المشهد الأول
(الحجرة التي يسكنها منصور أحمد.
منصور جالس على ضوء اللمبة يكتب، وعلى المكتب زجاجة خمرة فارغة، يفرغ منها
آخِر كأس.
يكوِّر الورق ويلقيه في سلة المهملات.)
منصور
(يكلم نفسه)
:
أكتب إزاي بس وهو واقف فوق دماغي بالشكل دا؟ مش هاين عليه يسبني ليلة واحدة
لوحدي، والإزازة خلصت والحاجات اللي عاوز أقولها كتيرة مش بتخلص.
(يفرغ آخِر قطرة من الزجاجة.)
منصور
(يكلم الشخص الوهمي)
:
اسمع يا أخ، خلي عندك ذوق الليلة وروَّح بدري. بصراحة كده فيه واحدة ست جاية
الليلة، وأظن يعني مش معقول تفضل لازق لي بالشكل ده، ياللا يا عزيزي من غير
مطرود على بيتكم (يدفع الشخص الوهمي حتى الباب) ياللا …
(تدخل زكية وتراه وهو يطرد الشخص الوهمي.)
زكية
:
والله باين مافيش فايدة يا منصور.
منصور
:
مافيش فايدة إزاي يا زكية، فيه فايدة وفايدة وفايدة.
زكية
:
فين هي الفايدة دي بس؟
منصور
:
اصبري بس الليلة يا زكية وحتشوفي منصور له فايدة أد إيه، ومن بكرة الصبح يا زكية حاسد
لك الفلوس اللي خدتها سلف، وحادفع الإيجار المتأخر. خلاص فُرِجَت يا زكية، فُرِجَت، والليلة
حاقبض خمسين جنيه. فُرِجَت …
زكية
:
خمسين جنيه مرة واحدة، إش إش، بعت الرواية والا إيه يا منصور.
منصور
:
إيه …
زكية
:
إيه … معناها إيه دي يا منصور؟
منصور
:
من ناحية بعت … أيوة بعت. لكن بعت إيه بقة مش مهم.
زكية
:
حتبيع إيه يا منصور؟ هو انت عندك حاجة غير الرواية؟
منصور
:
طبعًا عندي حاجة غير الرواية يا زكية، عندي حاجة مهمة خالص، أهم من الرواية،
كنت شايلها في حتة مكينة ومخبيها بطريقة جهنمية، بحيث مافيش حد يقدر ياخدها مني،
وامبارح في نص الليل فكرت كده وأنا قاعد لوحدي: يا واد حتفضل شايلها كده
لإمتى، ما تبيعها وتخلص منها بدل ما انت شايلها كده فوق قلبك زي الهم على
القلب، واهو كمان يجيلك من وراها قرشين تسدد ديونك.
زكية
:
بعت إيه يا منصور؟ قوللي.
منصور
:
بعت نفسي.
زكية
:
نفسك؟ وبعت نفسك إزاي يا منصور؟
منصور
:
ما تتخضيش قوي يا زكية، الحقيقة إنه مش بيع إنما يعني كده زي ما يكون بيع
مؤقت، أو تأجير، حاجة زي كده.
زكية
:
تأجير؟
منصور
:
لمدة ليلة واحدة بس، ويمكن ما يكونش ليلة كاملة، يمكن ساعة بس، والساعة يمكن
تنقص نص ساعة أو عشرين دقيقة … على العموم أنا وشطارتي.
زكية
:
أنا مش فاهمة حاجة خالص، اوعى تكون يا منصور حتعمل في نفسك حاجة مش
كويسة.
منصور
:
حاجة مش كويسة يعني إيه يا زكية؟
زكية
:
يعني حاجة مش كويسة.
منصور
:
برضه مش فاهم مش كويسة يعني إيه؟ أو مش كويسة في نظر مين؟ أنا ولَّا الناس؟
إيه رأيك بقى إن كل الحاجات اللي في نظر الناس كويسة، في نظري أنا مش كويسة، وكل
الحاجات اللي في نظري كويسة، في نظر الناس ست هربت من جوزها وأهلها وعايشة
لوحدها، ومأجرة أودة لراجل غريب، لها ابن ماحدش يعرف أبوه مين. كل ده في نظر
الناس حاجات كويسة؟
زكية
:
الناس عاوزة الست تبيع نفسها بورقة الجواز وتعيش زي الجارية تخدم جوزها عشان
يوكلها ويكسيها، أنا شقيانة وتعبانة، وباشتغل ليل نهار، لكن حاسة إني حرة نفسي،
أنا اللي بوكل نفسي وماحدش له عندي حاجة، والأودتين البلاط اللي أنا عايشة فيهم
أحسن من شقة جوزي المليانة عفش وموبيليا. إيه فايدة العفش والفلوس والراحة،
وكل ليلة أحس إني بابيع نفسي لراجل مش عاوزاه؟
منصور
:
وتفتكري يا زكية كام واحدة كده بتتجوز الواحد اللي هي عاوزاه؟ وتفتكري كام
واحد يتجوز الواحدة اللي حبته وادته قلبها؟ الجواز عملية حسابية، زي البورصة،
الأشطر يكسب، واللي يفكر بقلبه وعواطفه في البورصة يخسر، وانتي في نظر الناس يا زكية
الخسرانة.
زكية
:
خسرانة خسرانة، بس عندي شرف.
منصور
:
شرف؟ أيوة، هي دي الكلمة اللي ماحدش فاهمها. هو الشرف يعني إيه يا زكية؟
زكية
:
يعني الواحد يقول الحق.
منصور
:
آخ، يا نهار أسود، ده انتي مصعباها قوي. ده انتي مش مصعباها وبس، ده انتي
مخلياها كده حاجة زي المستحيلة. ده الواحد عشان يقول الحق يا زكية يبقى
تقريبًا يعني كده مش موجود، أو على الأقل مش في وعيه، أو يعني على الأقل مش في
عقله الواعي، يعني تبقى القشرة (يشاور على رأسه)، أيوة القشرة المخية الوقائية
دي تبقى متشالة خالص، متشالة خالص، وعشان القشرة دي تتشال يبقى لازم الواحد
يجيب إزازة تانية، وتالتة، وانتي عارفة يا زكية الأزايز غالية، وناس كتير حالتها
المالية ماتسمحش، ناس كتير زي حالاتي ما يقدروش، نعمل إيه يا زكية، الفلوس قليلة
والأزايز غالية، الناس تجيب أزايز منين يا زكية؟ منين؟ أقسم لك يا زكية إن لولا
أهمية الأزايز عندي أنا ماكانش يهمني حكاية الفلوس دي أبدًا، والأزايز مهمة
عندي قوي عشان أحافظ على نفسي، وعشان أقدر أقول الحق، عشان أبقى إنسان شريف،
عشان ما ابيعش نفسي، إنما مافيش أزايز من غير فلوس، وعشان أجيب فلوس يا زكية
لازم أبيع نفسي، إنما أنا حاطط في مخي إني بابيع نفسي عشان أحافظ على نفسي.
فاهماني يا زكية؟
زكية
:
فاهماك ومش فاهماك يا منصور.
منصور
:
مش فاهمة إيه يا زكية؟
زكية
:
حتبيع نفسك إزاي ولمين؟ هو انت لو كنت من اللي يبيعوا نفسهم كنت بقيت في
الحالة دي يا منصور؟ ده انت ضحيت بوظيفتك وماهيتك عشان ماتكدبش كدبة واحدة
وتقول للمدير بتاعك …
منصور
:
ده كان زمان، أيام الرعونة والطيش، الرعونة والطيش عند المدير بتاعي كان
معناها إن الواحد يقول الحق، والاتزان والعقل عنده إن الواحد يقول الحاجة اللي
في دماغ سيادته. بالضبط، بالضبط، بالحرف الواحد، وكان دماغ سيادته مترتب زي
الدفتر، الحرف جنب الحرف، والكلمة ورا الكلمة، والسطر بعد السطر، نظام دقيق زي
الدفاتر تمام، كانوا زمايلي في العمل بينصحوني ويقولولي: يا منصور سدِّد دفاترك،
سدِّد دفاترك عشان المفتش لما ييجي يلاقي كل حاجة مضبوطة تمام، الدفاتر وبس،
الناس مش تبص غير في الدفاتر، مالهاش غير الحاجة اللي مكتوبة على الورق، عمر
الناس تبص غير للورق، إنما إيه اللي اتعمل بصحيح، إيه اللي جوه القلب بصحيح،
ماحدش بيبص جوه القلب. ماحدش بيبص جوه القلب يا زكية، المهم عندهم ورق
الحسابات، ورقة الجواز، شهادة الميلاد، شهادة التخرج، دفاتر الوارد والصادر
والحساب الختامي، مدام الدفاتر مضبوطة والخانات متسددة يبقى خلاص، كل حاجة
تمام، إنما القلب من جوه ماحدش بيبص للقلب من جوه، كلهم بيبصوا للواحد من بره؛
شكله إيه، لابس إيه، معلق على ظهره يافطة شكلها إيه، راكب عربية طولها إيه …
(يثور في غضب)
كدابين … كلهم كدابين … والكداب ما يطيقش اللي يقول الحق؛ لأنه بيكشف كدبه
ويعرِّيه زي اللون الأبيض ما يجي جنب اللون الأسود، الأسود مش بيبان أسود إلا جنب
الأبيض.
زكية
:
وبعد كل ده يا منصور، بعد كل السنين اللي حافظت فيها على نفسك، بعد كل اللي
ضحيت بيه عشان ماتكونش كداب، بعد كل ده يا منصور تفكر دلوقت إنك …
منصور
:
هي كدبة واحدة يا زكية.
زكية
:
واحدة زي عشرة يا منصور، مش انت اللي تعمل كده.
منصور
(في حنين)
:
مش أنا، مش أنا، هو لازم أبقى أنا على طول، يجرى إيه يعني لو بقيت واحد تاني
مرة؟
زكية
:
ما تقدرش يا منصور، شوف توفيق متعذب أد إيه؟
منصور
:
وأنا يعني اللي مش متعذب؟
زكية
:
عذاب عن عذاب أرحم.
منصور
:
أهو كله عذاب وبس، ثم إن الكدبة بتاعتي مش زي كدبة توفيق، لا حد حيعيا ولا
حد حيموت ولا حاجة، بالعكس دي كدبة مفيدة خالص، حتنقذ حياة واحدة ست متجوزة من
الانهيار، وحتنقذ ثروة راجل غني من الضياع في إيدين الناس الغرب، وفوق كل ده
فيه بني آدم جديد حينخلق.
زكية
:
بني آدم حينخلق؟
منصور
:
أيوة … إيه؟ صعبة دي، دي أسهل حاجة في الدنيا، ده كل ثانية من الثواني فيه
بني آدم جديد بيتخلق، الإحصاءات بتقول كده، وعشان كده يا زكية أسهل حاجة إني
أعمل واحد، يمكن يطلع كويس، حد عارف.
زكية
:
حتتجوز يا منصور وتخلف ولَّا إيه؟
منصور
:
حتجوز لا، إنما حاخلف آه، مش عارف ليه ربنا خلقني كده أكره الجواز قوي، وأحب
الخلف قوي، مش عارف ليه بحب الأطفال مع إني وأنا طفل كنت بكره نفسي، وكنت بأحس
إن مافيش حد بيحبني، أمي ماشفتهاش، أبويا طلقها وأنا عندي تلات سنين، وقالولي
إنها اتجوزت واحد تاني وسافرت معاه الكويت، وأبويا كان راجل ماعندوش غير اللي
في دماغه، اللي في دماغه بس هو الصح، تمام زي المدير اللي عندنا.
زكية
:
يعني حتبقى أب يا منصور؟
منصور
(ينظر في ساعته)
:
المفروض إنها تيجي بعد ربع ساعة، لو جت في ميعادها يبقى المفروض إني بعد تسع
شهور وخمستاشر دقيقة حيكون لي ابن.
زكية
:
وحتسميه إيه يا منصور؟
منصور
:
حسميه محمود علي زكريا المحلاوي.
زكية
:
باين عليك تعبان وعاوز تنام يا منصور، كل ده من السبرتو اللي بتحرق بيه دمك
كل يوم. يا ريت يا منصور ربنا يهديك وتبطل الأزايز دي، وتفوق لنفسك وتكتب زي ما
كنت زمان.
منصور
:
أقسم لك يا زكية إن دي آخِر ليلة، وبعد كده حيكون عندي إرادة حديد. عارفة
حديد يعني إيه؟ بس المهم الليلة يا زكية، الليلة تفوت على خير، وعشان تفوت على
خير لازم أجيب إزازة، إزازة واحدة يا زكية، آخر واحدة، أقسم لك إنها آخِر
واحدة، بكرة الصبح حاسدد لك كل اللي عليَّ، بس المهم اديني الليلة آخِر مرة يا زكية.
(زكية تضع يدها في جيبها وتناوله شيئًا من النقود.)
زكية
:
كل مرة بتقول إنها آخِر مرة يا منصور.
منصور
:
لا المرة دي غير كل مرة يا زكية، المرة دي آخِر مرة، حتشوفي إنها آخِر مرة …
حتشوفي يا زكية.
زكية
:
حنشوف يا منصور.
(زكية تخرج إلى حجرتها.
ومنصور يرتدي جاكته ويخرج من الباب ويتركه مفتوحًا.
حجرة منصور خالية والباب مفتوح.
تظهر حسنية بملابسها الأنيقة الغالية عند الباب المفتوح، تدخل إلى
حجرة منصور الخالية، تتجوَّل وتتلفت حولها فلا تجد أحدًا.)
حسنية
(تكلم نفسها)
:
لازم غلط في العنوان.
(تقترب من المكتب، تنظر في بعض الأوراق عليه.)
حسنية
(تكلم نفسها)
:
خطه تمام، لكن دي أودة دي يسكن فيها؟ (تقترب من الكنبة) ودي إيه دي؟ معقول
إني أنام على الفرش الوسخ ده؟ أنا عارفة إيه اللي خلاني أقل عقلي وآجي، وكمان
يا ريته هنا، لازم نسي الميعاد. لكن ينساه إزاي؟ مش معقول؟ يمكن حاجة طارئة جت
له؟ (تقترب من المكتب) سايبلي ورقة ولَّا حاجة؟ …
تنظر في الأوراق، تقرأ فيها باهتمام شديد، يبدو عليها الذعر والضيق والغضب.
(تكلم نفسها) يا خبر أسود! بقى ده كلام يكتبه عني؟ بقى ده رأيه فيَّ؟ بقى أنا … أنا حسنية
يوصفني بالشكل ده؟ (تقرأ بانهماك شديد ويزول الغضب تدريجيًّا ليحل مكانه شعور بالأسى
والحزن) إخص عليك يا منصور، انت كمان بتظلمني؟ انت كمان مش قادر تفهمني وتفهم الحالة
اللي أنا فيها؟ لكن من إمتى فيه راجل يفهم الست، مافيش راجل يقدر يفهم الست،
الرجالة أنانيين، كل واحد يفكر في نفسه بس. حتى انت يا منصور! كنت فاكراك تقدر
تفهم، كنت متصورة إن مخك أحسن شوية، وتفكيرك متحرر، لكن أتاريك زي كل الرجالة،
زيهم كلهم بوشين؛ وش قصاد الناس بريء ومحترم وآخِر أدب، ووش من ورا الناس لا براءة ولا
أدب،
الخيانة في دمهم، والكدب، بقى أنا يا منصور اللي كدبت؟ ولَّا الدنيا كلها بوشين؛
وش قصاد الناس بريء ومحترم وآخِر أدب، ووش من ورا الناس لا براءة ولا أدب،
الخيانة في دمهم، والكدب. بقى أنا يا منصور اللي كدبت؟ ولَّا الدنيا كلها هي …
أنا ماعنديش قلب ولَّا الدنيا كلها هي اللي كدبت عليَّ من يوم ما اتولدت لغاية
النهاردة؟ بقى أنا اللي مالهاش قلب ولَّا الدنيا اللي مالهاش قلب ولا عمرها ترحم
البنت أو الست. والدنيا هي مين غير الرجالة اللي في إيديهم كل حاجة، كل حاجة حتى
الجنين اللي جوه جسمها واللي بيعيش على دمها؟ انت كمان بتظلمني يا منصور؟ مش
كفاية ظلموني كلهم من أول أبويا وأمي لغاية جوزي … (تبكي في
ألم وتمسح دموعها) بقى أنا ماعنديش قلب يحب؟ ياما قلبي حب واتهان
في الحب، كان عندي سبعتاشر سنة باحب الدنيا وبحب الناس، واديت قلبي لقنديل، كل
قلبي لقنديل، لكن قنديل زي كل الرجالة (يضيء المسرح في الركن
وتظهر حسنية وهي في سن السابعة عشرة، ومعها قنديل الشاب الذي
تحبه).
حسنية
:
لكن انت قلت لي إنك بتحبني يا قنديل، وأنا حبيبتك واديتك كل قلبي.
قنديل
:
أيوة يا حسنية، أنا قلت لك إني بحبك، لكن ماجبتش سيرة الجواز.
حسنية
:
والجنين يا قنديل؟ أعمل إيه في الجنين؟
قنديل
:
مافكرتيش ليه في كل ده قبل ما …
حسنية
:
ما انت اللي أصريت يا قنديل، انت اللي قولتلي لو كنت بتحبيني صحيح تديني كل
حاجة من غير حسابات، ومن غير شكوك، ومن غير هدف غير الحب.
قنديل
:
كنت باختبر أخلاقك وأشوف حتوافقي ولَّا لأ.
حسنية
:
يعني كنت بتكدب عليَّ يا قنديل؟
قنديل
:
كنت باختبر أخلاقك.
حسنية
:
ده كدب، كدب، كدب، أنا حبيتك بكل قلبي، صدقت كل كلمة قلتها لي، صدقت حبك،
عمري ما شكيت فيك، لكن انت كنت طول الوقت بتشك فيَّ، أصل اللي بيكدب لازم
يشك.
قنديل
:
البت اللي أخلاقها كويسة ماتديش نفسها من غير جواز يا حسنية.
حسنية
:
أنا أخلاقي أحسن من أخلاقك؛ لأني مش بكدب، لأني اديت قلبي بحب وصدق من غير
شروط مكتوبة على الورق، ومن غير مقدم ولا مؤخر ولا فلوس تندفع، أنا مش بابيع
نفسي بالفلوس يا قنديل.
قنديل
:
البنت الشريفة ماتخرجش مع الراجل من غير جواز.
حسنية
:
واحد زيك مش مفروض يتكلم عن الشرف، انت فاهم الشرف بالعكس يا قنديل. الشرف
إنك ماتكدبش على حد، لكن انت كداب، كداب، وانا باحتقرك، باحتقرك.
(ظلام)
(يضيء ركن المسرح مرة أخرى، يظهر شارع خالٍ في منتصف الليل، وفتاة ترتدي
شالًا وتُخفِي جسمها ورأسها وتحتضن طفلًا وليدًا وملفوفًا في لفائف كثيرة، تتلفت حولها
في
خوف، تضع الطفل بجوار الرصيف وتتركه بسرعة وتجري مختفية وراء جدار، تنتظر وتراقب الطفل
وهي تبكي في ألم.)
(ظلام)
(يعود المشهد حيث كانت حسنية جالسة إلى مكتب منصور تمسح دموعها في أسًى وحزن
…
يدخل منصور يمسك زجاجة خمر في يده، ويدندن بلحن أغنية الأطفال الشحاتين،
ويغني إحدى فقراتها.)
منصور
(يغني)
:
عاوز آكل،
عاوز أدفى،
في قلب حنين،
مليان حب.
فين القلب،
فين الحب،
في دنيا فاضية مافهاش حد؟
(ينتبه إلى وجود حسنية في حجرته، فتبدو عليه المفاجأة.)
منصور
:
حسنية؟ انتي هنا؟
حسنية
:
انت نسيت ولا إيه يا منصور؟ مش عارف إني جاية؟
منصور
:
أيوة صحيح، معلهش يا حسنية، متأسف إني اتأخرت، أنا أصلي اليومين دول في حالة
كده مش ولا بد، ثم إني وأنا جاي في السكة قابلت شوية أطفال شحاتين وعمالين
يغنوا غنوة حلوة، وصوتهم حلو. وتصوري يا حسنية إنْ واحد زيي كده محترم برضه يدخل
في وسطهم. مش أنا محترم برضه يا حسنية؟
منصور
(يغني مرة أخرى)
:
عاوز آكل،
عاوز أدفى،
في قلب حنين،
مليان حب.
فين القلب،
فين الحب،
في دنيا وحشة مالهاش قلب؟
حسنية
:
هي الدنيا وحشة ولَّا الناس هم اللي وحشين يا منصور؟
منصور
:
عاوزة رأيي؟ الاتنين أوحش من بعض، ومافيش حد بينظلم فيهم غير الأطفال،
الأطفال الصغيرين المساكين اللي بييجوا للدنيا غصب عنهم، ماحدش بياخد رأيهم
ويسألهم عاوزين تيجوا ولا لأ، أنا متأكد لو حد سألهم حيقولوا لأ، لو أبويا وأمي
سألوني قبل ما يخلفوني عاوز تيجي الدنيا يا منصور، أنا متأكد إني كنت حقول لأ …
إنما نعمل إيه يا حسنية؟ نعمل إيه إذا كان ماحدش بياخد رأينا في حاجة أبدًا؟
ماحدش بيحترمنا يا حسنية، الاحترام مفقود، مفقود خالص.
حسنية
:
تقصد إيه بالاحترام يا منصور؟
منصور
:
أقصد بالاحترام الاحترام، هو فيه كام احترام؟
حسنية
:
انت بتسأل السؤال ده يا منصور؟ يظهر واحد تاني اللي كاتب الكلام على المكتب،
أو انت زي كل الرجالة؛ يكتبوا حاجة، ويقولوا حاجة، ويعملوا حاجة تانية
خالص.
منصور
(يتجه ناحية مكتبه وأوراقه)
:
انتي شفتي الكلام اللي مكتوب هنا يا حسنية؟
حسنية
:
شفته وقريته كلمة كلمة.
(منصور يجلس ويمسك رأسه بيده ويصمت فترة.)
حسنية
:
يعني مش قادر تقول حاجة!
منصور
:
حقول إيه يا حسنية؟ الحقيقة أصلها مفزعة، لما الواحد يشوفها لأول مرة،
الحقيقة مخيفة لما تتعرى قصاد عنينا لأول مرة، وعشان كده الناس بتخاف من
الحقيقة، الناس بتهرب منها، وأنا كمان زي كل الناس أهرب من الحقيقة. تعرفي يا حسنية …
أنا بخاف من الورق اللي ع المكتب ده، باخاف أقراه تاني، ومتصور أد إيه
انتي خفتي لما قريته.
حسنية
:
أنا ماخفتش ولا حاجة يا منصور، أنا عارفة نفسي كويس، وعارفة أنا بعمل إيه،
صحيح زي ما انت كاتب عني، الدنيا هزمتني وكل الناس فرضوا عليَّ الكدب وهزموني،
لكن أنا ما انهزمتش قصاد نفسي، مافيش حد يقدر يهزم حد يا منصور، الإنسان بينهزم
يوم ما ينهزم قصاد نفسه.
منصور
:
وإمتى الواحد ينهزم قصاد نفسه يا حسنية؟
حسنية
:
لما يكدب على نفسه.
منصور
:
وانتي مش بتكدبي على نفسك يا حسنية.
حسنية
:
لا، أنا بكدب على الناس، بس مش بكدب على نفسي، الناس عاوزة إني أكدب، وإذا
قلت الحق يدبحوني، لكن أنا ماكدبتش عليك يا منصور، أنا قلت لك كل حاجة، وشرحت
لك كل ظروفي، لكن انت زي كل الناس، كنت عاوزني أكدب عليك، كنت عاوزني أمثل عليك
دور واحدة بتحبك، لكن أنا قلت لك أنا مش بحبك يا منصور، وكل اللي عاوزاه منك
طفل، طفل يعوضني عن ابني اللي راح وماعرفش هو فين، طفل يدي حياتي طعم ومعنى،
حياتي اللي ضاعت مع راجل عجوز عقيم، واللي شجَّعني على كده إنك قلت إنك بتحبني
ومستعد تعمل أي حاجة عشان تسعدني، لكن الكلام اللي انت كاتبه …
منصور
:
انتي مش قولتيلي إن جوزك نِفسه في عيل عشان يورثه، وإنه ليل نهار يقولك نفسي
في عيل يا حسنية يحمل اسمي ويورث أرضي، وإنه بالأمارة حتى مسمِّيه محمود، محمود
علي زكريا المحلاوي، وكل شوية يقولك مش حتجيبلنا محمود يا حسنية؟
(يقلد صوت زوجها) إمتى حتجيبي محمود يا حسنية؟
حسنية
:
أيوة صحيح، جوزي عاوز عيل يحمل اسمه ويورث أرضه، لكن أنا لا عندي اسم ولا
أرض، الست غير الراجل يا منصور، الست بتعوز الطفل عشان تحبه وتديه قلبها، لكن
الراجل ما يعرفش يعني إيه حب، كل همه مين اللي حيورث، مين اللي حيحفظ اسم
العيلة، الراجل بيعوز الأطفال عشان يملكهم ويعلمهم زي ما هو عاوز، الراجل اتعود
إنه ياخد ياخد، وما يعرفش يعني إيه يدي، لكن الست بتدي على طول، وبتدي قلبها
وحياتها، بس يا خسارة في دنيا ما تستهلش.
منصور
:
أنا اديتك قلبي يا حسنية، لكن انتي مش بيهمك القلب ورحتي اتجوزتي واحد غني
عشان يفرش لك بيت حلو، ويركبك عربية، ويلبسك فورير، ودستي على قلبي يا حسنية،
دستي عليَّ عشان أنا راجل فقير، ولولا إني لسة باحبك ماكنتش أقدر أديك قلبي
وجسمي وابني كمان. لكن انتي يا حسنية … إزاي تدي نفسك كل ليلة لراجل مش
بتحبيه؟
حسنية
:
الدنيا عاوزة كده يا منصور، الست لما بتحب حق وحقيقة بتضيع يا منصور، والكل
يدوس عليها، وأولهم الراجل اللي هي حبته، الدنيا عاوزة الستات يكدبوا عشان
يعيشوا، ويا ويل اللي تقول الحق، يا ويلها.
منصور
:
ويعني تفتكري الدنيا عاوزة مين يقول الحق، الدنيا مش عاوزة حد يقول الحق، لا
ست ولا راجل.
حسنية
:
ويعني الدنيا هي مين، ما الدنيا هي الرجالة يا منصور، الرجالة هم اللي
مالكين كل حاجة في الدنيا.
منصور
:
اللي مالكين، لكن فيهم رجالة لا لهم في الطور ولا في الطحين.
حسنية
:
اللي مالهمش بيفضلوا يصارعوا عشان يبقى لهم، واللي لهم بيفضلوا يصارعوا عشان
ماحدش ياخد منهم حاجة، وكلهم رجالة في رجالة، إنما الستات بره اللعبة دي خالص،
الستات زي البيوت، زي الأطيان، زي الأطفال، زي العقارات، ضمن التركة اللي
بيورثها دول أو دول، بيتخانقوا عليها وكل واحد عاوز يملك أكتر وأكتر، اللي
مالك واحدة ست عاوز اتنين، واللي عنده اتنين عاوز تلاتة، واللي مالك أرض عاوز
عمارة، واللي مالك عمارة عاوز اتنين، واللي ماعندوش طفل عاوز طفل، واللي عنده
طفل عاوز اتنين … الرجالة هم اللي بيملكوا وكل حاجة باسمهم، وعشان كده كل
الرجالة مغرورين، والواحد من دول يبقى حافي وماحلتوش حاجة ومايعرفش يفك الخط،
إنما لما يمشي جنب مراته يتنفخ زي الديك الرومي ويسبقها بعشر خطوات، ولما تيجي
تكلمه ولا تناقشه في حاجة يحط مناخيره في السما ويقولها بغطرسة (تقلد صوت
الرجل): أنا الراجل، مش فاهمة يعني إيه أنا الرجل؟ تعرف يا منصور الراجل جوزي
عجوز، واتجوز قبلي اتنين ولا خلفش، وكل واحدة اتجوزها يقولها العيب منك،
ويبعتها للدكاترة تكشف، وللمشايخ عشان يعملوا لها أحجبة عشان تخلف وبرضه مافيش،
ولما اتجوزني عمل معايا كده، وواحد من الدكاترة قالي هاتي جوزك يكشف، ورحت قلت
له، تعرف حصل إيه؟
منصور
:
حصل إيه؟
(يضيء المسرح في الركن.
يظهر زوج حسنية (رجل غليظ فظ) يقف أمام
زوجته حسنية غاضبًا، يصفعها على وجهها صفعة قوية، ويقول بصوت غاضب غليظ …)
زوج حسنية علي زكريا المحلاوي
:
إزاي تتجرئي وتقولي كلام زي ده، أنا أروح أكشف؟ أنا راجل، فاهمة يعني إيه
راجل؟ ومش ممكن العيب من الراجل، روحي دوري على نفسك، شوفيلك دكتور عدل يعالجه،
ولَّا شوفيلك شيخ من المشايخ، ولَّا زار زي كل الستات اللي زيك.
حسنية
:
كده تضربني يا علي! هو أنا قلت لك حاجة، مش بقولك كلام الدكتور؟
الزوج
(في غضب)
:
عاوزة تقولي إيه أكتر من كده؟
حسنية
:
أنا باقترح عليك اقتراح يا علي.
الزوج
:
اقتراح؟ اقتراح إيه يا ست؟ تقولي إنك بتفكري وعندك مخ؟ الستات ناقصات عقل
ودين يا هانم، الاقتراحات بتاعتك دي خليها في المطبخ، في تنظيف البيت، في تفصيل
الفساتين. (بسخرية) اقتراح آل،
ستات آخِر زمن، ستات ما يعرفوش قيمة الراجل، فاتح لهم البيت وبيصرف
فلوسه على أكلهم وشربهم وجزمهم وفساتينهم.
(يُطفَأ النور في الركن.
يعود المشهد إلى حسنية ومنصور.)
حسنية
:
كل يوم يا منصور يعايرني بالمصروف اللي يدهولي لما طهقت وعاوزة أسيبله البيت
وأمشي، لكن أروح فين؟ ماليش حد، وماحدش دلوقت بقى بيستحمل حد … وماليش شغلة آكل
منها عيش، لو كنت كملت تعليمي واشتغلت كنت استغنيت عن راجل بالشكل ده، لكن أعمل
إيه يا منصور، أبويا طلعني من المدرسة ومارضاش يخليني أكمل.
(تبكي في ألم وأسى.
منصور صامت يفرغ كأسًا ويشربه، ثم يفرغ كأسًا آخَر.)
حسنية
:
ياما فكرت إني أتعلم حرفة، أي حرفة؛ خياطة، تفصيل، تطريز، تدليك، تكفين، تغسيل، أي
حاجة، أي حاجة أحسن ما أمد إيدي لجوزي كل يوم وآخذ المصروف، أكتر حاجة بتذل
البني آدم إنه عاوز ياكل. وإذا كان بإيد غيره يعمل إيه يا منصور؟
منصور
(يبتسم في سخرية)
:
كلامك تمام بالضبط زي كلام واحد صاحبي، دكتور بيقول نفس الكلام، نفس
المشكلة، هو برضه عايش في ذل عشان عاوز ياكل ويوكل ولاده، كل يوم يكدب كدبة آد
كده هو، ويموت ناس آد كده هو، ويقول لي أعمل إيه يا منصور، عاوز آكل وأوكل
ولادي.
حسنية
:
يا خي جته السم يهري مصارينه ومصارين ولاده، ده الدكاترة دول ماحدش يغلبهم
أبدًا، كل فلوس البلد في جيوبهم، وياما خدو مني، مرة نفخ، ومرة كحت، ومرة أشعة،
ومرة كهربا ولادة. لازم صاحبك ده مش دكتور بصحيح.
منصور
:
لا هو دكتور بصحيح، لكن أصل حكاية الأكل دي حكاية واسعة قوي، كل واحد بيشوفه
شكل، فيه واحد عنده الأكل صنية مكرونة بالباشمل سخنة من الفرن ومعاها حتة لحمة
أو حتتين أو حتة كبدة طرية، بصراحة كدة يا حسنية أنا مش بافهم حكاية الأكل دي
أبدًا، وعشان كدة لا فهمك ولا فاهم توفيق صاحبي، الأكل عندي مش مشكلة، المشكلة
الحقيقية في نظري هي الشرب. أنا ممكن أعيش من غير أكل، والله يا حسنية أقسم
بالله إني أعيش تلات أيام أو أربعة من غير أكل أو على رغيف عيش وحتة طعمية،
إنما الشرب يا حسنية، أجيب شرب منين؟ أجيب أزايز منين؟ ومن غير أزايز أعيش إزاي
يا حسنية؟
حسنية
:
وبتشرب يا منصور؟
منصور
:
أي حاجة، الموجود، أنا مش بادقق، أي حاجة تشيل القشرة الفوقانية (يشاور على رأسه) أي حاجة، وأنا نفسي حلوة، طول عمري
نفسي حلوة يا حسنية.
(يتجول في الحجرة وهو يترنح.)
منصور
(بصوت يكاد يكون منهارًا)
:
تعرفي يا حسنية، أنا عمري ما ذليت نفسي لحد عشان لقمة العيش، عمري … أنا
منذلتش أبدًا يا حسنية إلا لما بقيت أشرب، مافيش غير الشرب، لكن أعمل إيه؟
الشرب بيخليني أقدر أحتمل … بيخليني أقدر يا حسنية … أقدر أحافظ على نفسي، أقدر
أحافظ على الحتة اللي فاضلة من نفسي. (صوته ينهار)
انتي أقوى مني يا حسنية، انتي أحسن مني، انتي لسة بتقاومي … كل الناس فرضوا
عليكي الكدب وهزموكي، لكن انتي بتقاومي، لسة مانهزمتيش قصاد نفسك، لكن أنا
انهزمت يا حسنية، أنا خلاص انهزمت … مافيش حد في الدنيا قدر يهزمني … مافيش حد
يقدر يهزم حد زي ما قلتي، الإنسان بينهزم لما ينهزم قصاد نفسه.
(يفرغ آخِر كأس من الزجاجة ويشربه. يفرغ آخِر قطرة.
حسنية صامتة تنظر إليه في تأثُّر وألم.)
حسنية
:
أنا كنت غلطانة يا منصور، انت أحسن مني. أنا بعت نفسي لجوزي عشان آكل كويس،
وألبس كويس، وأعيش في بيت كويس … لكن كل ده مالوش قيمة جنب إن الواحد يبيع نفسه.
كل الكلام اللي انت كاتبه عني صح يا منصور، انت كتبت الحقيقة، والحقيقة زي
ما انت قلت مفزعة لما الواحد يشوفها لأول مرة، أنا بعت نفسي، ولسة لغاية
النهاردة بابيع نفسي لراجل ما بحبوش. لكن انت يا منصور، انت عمرك ما بعت نفسك،
وعشان كده كنت دايمًا باهاجمك، كنت باخاف منك يا منصور، طول عمري أخاف منك،
اللي باع نفسه دايمًا يخاف من اللي لسة ما باعاش، وكل ما يشوفه يحس بنقص ويتمنى
بينه وبين نفسه إنه يبقى زيه بس ما يقدرش، ويمكن ده السبب اللي خلاني عاوزة
أجيب منك طفل يا منصور، ماكنتش قادرة أبقى زيك، وقلت على الأقل ابني يكون زيه.
(تقترب منه وتنظر إليه في حب.)
حسنية
:
أنا باحبك يا منصور، عرفت دلوقت بس إني باحبك، وعرفت إنك الوحيد اللي حبيته،
مافيش حد حبني غيرك يا منصور، ماحدش أداني قلبه غيرك يا منصور، كلهم كانوا
بينهشوا فيَّ زي حتة لحمة، ماحدش خلَّاني أحس إني إنسانة غيرك، انت اللي اديتني
قلبك، قلبك الغالي اللي زي الذهب.
منصور
:
قلب الفقير مهما غلي رخيص يا حسنية.
حسنية
:
القلب اللي يقدر يحب صحيح هو القلب اللي مالوش حاجة، اللي مش خايف على حاجة
في الدنيا، القلب اللي مش عاوز حاجة، مش عاوز ياخد ولا يملك ولا يتملك، وعشان
كده بيبقى قلب كبير بيساع الدنيا ويفرد دراعاته ويحس إنه مالك الدنيا، أصل
الدنيا ما لهاش صاحب يا منصور، واللي مالوش حاجة فيها هو اللي بيملكها، وعشان
كده كنت باحسدك وأقول يا رتني زيك، ويا رتني أبقى زيك، ويكون لي ابن زيك. (تقترب منه أكثر)
أنا باحبك يا منصور، باحبك (تعانقه وتبكي).
(ظلام)