الفصل الأول
(١) دَواعي السَّفَرِ
لَمْ يَمُرَّ على عَوْدَتِي إلى وطَني شهْرانِ حتى ضَجِرْتُ بحياةِ الرَّاحةِ، وتاقَتْ نَفْسِي إلى السَّفرِ، وشعَرْتُ بشوقٍ شديدٍ — لا قدرةَ لي على دفعِه — إلى الرَّحيل، ورغبةٍ حارَّةٍ في السِّياحةِ ورُؤيةِ الْبلادِ الْغريبة. وقد تَمَلَّكَ عليَّ حُبُّ الْأسفارِ كلَّ نفسي؛ فاعْتزمتُ أن أظْعَنَ، وتركتُ لزوْجي خَمْسَمائة جنيهٍ، واكْتَرَيْتُ لسُكْناها منزلًا في «كَرْديف»، وأخذتُ ما بَقِيَ من ثروتي؛ فشرَيْتُ ببَعْضِهِ بضائع أَتَّجِرُ فيها، لأُثَمِّرَ مالي وأزيدَ في ثروتي. وكان عمِّي قد ترك لي — بعدَ وفاتِه — أرضًا يُقدَّرُ رَيْعُهَا بِثَلاثينَ جنيهًا. وقد شجَّعني ذلك كله على السَّفرِ، فقد أصبحتُ لا أخشى — على أُسرتي — ألمَ الْفاقَةِ ومَضاضةَ الْجوعِ والالْتِجاءَ إلى التَّكفُّفِ والسُّؤال.
وكان ولدي يتعلمُ اللاتينيَّةَ في الْمَدرسة، وابْنتي تَخِيطُ الْمَلابسَ وتُطَرِّزُها لِتُنْفِقَ على بِنْتَيْها الصَّغيرتين.
ولم أترددْ في عزيمَتي على السفرِ — بعد أنِ اطْمأنَّت نفسي على مستقبَلِ أُسرَتي — فودَّعْتُ زَوْجِي وولدِي وابْنتِي، وقد بَكَوْا حين دَنَتْ ساعةُ الفِراقِ، ولكنَّني تَحمَّلْتُ، واعْتصمتُ بالصَّبرِ، وصَعِدْت — بشجاعةٍ — إلى السفينةِ «أفانتور»، وهي سفينةٌ تِجاريةٌ كبيرةٌ تستطيعُ أن تحملَ ثَلاثَمِائةِ طُنٍّ، وكان رُبَّانُها من «لِيفَرپول»، وهي مُبْحِرَةٌ إلى «سورات».
(٢) هُبوبُ العاصفةِ
وكأنَّما قَضَى الله عليَّ أن تكونَ حياتي — في هذه الدنيا — حياةً مضطربةً، وأن أَقْضِيَ عُمْرِي دائِمَ الأسفارِ، لا يَقَرُّ لي قرارٌ، فاسْتبدلتُ بِحَياةِ الْخَفْضِ والدَّعَةِ حياةَ القلَقِ والِاقتحامِ.
وقد أَقْلَعَتِ السَّفينةُ بي في اليوم العشرين من يونيو عام ١٧٠٢م. وكان الهواءُ رُخاءً والْجَوُّ صَافيًا، وما زالت السفينةُ سائرةً حتى وصلَتْ إلى «رَأْسِ الرَّجاءِ الصَّالِحِ»، حيثُ ألْقَيْنا مَراسِيَنَا لنستريحَ قليلًا. وكان رُبَّانُنا قد أُصِيب بالحُمَّى؛ فلم نستطعْ أن نغادرَ ذلك المكانَ إلَّا في آخر شهر مارس. وثَمَّةَ أَقْلَعَتْ بنا السفينةُ، وما زالتْ تَمْخُرُ بِنا عُبابَ البحرِ — والْجوُّ صافٍ والريحُ معتدلةٌ، والسِّياحَةُ موفَّقة سعيدةٌ — حتى وصلنا إلى جزيرة «مدغشْقر» حيث سِرْنا إلى شمال هذه الجَزيرةِ، وكانتِ الرِّياح تعتدل في هذه الْجِهاتِ من أول ديسمبر إلى أول مايُو، ولكنَّ هُبُوبَها — لِسُوءِ حَظِّنا — بَدأ يشتدُّ في التاسِع والعِشرين من أبريل، وما زالَتْ تَعْنُفُ وتَثُورُ عِشْرِينَ يَوْمًا تباعًا؛ فانْدَفَعْنا — في هذه الأثْناءِ — إلى شرْقِيِّ «جزائر الْمُلوك»، في الدرَجة الثالثة تقريبًا من شَمال خط الِاستواء، ذلك ما قَدَّرَهُ الرُّبَّانُ، وَكُنَّا في اليومِ الثاني من شهر مايو. وقد هدأت الرِّياحُ الثَّائِرَةُ، ولكنَّ الرُّبَّانَ قد أنذرَنا باقْتراب عاصفةٍ أشَدَّ. وكان ذلك الرُّبَّانُ من أَوْسَع الْمَلَّاحينَ خِبْرَة بِتَغَيُّرِ الْجَوِّ وتقلُّب البحر، وقد أكسبَته المَرانة والتَّمَرُّسُ بأحوال هذه البحار حَصافَةً نادرة وأَلْمَعِيَّةً لا تكاد تُخْطئُ. وقد أَمَرَنا بأنْ نُعِدَّ الْعُدَّةَ لمكافَحَةِ العاصِفَةِ الْهَوْجاءِ التي سَتَهُبُّ علينا في الغد.
وقد تحقَّق لنا صدقُ ما قال، وهبَّت علينا ريح الْجَنوب عنيفةً عاصفةً. وكُنَّا على أتَمِّ أُهْبَةٍ؛ فطوَينا الشِّراعَ وأمْسَكْنا بِالسَّارِيَةِ، ولكنَّ العاصفةَ — لسوء الحَظِّ — كانت تَزْدادُ شِدَّةً وعُنْفًا. ولم نَجِدْ لنا من حِيلَةٍ تُخَفِّفُ من أضْرارها إلَّا أن نَسِيرَ حيث تكون الرِّياح خَلْفَنَا؛ فاتَّزَنتِ السفينةُ قليلًا، وجعلْنا الشِّراعَ الكبير بحيث لا يُعارِضُ العاصفة. ولكنْ خابَ حِسْبانُنا، وأخْطَأَ ظَنُّنا؛ فقد عَنُفَتِ الرِّيحُ، ومَزَّقَتِ الشِّراعَ تَمْزيقًا، واصْطَخَبَتِ الأمْواجُ، وظلَّتِ السَّفينة في عُرْضِ البحر لا يَقَرُّ لها قَرارٌ. ثم أعْقَبَتِ العاصِفَةَ رِيحٌ عاتِيَةٌ؛ فَدفعتْنا إلى مسافَةٍ بعيدة لا أحْسَبُها تَقِلُّ عن خَمْسمِائةِ ميل نحو الشرق، فأصبحْنا في مكان من البحر مَجْهولٍ لا أعتقد أن سفينةً قَبْلَنا قد وصلتْ إليه، وما أظُنُّ أن رُبَّانًا — بالغةً ما بَلغتْ خِبْرَتُه بالبِحار — يستطيع أن يعرفَ مَوْقِعَ هذا المكان النَّائِي السَّحيقِ. ولم نكُنْ نَشْكُو — حينئذٍ — قِلَّةَ الزَّادِ، ولم تُصَبْ سفينتُنا بعد كل هذه العواصِف بعطَبٍ، ولم يَمْرَضْ أحدٌ من رِجالنا، على ما كابَدُوه من الْعَناءِ والشِّدَّةِ. ولم يكن يُعْوِزُنا حينئذٍ إلا الحصولُ على الْماءِ الْعذْبِ.
(٣) في أرْضِ الْعَمَالِقَةِ
وفي اليوم السادسِ من يونيو عام ١٧٠٣م، كان أحدُ مَلَّاحينا مُعْتَلِيًا ذِرْوَةَ السَّارِيَةِ، فَلاحَتْ له الأرْض من بعيد. وما أَخْبَرَنا بذلك، حتى وَلَّيْنا سفينَتنا شَطْرَها. ولمَّا جاء اليوم السابعَ عشرَ رأينا اليابِسَةَ بِوُضُوحٍ، ولمْ نَسْتَطِعْ أنْ نتعرَّفَ أين نحن؟ وهل وصلنا إلى جزيرة كبيرة، أم قارَّة مجهولة؟ فاقْتربْنا منها، وألْقَيْنا مَراسِيَ السفينة، وأرسل ربَّانُنا اثْنَيْ عَشرَ مَلَّاحًا في زَوْرَقٍ صغير، ومعهم أسلحتهم؛ ليُدافِعوا عن أَنفسهم إذا دَهِمَهُمْ خطرٌ، وقد أَوْصاهُم الرُّبَّانُ بالبحثِ عن ماءٍ في هذه الأرض، وأَعْطاهم أوانِيَ لِيَمْلَئُوها ماءً، فاسْتَأْذَنْتُ الربَّان في مُصاحبتهم، فلم يتردَّدْ في الْإذْن لِي. ولم نَهْبطْ تلك الأرضَ حتى سِرْنا باحِثين عن نهرٍ أو عينِ ماءٍ، فلم نَرَ فيها أثرًا واحدًا يدلُّنَا على أنها مَأْهُولَةٌ بالسُّكَّان، فسارَ رجالنا بالقرب من الشاطِئ ليبحثوا عن الماء، وسِرْتُ أنا — لسوء حظي — منفردًا. وقد دفعني حُبُّ الِاسْتِطْلاع إلى التَّوَغُّلِ في تلك الْجِهة نحوَ مِيل، فوجدتها أرضًا صخريَّةً مُجدبة قفراءَ. ثم أدركنِي التَّعَبُ والْمَلَلُ؛ فرَجَعتُ مُتَباطِئًا في سَيْرِي من حيثُ أَتَيْتُ. وبيْنَما أنا مُقْتَرِبٌ من الشاطئِ إذْ رأيت رِفاقي يَجْدِفُونَ بسرعةٍ شديدة، رغبةً في إنقاذ حياتِهم من الهلاك، ورأيت عِمْلاقًا هائلَ الجِسمِ يتعقَّبُهم بسرعةٍ شديدة، ولكنَّ رفاقي كانوا على بُعد نصف مِيلٍ من ذلك العملاق؛ فلم يستطع اللَّحاقَ بهم.
وما رأيتُ ذلك حتى أسرعتُ بالفِرار مُتَسَلِّقًا قِمَّةَ جبلٍ وَعْر، ثم نظرتُ فرأيت مَرْجًا، وقد تمَلَّكَنِي العَجَبُ منِ ارتفاعِ حَشائِشِه إلى عشرين قَدَمًا، فَنَدِمْتُ أشدَّ الندم على مُجازفتِي بالْخُروج إلى هذه الجزيرة، والسير فيها بعيدًا عن رِفاقي، وعلمتُ أن حُب الِاسْتِطْلاعِ قد ساقَنِي إلَى الْحَتْفِ والهلاك، ولكنني رأيتُ النَّدم لا يُفيدُ، فأسلَمْتُ أمْري إلى الله، ومَشَيْتُ في طريق كبيرةٍ تنتهي بِحقْلٍ مَزْرُوع شعيرًا، فسرْتُ قليلًا دون أن تَقَعَ عَيْنِي على إِنسان. وكان وقتُ الحَصادِ قد دَنا، ونضجت سنابل القمح، ووصل ارتفاعها إلى أَرْبَعِينَ قدمًا أو أكثرَ.
فسرْتُ ساعة من الزمن دون أن أصلَ إلى نهايةِ الحقل، وكان يُحيط به سِياجٌ عالٍ يبلغ ارتفاعُه أكثرَ من مائةٍ وعشرينَ قدمًا، وقد عَجِبت لِضَخامَةِ الأشجار في هذه البلاد، وطولِها الذي لا يكاد يَتَصَوَّرُهُ عَقْلٌ؛ حتى لَيستحيلُ عليَّ أن أُقدِّرَ ارْتفاعَها. وبحثت طويلًا عن ثُغْرَةٍ في ذلك السِّياجِ لأنفُذَ منها إلى الحقل. وإنِّي لكذلك إذ وقع نظري على عِمْلاقٍ آخرَ في الحقل الْمُجاوِرِ؛ فرأيْتُه في مثل طول العِملاق الأول الذي كان يتعقَّبُ رِفاقي الهاربين!
(٤) بين سَنابِلِ القمحِ
وَهُنا علمتُ أنني في بلاد العمالقة؛ فقد كان كُلُّ رجل منهم في مثل ارْتفاع المِئْذَنَةِ، وكانت مسافة خُطْوَتِهِ نَحوَ تِسْعَةِ أمتار، فتملَّكنِي الذُّعْرُ، وكاد يَنْخَلعُ قَلْبِي من شدة الهَلَع؛ فأسرعت أُحاول الِاختفاء بينَ سنابل القمح، وانْسَلَلْتُ من ثُغْرَةٍ قريبة، فلَمحْتُ العملاق من بعيد.
وبَعْدَ قليل صاح بصوت كالرَّعدِ القاصِفِ، يكاد يُصِمُّ الآذانِ، فحضرَ إليه سبعةُ رجالٍ — في مِثْلِ طولِه وضخامته — وفي يد كل واحد منهم مِنْجَلٌ صغير في حَجْمِ سِتِّ مَناجِلَ كبيرةً من مَناجِلِنا. وكان زيُّهُمْ يَدُلُّ على أنهم خَدَمٌ لذلك السَّيِّدِ؛ فقد جاءُوا مُلَبِّين نِدَاءَه، وأقبلوا يحصُدون سَنابِلَ القمح بمَناجِلِهم — حيث كنت مُخْتَبِئًا — فجرَيْت مبتعدًا عن مكانهم.
ولم يكن من اليسير عليَّ أن أَنْطَلِقَ في عَدْوِي؛ فقد كانت سنابل القمح — لشدة تَقارُبِها — تكاد تَلْتَصِقُ، وكان بعضُها لا يَبْعُدُ عن بعض إلا بمقدار قَدَمٍ واحد.
على أنني بذلت جُهْدِي حتى وصلت إلى آخر مكانٍ أَستطيعُ الوصولَ إليه، إذِ اعْتَرَضَتْنِي كُوماتٌ من السنابل الْمُشْتبكَةِ. ولقد حاولتُ أن أخترقَها أوْ أَجُوسَ خلالَها، فلم أجد إلى ذلك سبيلًا؛ فقد جف كثيرٌ منها، وأصبحَ حَسَكُها شائِكًا مُدَبَّبًا قويًّا كأطْرافِ المُدَى، فخشِيتُ أن ينفُذَ إلى جسمي فَيُهْلِكَنِي. وسمعتُ أصواتَ الحاصدين على مسافة قريبةٍ مني، وكان الْإعْياءُ قد بلغ مِنِّي كلَّ مبلغٍ؛ فتملَّكَنِي اليأس بعد أن خارَتْ قُوايَ، فَرَقَدْتُ بين أُخْدُودَيْنِ من الأخاديدِ التي شَقَّها المِحْراث، وقد يَئِسْتُ من الحياة وذكرتُ وطنِي الْعزيزَ، وتَصَوَّرْتُ أَرْمَلَتِي وولَدَيَّ اللذَين أوْشَكا أن يَتَيَتَّما، وندِمتُ أَشدَّ الندم على جُنوني الَّذِي دفعني إلى هذه الرِّحلة المشئومة، مخالِفًا نصيحةَ خُلَصائِي وَتَشَفُّعَ أهْلِي بي أَلَّا أُفارِقَهم، وأيقنتُ أن آخِرَتي قد دَنَتْ. ثم ذكرت بلاد «ليليبوت» التي فرَرْتُ منها، وكيف كنت فيها عِمْلاقًا هائلًا بين أقْزامٍ صِغارٍ، وكيف اسْتطعت أن أستولِيَ — بمُفردي — على أُسطول إمبراطوريةٍ بِأَسْرها، وكيف قُمْتُ وَحْدِي بأعمال جليلة باهِرَةٍ سَتَبْقَى خَالِدَة على مرِّ الدُّهورِ في تلك البلاد، وسيُثْبِتُها التاريخ فلا يُصَدِّقُها ذَرارِيُّ الأقزامِ وحَفَدَتُهم — لغرابتها وبُعدها عن مأْلوفهم — وإن أجمعَ أسْلافُهم على أَنَّهم رأَوْها رُؤْيَةَ العِيانِ.
ورأيتُ الفَرْقَ شاسِعًا بين الحاليْن، ففاضَتْ نفسي بِاللَّوْعَةِ والألم، فقد انتقَلتْ حالي من الضِّدِّ إلى الضد، وأصبحتُ في هذه البلاد — لِفَرْطِ ضَآلَتِي — ألُوحُ لِأهْلِيها كما كان يَلُوحُ لي أَقزامُ «ليليبوت»، ولعلَّ هذا هو أهْوَنُ ما أَلقاه منَ الشَّقاءِ في هذه البلاد؛ فقد أَقْنَعَتْني التجْربةُ والمُلاحظةُ أن المَخْلُوقاتِ الإِنْسانيةَ تكْثُرُ قَسْوَتُها ويشتد طُغْيانُها، كلما قَوِيَ بَأْسُها واشتدَّتْ قُوَّتُها. وثَمَّةَ أَصبحتُ أَتَرَقَّبُ الهلاكَ بين لحظة وأُخرى، وأتوقَّعُ أن يُمَزِّقَني أوَّلُ من يظفَرُ بي من هؤلاء العمالقَةِ، وأنْ يَزْدَرِدَنِي بِسُهولةٍ.
(٥) في قَبْضَةِ عِمْلاقٍ
لقد صَدَقَ الفلاسفةُ حين قالوا: إنَّ الكِبَرَ والصِّغَرَ أمرانِ نِسْبِيَّانِ؛ فلَيْسَ في الدُّنيا صغيرٌ مُطْلَقٌ أو كبيرٌ مُطْلَقٌ، ولكنَّ الشيْءَ إذا قِيسَ إلى غيره ظَهَرَ كِبَرُه وصِغَرُه بِالْمُقايَسَةِ. ومَنْ يَدْرِي؟ فقد يُصادِف أقزامُ «ليليبوت» أُمَمًا أُخْرَى غايةً في الضآلةِ، فيجدون أنفسَهُم بَيْنَهُمْ — كما وَجَدْتُ نفسي بِالْقِياسِ إليْهم — عمالقةً بَيْنَ أَقزامٍ!
ومن يدري؟ فلعلَّ عمالقةَ هذه البلادِ إذا وُوزِنُوا بغيرهم منَ الْأُمَمِ الْمَجهولة التي لم تُكْشَفْ بعدُ، أصبحوا — بالقياس إليهم — أقزامًا ضِئَالًا بين عمالقةٍ كبارٍ!
ولا غَرْوَ في ذلك؛ فقد كنتُ عِملاقَ العمالقةِ في بلاد الأقزامِ، ثم أصبحتُ قَزْمَ الأقزامِ في بلاد العمالقةِ، وهكذا:
•••
وإِنِّي لَغارِقٌ في هذه الأفكارِ الفَلْسَفِيَّةِ التي مَلَأَتْ نفسي في هذا الموقِف الْحَرِجِ الرَّاعِبِ، إذ رأيتُ أَحدَ الحاصدين على مسافةِ ثمانيةِ أَمتار من الْأُخْدُودِ الذي اختبأْتُ فيه؛ فامتلأت نفسي رُعْبًا، وخَشِيتُ أن يتقَدَّمَ إلى الأمام خُطْوةً واحدةً، فَيَسْحَقَنِي بِقَدَمِهِ سَحْقًا، أوْ يُهْوِيَ بِمِنْجَلِهِ إلى سنابلِ القمْح، فَيَقْطَعَ جسمي مَعَها شَطْرَيْنِ. وما رأيتُه يرفعُ قَدَمَهُ لِيَخْطُوَ خُطْوَةً أُخْرى حتى صَرَخْتُ صَرَخاتٍ مؤلمةً قويةً، وقد ملأَ الرُّعْبُ نفسي، فوقَفَ العِمْلاقُ فجأة، وأخذ يتأمَّلُ فيما حولَهُ ويُنْعِمُ النظرَ في الأرض، ليرى مصدرَ هذا الصَّوْتِ الخافِتِ الذي طَنَّ في أُذُنَيْهِ، حتى اهْتَدَى إِلَيَّ، فنظرَ مُتَعَجِّبًا مدهوشًا من ضَآلَةِ جسمي، ودَنا مِنِّي — وقد اشْتدَّ حَذَرُه — كما نَقْتَرِبُ نَحْنُ من حَشَرَةٍ صغيرة خَطِرَةٍ لا نعرِف كُنْهَها، وأمسكني من وَسَطِي — بِحَذَرٍ شديد — بَحَيْثُ يَأْمَنُ كلَّ خطر، فقد أكون — في نظره — حَيَوانًا سامًّا. وكأنَّما خَشِيَ أنْ أَعَضَّهُ أو أَخْدِشَهُ؛ فذكَّرَني ذلك بِما فعلتُ مع ابنِ عِرْسٍ كنْتُ قد أمسكتُه من وسَطِه، حتى لا يَعَضَّنِي أو يخْدِشَنِي.
ثم تشجَّعَ قليلًا، فَأدْنانِي حتى أصبحتُ على مسافةِ مترٍ ونِصْفِ مترٍ من عَيْنَيْهِ؛ ليتثبَّتَ من وَجْهِي بدقةٍ.
وقد أدركت غرضه — لأوْلِ وَهْلَةٍ — فلم أُبْدِ أيَّ مُقاومة حتى لا يُسِيءَ الظنَّ بي، فيُلْقِيَنِي من يده، فأهْوِيَ منِ ارتفاع سِتِّينَ قدمًا أو أكثرَ. وقد شعَرتُ بألم شديد، فلم أُطِقْ ضَغْطَ أصابعه على جسمي، وإن كان قد ترفَّق بي جُهْدَه، وحَرَصَ على أن يقبِضَ على جسمي، حتى لا أنْزَلِقَ من بين أصابِعِه الكبيرة.
ولم يكن في قدرتي أن أُقاوِمَ إرادتهُ؛ فرفعتُ ببصري إلى السَّماء، وضَمَمْتُ يديَّ إليه — كما يفعلُ المُتَوسِّلُ الضَّارِعُ — واسْتعْطفتُه ببضع كلمات نَطَقْتُ بها بصوتي الْحَزين الْمُتَهَدِّجِ. وقد كنت أَخْشَى أن يُلْقِيَنِي بين لَحْظة وأُخرى إلى الأرض، ويَسْحقَني بقدمه — كما نَسْحقُ الْحَشراتِ الكريهةَ بأَقدامنا لنُهْلِكَها — ولكنَّ أساريرَه قد تَطَلَّقَتْ، وَوَجْهَهُ قد تَهلَّلَ بالبِشْرِ، حين سَمِع صَوْتِي ورأى حركاتي، وأطال نظرَه فيَّ، وقد بَدَتْ عليه الدَّهشةُ من ضآلَة جسمي، واشتدَّ عَجَبُه حين سمعني أنطِقُ بألفاظٍ — كما ينطِقُ الْآدَمِيُّ — وإن لم يَفْقَهْ لها مَعْنًى. ولم أستطع أن أكُفَّ عنِ التَّنَهُّدِ والزَّفَراتِ، وهَمَلَتْ عَيْنايَ بالدُّموع، فقلتُ له ضارعًا باكيًا: «شَدَّ مَا يُؤْلِمُنِي لمسُ إصبعَيْكَ يا سيِّدي الْعِمْلَاق!»
وكأنَّما فَطَنَ لِما شَعَرْتُ به منَ الْألم — وإنْ لم يَفْهَمْ قَوْلِي — فوضعني مُترفِّقًا في جَيْبِهِ، وانْطلق يَعْدُو إلى سيِّده الذي رأيتُه في الحَقْل من قبلُ، وهو زارعٌ غنيٌّ، وما رَآنِي حتى دَهِشَ، وأخذ عُودًا صغيرًا من الأرض — في حَجْمِ العصا التي نَتَوَكَّأُ عليها في بلادنا — ورفَع بها أطْرافَ ثَوْبِي وهو يَحْسَبُه غطاءً وهَبَتْهُ لِيَ الطبيعةُ — كما تَهبُ لِلطيُورِ الرِّيشَ — ونَفَخَ في شَعري لِيتبَيَّنَ وجهي بوضوحٍ، ثم نادى خَدمَهُ، وقال لهم — فيما فَهِمْتُ من دهشتِه وإشاراتِه — إنه لم يَرَ طَوالَ حياته حيوانًا في حُقُولِهِ يُشْبِهُنِي. ثم وضعني على الأرض مُتَلَطِّفًا، فَنَهضْتُ قائمًا، ومَشَيْتُ أَمامه جِيئَةً وذَهابًا لِأُرِيَهُ أنني غيرُ طامعٍ في الهرَبِ. ثم جلسوا جميعًا، مُحِيطِينَ بي إحاطَةَ الدائرةِ، وظَلوا يَرْقُبُون حَرَكاتي، فرفعتُ قُبَّعَتِي لأُحَيِّيَهُم.
وأَظهرتُ احترامي لذلك السَّيِّدِ، وانكَفَأْتُ على قدمَيْهِ ضارعًا إليه — بصوتٍ جَهْوَرِيّ — وأخرجتُ من جَيْبِي كِيسَ نُقُودي، وقدَّمْتُه إليه بِخُضُوع شديد؛ فَقلَّبَهُ حَذِرًا — عِدَّةَ مَرَّاتٍ — ﺑ «دَبُّوسٍ» كان فِي ثِيابه، ولم يَفْهَمْ ما هو، فَأَشَرْتُ إليه أن يُعِيدَ الْكِيسَ إلى الأرض ثانِيَةً، وما أعادَهُ حتى أخذتُه بيدي وفتحتُه، ووضعت في يده كلَّ ما يَحْوِيه من الذَّهَبِ فتأمَّله قليلًا، وأشار إليَّ بِرَدِّهِ إلى جَيْبِي، ولم يفهمْ منه شيئًا. وقد أيقنتُ أن ذلِك الزارِعَ قدِ اقتنعَ بأنني آدَمِيٌّ عاقِلٌ صغيرٌ وظَلَّ يُحدِّثُني كثيرًا وأنا لا أفهم لِكلامِه معنًى. وكان صَوْتُه يكادُ يُصِمُّ أُذُنَيَّ، وهو أشبه بَجَلْجَلَةِ طاحُونَةٍ كبيرةٍ، وكانت ألفاظُه مُتَّزِنَةً واضحةَ المَقاطِعِ، فأجَبْتُه على كلامه — الذي لم أفْهَمْه — بكلِّ اللُّغاتِ التي أَعْرِفُها، بصوْت جَهْوَرِيٍ؛ فكان يُدْنِي أُذُنَهُ مِنِّي حتى تكونَ على قِيدِ مِتْرٍ ونصفِ مترٍ من فمي، ولكنه لم يفهمْ شيئًا.
(٦) في بَيْتِ العملاقِ
وبعدَ قليلٍ صَرَفَ خَدَمَهُ إلى أعمالهم، وأخرج من جَيْبِهِ مِنْديلًا طَواهُ نِصْفَيْنِ، ثم بَسَطَهُ على صفْحة يدِه اليُسْرى، ووضعها على الأرض، وأشار إليَّ بأنْ أصْعَدَ على يده؛ فلم أَجِدْ صُعوبة في ذلك، فقد كانت يده أكبَرَ من جسمي كلِّه. وقد خَشِيتُ أن أَهْوِيَ من يده — إذا وقفتُ عليها — إلى الأرض؛ فَطَرَحْتُ نفسي فوقَ مِنْدِيله متمدِّدًا.
ثم ثَنَى المِنْدِيلَ عليَّ فغَطَّى جسمي كلَّهُ، وحملني في يده إلى بَيْتِه، ثم نادى زَوْجَهُ لِيُرِيَها العجيبَةَ التي حَصَلَ عليها. وما رَأَتْنِي حتى صَرَخَتْ صَرَخَاتٍ مُفْزِعَةٍ، وَتَراجَعَتْ إلى الْوَرَاءِ — كما تفعل نِساؤُنا إذا أَبْصَرْنَ وَزَغًا أو ضِفْدِعًا سامًّا أو عَنْكَبًا — ولكنَّها اطمأنَّتْ إليَّ بعد قليل، حين رَأَتْ إشاراتي وحَرَكاتي وأعمالي، وكيف أفْطُنُ إلى الإِشاراتِ التي يُبْدِيها لي زَوْجُها، ثم أَلِفَتْ رُؤيتي وأَحبَّتني حُبًّا شديدًا.
ولمَّا جاء وقتُ الظُّهْرِ أَعَدَّ الْخادِمُ مائدةَ الْغَداءِ؛ فرأيتُ أكْداسًا من اللَّحْمِ في صَحْفَةٍ قُطْرُها نَحْوُ أربعٍ وعشرين قدمًا، وجلس الزَّارِعُ وزَوْجُه وثلاثةٌ من أوْلادِه وجَدَّةٌ عَجُوزٌ حَوْلَ المائدة. وما اسْتَقَرُّوا في أماكِنِهِم، حتى أَجْلَسَنِي الزارعُ فوق المائدة على مَسافَةٍ قَريبَةٍ منه.
وكان ارْتِفاعُ الْمائِدَةِ لا يَقِلُّ عن ثلاثينَ قَدَمًا؛ فابتعدتُ عن حافَّتَيْها حتى لا أسْقُطَ إلى الأرض من هذا الِارتفاع العظيم.
وقَطَعَتِ الزَّوْجُ شَرِيحَةً مِنَ اللَّحم وكِسْرَةً من الْخُبْزِ، ووضعَتْهُما في طَبَقٍ من الْخَشب لِآكل منهما؛ فأَشَرْتُ لها شاكِرًا ما تَفَضَّلَتْ به عليَّ. ثم أخرجْتُ من جيبي سِكِّيني وَشوْكَتِي، وأكلْتُ؛ فكان ابتهاجُهم بذلكَ عظيمًا.
ثم أمرَتِ الزَّوْجُ إحْدَى خَدَمِها بإِحْضارِ قَدَحٍ صغير، وملأتْه ماءً، فلم أستطِعْ أَن أَرفعَه إلَى فَمِي إلَّا بعد جُهْدٍ شَدِيدٍ. ثم أَشار إليَّ الزَّارعُ أن أَقتربَ من صَحْفَةِ الطَّعام، فَلبَّيْتُ إَشارتَهُ مسرعًا في سَيْرِي فَوْقَ المائدة، فَتَكاءَدَتْني — في طريقي — قطعةٌ صغِيرة من الْخُبْزِ، فسقْطتُ على وَجْهِي. ولكنَّنِي — لحُسْنِ حَظِّي — لم أُصَبْ بِسُوءٍ، فوقفتُ على قَدَمَيَّ فرأيتُ على أسارِيرهم أَماراتِ العطف والإِشفاق، ودَلائِلَ الْحُنُوِّ، فابْتسمتُ لهم مُنْحَنِيًا عِدَّةَ مَرَّاتٍ، شاكرًا عطفَهم عليَّ، وأظهرتُ لهم أنني لم أُصَبْ بسوءٍ، وسِرْتُ نَحْوَ السَّيِّدِ لأَلْثِمَ يَدَهُ، وما دَنَوْتُ منْ أَصْغَرِ أَوْلادِه — وهو طفلٌ خَبِيثٌ لم يَعْدُ الْعاشرةَ من عُمْره — حتى أَمْسكَ بِساقَيَّ، ورفعني في الهواء، فامتلأتْ نفسي رُعْبًا وهَلَعًا، وأَسرع أبوه فأنْقَذَنِي من يده، وصَفَعَهُ على أُذُنِهِ اليُسْرَى — جَزاءَ وَقاحَتِه — صَفْعَةً قوِيَّة، لَوْ لَطَمَ بها كَوْكَبَةً من فُرْسانِنا لأَماتَهُمْ جميعًا!
ثم أمَره أن يَكُفَّ عن الأكل ويذهب بعيدًا عن المائدة، عِقابًا له على عمله. ولكنني خَشِيتُ أن يَضْطَغِنَ عليَّ ذلك الطفلُ، وأنا أعْلَمُ أن أكثرَ الأطفال — في مثل هذه السِّنِّ — حمقى مُتَهَوِّرونَ، وكثيرًا ما تَدْفَعُهم حَمَاقَتُهم وتَهَوُّرُهمْ إلى إيذاء الطيورِ والأرانبِ وصِغارِ الكلاب، فَجَثَوْتُ على رُكْبَتَيَّ مستعطفًا السَّيِّدَ على ولده ليصْفَحَ عنهُ، فأجابَ السَّيِّدُ رَجائِي، وصَفَحَ عن طِفله، وأعاده إلى مكانه من المائدة، فَتَقَدَّمْتُ من الطفل، ولَثَمْتُ يَده؛ فابتهجَ وسُرِّيَ عن نفسه، وأصبح صديقًا حَمِيمًا لي منذُ ذلك اليوم.
(٧) مَآزِقُ مُحْرِجَةٌ
وإني لَأَتَغَدَّى معهم — وأنا آمِنٌ مُطْمَئِنٌ — إذ قفز على المائدة قِطُّ السَّيِّدةِ — المُدَلَّلُ الْمَحْبوبُ — قفزةً عنيفة؛ فأحدثتْ جَلَبة وضَوْضاءَ أزعَجَتانِي ومَلأَتا قلبي خوفًا. وكان ذلك القِطُّ في مثلِ ضَخامَةِ ثلاثة ثِيران، فإذا ماءَ سمعْتُ لِمُوائِه مثلَ قَصْفِ الرُّعودِ وجَلْجَلَتِها. وقد رأيتُ السَّيِّدَةَ تَحْنُو عليْه وتُدَلِّلُهُ وتُقَدِّمُ إليه الطعام، وهي تُداعِبُهُ وتُرَبِّتُه؛ فامتلأت نفسي رُعْبًا من رُؤْيَةِ هذا الحيوان الشَّرِسِ على الطَّرَفِ الآخَرِ من المائدة، وبيْنِي وبَيْنَهُ مسافةُ خمسينَ قَدَمًا. وكانتِ السَّيدةُ مُمْسِكَةً بِقِطِّها حتى لا يَنْقَضَّ عليَّ فَيزْدَرِدَني — كما تَزْدَرِدُ قِطاطُنا الحشرات — ولكنَّ اللهَ كَتَبَ ليَ السَّلامَةَ من كل سوءٍ؛ فلم يلتفتِ الْقِطُّ إليَّ. وبعد قليل أجلسني السَّيِّدُ علَى بُعْدِ مِتْرَيْنِ وَنِصْفِ مِتْرٍ منَ الْقِطِّ، لِيَرَى كيفَ أَصنعُ. ولقد كنتُ واثِقًا كلَّ الثِّقَةِ أنَّ الْجُبْنَ في أمْثال هذه الْمَواطِنِ كثيرًا ما يَقودُ الإنسانَ إلى حَتْفِهِ، فإذا هرَب الإنسانُ من حيوانٍ مفترس — أو ظهرَ عليه الْخَوْفُ — تَعَقَّبَهُ ذلك الحيوانُ وطَمِعَ فيه، وأَسرع إلى افْتِراسِه، فاعْتزمتُ أن أَلْجَأَ إلى الصَّبْرِ، وأَعْتَصِمَ بشجاعتي أَمامَ هذا القِطِّ المُتوحِّشِ الشَّرِس، فتقَدَّمْتُ إليه نَحْوَ ثمانيَ عشرةَ إصْبَعًا — وأنا رابِطُ الْجَأْشِ — فتَراجَعَ القِطُّ أمامي تَرَاجُعَ الخائِفِ الحَذِرِ.
أما خَوْفِي من الْكِلابِ فقد كان أقلَّ من خَوْفِي من الْقِطاطِ؛ فقد دخل الْغُرْفةَ ثلاثَةُ كِلابٍ أو أربعةٌ — فيما أذْكُرُ — ورأيت في هذه الكلابِ كَلْبًا كبيرًا جِدًّا. وهو في مثل ضَخامَةِ أرْبعة أفْيالٍ، ورأيتُ كلبًا آخرَ من كلاب الصَّيْدِ، يَفُوقُهُ طُولًا، وَيقِلُّ عنه ضَخامَة.
وما انْتَهَيْتُ من طعام الغَداءِ حتى دخلتْ إِحدَى الْمُرْضِعاتِ، وهي تحمل بين ذِراعَيْها رَضِيعًا لمْ تتجاوزْ سِنُّه الْحَوْلَ. وما رَآني ذلك الرَّضيعُ حتى مَلأ البيتَ صُراخًا مزعجًا، وكأَنَّما حَسِبَني دُمْيَةً يَلْهُو بها؛ فأَمسكَتْني أُمُّه وأَدْنَتْنِي إليه. وما فَعَلَتْ حتى أَمْسَكَ بي ذلك الرَّضِيعُ، ووضع رَأْسِي في فِيهِ، فصَرَخْتُ من شِدَّةِ الْفَزعِ والرُّعْبِ، فذُعِرَ الطفل، وأَلْقاني من يَدِه، فَهَرَبْتُ. وقد كان رَأسِي لا بُدَّ متَهشِّمًا لَوْ لَمْ أَقَعْ على ثَوْبِ أُمِّهِ الذي فَرَشَتْهُ تَحْتِي. وقد حاولتِ الْمُرْضِعَةُ أن تَتَرَضَّى رَضِيعَها بِوَسائِلَ أُخرى، فلم تُفْلِحْ، فلمَّا عَجَزَتْ عن تَسْلِيَتِهِ أَرْضَعَتْه، فكَفَّ عن الصِّياحِ!
ولمَّا انتهيْنا من الغَداء تَأَهَّبَ السَّيِّدُ للخروج، وقد أَوْصَى بِي السيدةَ خيرًا، كما فَهِمْتُ من إشاراتِه التي أشْعَرَتْنِي بِحِرْصِهِ على العِناية بأمري.
وشعَرْتُ بِحاجة شديدة إلى الرُّقادِ — بعد أن جَهَدَنِي التَّعَبُ — وفَطَنتْ رَبَّةُ الدَّارِ إلى ذلك؛ فأَرقَدَتْنِي في سَرِيرِها، وغَطَّتْنِي بِمِنْدِيلٍ أبيضَ لا يَقِلُّ في حَجْمِهُ عن شِراعِ أكبرِ سفينةٍ حَرْبيَّةٍ.
وما أَطْبَقْتُ جَفْنَيَّ حتى اسْتسلمتُ لِنَوْمٍ عميقٍ. وقد رَأَيْتُ — في مَنامِي — أَنني قد عُدْت إلى منزلي، ونَعِمْت بالقرب من أُسْرَتي؛ ففرِح بِعَوْدَتِي ولدِي وابْنتِي وزَوْجتي. ثم استيقظتُ من نَوْمِي بعد ساعَتَيْنِ، فزادَتْ لَوْعَتِي وحَنِينِي إلى وطني وأهْلي، ووجَدْتُني وَحيدًا في حُجْرة فَسيحَةٍ يَزِيدُ عَرْضُها على ثَلاثِمائة قدم، وارتفاعها على مائتي قدمٍ، ولا يَقِلُّ عَرْضُ السَّرير عن ثمانيةَ عشرَ مترًا. وكانت رَبَّةُ الدَّارِ قد أَغلقتْ عليَّ الباب، وذهبتْ لِتُنْجِزَ أعمالَ بَيْتِها، ولم يكنْ في مَقْدوري أنْ أَهْبِطَ إلى الأرض، لِارْتِفاع السَّرِيرِ عنها بِمِقْدارِ سبعة أمتارٍ. وقدِ اشْتَدَّتْ حاجَتي إلى الْخُروج، ولم يكن صَوْتِي — إذا نادَيْتُ — بِبَالِغٍ سَمْعَ سُكَّانِ البيت، لِبُعْدِ الْمَسافَةِ بَيْنِي وبين حُجْرة الْمَطْبَخِ الَّتي ذهَبَتْ إليها تلك الأُسْرَةُ، على أَنني نادَيْتُ بأعْلَى صَوْتِي الضعيفِ، فلم يسمعْنِي أحدٌ!
(٨) صِراعٌ عَنِيفٌ
ورأيتُ فَأْرَيْنِ يتَسَلَّقانِ سَتائِرَ السَّريرِ، وقد هالَتْني ضَخامَتُهما وكِبَرُ حَجْمِهما. ثم أقبل الفَأْرانِ وهما يَجْرِيان، فَدَنا أَحَدُهُما من وَجْهِي؛ فَفَزِعْتُ — من ذلك — أشدَّ الفَزَعِ، وسَلَلْتُ سَيْفِي لِلدِّفاعِ عن نفسي.
وقد طَمِعَ الْفَأْرانِ فِيَّ لما رَأَيَاهُ من ضَآلَةِ جسمي — وكانا غايةً في القِحَةِ — فهَجَما عليَّ يُحاوِلانِ افْتِراسِي.
فعاجَلْتُ أحَدَ الْفَأرَيْنِ بِضَرْبَةِ حُسامٍ عنيفةٍ؛ فشقَقْتُ بَطْنَهُ للحال، وخرَّ صَرِيعًا على الأرْض مُضَرَّجًا بِدَمِهِ.
وما رَأَى الْفَأْرُ الآخَرُ مَصْرَعَ صاحبِه، حتَّى خافَ على نفسه الهلاكَ؛ فأسرعَ يَعْدُو هاربًا، وهو لا يكاد يُصَدِّقُ بِالنَّجاةِ، وهكذا انْجَلَتِ الْمَعْرَكَةُ عن فَوْزِي وانْتِصاري على الفَأْرَيْن؛ فاسْتَلْقَيْتُ على ظَهْرِي ثانِيَةً لِأَسْتَرِيحَ مِنَ الْعَناءِ، واسْتَسْلَمْتُ لِلْأَفْكارِ.
ولقد كانَ كلُّ فَأرٍ منهما في مثل ضخامة أكبر كَلْبٍ عندنا، وقد كنت واثِقًا من شَرَاسَتِهما؛ فَحَمِدْتُ اللهَ علَى أن أنْقَذَنِي من شَرِّهِما، ونَصَرَنِي عليهما، ولو أنني خَلَعْتُ حُسامِي قبل أن أنامَ، وواجَهْتُ هذين الفأرين وأنا أَعْزَلُ، لافْتَرَسانِي، لا مَحالَةَ.
•••
وبعدَ وقتٍ قليلٍ جاءَتْ رَبَّةُ الدَّارِ، وما فَتَحَتْ بابَ الحُجْرَة، ورَأَتْني مُخَضَّبًا بالدَّمِ، حتى أسرَعتْ إِليَّ، وأمسكتْني بيدها، وأَدْنَتْنِي من بَصَرِها لتَطمَئِنَّ عليَّ، فأشرتُ بإصْبَعِي مُبْتَسِمًا إلى حيثُ الْفأرُ الذي صَرَعْتُهُ، وأَفْهَمْتُها أنني لم أُصَبْ بِسُوءٍ؛ ففرحتْ لسلامتي، وأَبْدَتْ إعجابها بشجاعتي!
ثم أَشَرْتُ إليها أن تَضَعَنِي على الأرض، فلم تَتَرَدَّدْ في تَلْبِيَةِ طَلَبِي، فَأَشَرْتُ إليها باحْتِرامٍ أنني في حاجَةٍ إلى الْخُروجِ، فَأَذِنَتْ لي في ذلك. وكَأَنَّما فَهِمَتْ بِذَكائِها أنني في حاجةٍ إلى الخروج لِضَرُورَةٍ حاتِمَةٍ لا يَقْضِيها غَيْرِي؛ فأَشَارَت إلى الباب الذي يَقُودُنِي إلى الحديقة، ورفَعَتْنِي في يدها، وسارَتْ بي قليلًا، ثم وضعتْني على الأرض بين وَرَقَتَيْن من أوْراقِ الْبُقُولِ، وعادَتْ من حيثُ أَتَتْ.