اتفاق وإنفاق!
كان الرائد «محمود» يتصرَّف في حدود الأوامر التي صدرت له … لذلك لم يخبر الريس «علي شرابي» … شيئًا عن طبيعة المهمة التي سيوكلونها إليه …
وفي كل الأحوال … الريس «علي» لا يتوانى عن تنفيذ كل ما يطلبه منه لخدمة بلده ما دام في حدود استطاعته، فطلب «أحمد» التعجيل بعرض الأمر عليه … وقد كان … فقد ناداه الرائد «محمود» وطلب منه الاستماع جيدًا ﻟ «أحمد» الذي قال: يا ريس «علي» هناك مهمة خطيرة نقوم بها الآن في مياه البحر بالقرب من مصيف «بلطيم»، ونحن نحتاج إلى مساحة كبيرة من الغزل وكمية كبيرة من الرصاص …
الريس «علي»: أنا لن أسألك عن طبيعة هذه المهمة … ولكن يجب أن تُخبرني عن بعض التفاصيل.
أحمد: لا بل سأخبرك عن طبيعة المهمة يا ريس «علي» …
ارتسمت علامات الرضا على وجه الريس «علي»، ونظر في اهتمام ﻟ «أحمد» الذي أكمل قائلًا: هناك مجموعة من الدلافين تخص أحد المراكز العلمية الأوروبية جنحت إلى مياهنا الإقليمية، وهي الآن على شاطئ «بلطيم» … هذه الدلافين يجب حمايتها وإعادتها من حيث أتت … إلى هنا والموضوع عادي … ولكن الخطير في الأمر أن هذه الدلافين تعرَّضت لمواد مشعة … وإذا عادت وحدها من حيث أتت فقد تكون فريسةً للقروش والأسماك المفترسة … وبهذا ستتأثر بقاياها في أماكن كثيرة لتتغذى عليها أسماك هذه المنطقة فتتحوَّل إلى أسماك ملوَّثة إشعاعيًّا … وأنت تعرف أن الأسماك دائمة الحركة وأنها آكل ومأكول … وفي هذا خطورة على ثروتنا البحرية من الأسماك والأحياء المائية … فقد تتلوَّث كلها بالإشعاع … ولأنها مصدر غذائي مهم للمواطنين … فقد تنشر بهذا مرض السرطان الذي يسبِّبه التلوث الإشعاعي.
كان الريس «علي» مستغرقًا مع «أحمد» في إنصات شديد … ولم يستطع أن يقاطعه ولو في حرف … فأكمل «أحمد» قائلًا: لذلك فنحن في حاجة إلى الغزل والرصاص لكي نصنع سياجًا في الماء حول المنطقة الموجودة بها الدلافين، دون أن نتسبَّب في إصابتها حتى لا نُلوِّث الماء بالإشعاع … بلغ حماس الريس «علي» ذروته للمعاونة في هذه المهمة … وطلب من الرائد «محمود» أن يعيره زورقه، فسأله الرائد عن السبب، فأخبره بأن الغُزول التي يستطيع الاعتماد عليها موجودة على مركبَين مستقرَّين الآن في عرض البحر … ورجاهما أن يتركا هذه المهمة له … على أن يُحدِّدا له موقع الدلافين بالضبط …
فرسم «أحمد» رسمًا إحداثيًّا يفهمه أهل البحر … وفهم منهما ما ينوي عمله بالضبط، وقد شعر بالرضا عنه وعن الريس «علي» أيضًا …
وأثناء العودة … عودته … دار في رأسه كلام قاله للريس «علي» وشعر أنه الحقيقة … فهذه الغواصة … وهذه الدلافين ليس لها علاقة بالأسلحة التي يتم تهريبها، لا … بل إن لها علاقةً بما هو أخطر، ويجب كشفه … وهنا … هنا فقط شعر أن الأمر يحتاج لرقم «صفر» … فقام بالاتصال به … وكان مستيقظًا يتابع العملية … فأخبره بما تمَّ حتى الآن … ثم أسَرَّ له بمخاوفه وشكوكه، فقال له رقم «صفر»: القضية هي كما أبلغتكم بها … تهريب أسلحة ومتفجرات داخل البلاد … وهذه الغواصة وهذه الدلافين موجودة في مياهنا لتهريب رءوس التفجير الخاصة بهذه الأسلحة … وأنا لا أُخالفكم الرأي … فقد تحتوي هذه الرءوس على يورانيوم مستنفَذ أو أية عناصر مستنفذة … وهو ما يجعل القضية أكثر خطورةً من تلويث منطقة محدودة بالإشعاع.
اطمأن «أحمد» لِمَا قاله رقم «صفر» … ورآه أكثر صوابًا … وبهذا أصبحت القضية كلها في نطاق سيطرتهم.
ولكن كيف؟
مرةً أخرى يسأل «أحمد» نفسه هذا السؤال … إنه يشعر أن هناك شيئًا ما ناقصًا … نعم … نعم … إنها وسيلة الاتصال بالريس «علي» وهو على ظهر المركب. ومرةً أخرى قطعت سكونَ الليل صرخات فرامل «اللاندكروزر»، وفي زاوية شديدة الانفراج دار بها حول نفسها … ثم انطلق عائدًا إلى نقطة المسطحات المائية، فرأى مجموعةً من الجنود يدفعون اللنش إلى سطح الماء … فسألهم عن الرائد «محمود» فاصطحبه أحدهم إلى مكتبه … فوجد هناك الريس «شرابي» يُتم استعداداته للمهمة … فسأله عن وسيلة اتصالهما وهو في عرض البحر … فطمأنه الرائد «محمود» إلى أنه كثير … وموجته قد تُلتقط وتُحل شفرتها في هذه الغواصة الخارقة.
لذلك سلَّمه تليفونه المحمول قائلًا له: سيكون هذا معك ثم تعيده لي بعد انتهاء المهمة.
الرائد «محمود»: وهل هو والآن يعمل؟
أحمد: نعم … ويمكنني تعطيله عن العمل … وإعادة تشغيله عن بعد … عن طريق تليفون أحد الزملاء … ويمكنني أيضًا إدارته إدارةً كاملة عن بُعد.
نظر له الرائد في دهشة ثم قال له: وفَّقكم الله …
فابتسم له «أحمد» … ثم ربت على كتف الريس «علي» وقال لهما: وفَّقكم الله …
مرةً أخرى يعلو صراخ «اللاندكروزر» … وأزيز احتكاك عجلاتها بالأسفلت، ومرةً أخرى تعود من حيث أتت … حيث الطريق الموصل إلى مدخل «بلطيم». أفكار كثيرة في رأس «أحمد» تتلاحق … ﻓ «عثمان» تائه في عرض البحر دون قارب أو وسيلة نجاة … والبحث عنه باستخدام أي من هذه الوسائل سيُفشل المهمة التي هم بصددها، أمَّا إذا دخل أحدهم للبحث عنه فقد لا يعود مثله …
وفي الطريق وقرب جبل «النرجس» قرَّر فجأةً أن يُعرِّج على المخزن المشبوه لعله يجد جديدًا يساعدهم في إنهاء هذه المهمة الخطيرة جدًّا.
كان المكان مظلمًا للغاية … غير أنه شعر بحركة تحت الأرض … فأضاء كشافات السيارة وعاد مرةً أخرى إلى المكان … أمام باب المخزن … فشعر مرةً أخرى بحركة تحت الأرض … فقرَّر الحفر في هذا المكان … غير أن هذه الفكرة لم ترُق له … فهي عملية صعبة وشاقة … والقيام بها وحده مستحيل …
فقرَّر متابعة هذه الحركة … ومعرفة إلى أين تؤدي … فظل سائرًا … ينحرف يمينًا تارة … ويسارًا تارةً أخرى … ثم يعود لتعديل مساره تارة … وتارةً أخرى يعود من حيث بدأ.
إنها مهمة غير منطقية … وتحتاج لأجهزة تتبُّع واستكشاف خاصة … وبغيرها لن يصل إلى نتيجة … فهدير تكسُّر الأمواج على صخور الشاطئ … تصنع ذبذبات ترتحل في أرض المنطقة إلى مسافات بعيدة، ومع هذا السكون التام … يمكن لهذه الذبذبات أن تتضح جليًّا في أكثر من مكان وتعرقل تتبُّع أي ذبذبة أخرى.
إن الحل الآن هو الاستنتاج والاستنتاج فقط …
ومن كل ما سبق من معطيات … يكون الاستنتاج الوحيد والمعقول … هو وجود نفق يصل ما بين مخزن جبل «النرجس» وهذا الموقع على الشاطئ.
الآن والآن بالذات يجب العودة إلى الموقع.
قالها «أحمد» وقفز من «اللاندكروزر» واستبق بها الريح إلى حيث يقيم زملاؤه على الشاطئ، وقبل أن يصل إليهم … ترك السيارة بجوار فيلا المنظمة … وأكمل الطريق إلى الشاطئ سيرًا على الأقدام.
وهنا وجد «إلهام» وحدها دون «ريما»، وما إن رأته قالت له: إلى ماذا وصلت؟
أحمد: لقد وجدت تعاونًا كبيرًا من الجميع، ولكن الأهم أنني حصلت على اكتشاف خطير بالصدفة.
إلهام: وما هو؟
أحمد: هناك نفق يصل بين هذه المنطقة وبين مخزن جبل «النرجس» …
أطالت «إلهام» النظر إلى «أحمد» وفي عينَيها ألف تساؤل واستنتاج … وقالت له: لذلك كان الدولفين يتشمَّم؟
أحمد: نعم … بحثًا عن مدخل النفق.
إلهام: هذا احتمال.
أحمد: احتمال كبير يا «إلهام».
إلهام: كبير أم صغير … المهم أن نُثبته عمليًّا وبسرعة.
أحمد: كيف؟
إلهام: نحن في حاجة لجهاز مسح قاع.
أحمد: تقصدين سونار؟
إلهام: نعم …
كانت الفكرة رائعة … فهذا الجهاز سيوفِّر لهم كثيرًا من المعلومات … وكثيرًا من الوقت … لذلك … لم ينتظر حتى تختمر الفكرة في رأسه … فالوقت لم يعد في صالحهم، فانطلق بنفسه إلى فيلا المنظمة … فلديهم هناك جهاز متعدِّد المهام صغير الحجم يمكنه العمل كمستكشف للقاع.
في هذه الأثناء كان «عثمان» قد توصَّل إلى خطة عبقرية للوصول إلى الشاطئ … وكانت «ريما» أول مستقبليه … لأنها كانت تجلس بجوار الماء ترقب عرض البحر في انتظار عودته … وكانت فرحتها شديدةً حين قابلها بابتسامة تدل على أن حالته مطمئنة.
وحين عاد سويًّا إلى «إلهام» كان اللقاء حميمًا رائعًا … واكتملت المجموعة مرةً أخرى بعودة «أحمد»، الذي ما إن رأى «عثمان» حتى احتضنه في فرحة رغم الماء الذي يغطِّيه، واصطحبه «أحمد» عائدًا مرةً أخرى إلى الفيلا ليستبدل ملابسه المبتلة ويحصل على مشروب ساخن يعيد إليه طاقته … وعرض عليه أن يتركه ينام قليلًا ليستعيد لياقته … فأبى وعاد معه إلى «إلهام» و«ريما» … وكانتا تُجرِّبان جهاز استكشاف القاع في معرفة ما تخبِّئه الأرض، فلم يصلا إلى شيء … فقال لهما «أحمد» وكان يعرف أسرار هذا الجهاز: هناك برنامج خاص للاستشعار عن بُعد في هذا الجهاز سأُديره لكم … ولكن فلنعرف أولًا كيف تمكَّن «عثمان» من العودة.
ابتسم «عثمان» وقال ساخرًا: سيرًا على الأقدام.
ضحك الزملاء … غير أن «ريما» كانت قد بلغت قمة الإثارة … وتريد أن تعرف، فقالت له: هل حملك دولفين على ظهره.
وفي جِدية شديدة قال: نعم … إنه دولفين عقلي … فقد وجدت تيارات الماء في صالحي … فحركتها تتوالى في اتجاه الشاطئ … وعندما تأتي موجة عالية … تتحرَّك عكس الاتجاه … فاستلقيت على ظهري فوق سطح الماء … وتركت تياراته تحملني رغم ما استغرقه هذا من وقت … عقَّبت «ريما» قائلة: ومن جهد …
عثمان: أنا لم أسبح كثيرًا … لذلك لم أبذل جهدًا في السباحة … والجهد الذي بذلته كان فقط في التفكير وفي مقاومة البرد.
كان «أحمد» قد أعَد جهاز الاستشعار والرقم للعمل … فتركه ﻟ «ريما» و«إلهام» … وقام بالاتصال بالرائد «محمود» الذي تلقَّى اتصالًا قائلًا: أهلًا يا سيد «أحمد» … نحن في طريقنا لإتمام المهمة.
أحمد: ولماذا استغرقتم كل هذا الوقت؟
الرائد «محمود»: لقد كانت معظم الغُزول في الماء … وتمَّ انتشالها … والاكتفاء بما فيها من أسماك، ونحن الآن في طريقنا لتحديد المنطقة … ولن أخفي عليك ما واجهناه من مصاعب في إقناع الصيادين بأهمية ما نقوم به … وضرورة تعاونهم معنا.
أحمد: أرجو التوجُّه إلى المنطقة التي رسمتُ إحداثياتها للريس «شرابي»، ورمي الغزل فيها ابتداءً من الشاطئ ثم الدخول إلى عمق البحر ثم السير بمحاذاة الشاطئ لمسافة كيلومتر، ثم العودة مرةً أخرى إلى الشاطئ.
الرائد «محمود»: إنك بهذا تصنع قفصًا …
أحمد: هذا بالضبط ما أُريده.
الرائد «محمود»: سيد «أحمد» معك الريس «شرابي».
أحمد: مساء الخير يا ريس «علي».
علي شرابي: مساء الخير سيد «أحمد». هل نبدأ؟
أحمد: هل وصلتم إلى النقطة «د».
الريس «علي»: نحن في الطريق إليها.
أحمد: عندما تصلون إليها أعطوني إشارة.
الريس «علي»: لقد أصبحَت على مرمى بصرنا … ما هذا؟! … ما هذا؟! …
انقطع الاتصال فجأةً بين الريس «علي» وبين «أحمد» بعد أن تركت هذه الكلمات الاستفهامية … علامات دهشة وتعجُّب لدى «أحمد».