوتٍ رقيق: شدي حيلك.
فردد إدريس قوله بصوتٍ مرتفع: شدي حيلك يا امرأة أخي.
فأشفق أدهم من سماع زوجه هذا الصوت، لكنه دارى حنقه قائلًا: يحسن بنا أن نقف بعيدًا عن الكوخ.
– تعال بنا إلى كوخي أقدمْ لك الشاي، وترى هند وهي تغط في النوم.
لكن أدهم ابتعد عن كوخه دون أن يتجه نحو كوخ الآخر، وهو يلعنه في سره في غيظٍ مكتوم، فتبعه إدريس وهو يقول: ستكون أبًا قبل طلوع الصبح. إنه تغيُّرٌ خطير، من فوائده أن تشعر بالرابطة التي يمزقها أبوك في يسر وبلادة.
فنَفَّس أدهم عن ضيقه بقوله: هذا الكلام يضايقني.
– ربما، لكن لا هم لنا غيره.
فسكت أدهم مترددًا، ثم قال بشيء من الإشفاق: إدريس، لماذا تتبعني وأنت تعلم أن لا مودة بيننا؟!
فقهقه إدريس عاليًا وقال: يا لك من طفل قليل الحياء! لقد أيقظني صراخ زوجك من أحلى نومة فلم أسمح لنفسي بالغضب، وعلى العكس جئت لأقدم لك المعونة إن كنت في حاجة إليها، وإن أباك ليسمع الصراخ كما سمعته ولكنه عاود النوم كمن لا قلب له.
فقال أدهم في ضجر: حسبنا ما كُتب لنا من مصير، ألا تستطيع أن تتجاهلني كما أتجاهلك؟
– إنك تكرهني يا أدهم، لا لأنني كنت السبب في طردك، ولكن لأنني أذكِّرك بضعفك. إنك تكره فيَّ نفسك الآثمة، أما أنا فلم يعد لي من مبرر لكراهيتك؛ بل أنت اليوم عزائي وتسليتي، ولا تنسَ أننا جيران، وأول من سكن هذا الخلاء من الأحياء، وسيدبُّ عليه أولادنا جنبًا إلى جنب.
– إنك تتلذذ بتعذيبي.
فصمت إدريس مليًّا حتى منَّى أدهم نفسه بالخلاص، ولكنه عاد يسأل بلهجةٍ جدية: لماذا لا نتفق؟
فقال أدهم هو يتنهد: لأنني بياع على قدِّ حالي وأنت رجل هوايتك الضرب والاعتداء.
وعاد صراخ أميمة يعلو ويشتد فرفع أدهم رأسه متوسلًا، فأدرك من توه أن كثافة الظلام قد خفَّت، وأن الفجر تسلَّق الجبل. وهتف أدهم: ما ألعن الألم!
فقال إدريس ضاحكًا: ما أجمل الرقة! خلقتَ لإدارة الوقف والنفخ في الناي.
– اسخر ما شئت، إني متألم.
– لماذا؟ حسبتُ امرأتك هي المتألمة!
فصاح أدهم من فرط جزعه: دعني وشأني.
فتساءل الآخر في هدوء مغيظ: أتريد أن تصير أبًا بلا ثمن؟
فلزم أدهم الصمت وهو ينفخ، فقال إدريس متعطفًا: أنت حكيم، وقد جئت أعرض عليك عملًا تستعين به على إسعاد المخلوقات القادمة، إن هذا الذي نسمع مقدمات تشريفه الأول وليس الأخير، فإن شهواتنا لا تقنع إلا بأن تبني فوقنا تلًّا من الذرية الصاخبة، ما رأيك؟
– الضياء يلوح فاذهب لتستوفيَ نومك.
وتعالى الصراخ، متتابعًا متواصلًا، حتى ضاق أدهم بموقفه فرجع إلى الكوخ الذي شفَّ عنه الظلام، وبلغه وأميمة ترسل تنهيدةً عميقة مثل ختام أغنيةٍ حزينة. اقترب من باب الكوخ وهو يتساءل: كيف الحال عندكم؟
فجاءه صوت الداية وهو يقول: «انتظر!» تحفَّز قلبه للارتياح عندما خُيل إليه أن الصوت يوحي بالظفر. وما لبث أن لاحت المرأة في الباب وهي تقول: رزقت بذكرَين!
– توءمين؟
– فليرزقك الله برزقهما.
وصكَّت أذنَيه ضحكة إدريس من وراء ظهره وسمعه يقول: إدريس الآن أب لأنثى وعم لذكرَين.
ومضى نحو كوخه وهو يغني: «البخت والقسمة فين يا دي الزمان قوللي». وعادت الداية تقول: ترغب الأم في أن يسميا قدري وهمام.
فراح أدهم يغمغم وقد استخفَّه السرور: قدري وهمام، قدري وهمام.
١٣
قال قدري وهو يجفف وجهه بذيل جلبابه: فلنجلس؛ لتناول طعامنا.
فقال همام وهو ينظر نحو الشمس المائلة للغروب: نعم، سرقنا الوقت.
تربعا على الرمال تحت سفح المقطم. وحل همام عقدة المنديل الأحمر المخطط فكشف عن خبز وطعمية وكراث، وراحا يأكلان، وينظران بين حين وآخر نحو أغنامهما، التي هام بعضها على وجهه، وقعد البعض ليجترَّ في راحة وسلام. لم يكن ثمة ما يميز بين الشقيقَين في الملامح والقسمات، غير أن نظرة الصائد المتجلية في عيني قدري أضفت على سحنته حدة ميَّزته بطابعٍ خاص. وعاد قدري يقول، وهو يطحن الطعام المحتشد في فيه: لو كان هذا الخلاء لنا دون شريك لرعينا أغنامنا مرتاحي البال.
فقال همام باسمًا: ولكن هذا الخلاء مقصد الرعاة من العطوف وكفر الزغاري والحسينية، ومن الحكمة أن نصادقهم فنتقي شرهم.
فضحك قدري ضحكةً هازئة انطلقت من فيه مع فتات من طعامه وقال: هذه الحواري عندها جوابٌ واحد لمن ينشد صداقتها؛ هو الصفعات.
– لكن …
– لا لكن يا ابن أبي، إني أعرف طريقةً واحدة، وهي أن أجذب الرجل من جلبابه وأنطحه في جبينه فينقلب على وجهه أو على قفاه.
– لذلك لا نكاد نحصي أعداءنا.
– ومَن كلفك بإحصائهم؟!
وتابع همام جدْيًا أوغل في الابتعاد فراح يصفر له حتى توقف ودار عائدًا في صمت الحكيم. وانتقى عودًا من الكراث ومسحه بأصابعه فدفعه في فيه متلذذًا، ثم قال وهو يتمطق: لذلك تجدنا وحدنا، ويمضي الوقت الطويل دون أن نتكلم.
– وما حاجتك إلى الكلام وأنت تغني طوال الوقت؟!
فنظر همام إليه بثقة وقال: يخيل إليَّ أنك تضيق بهذه الوحدة أحيانًا.
– سأجد دائمًا عللًا للضيق، الوحدة أو غيرها.
وساد صمت وضح فيه التمطق. ولاحت عن بُعد جماعةٌ عائدة من الجبل نحو العطوف، تسير على غناء منشد كالحادي والآخرون يرددون …
فقال همام: هذه الناحية من الخلاء امتداد لحينا، ولو ذهبنا شمالًا أو جنوبًا فأغلب الظن أننا لن نعود.
فضحك قدري ضحكةً مجلجلة وقال: ستجد في الشمال وفي الجنوب أناسًا يودون قتلي، ولكنك لن تجد واحدًا يجرؤ على منازلتي.
فقال همام وهو ينظر نحو الأغنام: لا يمكن إنكار شجاعتك، ولكن لا تنسَ أننا نعيش بفضل اسم جدنا وسمعة عمنا المخيفة على رغم ما بيننا وبينه من خصام.
فعقد قدري ما بين حاجبيه احتجاجًا، ولكنه لم يجهر بمعارضته. واتجه بصره نحو البيت الكبير الذي لاح عن بُعد في الغروب هيكلًا ضخمًا مطموس المعالم، وقال: هذا البيت! لم أشهد له مثيلًا، في خلاء يكتنفه من جميع النواحي، وعلى مقربة من حوارٍ وأزقَّة اشتهرت بالجبروت والمشاكسة. صاحبه جبار بلا جدال، هذا الجد الذي لم يرَ أحفاده وهم على بُعد أذرع منه!
فاتجه بصر همام ناحية البيت، ثم قال: إن أبانا لا يذكره إلا مصحوبًا بالإجلال والإكبار.
– وعمنا لا يذكره إلا مصحوبًا باللعنات.
فقال همام بإشفاق: هو جدنا على أي حال.
– وما جدوى ذلك يا غلام؟ إن أبانا يكدح وراء عربته، وأمنا تكد طوال النهار وشطرًا من الليل، ونحن نعاشر الأغنام حفاة شبه عراة. أما هو فقابع وراء الأسوار، بلا قلب، متمتعًا بنعيم لا يخطر على بال.
فرغا من الطعام. نفض همام المنديل ولفَّه ثم دسه في جيبه، واستلقى على ظهره متوسِّدًا ذراعَيه، مرسلًا ناظرَيه إلى السماء الصافية، وهي تقطر هدوء المغيب، والحدآت تولي في الآفاق. ونهض قدري فانتحى جانبًا ليبول، وقال: يقول أبونا إنه كان يخرج كثيرًا في الماضي فيمر بهم في ذهابه وإيابه، أما اليوم فلا يراه أحد، وكأنما يخاف على نفسه.
قال همام بنبراتٍ حالمة: كم تمنيت أن أراه.
– لا تحلم بأن ترى شيئًا خارقًا، ستجده شبيهًا بأبينا أو بعمنا، أو لكليهما معًا، إني أعجب لوالدي كيف لا يذكره إلا بالإجلال على رغم ما ناله على يديه.
– الظاهر أنه كان شديد التعلق به، أو أنه آمن بعدالة ما نزل به من عقاب.
– أو أنه ما زال يطمع في عفوه!
– إنك لا تفهم أبانا، إنه رجلٌ ودود حلو المعشر.
وعاد قدري إلى مجلسه وهو يقول: إنه لا يعجبني، وأنت لا تعجبني. أؤكد لك أن جدنا شخصٌ شاذ لا يستحق الاحترام، ولو كانت به ذرة من خير ما جفا لحمه هذا الجفاء الغريب، إني أراه كما يراه عمنا، لعنة من لعنات الدهر.
فقال همام باسمًا: لعل أرذل ما فيه هو ما تتباهى به أنت، أعني القوة والبطش.
فقال قدري بحدة: لقد نال هذه الأرض هبة بلا عناء ثم طغى واستكبر.
– لا تنكر ما اعترفت به منذ قليل، إن الوالي نفسه لم يكن بوسعه أن يعيش وحده في مثل هذا الخلاء.
– وهل تجد في الحكاية التي رويت لنا مسوغًا حقًّا لغضبه على والدَينا؟
– إنك تجد أهون منها سببًا كافيًا للبطش بالناس!
تناول قدري الكوز ومضى يشرب حتى رَوِيَ، ثم تجشأ وقال: ما ذنب الأحفاد؟ إنه لا يدري ما رعي الغنم، سحقًا له! أود لو أعرف وصيته، وماذا أعدَّ لنا!
فتنهد همام وقال بصوتٍ حالم: ثروة تريح من العناء، كي يفرغ المرء لقلبه، ويمضي العمر في يسر وطرب.
– إنك تردد قول أبينا، نشقى في التراب والطين ونحلم بالناي في ظل حديقةٍ غنَّاء. الحق أقول إني أعجب بعمي أكثر من أبي.
فجلس همام وهو يتثاءب، ثم نهض يتمطى، وقال: على أي حال صرنا شيئًا، لنا مأوًى يسعنا، ورزق يحفظ علينا الحياة، وأغنام نرعاها، نبيع لبنها ونسمِّنها لنبيعها أيضًا، ومن شعرها تغزل أمنا الكساء.
– والناي والحديقة؟
فلم يجب، واتجه نحو الأغنام بعد أن تناول عصاه الملقاة عند قدمَيه. ووقف قدري، وصاح موجهًا خطابه إلى البيت الكبير في عبث: أسمحت بأن نرثك، أم ستعاقبنا في موتك كما عاقبتنا في حياتك؟
أجب يا جبلاوي!
وردد الصدى: «أجب يا جبلاوي!»
١٤
ورأيا عن بُعد شخصًا يتجه نحوهما لم تتضح معالمه. ومضى القادم يقترب رويدًا حتى تبيناه، فانتصبت قامة قدري بحركةٍ تلقائية وشعَّت عيناه الجميلتان نور ابتهاج. ولحظ همام أخاه باسمًا، ثم نظر إلى الأغنام في غير مبالاة وهمس بلهجة تنبيه: الظلام غير بعيد.
فهتف قدري باستهانة: فليأتِ الفجر إذا شاء.
وخطا خطوات نحو الأمام ملوحًا بذراعيه في ترحاب للفتاة. وأخذت تدنو من موقفهما، مجهدة من المشي، لطول المسافة من ناحية ولمقاومة الرمال لشبشبها من ناحيةٍ أخرى، متطلعة نحوهما ببصرٍ لامع يعكس مع فتنة العينَين الخضراوَين جرأة. وبدت ملتفَّة بملاءتها اللفِّ حتى الكتفَين، مطلقة الرأس والعنق عاريين فعبث الهواء بضفيرتَيها. وارتفع صوت قدري بسرور مسح عن وجهه أمارات الحدة: أهلا بهند.
فأجابت بصوتٍ رقيق: أهلًا بك (ثم مخاطبة همام) مساء الخير يا ابن عمي.
فقال همام باسمًا: مساء الخير يا بنت العم، كيف حالك؟
وتناول قدري يدها وسار بها نحو الصخرة الكبيرة القائمة على بُعد أمتار من موقفهما، ودارا حول الصخرة حتى ضلعها المواجه للجبل، فصارا في منعزل عن الخلاء ومن فيه. وجذبها نحوه فأحاطها بذراعَيه، ثم قبَّل ثغرها قبلةً طويلة حتى تماسَّت ثناياهما وغابت الفتاة في لحظة استسلام مذهلة. واستطاعت أن تتخلص من ذراعَيه، وأن تقف مضطربة الأنفاس فتحكم لفَّ ملاءتها، وتتلقى نظرته المهاجمة بنظرةٍ باسمة. ولكن الابتسامة اختفت كأنما لخاطرة خطرت، وتقوست الشفتان في تبرم، ثم قالت: جئت بعد معركة، أف، هذه الحياة لا تطاق.
فقطب قدري لإدراكه ما تعني وقال بحدة: لا تبالي بشيء، إننا أبناء الحمق. أبي الطيب رجلٌ غبي، وأبوك الشرس لا يقلُّ عنه غباء، إنهما يودان أن يورثانا الكراهية، فيا للغباء! خبريني كيف تيسر لك المجيء؟
فنفخت وقالت: مضى اليوم كالأيام السابقة في نقارٍ متواصل بين أبي وأمي، وصفعها مرة أو مرتين فصرخت تلعنه وصبَّت غضبها على قُلَّة فحطمتها، ولكن غضبها اليوم وقف عند هذا الحد. إنها كثيرًا ما تمسك بخناقه متحدية لطماته، وتدعو عليه إذا غُلبت على أمرها، أما إذا غلبته الخمر فلا سلامة إلا بالبعد عن وجهه. كثيرًا ما أشعر برغبة في الهرب، وبكراهية شديدة لهذه الحياة، ولكني أروِّح عن نفسي بالبكاء حتى تؤلمني عيناي. ما علينا، انتظرت حتى ارتدى ثيابه وذهب، فتناولت الملاءة ولكن أمي تعرضت لي تحاول منعي كالعادة، ولكني تخلصت منها ومضيت إلى الخارج.
فتناول قدري يدها بين يديه وتساءل: ألا تخمن أين تذهبين؟
– لا أظن، لا يهمني، إنها على أي حال لا تجرؤ على إخبار أبي.
فضحك قدري ضحكةً مقتضبة وسألها: ماذا تظنينه يفعل لو عرف؟
فرددت ضحكته في حيرة، ولكنها قالت: إني لا أخشاه على رغم شدته، بل أقول لك إني أحبه، وهو يحبني في سذاجة لا تتفق وحدَّة طبعه؛ ولا يبالي أن يقول إنني أغلى شيء في دنياه، ولعل هذا هو أصل متاعبي.
جلس قدري على الأرض أسفل الصخرة ودعاها إلى الجلوس بأن ربَّت الموضع جانبه، فجلست وهي تتخفف من حبكة الملاءة، ومال نحوها فلثم خدها، ثم قال: يبدو أن غزو أبي أيسر من غزو أبيك، ومع ذلك فشدَّ ما يبدو فظًّا إذا جاء ذكر لأبيك. إنه ينكر عليه صفات …
فضحكت قائلة وهي تذكر ما تردد عن ذكره: بني آدم! … كذلك ينكر أبي عليه.
فحدجها بنظرة استنكار، فقالت: أبوك ينكر على أبي فظاظته، وأبي ينكر على أبيك طيبته، والمهم أنهما لم يتفقا على شيء.
فندت عن رأس قدري حركة كأنما ينطح الهواء. وقال بتحدٍّ: لكننا سنفعل ما نشاء.
فقالت هند وهي تنظر نحوه بعطف وإشفاق: أبي يستطيع أن يفعل ما يشاء كذلك!
– وأنا قادر على أشياءَ كثيرة، ماذا يريد لك هذا العم السكير؟
فضحكت على رغمها، وقالت بلهجة تشي بالاحتجاج والمداعبة معًا: تكلم عن أبي بأدب.
وواصلت الكلام وهي تقرصه في أذنه: طالما ساءلت نفسي عما يريد لي، فخُيل إليَّ أحيانًا أنه يكره أن يزوجني من أحد.
فحملق فيها منكرًا، فعادت تقول: رأيته مرة يرمى بيت جدنا بنظرةٍ غاضبة ويقول: «إذا كان قد رضي لأبنائه وأحفاده بالهوان، فهل يرضى به لحفيدته؟! لا مكان لائق بهند إلا هذا البيت المغلق.» ومرة قال لأمي: إن فتوة كفر الزغاري يرغب في الزواج مني، ففرحت أمي فصاح بها حانقًا: «يا وضيعة .. يا خسيسة، مَن يكون فتوة كفر الزغاري هذا؟ إن أحقر خادم في البيت الكبير أشرف منه وأنظف!» فسألته أمي في حسرة: «فمن تراه الجدير بها؟» فصاح: «علم ذلك عند الطاغية المتواري خلف أسوار بيته، إنها حفيدته، وليس في الأرض من هو أهل لها! أريد لها زوجًا مثلي أنا!» فقالت أمي على رغمها: «أتريدها أن تكون تعيسة مثل أمها؟!» فهجم عليها كالوحش وراح يركلها بشدة حتى جرت خارج الكوخ!
– هذا هو الجنون بعينه.
– إنه يكره جدنا، ويلعنه كلما ذكره، لكنه في أعماقه يتيه إجلالًا بأبوته.
فكوَّر قدري قبضته وجعل يضرب بها فخذه ويقول: لعلنا كنا نكون أسعد حالًا لو لم يكن ذلك الرجل جدًّا لنا!
فقالت بمرارة: لعلنا.
فجذبها إلى صدره بشدة تناسب الحدة في قوله وضمها إليه بقوة. واستبْقاها هكذا بين يديه ريثما تمر فترة الانتقال بين الشواغل المتعبة وبين الهيام الموعود، وقال: أعطيني فاكِ.
عند ذاك تراجع همام من موقفه عند الصخرة، واتجه بخفة نحو الأغنام وهو يبتسم في حياء وأسًى. خُيل إليه أن الهواء يثمل بأنفاس الحب، وأن الحب ينذر بالمآسي. لكنه قال لنفسه: «صفا وجهه ورقَّ، لا يُرى على هذا الحال إلا خلف الصخرة، فمن لنا بقوة هذا الحب السحرية لتزيل متاعبنا؟» هذا والسماء تشحب في استسلام، وأنفاس المغرب تتردد في خمول، والسُّمْرة تزحف كنغمة وداع وانية، وهناك تيس يثب على عنزة، وعاد همام يحدث نفسه: «ستفرح أمي يوم تلد هذه العنزة؛ ولكن ميلاد إنسان قد يجيء بالكوارث، فوق رءوسنا لعنة من قبل أن نولد، وأعجب عداوة هي التي لا تجد لها من مبرر إلا أنها بين أخوين. إلى متى نعاني من هذه الكراهية؟! لو نُسي الماضي لابتهج الحاضر، ولكننا سنظل نتطلع إلى هذا البيت الذي لا عزة لنا إلا به ولا تعاسة إلا بسبب منه!» وعلقت عيناه بالتيس فابتسم. ومضى يدور حول الغنم وهو يصفر ويلوِّح بعصاه. وحانت منه التفاتة نحو الصخرة الكبيرة الصامتة فبدت في وقفتها، كأنها لا تبالي شيئًا في الوجود.
١٥
استيقظت أميمة كعادتها عندما لم يبقَ في السماء إلا نجمةٌ واحدة. ونادت أدهم حتى استيقظ متأوِّهًا. ونهض الرجل فغادر غرفته مثقلًا بالنعاس إلى غرفةٍ خارجية متصلة بها حيث ينام قدري وهمام فأيقظهما. وبدا الكوخ في مظهره الجديد ناميًا ممتدًّا كأنه بيتٌ صغير، وأحاط به سورٌ ضم إليه فراغًا خلفيًّا لإيواء الأغنام. وانتشرت على السور أفرع اللبلاب؛ فلطَّفت من جفاء منظره، ودلَّت على أن أميمة لم تيئس بعدُ من تحقيق حلمها القديم بأن تهذب ما استطاعت كوخها على مثال البيت الكبير. واجتمع الرجال في الفناء حول صفيحةٍ مملوءة بالماء، فغسلوا وجوههم، وارتدوا جلابيب العمل، وحمل الهواء من داخل الكوخ رائحة احتراق خشب، وبكاء الإخوة الصغار.
وأخيرًا جلسوا حول الطبلية أمام مدخل الكوخ يأكلون من حلة فولٍ مدمس. وكان جو الخريف رطيبًا مائلًا للبرودة في هذه الساعة المبكرة، ولكنه لاقى أجسامًا قوية صمدت حيال نزواته. وعن بُعد بدا كوخ إدريس وقد كبر وامتد كذلك. أما البيت الكبير فقام في صمت منطويًا على ذاته كأنما لا يربطه سبب بهذا العالم الخارجي. وجاءت أميمة تحمل كوز لبنٍ محلوب لتوِّه فوضعته على الطبلية وجلست. وعند ذاك سألها قدري بسخرية: لماذا لا تبيعين اللبن إلى بيت جدنا الموقر؟
فالتفت إليه أدهم برأسه الذي وَخَطَ المشيب فودَيه وقال: كُل وأنت ساكت، السكوت غاية ما نرجو عندك من خير.
وقالت أميمة وهي تطحن ما في فيها: آن لنا أن نخلل الليمون والزيتون والفلفل الأخضر، كنت يا قدري تبتهج في أيام التخليل وتشترك في حشو الليمون.
فقال قدري بمرارة: كنا نبتهج ونحن صغار حتى بلا سبب.
فسأله أدهم وهو يعيد الكوز إلى موضعه: وماذا يشقيك اليوم يا أبا زيد الهلالي؟
فضحك قدري ولم يجب. أما همام فقال: يوم السوق قريب، ينبغي أن نفرز الأغنام.
فهزت الأم رأسها بالإيجاب، على حين وجَّه الأب خطابه إلى قدري قائلًا: يا قدري لا تكن فظًّا، لا أقابل شخصًا يعرفك إلا شكاك إليَّ، أخشى أن تعيد سيرة عمك في هذه الحياة.
– أو سيرة جدي!
فاتَّقدت عينا أدهم استياءً وقال: لا تذكر جدك بسوء، هل سمعتني أفعل ذلك؟ ثم إنه لم يسئ إليك.
فقال قدري باستنكار: أساء إلينا ما دام أساء إليك.
– اسكت، نقِّطنا بسكوتك.
– بسببه كُتبت علينا هذه الحياة، وهي أيضًا مصير بنت عمنا.
فقال أدهم في عبوس: ما لنا وما لها، أبوها علة الكارثة.
فهتف قدري: أعني أنه ما كان يصح أن تنشأ نساء من دمنا في الخلاء والعراء! ثم خبِّرني أي رجل ستتزوج هذه الفتاة؟
– ليكن الشيطان نفسه، لا شأن لنا بها، لا شك في أنها مفترسة مثل أبيها.
ونظر نحو زوجه كأنما ينشد تأييدًا فقالت أميمة: نعم، مثل أبيها.
فبصق أدهم قائلًا: ملعونة هي وأبوها!
فتساءل همام: ألا يفسد هذا الحديث علينا طعامنا؟
فقالت أميمة برقَّة: لا تبالغ .. إن أسعد الأوقات وقت اجتماعنا.
هنا ترامى إليهم صوت إدريس كالهدير وهو يلعن ويسب، فقال أدهم بتقزز: بدأت صلاة الصبح!
وتناول آخر لقمة ونهض، ثم اتجه نحو عربته وراح يدفعها أمامه وهو يقول: «تركتكم بعافية.» فردوا عليه: «مع السلامة!» ومضى الرجل مبتعدًا صوب الجمالية. وقام همام فمضى نحو الحظيرة من ممشًى جانبي، وما لبث أن تعالى ثغاء الأغنام ووقع أظلافها فملأت الممشى في طريقها إلى الخارج. ونهض قدري كذلك فتناول عصاه ولوَّح لأمه مودعًا ولحق بأخيه. وعندما اقتربا من كوخ إدريس تصدَّى لهما فتساءل ساخرًا: بكم الرأس يا جدع؟
فحدجه قدري بنظرة حب استطلاع على حين تجنَّب همام النظر إليه.
وعاد إدريس يتساءل في إنكار: ألا يتفضل أحدكما بالجواب يا ابنَي بياع الخيار؟
فقال قدري بحدة: إذا أردت الشراء فاذهب إلى السوق!
فتساءل إدريس مقهقهًا: وإذا قررت الاستيلاء على إحداها؟
وجاء صوت هند من الداخل وهي تقول: أبي، لا نريد فضائح!
فأجابها مداعبًا: اهتمي بشأنك أنت، ودعيني لسلالة الجواري!
فقال همام: نحن لا نتعرض لك فلا تتعرض لنا.
– آه، صوت أدهم، كان ينبغي أن تكون بين الأغنام لا وراءها.
فقال همام محتدًّا: أمرنا أبي بألَّا نجيب على تحرُّشك بنا.
فقهقه إدريس عاليًا وقال: جزاه الله كل خير، لولا أمره هذا لكنتُ من الهالكين! (ثم بلهجة خشنة) … إنكما تعيشان عزيزين بفضل اسمي، لعنة الله عليكم جميعًا، غورا من وجهي.
وواصلا سيرهما وهما يلوِّحان من حين إلى حين بعصويهما، ولبث همام ممتقع اللون من الانفعال فقال لقدري: هذا الرجل مقيت، ما أقذره! حتى في الساعة المبكرة تنفث أنفاسه رائحة الخمر.
فقال قدري وهما يوغلان وراء الأغنام في الخلاء: إنه يتكلم كثيرًا، ولكنه لم يمدَّ لنا يدًا بأذى.
فقال همام محتجًّا: بل استولى أكثر من مرة على بعض أغنامنا.
– إنه سكير، وهو للأسف عمنا، لا مهرب من الإقرار بذلك.
وساد الصمت قليلًا وهما يتجهان نحو الصخرة الكبيرة، وفي السماء سحبٌ متفرقة، والشمس ترسل أشعتها فتغمر الرمال المترامية. وضاق همام بكتمان ما يودُّ قوله فقال: ستخطئ خطأً كبيرًا إذا وصلت أسبابك بأسبابه.
فاشتعلت عينا قدري بنظرةٍ غاضبة وهتف: لا تحاول نصحي، حسبي أبوك.
فقال همام وهو لم يفق بعد من إهانات إدريس: حياتنا موفورة المتاعب فلا تزدها.
فصاح قدري: فلتسحقكم المتاعب التي تخلقونها بأنفسكم، أما أنا فأفعل ما أشاء.
وكانا قد بلغا الموضع الذي يُسرحان عنده الأغنام فالتفت همام نحو أخيه وتساءل: أتظن أنك ناجٍ من عواقب أفعالك؟!
فقبض قدري على منكبه بقبضته وصاح: ما أنت إلا حسود!
فدهش همام. دهمه قول أخيه الذي لم يتوقعه. ولكنه كان متعودًا من ناحيةٍ أخرى على مفاجآته ومفرقعاته. ورفع يده عن منكبه وهو يقول: اللهم احفظنا!
فشبك قدري يديه على صدره وهو يهز رأسه ساخرًا فقال همام: خير ما أفعل أن أتركك لنفسك حتى تندم، لن تقرَّ بخطأ، ولن تقر به إلا بعد فوات الفرصة.
وأولاه ظهره متجهًا نحو جانب الصخرة الظليل. ووقف قدري مكفهر الوجه تحت الأشعة الحامية.
١٦
جلست أسرة أدهم أمام الكوخ تتناول عشاءها في ضوء النجوم الخافت. وإذا بحدث يقع لم يشهد له الخلاء مثيلًا منذ طرد أدهم. فتح باب البيت الكبير وخرج منه شبح حاملًا مصباحًا. وتطلعت الأعين إلى المصباح في دهشة انعقدت لها الألسنة، وتابعته وهو يتحرك في الظلام ككوكبٍ أرضي، وعندما توسط المسافة بين البيت والكوخ تركزت الأبصار على الشبح لتتبيَّنه على ضوء المصباح المنعكس حتى همس أدهم: «هذا عم كريم بواب البيت.» وتضاعفت الدهشة عندما أيقنوا من أنه يقصدهم؛ فوقفوا جميعًا، بعضهم اللقمة في يده والبعض اللقمة في فيه بلا حراك، وبلغ الرجل موقفهم فوقف رافعًا يده وهو يقول: مساء الخير يا سيدي أدهم.
ارتجف أدهم لدى سماعه الصوت الذي انقطع عنه منذ عشرين عامًا، فدعا من أعماق ذاكرته نبرات الأب العميقة وشذا الياسمين والحناء وحنينًا وأشجانًا، فمادت به الأرض. وقال وهو يقاوم دموعه: مساء الخير يا عم كريم.
فقال الرجل بتأثر غير خافٍ: لعلك أنت وأهلك بخير.
– الحمد لله يا عم كريم.
فقال الرجل برقة: أود أن أعرب لك عما بنفسي، ولكني كلفت فقط بأن أبلغك بأن سيدي الكبير يدعو ابنك همام إلى مقابلته فورًا.
وساد الصمت، فتبادلوا النظرات، ولفَّتهم الحيرة، وإذا بصوت يتساءل: همام وحده؟
والتفتوا ساخطين نحو إدريس الذي بدا عن كثب وهو يصغي، غير أن عم كريم لم يجب، ورفع يده تحية ورجع صوب البيت الكبير تاركًا الجميع في ظلام. وتغيظ إدريس منه فصاح به: أتتركني بلا جواب يا ابن اللئيمة؟
وأفاق قدري من ذهوله فتساءل غاضبًا: لماذا همام وحده؟
فردَّد إدريس تساؤله: نعم، لماذا همام وحده؟
فقال له أدهم، ولعله وجد في مخاطبته متنفسًا عن أزمته: عد إلى كوخك ودعنا في سلام.
– سلام؟! إني أقف حيث أشاء.
وتطلع همام إلى البيت الكبير صامتًا، وقلبه يخفق بشدة خُيل إليه معها أن المقطم يردد صداه. وقال له أبوه بتسليم: اذهب يا همام إلى جدِّك مصحوبًا بالسلامة.
فالتفت قدري إلى أبيه يسأله بحدة وتحدٍّ: وأنا؟ ألستُ ابنك مثله؟
– لا تتكلم كما يتكلم إدريس يا قدري، إنك ابني مثله بلا أدنى ريب، ولا لوم عليَّ فلست أنا الداعي.
فقال إدريس محتجًّا: ولكن بوسعك أن تمنع تمييز أخ عن أخيه.
– هذا شأن لا يعنيك (ثم مخاطبًا همام) يجب أن تذهب، وسيأتي دور قدري، إني واثق من ذلك.
فقال إدريس وهو يهمُّ بالذهاب: إنك أبٌ ظالم مثل أبيك، مسكين قدري، لماذا يعاقَب دون ذنب؟
لكن اللعنة تنزل أول ما تنزل في أسرتنا بالممتازين، ألا لعنة الله على هذه الأسرة المجنونة!
ومضى فابتلعته الظلمة. وعند ذاك هتف قدري: إنك تظلمني يا أبي.
– لا تُعد أقواله، تعالَ يا قدري، واذهب يا همام.
فقال همام بحرج: وددت لو كان معي أخي!
– سيلحق بك.
فصاح قدري بحنق: أي ظلم هذا؟! لماذا آثره عليَّ؟ إنه لم يعرفه كما لم يعرفني، فلماذا يختصه بالدعوة؟
فدفع أدهم همام قائلًا: اذهب!
فسار همام، وهمست أميمة: تحفظك العناية!
واحتضنت قدري باكية، ولكنه تخلص من ذراعَيها ومضى في أثر أخيه فصاح به أدهم: عد يا قدري ولا تقامر بمستقبلك.
فقال قدري بغضب: لن ترجعني قوة على الأرض.
وعلا صوت أميمة بالبكاء، وبكى الصغار في الداخل. وأوسع قدري خطاه حتى لحق بأخيه، وعلى كثب منه في الظلام رأى شبح إدريس يسير ممسكًا بيد هند. ولما بلغوا باب البيت دفع إدريس قدري إلى يسار همام وهند إلى يمينه وتراجع خطوات وهو يصيح: افتح يا عم كريم، جاء الأحفاد للقاء جدِّهم.
وفُتح الباب، وظهر على عتبته عم كريم وبيده المصباح، وقال بأدب: فليتفضل سيدي همام بالدخول.
فهتف إدريس: وهذا أخوه قدري، وهذه هند، وهي صورةٌ مكررة من أمي التي ماتت باكية.
فقال عم كريم بأدب: أنت تعلم يا سيدي إدريس أنه لا يدخل هذا البيت إلا من يؤذن له.
وأشار إلى همام فدخل، وتبعه قدري آخذًا بيد هند ولكن علا صوت من الحديقة عرفه إدريس وهو يقول بصرامة: اذهبا بعاركما أيها الملوَّثان.
تسمَّرت أقدامهما. وأغلق الباب. وانقضَّ إدريس عليهما فقبض على منكبيهما بقبضتَيه وتساءل بصوتٍ متهدج من الغضب: أي عار يعني؟
وصرخت هند ألمًا، على حين تحول قدري فجأة نحو إدريس ورفع يديه عنه وعن هند، فأفلتت هند وولَّت هاربة في الظلام. وتراجع إدريس بخفة إلى الوراء، ثم وجه إلى قدري لكمة فتحملها الشاب على رغم قوتها ووجه إليه لكمةً أشدَّ. واندفعا يتبادلان الضرب والركل بقسوة ووحشية تحت سور البيت الكبير. وصاح إدريس: سأقتلك يا ابن العاهرة!
فصاح قدري: سأقتلك قبل أن تقتلني!
وتبادلا الضربات حتى سال الدم من فم قدري وأنفه. وجاء أدهم جريًا كالمجنون وصاح بأعلى صوته: اترك ابني يا إدريس!
فصاح إدريس بحقد: سأقتله بجريمته!
– لن أدعك تقتله، ولن أدعك تعيش إن قتلته!
وجاءت أم هند مولولة وهي تصيح: فرَّت هند يا إدريس، أدركها قبل أن تختفي!
ورمى أدهم بنفسه بين إدريس وقدري، وصاح بأخيه: أفق، إنك تقاتل بلا سبب، بنتك طاهرة لم تمسَّ، لكنك أرعبتها ففرَّت، أدركها قبل أن تختفي.
وجذب قدري إليه، ورجع به مسرعًا وهو يقول: أسرع .. تركتُ أمك في حالة إغماء.
أما إدريس فانطلق في الظلام وهو يصرخ بأعلى صوته: «هند .. هند!»
١٧
تبع همام عم كريم فاجتازا الممشى تحت عريشة الياسمين متجهَين نحو السلاملك. بدا الليل في الحديقة شيئًا جديدًا، لطيفًا رطبًا مترعًا بنشوات الأزهار والرياحين فانسكب بروعته في أعماق روحه. وامتلأ الشاب بشعور جلال وافتتان، وحنين مودة عميقة للمكان، وبأنه مقبل على أجلِّ لحظات عمره. وتراءت لعينَيه أنوار وراء شيش بعض النوافذ، ونورٌ قوي ينبعث من باب البهو فارشًا على أرض الحديقة تحته شكلًا هندسيًّا، فخفق قلبه وهو يتخيل الحياة خلف النوافذ وفي الأبهاء، كيف تكون؟ ومن يحياها؟ وزاد قلبه خفقانًا حينما تمثلت لخاطره هذه الحقيقة العجيبة وهي أنه مخلوق من سلالة هذا البيت ونطفة من هذه الحياة، وأنه جاء ليلقاها وجهًا لوجه في جلبابٍ أزرقَ بسيط وطاقيةٍ باهتة، منتعلًا أديم الأرض. ورقيا في سلم السلاملك، فمالا إلى جناح الشرفة الأيمن نحو بابٍ صغير، فتح على سلم فصعداه في صمت لا ينم عن حياة، حتى بلغا ردهةً طويلةً مضاءة بمصباح يتدلى من سقفٍ مزركش، واتجها نحو بابٍ كبيرٍ مغلق يتوسط الردهة. وقال همام لنفسه في تأثرٍ بالغ: «في موضع من هذه الردهة، لعله هذا الموضع عند رأس السلم، وقفت أمي منذ عشرين عامًا لتراقب الطريق، أي ذكرى تعيسة؟!» ونقر عم كريم على الباب الكبير مستأذنًا للقادم، ثم دفعه برقة وتنحى لهمام جانبًا وهو يشير له بالدخول.
ودخل الشاب في أناة وأدب ورهبة، فلم يسمع صوت الباب وهو يغلق وراءه، ولم يشعر إلا شعورًا غامضًا بالنور المضيء في السقف والأركان، أما وعيه كله فقد انجذب نحو الصدارة حيث تربع الرجل على ديوان. لم يكن رأى جده من قبلُ، ولكنه لم يشك في هوية الجالس أمامه، فمن يكون هذا الهائل إن لم يكن جده الذي سمع عنه الأعاجيب؟ واقترب من مجلسه وهو يتلقى من عينَيه الكبيرتَين نظرة استلَّت من ذاكرته جميع ما فيها، ولكنها بثت في قلبه في الوقت نفسه طمأنينة وسلامًا. وانحنى حتى كادت جبهته تمس طرف الديوان، ومد يده، فأعطاه الآخر يده، فلثمها من الأعماق، وقال بشجاعة غير متوقعة: مساء الخير يا جدي.
فجاءه الجواب من صوتٍ جهوري لم يخلُ من أنغام رحمة: أهلًا بك يا بني، اجلس!
واتجه الشاب نحو مقعد إلى يمين الديوان وجلس على حافته، فقال الجبلاوي: خذ راحتك في مجلسك.
فتزحزح همام إلى الداخل وقلبه يرتوي من المسرة، وتحركت شفتاه بشكرٍ مهموس ثم ساد الصمت. ولبث ينظر في نقوش السجادة تحت قدمَيه، وهو يشعر بموقع النظرة المسدَّدة نحوه كما نشعر بموقع الشمس منا دون أن نراها. وإذا بذهنه يتجه فجأة نحو الخلوة القائمة إلى يمينه، فلحظ بابها بخوف وكآبة، وإذا بالرجل يسأله: ماذا تعرف عن هذا الباب؟
فارتجفت أوصاله، وعجب كيف يرى كل شيء، وقال بخشوع: أعرف أنه فاتحة مأساتنا.
– وماذا ظننتَ بجدِّك لدى سماعك الحكاية؟
وفتح فاه ليتكلم فبادره الرجل: اصدقني القول.
فأثرت به اللهجة إلى حد أنه قال فيما يشبه الصراحة: بدا لي تصرف والديَّ خطأ كبيرًا، كما بدا لي عقابهما صارمًا شديدًا.
فابتسم الجبلاوي قائلًا: هذا هو شعورك على وجه التقريب، إني أمقت الكذب والخداع؛ ولذلك طردت من بيتي كل مَن لوث نفسه.
فاغرورقت عينا همام. فقال الجد: بدا لي أنك شابٌّ نظيف، ولذلك استدعيتك.
فقال همام بصوت رطبته الدموع: شكرًا يا سيدي!
فقال الجد بهدوء: رأيت أن أعطيك فرصة لم تتح لأحد ممن في الخارج، وهي أن تعيش في هذا البيت، وأن تتزوج به، وأن تبدأ حياةً جديدة فيه.
فتتابعت دقات قلب همام في نشوة من الأفراح، ولبث ينتظر أنغامًا جديدة يستكمل بها هذا اللحن البديع كالسمِّيع الذي ينتظر الجواب بعد أن طرب للقرار، ولكن الرجل لاذ بالصمت. وتردد همام قليلًا، ثم قال: الشكر لك على نعمتك!
– إنك تستحقها.
واختلج نظر الشاب بين جده وبين السجادة، ثم تساءل في إشفاق: وأسرتي؟
فقال الجبلاوي في عتاب: قلتُ ما أريد بوضوح!
فقال همام باستعطاف: إنهم يستحقون رحمتك وعفوك!
فتساءل الجبلاوي بشيء من البرود: ألم تسمع ما قلت؟
– بلى، ولكنهم أمي وأبي وإخوتي، إن أبي رجل …
– ألم تسمع ما قلت؟
وشى الصوت بالضجر فغلب الصمت. وإذا بالرجل يقول إيذانًا بانتهاء الحديث: ارجع إليهم لتستأذن، ثم عُد.
وقام همام فلثم يد جده ومضى. وجد عم كريم ينتظر، فتحرك الرجل وتبعه الشاب في سكون. ولما انتهيا إلى السلاملك، رأى همام فتاة في منطقة الضوء بأول الحديقة، وقد سارعت إلى الاختفاء. غير أنه لمح منها العارض والعنق وقامةً ممشوقة. وعاد صوت الجد يتردد في أذنيه وهو يقول: «أن تعيش في هذا البيت وأن تتزوج به.» بفتاة كهذه الفتاة، وعيشة خبرها أبي. كيف هانت عليه المقامرة؟! وكيف وبأي قلب تحمَّل الحياة بعد ذلك وراء عربة اليد؟! وهذه الفرصة السعيدة كأنها حلم؛ حلم أبي منذ عشرين عامًا.
١٨
عاد همام إلى الكوخ فوجد أسرته جالسة تترقب عودته، وأحاطوا به مستطلعين وسأله أدهم بلهفة: ماذا وراءك يا بني؟
ولاحظ همام أن قدري معصوب العين؛ فقرَّب رأسه من وجهه ليتحقق من الأمر فقال أدهم بأسًى: نشبت معركةٌ حامية بين أخيك وبين ذلك الرجل.
وأشار بيده نحو كوخ إدريس الذي بدا غارقًا في الظلمة والصمت، على حين قال قدري بغضب: كل ذلك بسبب التهمة الخبيثة الكاذبة التي قُذفتُ بها من داخل البيت.
وأشار همام نحو كوخ إدريس، وتساءل في قلق: ماذا يحدث هنالك؟
فقال أدهم بحزن: الرجل وزوجه يبحثان عن ابنتهما الهاربة.
فصاح قدري: مَن المسئول عن ذلك إلا الرجل الفظُّ اللعين؟!
فتوسلت أميمة قائلة: أخفت من صوتك.
فصاح قدري في حنق: ماذا تخافين؟ … لا شيء إلا الطمع في عودة لن تتحقق. صدقيني إنكِ لن تغادري هذا الكوخ حتى الممات.
فاحتد أدهم قائلًا: كفى هذيانًا، أنت مجنون وحق خالق الكون! ألم تكن تريد أن تلحق بالفتاة الهاربة؟
– وسألحق بها.
– اسكت، لقد ضقت بحماقاتك!
وقالت أميمة بجزع: لن تطيب لنا الحياة بجوار إدريس بعد اليوم.
والتفت أدهم نحو همام وسأله: قلتُ ماذا وراءك؟
فقال همام بصوت لا أثر للسرور فيه: دعاني جدي إلى الإقامة في البيت الكبير.
وترقب أدهم بقية للحديث، فلما لم ينبس الشاب تساءل في يأس: ونحن؟ ماذا قال عنا؟
فهزَّ همام رأسه في حزن وهمس: لا شيء.
فضحك قدري ضحكة كلدغة عقرب وسأله في سخرية: وماذا جاء بك؟
– نعم ماذا جاء بي؟ لا شيء إلا أن السعادة لم تخلق لينعم بها أمثالي. وقال بحزن: لم أقصِّر في تذكيره بكم.
فقال قدري بحنق: شكرًا، ولكن ماذا جعله يؤثرك علينا؟
– أنت تعلم أن لا شأن لي في ذلك.
وقال أدهم وهو يتنهد: لا شك في أنك يا همام خيرنا جميعًا.
فهتف قدري بمرارة: وأنت يا أبي الذي لم تذكره إلا بخير لا يستحقه!
فقال أدهم: أنت لا تفهم شيئًا.
– هذا الرجل أسوأ من ابنه إدريس.
فتوسلت أميمة قائلة: إنك تقطع قلبي، وتغلق أبواب الأمل في وجهك.
فصاح قدري باستهانة: لا أمل إلا في هذا الخلاء، أدركوا هذا وأريحوا أنفسكم، ايئسوا من هذا البيت اللعين، أنا لا أخاف هذا الخلاء، حتى إدريس نفسه لا أخافه، وبوسعي أن أكيل له من الضربات أضعاف ما يكيل لي. ابصقوا على هذا البيت وأريحوا أنفسكم.
وساءل أدهم نفسه: «أيمكن أن تمضي هذه الحياة على هذا النحو إلى الأبد؟ ولماذا أيقظت يا أبي طموحنا إليك قبل أن ترتضي العفو لنا؟ وأي شيء يمكن أن يلين قلبك إذا كان ذلك الزمن الطويل لم يلنه؟ وما جدوى الأمل إذا كان ذلك العذاب كله لم يزكِّنا لرحمة من نحب؟» وقال الرجل بصوت كالغروب: خبِّرني يا همام عما لديك.
فقال همام في حياء: قال لي اذهب فاستأذن ثم عُدْ.
وشى الظلام بمحاولةٍ فاشلة من أميمة لكتم انتحابها، وتساءل قدري في خبث: وماذا يؤخرك؟
فقال أدهم في حزم: اذهب يا همام مصحوبًا بالسلامة والبركات.
وقال قدري بلهجةٍ جدِّيةٍ كاذبة: اذهب يا شهم ولا تُلقِ بالًا إلى أحد.
فصاح أدهم: لا تهزأ بأخيك الطيب.
فقال قدري ضاحكًا: إنه شرُّنا جميعًا.
فهتف همام بحدة: إذا قررتُ البقاء فلن يكون هذا إكرامًا لك أنت.
فقال أدهم بقوة: بل اذهب دون تردد!
وقالت أميمة خلال دموعها: نعم .. اذهب بالسلامة.
فقال همام: كلا يا أمي، لن أذهب!
فتساءل أدهم: أجننتَ يا همام؟
– كلا يا أبي، الأمر يحتاج إلى تفكير ومشاورة.
– لا حاجة بك إلى ذلك، ولا تحمِّلني ذنبًا جديدًا.
فقال همام بعزم وهو يشير نحو كوخ إدريس: يخيل إليَّ أن أحداثًا ستقع.
فقال قدري ساخرًا: إنك أضعف من أن تدفع شرًّا عن نفسك فضلًا عن الآخرين.
فقال همام بازدراء: خير ما أفعل أن أتجاهل ما تقول.
فعاد أدهم يقول برجاء: اذهب يا همام!
فاتجه همام نحو الكوخ وهو يقول: سأظل إلى جانبك.
١٩
لم يبقَ من الشمس إلا الشفق، وانقطعت السابلة، وانفرد بالخلاء قدري وهمام والأغنام. مَرَّ النهار فلم يتبادلا طواله إلا ما تقتضيه ضرورة الشركة في العمل. وغاب قدري شطرًا كبيرًا من النهار فخمن همام أنه يتشمم أخبار هند، ولبث وحده في ظل الصخرة على كثب من الأغنام. وفجأة، وفي شيء من التحدي، سأل قدري همام: خبِّرني عما انتويت من ذهابك إلى جدك أو عُدولك؟
فقال همام بامتعاض: هذا شأن يخصني وحدي.
فاحتدم الغيظ في قلب قدري، ولاحت بوادره في وجهه كطلائع الظلام فوق المقطم، وتساءل: لماذا بقيت؟ .. ومتى تذهب؟ .. متى تجد الشجاعة لإعلان نيتك؟
– بل بقيت لأتحمل نصيبي من العناء الذي خلقتْه فضائحك.
فضحك قدري ضحكةً كاسرة وقال: هكذا تقول لتداري حسدك!
فهز همام رأسه كالمتعجب وقال: إنك تستحق الرثاء لا الحسد!
فاقترب قدري منه وأطرافه ترتجف من الحنق، وقال بصوتٍ مخنوق بالغضب: ما أبغضك حين تتظاهر بالحكمة!
فحدجه همام بنظرة احتقار دون أن ينبس، فعاد الآخر يقول: يجب أن تخجل الحياة لانتساب أمثالك إليها.
فلم يغضَّ همام من بصره تحت النظرات المتقدة التي تنصب عليه وقال بثبات: اعلم أنني لا أخافك.
– هل وعدك البلطجي الأكبر بالحماية؟
– إن الغضب يجعل منك شيئًا حقيرًا تعافه النفس.
وفجأة لطمه قدري على وجهه. لم تدهمه اللطمة فردَّها بأشد منها وهو يقول: لا تتمادَ في جنونك.
وانحنى قدري بسرعة فالتقط حجرًا وقذف به أخاه بكل ما أوتي من قوة. وبادر همام؛ ليتفادى الحجر ولكنه أصاب جبينه. ندَّت عنه آهة وجمد في موقفه والغضب يشتعل في عينَيه. وإذا بالغضب يختفي منهما فجأة كأنه شعلة ردمت بترابٍ كثيف. وإذا بفراغٍ قاتم يحل فيهما. فبدت العينان وكأنهما تنظران إلى الداخل. وترنح ثم انكفأ على وجهه.
وتبدل قدري حالًا بعد حال، فزايله الغضب، وتركه حديدًا باردًا بعد انصهار، وركبه الخوف. ترقب بلهفة أن ينهض المنكفئ أو أن يتحرك ولكنه لم يرحم لهفته. وانحنى فوقه، ومد إليه يده يهزه في رفق ولكنه لم يستجب. وسوَّاه على ظهره؛ ليخلص أنفه وفاه من الرمال؛ فاستلقى الآخر محملق العينَين ولا حراك به. وركع قدري إلى جانبه، وراح يهزه، ويدلِّك صدره ويديه، وينظر بفزع إلى الدم المتدفق بغزارة من جرحه. وناداه برجاء فلم يجب. وبدا صمته كثيفًا عميقًا، كأنه جزء لا يتجزأ من كيان، كجموده الذي بدا غريبًا عن الحي والجماد معًا؛ لا إحساس ولا انفعال ولا اهتمام بشيء، كأنما أُلقي إلى الأرض من مكانٍ مجهول فلم يمتَّ إليها بسبب. عرف قدري الموت بفطرته فراح يشد شعر رأسه في يأس، ونظر فيما حوله خائفًا، ولكن لم يكن هناك من حي إلا الأغنام والحشرات، وجميعها انصرفت عنه دون اكتراث، سينتشر الليل ويستحكم الظلام.
وقام بعزم، فجاء بعصاه، واتجه إلى موضع بين الصخرة الكبيرة وبين الجبل، وراح يحفر الأرض ويرفع التراب بيديه، ويواصل العمل بعناد، وهو يتصبَّب عرقًا وترتجف منه الأوصال. وهرع نحو أخيه، هزه وناداه للمرة الأخيرة دون أن يتوقع جوابًا. وقبض على أسفل ساقَيه وجره حتى أودعه الحفر، وألقى عليه نظرة وهو يتنهد، وتردد مليًّا، ثم أهال عليه التراب. ووقف يجفف عرق وجهه بكُمِّ جلبابه. وكلما رأى بقعة دم في الرمال غطَّاها بالتراب. وارتمى على الأرض من شدة الإعياء. وشعر بقوته تتخلى عنه، وبرغبة في البكاء، ولكن الدموع استعصت عليه. وقال: «غلبني الموت!» لم يَدْعُه ولم يقصده ولكنه يجيء كما يحلو له. ولو أنه انقلب تيسًا لغاب في الأغنام، أو ذرة من رمال لاختفى في الأرض. ما دمت لا أستطيع أن أرد الحياة فلا يجوز أن أدعي القوة أبدًا. وهيهات أن تُمحى تلك النظرة من رأسي أبدًا! إن الذي دفنته لم يكن من الأحياء ولا من الجماد، ولكنه من صنع يدي!
٢٠
عاد قدري إلى الدار يسوق الأغنام، ولم تكن عربة أدهم بموقفها. وجاءه صوت أمه من الداخل وهي تتساءل: لماذا تأخرتما عن موعدكما؟
فدفع الأغنام إلى الممشى المفضي إلى حظيرتها وهو يقول: غلبني النوم، ألم يحضر همام؟
رفعت أميمة صوتها؛ ليعلو على أصوات الطفلين قائلة: كَلا، ألم يكن معك؟
فازدرد ريقًا جافًّا وقال: غادرني منذ الظهر دون أن يخبرني أين هو ذاهب، فظننته رجع إلى هنا.
فتساءل أدهم وكان قد وصل ومضى يُدخل العربة إلى الفناء: هل تشاجرتما؟
– أبدًا.
– أظنك كنت السبب في ذهابه، ولكن أين هو؟
خرجت أميمة إلى الفناء، على حين أغلق قدري باب الحظيرة، وراح يغسل وجهه ويديه من ماء طشت تحت الزير. لا بد من مواجهة الموقف. الدنيا تغيرت ولكن اليأس قوة. وانضم إلى والديه في الظلام، وهو يجفف وجهه بطرف جلبابه. وتساءلت أميمة: أين ذهب همام؟ لم يغب كهذه المرة من قبلُ.
فوافقها أدهم قائلًا: نعم، خبِّرنا كيف ولماذا ذهب؟
وارتعد قلب قدري لصورة خطرت برأسه، لكنه قال: كنت جالسًا في ظل الصخرة، فلاحت مني التفاتة فرأيته يبتعد صوب حيِّنا، وهممت أن أناديه ولكني لم أفعل.
فقالت أميمة في حسرة: ليتك ناديته ولم تستسلم لزعلك.
ونظر أدهم حائرًا في الظلام حوله، فرأى ضوءًا خافتًا خلال كوة في كوخ إدريس دلت على أن الحياة دبَّت فيه من جديد، ولكنه لم يأبه لذلك، وثبَّت بصره على البيت الكبير وتساءل: أتراه ذهب إلى جده؟
فقالت أميمة بإنكار: لا يفعل ذلك دون إخبارنا.
فقال قدري بصوتٍ شاحب: لعل الحياء منعه!
فسدد أدهم نحوه نظرة ارتياب منقبض الصدر؛ لخلوِّ صوته من السخرية والعدوان وقال: دفعناه إلى الذهاب فأبى.
فقال قدري في إعياء: تحرج من القبول أمامنا!
– ليس هذا من خُلقه، وأنت ما لك كالمريض؟!
فقال قدري بحدة: حملت عبء العمل وحدي!
فهتف أدهم في ضيق المستغيث: الحقَّ أقول .. إن قلبي غير مطمئن.
فقالت أميمة بصوتٍ مبحوح: سأذهب إلى البيت الكبير؛ لأسأل عنه.
فهز أدهم منكبَيه في يأس وقال: لن يرد عليك أحد، ولكني أؤكد لكِ أنه لم يذهب.
فنفخت أميمة في كرب وقالت: رباه، لم يضطرب هكذا قلبي من قبلُ، افعل شيئًا يا رجل!
فتنهد أدهم بصوتٍ مسموع في الظلام وقال: فلنُفتِّش عنه في كل ناحية.
فقال قدري: لعله في الطريق إلينا.
فهتفت أميمة: لا ينبغي أن ننتظر.
ثم مستدركة في جزع، وهي تنظر صوب كوخ إدريس: أيكون إدريس قد صادفه في طريقه؟
فقال أدهم بامتعاض: غريم إدريس قدري لا همام.
– إنه لا يتردد عن القضاء على أيٍّ منا، إني ذاهبة إليه؟
فحال أدهم بينها وبين الذهاب وهو يقول: لا تزيدي أمورنا تعقيدًا، أعدك إذا لم نعثر عليه أن أذهب إلى إدريس، وأن أذهب إلى البيت الكبير.
وحدج شبحَ قدري بنظرةٍ قلقة. ما باله واجمًا؟! أليس عنده أكثر مما قال؟ وأين أنت يا همام؟!
واندفعت أميمة لتغادر الفناء فمال أدهم نحوها وأمسك بمنكبها. وإذا بباب البيت الكبير يُفتح، فتطلعوا نحوه. وبعد قليل لاح شبح عم كريم وهو يقترب منهم فخرج إليه أدهم وهو يقول: «أهلًا بك يا عم كريم.» فحيَّاه الرجل وقال: سيدي الكبير يسأل عمَّا أخَّر همام.
فقالت أميمة بيأس: لا ندري أين هو حتى ظنناه عندكم.
– سيدي يسأل عمَّا أخَّره!
فهتفت أميمة: أعوذ بالله من أوهام قلبي.
وذهب عم كريم. وأخذت أميمة تحرك رأسها في اضطراب ينذر بالانفجار، فساقها أدهم أمامه إلى حجرتهما الداخلية حيث علا بكاء الصغيرَين، وصاح بوحشية: لا تغادري الحجرة، سأعود به، ولكن إياكِ أن تغادري الحجرة.
وعاد إلى الفناء فعثر على قدري جالسًا على الأرض فانحنى فوقه هامسًا: خبِّرني ماذا تعرف عن أخيك؟
فرفع رأسه نحوه بشدة، ولكن شيئًا منعه من الكلام فعاد الرجل يسائله: خبِّرني يا قدري ماذا فعلتَ بأخيك؟
فقال الشاب بصوت لا يكاد يسمع: لا شيء.
وارتدَّ الرجل نحو الداخل، ثم رجع بمصباح فأشعله ووضعه على عربته فسقط نوره على وجه قدري فتفحصه الرجل بريبة وقال: وجهك ينذر بالشقاء.
وجاء صوت أميمة من الداخل مختلطًا بأصوات الطفلَين؛ ليقول كلامًا لم يميزه أحد فصاح أدهم: اسكتي يا ولية، موتي إن شئتِ ولكن في صمت!
وعاد إلى تفحُّص ابنه. وبغتة ارتعدت أطرافه. وأمسك بطرف كمه وقال في فزع: دم! ما هذا؟ دم أخيك؟!
فحملق قدري في كم جلبابه ثم انكمش بحركةٍ لا إرادية، وحنى رأسه في يأس. وأطرق قدري بحركته اليائسة، فجذبه أدهم حتى أقامه، ثم دفعه إلى الخارج. دفعه بقسوة لم يعهدها من قبلُ، وغشي عينيه ظلام فوق الظلام المحيط.
٢١
دفعه نحو الخلاء قائلًا: سنميل نحو خلاء الدراسة كي لا نمُر أمام كوخ إدريس.
وأوغلا في الظلام، وقدري يسير كالمترنح تحت قبضة أبيه الناشبة في منكبه. وتساءل أدهم وهو يجدُّ في السير بصوت أدركه الهرم: خبِّرني هل ضربته؟ بأي شيء ضربته؟ وعلى أي حال تركته؟
لم يجب قدري. كانت قبضة أبيه شديدة ولكنه لم يكد يشعر بها. وكان ألمه شديدًا ولكنه لم يفصح عنه، وود أن الشمس لا تطلع أبدًا.
– ارحمني وتكلم، ولكنك لم تعرف الرحمة، وقد قضيت على نفسي بالعذاب يوم أنجبتك، أنا الذي تطاردني اللعنات منذ عشرين عامًا، وها أنا ذا أطلب الرحمة ممن لا يعرفها.
فانفجر قدري باكيًا، حتى ارتجف منكبه في قبضة أدهم القاسية، وظل يرتجف حتى سرت عدواه إلى أدهم، لكنه قال: أهذا جوابك؟ لماذا يا قدري؟ لماذا؟ كيف هان عليك؟ اعترف في الظلام قبل أن ترى نفسك في ضوء النهار.
فهتف قدري: لا طلع النهار!
– نحن أسرة الظلام، لن يطلع علينا نهار! وكنت أحسب الشر مقيمًا في كوخ إدريس، فإذا به في دمنا نحن. إن إدريس يُقهقِه ويسكر ويعربد، أما نحن فيقتل بعضنا البعض، رباه .. هل قتلت أخاك؟
– أبدًا!
– فأين هو؟
– ما قصدت قتله!
فصاح أدهم: لكنه قُتل!
وأجهش قدري في البكاء واشتدت قبضة أبيه. إذن قُتل همام، زهرة العمر وحبيب الجد، كأنه لم يكن، لولا الألم المفترس ما صدَّقتُ.
وبلغا الصخرة الكبيرة فسأله أدهم بصوتٍ غليظ: أين تركته يا مجرم؟
فسار قدري نحو الموضع الذي حفره لأخيه، ووقف عنده فيما بين الصخرة والجبل. وتساءل أدهم: أين أخوك؟ لا أرى شيئًا.
فقال قدري بصوت لا يكاد يسمع: هنا دفنته.
فصاح أدهم: دفنته؟!
وأخرج من جيبه علبة ثقاب وأشعل عودًا تفحص الموضع على ضوئه حتى رأى قطعة من الأرض قلقة المستوى، كما رأى مسحب الجثة الذي انتهى عندها. تأوَّه أدهم من الألم. وراح يزيح التراب بيدَين مرتعشتَين. وواصل عمله في جوٍّ رهيب حتى مسَّت أصابعُه رأسَ همام. وغرز يديه إلى ما تحت إبطيه وسحب الجثة في رفق. وجثا على ركبتَيه إلى جانبها واضعًا يديه على رأسه، مغمض العينين، مثالًا للتعاسة والخيبة. وزفر من أعماقه، ثم غمغم: إن حياة أربعين عامًا من العمر تبدو سخفًا سقيمًا أمام جثتك يا بني.
وقام بغتة، ونظر نحو قدري وهو يقف أمام الجثة من الناحية الأخرى، فعانى لحظات كراهية عمياء، وقال بصوتٍ غليظ: سيعود همام إلى الكوخ محمولًا على عنقك.
فجفل قدري متراجعًا، ولكن الرجل سارع إليه دائرًا حول الجثة ثم قبض على منكبه وهتف: احمل أخاك!
فقال قدري بصوت كالأنين: لا أستطيع!
– إنك استطعت قتله.
– لا أستطيع يا أبي!
– لا تقل «أبي»، قاتل أخيه لا أب له، لا أم له، لا أخ له.
– لا أستطيع!
فشد قبضته عليه وقال: على القاتل أن يحمل ضحيته!
حاول قدري أن يفلت من قبضة أدهم، ولكن أدهم لم يمكنه، وانهال في عصبية على وجهه باللكمات فلم يتفادَ من لكمة أو يتأوَّه من ألم. وكفَّ الرجل، ثم قال: لا تضيع الوقت، أمك تنتظر.
وارتعد قدري لدى ذكر أمه، فقال برجاء: دعني أختفي.
فجذبه نحو الجثة وهو يقول: هلم نحمله معًا.
تحول أدهم إلى الجثة ووضع يديه تحت إبطي همام، وانحنى قدري واضعًا يديه تحت الساقين. رفعا الجثة معًا، وسارا في بطء نحو خلاء الدراسة. أوغل أدهم في مشاعره الأليمة حتى فقد أي شعور بالألم أو بسواه. ولبث قدري يعاني ألمًا من خفقان قلبه وارتجاف أطرافه. وامتلأ أنفه برائحةٍ ترابيةٍ نفاذة على حين سرى مس الجثة من يديه إلى أعماقه. وكان الظلام غليظًا بينما نضح الأفق بأنوار الأحياء الساهرة. وشعر قدري باليأس يكتم آخر أنفاسه فتوقف قائلًا لأبيه: سأحمل الجثة وحدي.
ووضع ذراعًا تحت الظَّهر وأخرى تحت الفخذين، وسار يتبعه أدهم.
٢٢
وعندما اقتربا من الكوخ جاءهما صوت أميمة متسائلًا في جزع: هل وجدتماه؟
فصاح أدهم بصوتٍ آمر: اسبقيني إلى الداخل!
وسبق قدري إلى الكوخ؛ ليتأكد من اختفائها. ووقف قدري عند مدخل الكوخ لا يريد أن يتحرك. وأشار له أبوه بالدخول، فامتنع قائلًا في صوتٍ هامس: لا أستطيع أن ألقاها.
فهمس الأب حانقًا: استطعت ما هو أفظع.
فتشبث قدري بموقفه وهو يقول: كلا، هذا أفظع!
ودفعه أدهم أمامه بحزم فاضطر إلى التحرُّك حتى بلغ الحجرة الخارجية. وانقضَّ أدهم على أميمة بسرعة فكتم براحته الصرخة التي أوشكت على الإفلات من فيها، وقال بقسوة: لا تصرخي يا ولية، لا ينبغي أن نلفت الأسماع إلينا حتى نتدبر الأمر، فلنقاسِ المقدور صامتين، ولنتحمل الألم صابرين، الشر من بطنك ومن صلبي خرج، واللعنة حقَّت علينا جميعًا.
وسدَّ فاها بقوة. وحاولت التخلص من يده عبثًا. أرادت أن تعضها فلم تتمكن. اضطربت أنفاسها وخارت قواها فسقطت مغشيًّا عليها. ولبث قدري واقفًا يحمل الجثة في صمت وخزي مركِّزًا بصره على المصباح ليتجنب النظر إليها. واتجه أدهم نحوه، فساعده على وضع الجثة على الفراش، ثم سجَّاها برفق. ونظر قدري إلى جثة أخيه المسجَّاة على الفراش الذي اقتسماه طوال العمر، فشعر بأنه لم يعد له مكان في الدار. وحركت أميمة رأسها، ثم فتحت عينَيها فبادر أدهم إليها وهو يقول بحزم: إياكِ أن تصرخي.
وأرادت أن تنهض فساعدها على النهوض وهو يحذرها من إحداث صوت. وهمت بالارتماء على الفراش فحال الرجل دون ذلك، فوقفت مغلوبة على أمرها واندفعت تنفس عن كربها بشدِّ شعرها بقسوة فانتزعت منه خصلات بعد خصلات. ولم يبالِ الرجل بما تفعل، وقال بغلظة: افعلي ما يريحكِ ولكن في صمت.
فقالت بصوتٍ مبحوح: ابني .. ابني!
فقال أدهم في ذهول: هذه جثته، لم يعد ابنك ولا ابني، وهذا هو قاتله، اقتليه إن شئتِ.
ولطمت أميمة خدَّيها وقالت لقدري بوحشية: إن أحطَّ الوحوش تتبرأ من فعلتك!
فحنى قدري رأسه في صمت، على حين قال أدهم بوحشية: هل تذهب هذه الروح هدرًا؟ لا ينبغي أن تحيا، هذه هي العدالة.
فهتفت أميمة: كان أمس أملًا مشرقًا، قلنا له اذهب فأبى، ليته ذهب، لو لم يكن كريمًا نبيلًا رحيمًا لذهب، أيكون جزاء هذا القتل؟! كيف هان عليك يا صخريَّ القلب! لستَ ابني ولستُ أمك!
لم ينبس قدري، لكنه قال لنفسه: «قتلته مرة وهو يقتلني مرة كل ثانية، لست حيًّا، من قال إني حي؟!» وسأله أدهم بفظاظة: ماذا أفعل بك؟
فقال قدري بهدوء: قلت إنه لا ينبغي أن أحيا.
فهتفت أميمة: كيف سوَّلت لك نفسك قتله؟!
فقال قدري في يأس: لا جدوى من النواح، إني مستعدٌّ للعقاب، والقتل أهون مما أعاني.
فقال أدهم بحنق: لكنك جعلت حياتنا أيضًا أفظع من الموت.
وهبَّت أميمة هاتفة وهي تلطم خدَّيها: لن أحب هذه الحياة، ادفنوني مع ابني، لماذا لا تدعني أصوِّت؟
فقال أدهم بمرارة وسخرية: ليس شفقة على حنجرتك، ولكني أخشى أن يسمعنا الشيطان.
فقال قدري باستهانة: فليسمع كيف شاء، لم أعد أكترث للحياة.
وإذا بصوت إدريس يعلو قريبًا من مدخل الكوخ: أخي أدهم! تعالَ يا مسكين!
فسرت الرعدة فيهم جميعًا، غير أن أدهم صاح به: عد إلى كوخك، واحذر أن تستفزني.
فقال إدريس بصوتٍ قوي: شرٌّ أهون من شر، مصيبتكم نجتكم من غضبي، ولكن لندع هذا الحديث، كلانا مصاب، أنت فقدت العزيز الغالي، وأنا ضاعت ابنتي الوحيدة؛ كان الأبناء عزاءنا في منفانا ولكنهم ذهبوا، تعالَ يا مسكين نتبادل العزاء.
إذن ذاع السر! كيف ذاع؟! ولأول مرة يخاف قلب أميمة على قدري. وقال أدهم: لا تهمني شماتتك، مَن يذق ألمي تهن عليه الشماتة!
فجاء صوت إدريس مستنكرًا: شماتة؟! ألا تدري أنني بكيت عندما رأيتك تسحب الجثة من الحفرة التي حفرها قدري؟!
فصاح أدهم بغضب: تجسُّسٌ حقير!
– لم أبكِ على القتيل وحده، ولكن على القاتل أيضًا! وقلت لنفسي: يا لك من مسكين يا أدهم، فقدت شابين في ليلةٍ واحدة!
وصوَّتت أميمة دون اكتراث لأحد، واندفع قدري خارج الكوخ بغتة. وجرى أدهم وراءه. وصرخت أميمة: لا أريد أن أفقد الاثنين!
أراد قدري أن يثب على إدريس، ولكن أدهم دفعه بعيدًا عنه، ثم وقف أمام الرجل متحديًا وهو يقول: احذر أن تتعرض لنا!
فقال إدريس بهدوء: أنت أحمق يا أدهم، لا تفرق بين الصديق وبين العدو، تريد أن تعارك أخاك دفاعًا عن قاتل ابنك!
– اذهب عني.
فقال إدريس ضاحكًا: كما تشاء، تقبَّل عزائي والسلام عليكم.
غاب إدريس في الظلام. وتحول أدهم نحو قدري فوجد أميمة واقفة تتساءل عنه، فجزع الرجل وراح ينظر في الظلام ويصيح بأعلى صوته: قدري .. قدري .. أين أنت؟!
وجاءه صوت إدريس وهو يصيح بقوة: قدري .. قدري .. أين أنت؟!
٢٣
دُفن همام في مقبرة تابعة للوقف بباب النصر. سار في جنازته قومٌ كثيرون من معارف أدهم، أكثرهم باعة من زملائه، وأقلهم زبائن ممن أَسَرتهم رقَّة أخلاقه وحسن معاملته. وفرض إدريس نفسه على الجنازة فاشترك في تشييعها، بل وقف يتقبل العزاء بصفته عم الفقيد. وسكت أدهم كارهًا، فسار في الجنازة كثيرون من الفتوات والبلطجية والبرمجية واللصوص وقُطاع الطرق. وعند الدفن وقف إدريس فوق القبر يشجع أدهم بكلمات العزاء، والآخر صابر متصبر لا يجيب ودموعه تستبق على خديه. وروحت أميمة عن كربها باللطم والصوات والتمرغ في التراب. وعندما تفرق المشيعون، التفت أدهم إلى إدريس وقال بحنق: ألا يوجد حدٌّ لقسوتك؟!
فتظاهر إدريس بالدهشة وتساءل: عم تتحدث يا أخي المسكين؟
فقال أدهم بحدة: لم أتصورك على هذا القدر من القسوة على رغم سوء ظني بك، الموت نهاية كل حي، فما وجه الشماتة فيه؟!
فقال إدريس وهو يضرب كفًّا على كف: الحزن أخرجك عن أدبك، لكني مسامحك.
– متى تقر بأنه لم تعد تربطنا صلة؟
– لترحمنا السماء، ألست أخي؟! هذه رابطة ليس في الإمكان فصمها.
– إدريس! كفاك ما فعلت بي.
– الحزن قبيح، ولكنَّ كلينا مصاب، أنت فقدت همام وقدري وأنا فقدت هند، أصبح للجبلاوي العظيم حفيدةٌ عاهرة وحفيدٌ قاتل. وعلى أي حال فأنت خيرٌ حالًا مني، إذ لك ذرية تعوضك عما فات. فتساءل أدهم في حسرة: أما زلت تحسدني؟
فقال إدريس متعجبًا: إدريس يحسد أدهم؟!
فعلا صوت أدهم وهو يهدر: إذا لم يكن جزاؤك من جنس عملك فعلى الدنيا العفاء.
– العفاء .. العفاء.
ومرت أيامٌ كئيبة مفعمة بالأشجان. وقهر الحزن أميمة فساءت صحتها واعتصرها الضمور. وفي أعوامٍ قلائل بلغ أدهم من الهرم ما لا يُبلَغ في عمرٍ مديد. وبات الزوجان يعانيان الهزال والمرض. ويومًا اشتدت عليهما وطأة المرض فركنا إلى الرقاد، أميمة مع طفليها في الغرفة الداخلية، وأدهم في الغرفة الخارجية، غرفة قدري وهمام. ومضى النهار وجاء الليل فلم يشعلا مصباحًا، وقنع أدهم بضوء القمر المنبعث من الفناء. وراح يغفو قليلًا ويستيقظ قليلًا في حال بين الوعي والذهول. وجاءه صوت إدريس من خارج الكوخ وهو يسأله متهكمًا: ألست في حاجة إلى خدمة؟
فانقبض صدره ولم يجبه. وكان يكره الساعة التي يغادر فيها الآخر كوخه؛ ليذهب إلى سهرته الليلية. وجاءه الصوت مرةً أخرى وهو يقول: اشهدوا يا ناس على بِرِّي وعقوقه.
وذهب وهو يغني:
امتلأت عينا أدهم بالدموع. هذا الشر الذي لا يصد عن اللهو. يقاتل ويقتل ويحظى بكل احترام. يقسو ويستبدُّ هازئًا بالعواقب وله ضحكةٌ تجلجل فتملأ الآفاق. له لذة في العبث بالضعفاء ويسمر في المآتم ويغني فوق شواهد القبور. الموت يدنو مني وهو ما زال يضحك ساخرًا. القتيل في التراب والقاتل ضائع، وفي كوخي بكاء على الاثنين. ضحكة الطفولة في الحديقة استحالت مع الأيام عبوسةً غارقة في الدمع. وفي الداخل بقية جسدي يتوجع. لماذا هذا العناء كله؟ وأين صفو الأحلام؟ أين؟
وخيل إلى أدهم أنه يسمع وقع أقدام؛ أقدام بطيئة وثقيلة استثارت ذكرياتٍ غامضة كرائحةٍ زكية مؤثرة تستعصي على الإدراك والتحديد. حول وجهه نحو مدخل الكوخ فرأى الباب يفتح، ثم رآه يمتلئ بشيء كجسمٍ هائل. حملق في دهش، وأحدَّ بصره في أمل يكتنفه يأس، وندَّت عنه آهةٌ عميقة، وغمغم متسائلًا: أبي؟!
وخيل إليه أنه يسمع الصوت القديم وهو يقول: مساء الخير يا أدهم.
فاغرورقت عيناه، وهمَّ بالقيام فلم يستطع، ووجد غبطة وبهجة لم يجدهما منذ أكثر من عشرين عامًا. وقال بصوتٍ متهدج: دعني أصدق.
فقال: أنت تبكي وأنت الذي أخطأت.
فقال أدهم بصوت يشرق بالدمع: الخطأ كثير والعقاب كثير، ولكن حتى الحشرات المؤذية لا تيئس من العثور على ظل.
– هكذا تعلمني الحكمة.
– عفوًا عفوًا، الحزن أرهقني، والمرض ركبني، حتى أغنامي مهددة بالهلاك.
– جميل أن تخاف على أغنامك.
تساءل أدهم في رجاء: هل عفوتَ عني؟
أجاب بعد صمت: نعم.
فهتف أدهم بجسمٍ مرتعش: الشكر لله، منذ قليل كنت أقرع قاع هاوية اليأس بيدي.
– فعثرت عليَّ فيها؟
– نعم كالصحو بعد الكابوس.
– لذلك فأنت ولدٌ طيب.
فتأوه أدهم قائلًا: أنجبتُ قاتلًا وقتيلًا.
– الميت لا يعود، فماذا تطلب؟
فتنهد أدهم قائلًا: كنت أهفو للغناء في الحديقة، ولكن لن يطيب لي اليوم شيء.
فقال: سيكون الوقف لذريتك.
– الشكر لله.
فقال: لا تجهد نفسك واركن إلى النوم.
•••
وفي تواريخ متقاربة ودع الحياةَ أدهم، فأميمة، ثم إدريس. وكبر الأطفال. وعاد قدري بعد غيبةٍ طويلة ومعه هند ومعهما أطفال. نشئوا جنبًا إلى جنب وخالطوا غيرهم فازدادوا بهم عددًا. وانتشر العمران بفضل أموال الوقف فارتسمت في صفحة الوجود حارتنا. ومن هؤلاء وأولئك جاء أبناء حارتنا.