الفصل الثالث
(١) في الْقَصْرِ الْمَلكِيِّ
شدَّ ما أَجْهَدَني ما كابَدْتُه من جُهُودٍ مُضْنِيَةٍ، ومتاعِبَ شديدةٍ، فقد كنتُ دائِبَ الْعملِ في تمثيلِ أدْواري — كلَّ يومٍ — حتى ساءَتْ صِحَّتِي، ودَبَّ إِلَيَّ دَبِيبُ الضَّعفِ، وهُزِلَ جِسمي. وكان السَّيِّدُ شَرِهًا طَمَّاعًا يُغْرِيهِ الْكَسْبُ، ويُنْسِيهِ ما يَجْنِيهِ مِنَ الْأَرباحِ الطَّائلةِ كلَّ معنًى من معاني الْعطفِ والْواجبِ الْإِنسانيِّ، ولقد فَقَدْتُ شَهِيَّةَ الْأكْلِ فقدانًا تامًّا، وأصبحتُ جِلْدًا على عَظْمٍ. ورأَى السَّيدُ أنني مُشْرِفٌ على التَّلَفِ، فجلسَ يُفَكِّرُ في وسيلةٍ يَسْلُكُها للِانْتفاع بي من أقربِ طريقٍ قبلَ أن أَمُوتَ.
وإنه لَغارِقٌ في تفكيرِه إذْ جاءه أحدُ الأُمَراءِ يَسْتَدْعِيهِ للذَّهابِ معي، من فَوْرِه، إلى الْقصرِ الْمَلَكِيِّ لِتَسْلِيَةِ الْملِكةِ وحاشِيَتِها. وكانت أنبائِي قد ذاعَتْ في أرْجاء الْمَمْلكةِ كلِّها، وقد رأتْني بعضُ سَيِّداتِ الْحاشِيَةِ فأُعْجِبْنَ بي إعجابًا شديدًا، وقَصَصْنَ على جلالةِ الْمَلِكةِ ما رأيْنَه مِنَ الْمُدْهِشاتِ، ووصفْنَ لها ضَآلَةَ جسمي، وحُسْنَ أدبي، ودَماثةَ خُلُقي، وذكائي النَّادرَ؛ فلم تُطِقْ جلالتُها صبرًا، وأرسلَتْ — من فَوْرِها — تَسْتَدْعِيني إليها لِتَتَحَقَّقَ صدقَ ما سَمِعَتْه عني من أنباءٍ مُعْجِبةٍ، وقدِ ابْتهجَتْ جلالَةُ الْملِكةِ وحاشِيَتُها ابْتهاجًا عظيمًا، حينَ تَحَقَّقَتْ صِدْقَ ما حدَّثوها به، وأظهرتْ عَطفَها عليَّ وإعجابَها بي، فَجَثَوْتُ على رُكْبَتِي ضارِعًا إليها أن تُشَرِّفَني بِلَثْمِ قَدَمِها الْمَلَكِيَّةِ؛ فقدَّمَتْ إليَّ خِنْصَرَها — متلطِّفةً باسِمةً — فأمْسَكْتُها بينَ يديَّ، ولَثَمْتُ بَنانَها شاكرًا.
وقد وجَّهَتْ إليَّ أسْئِلةً عامَّةً عن بلادي، فأجبتُ عَنْها إجابةً مُوجَزَةً واضِحَةً علَى قَدْرِ ما أستطيعُ أن أُعَبِّرَ بلُغَتِها، ثم قالت لي مبتسِمةً: «أَيَسُرُّكَ أن تعيشَ معنا في هذا الْقَصْرِ؟»
فانْحَنَيْتُ أمامَها شاكرًا، وأجبتُها ضارعًا: «لستُ — يا مَوْلاتي — إلَّا عبدًا رَقيقًا لهذا السيِّدِ، فهو مالِكُ رِقِّي، يتَصَرَّفُ في أمْرِي كيف يشاءُ، أمَّا أنَا، فَلَوْ كان أمري بِيَدِي لَرأيتُ السَّعادةَ كلَّها في أن أَهَبَ جلالَتَكِ الْمُلوكيَّةَ حياتي، وأَنْ أَقْصُرَ خِدمتي على الْقَصْرِ الْكريمِ!»
فالتَفَتَتْ إلى السيِّدِ تسألُه: «هل تقبلُ أن تَبِيعَنِيهِ؟»
ولم يكنْ أشْهَى إلى نفسِه من هذا؛ فقد دخلَ في رُوعِه أنني هالِكٌ — قبلَ أن أُتِمَّ الشَّهْرَ — فرأَى الْفُرْصَةَ سانِحَةً للكسْبِ، وعرض على جلالتِها أنْ تَشْتَريَنِي بألفِ دينارٍ، فَنَقَدَتْهُ الثَّمَنَ مِنْ فَوْرِها، فقلتُ لِجَلالتِها ضارعًا: «ما أَجْدَرَ مَوْلاتي أن تُضيفَ — إلى هذا الْفضلِ الذي طَوَّقَتْ به جِيدَ عَبْدِها — فَضْلًا آخرَ، فَتقْبَلَ صديقتي الْحاضِنَةَ الصَّغيرةَ — التي عَطَفَتْ عليَّ وعُنِيَتْ بأمرِي — خادمةً لِجَلالتِها، لتكونَ رفيقةً لي؛ فقد أقنعتْنِي الْأَيامُ بأنها نِعْمَ المُرْشِدَةُ الأَمِينَةُ.»
فأجابتْني جلالةُ الْملِكةِ إلى طِلْبَتي في الْحالِ، وفرِحَ الزَّارعُ بهذا الْفَوْزِ، وامْتلأ قلبُه سُرورًا وغِبْطةً؛ إذْ أصبحتِ ابْنَتُه في حاشِيَةِ الْملِكةِ، كما تَطَلَّقتْ أساريرُ الْحاضنةِ بِشْرًا وسُرورًا.
ثم ذهب السيِّدُ إلى سبيلِهِ، بعد أن حَيَّاني مبتسِمًا، وقال لي: «أَسْتَوْدِعُكَ اللهَ، وأُهَنِئُكَ بهذا الْفوزِ الْعظيمِ، وأَتَمَنَّى لك السَّعادةَ التَّامَّةَ!»
فرددْتُ عليه تَحِيَّتَه — في امْتعاضٍ وفُتُورٍ — وشكرتُ له أَمانِيَّهُ لي.
(٢) خُطْبَةُ «جَلِفَر»
ولم يَخْفَ على جلالةِ الْملِكةِ ما بدا على أساريرِي من أماراتِ الِامْتِعاضِ والْفُتُورِ — حينَ حيَّيتُ ذلك السيدَ — فسألتْني عن السِّرِّ في ذلك؛ فلم أكْتُمْها شيئًا من حقيقةِ ما حدثَ، وقَصَصْتُ عليها قِصَّتِي كلَّها، ثم خَتَمْتُها بقولي: «إنَّ كلَّ ما أشكرُه — لهذا السَّيدِ — أنهُ تَجاوزَ عن قتلِ ذلك الْحَيوانِ الصغيرِ الْبَرِيءِ الذي رَآه مُصادفةً في حَقْلِهِ؛ فقد كان في قُدْرَتِه — حينئذٍ — أن يسحَقَنِي بقدمِه سَحْقًا، وإنني لن أَنْسَى لَهُ هذا الصَّنيعَ الْمشكورَ.
وأحسبُني قد رَدَدْتُه إليه مضاعَفًا؛ فقد جَنَى بي أرباحًا طائلةً، لم يكنْ يَحْلُمُ بها طولَ عمرِه، وكانت خاتِمَتي معه أنْ باعَني لِجَلالَتِكِ بألفِ دينارٍ. على أنني أنْقِمُ منهُ جَشَعَه وجَرْيَهُ وراءَ الْمالِ، دونَ أن تأخذَه في أمرِي رحمةٌ أو شفقةٌ؛ فقد أفْسَدَ صِحَّتِي، وأنْكرَ صُحْبَتِي في سبيلِ الْمالِ، وكاد يُهلكُني لولا لطفُ اللهِ بي، إذ قَيَّضَ لي جلالتَكِ، فأنْقَذْتِ حياتي بعد أن أَشْرَفْتُ على التَّلَفِ، ولولا أَنه كان شديدَ الثِّقَةِ بأنَّ حَيْنِي وَشِيكٌ، لما باعَنِي لِجَلالتِكِ بهذا الثَّمنِ الْقليلِ ….
على أنني لن أخشَى شيئًا بعد الْيومِ، فَحَسْبي أَنني أَصبحتُ في كَنَفِ مَلِكَةٍ عظيمةٍ مثلِكِ، تُعَدُّ — بِحَقٍّ — آيةَ الكرمِ، وبَهْجَةَ الدُّنيا، وفَخْرَ العالَمِ. وقد بدأْتُ أُحِسُّ — منذُ هذه اللَّحظةِ — أنَّ زمَنَ النَّحْسِ والشَّقاء قد ولَّى، وأعْقَبَهُ زمَنُ السَّعادةِ والرَّخاءِ. وإني لأَشْعُرُ أَنَّ قُوايَ تَتَجَدَّدُ بفضلِ هذه الرِّعايَةِ السَّامِيَةِ.»
•••
ولقد أَلقَيْتُ هذه الْخُطْبَةَ أمامَ جلالتِها — وأنا واثِقٌ من أَنني وَقَعْتُ في كثيرٍ من الْغَلَطِ النَّحْوِيِّ، والْخَطأِ اللُّغَويِّ — ولكنَّ جلالتَها أدركتْ حَدَاثَةَ عَهْدِي بِتلك اللُّغَةِ، فتجاوزَتْ عن كلِّ ما وَقعتُ فيه من هَفَواتٍ، وأُعْجِبَتْ بذكائي، ودَهِشتْ لما سَمعَتْهُ مِنِّي، ولم يكنْ يدُورُ بِخَلَدِها أنْ تجدَ هذا العقلَ والذكاءَ في مثلِ هذا الحيوانِ الصَّغيرِ الذي يُخاطبُها.
(٣) بين يَدَيِ الْمَلِكِ
ومضتْ بي — من فَوْرِها — إلى جَناحِ جلالةِ الْملِكِ وكان قد عادَ إلى الْقصرِ. وما استَقرَّ في حُجْرتِه الخاصَّةِ حتى جاءتْه الْملِكةُ، فحيَّتْهُ — متلطِّفَةً — فردَّ عليها التَّحِيةَ بابْتسامٍ، وكان مَلِكُ هذه البلادِ مِثالًا للجِدِّ والْحَزْمِ والنَّشاطِ وما ألْقَى عليَّ نَظْرَةً عاجِلةً حتى قال للملكةِ، ولم يكنْ قد رأى وَجْهِي: «ماذا أعْجَبَكِ من هذه الحَشَرةِ؟»
فوضعتْني تلك الْمَلِكةُ الْحَصِيفَةُ على مِحْبَرَةِ جلالَتِه، وطلبتْ إليَّ أنْ أُجيبَ جلالةَ الْمَلِكِ عن سُؤالِه، وأُخْبِرَه باسْمِي.
فأوْجَزْت لِجَلالته خَبَري، ولم تستطِعِ الْحاضنةُ أن تبقَى بعيدةً عنِّي؛ فاسْتأذنتْ في الدُّخول، ثم قَصَّتْ على جلالتِه كيف وجدني أبوها في حقْلِه، وسَرَدَتْ قِصَّتي كلَّها، وكان ذلك الْمَلِكُ أعلمَ رَجُل رأيْتُهُ في مَمْلكتِه، وقد توفَّر على دَرْسِ الْفلسَفةِ وتَخَصَّصَ لعلومِ الرِّياضِياتِ فلما رأى وجهي ومِشْيَتِي، خُيِّلَ إليه أنني رُبَّما كنتُ آلةً صناعِيَّةً كالآلةِ التي تُدِيرُ بنفسِها سَفُّودَ الشِّواءِ، أو كالسَّاعةِ التي اسْتطاع أن يَخْتَرِعَها فنِّيٌّ ماهِرٌ، ولكنَّه بعد أن حادثَني وتبيَّن نَبَراتِ صوْتي، وحُسْنَ جوابي، لم يستطعْ أنْ يَكْتُمَ دهشتَه وإعجابَه.
(٤) أَقْوالُ الْعُلَماء
فأمرَ الْمَلِكُ — من فورِهِ — باسْتِدْعاءِ ثلاثةٍ من أساطِينِ الْعلماء، كانوا — حينئذٍ — ضُيوفًا في الْقصرِ الْمَلَكِيِّ، وكانوا يَقْضُون فيه أُسْبوعًا من كلِّ عامٍ، تَبَعًا لتقاليدِ هذه الْبِلاد. وبعد أن أنْعَمُوا النَّظر وأمْعَنُوا الْفِكْرَ، وأطالوا التَّأمُّلَ والْفَحصَ، تَبايَنَتْ آراؤهُم في أمري. ثم أجمعوا رأْيَهم — بعد مُناقشةٍ طويلةٍ — على أنني فَلْتَةٌ من فَلَتاتِ الطَّبيعةِ، لأنني لم أُخْلَقْ على حَسَبِ الْقوانينِ الطَّبِيعيةِ الْمألوفةِ، ولأنَّ الطَّبيعةَ قد سلبتْني — فيما زعمُوا — كلَّ مُؤهِّلاتِ الْحياةِ وأدواتِ الدِّفاعِ عن نفسي، وحَرَمتْنِي الْقوةَ والنَّشاطَ؛ فليس في قُدْرتي أن أتسَلَّقَ شجَرةً من أشجارِهم، أو أحْفرَ الأرضَ، فأتَّخِذَ فيها جُحْرًا آوِي إليه كما تفعلُ الأرانِبُ مثلًا، وقد فَحَصوا عن أسناني فَحْصًا دَقيقًا، فاقْتنعوا بأنني حيوانٌ مفترِسٌ من أَكَلَةِ اللُّحومِ، وذهب أحدُهم إلى أنني جَنِينٌ لم أكْتَمِلْ في بَطْنِ أُمِّي، ولكنَّ رفيقَيْهِ أَنكَرا عليهِ هذا الزَّعمَ، لأن أعْضائِي كلَّها كاملةٌ في نَوْعِها — بِرَغْم ضَآلَتِها — ولأنني قد عِشْتُ عِدَّةَ سِنينَ حتى اكتَمَلتْ رُجُولَتِي والْتَحَيتُ، وقد استطاعوا أنْ يرَوْا شَعْرَ لِحْيتِي بِمِجْهَرٍ لِدِقَّتِه، ولم يستطيعوا أن يَعْتبروني قَزْمًا؛ لأنَّ نديمَ الْملِكةِ — وهو أصغرُ قَزْمٍ وُجِدَ في تلك الْمَمْلكَةِ — كان يَرْبو طولُه على ثلاثينَ قَدَمًا.
وطالت مُناقشتهُم، واشتدَّ جَدَلُهم، ثم أَطْبَقُوا — بعد ذلك — على أنني لستُ إلَّا مَخْلوقًا شاذًّا منَ النَّوْعِ الذي يُطْلِقُ عليهِ الْفلاسفةُ اسم «مُدَاعَباتِ الطَّبيعةِ» أو «فَلَتَاتِ الزَّمَنِ»، وهو تعبيرٌ يَلجأُ إليه أساتِيذُ الْفلسفةِ الْحديثةِ الذين يُعْجِزُهم تَفَهُّمُ أسْرارِ الْكَونِ، ودَقائِقِ الْغَيبِ، وغرائبِ الطَّبيعةِ؛ فلا يَجِدون وَسيلةً لِحَلِّ كلِّ غامِضٍ إلا إذَا الْتَجَئُوا إلى هذه النَّظريِّةِ السَّهلةِ!
•••
وما انْتَهَوْا من قرارِهم هذا، حتى الْتَفَتُّ إلى المَلِكِ، وقلتُ لجَلالَتِه: «إنَّني آتٍ من بلادٍ تَحْوي عِدَّةَ مَلايينَ من الْأناسِيِّ — ذُكورًا وإناثًا — في مِثْلِ حَجْمِي، وإنَّ أشْجَارَ تلك البلادِ وحيوانَها ونباتَها ومساكِنَها تُناسبُ أَحْجامَنا الصَّغيرةَ. وَثَمَّةَ تَتَوافَرُ لي أسْبابُ الدِّفاع عن نفسي، وَيَسْهُلُ عليَّ أن أَحْصُلَ علَى قُوتِي وحاجاتي، كما تَحْصُلونَ عليه في بلادكُمُ الْمُناسِبَةِ لأحْجامِكُم الْهائلةِ.»
وما سمعَ الْفلاسفةُ هذا الْجَوابَ، حتى عَلَتْ شِفاهَهمُ ابْتِساماتُ السُّخْرِيَةِ والازْدِراء، وقالوا لي مُتَهَكِّمِينَ: «لقد أحْسَنَ الزَّارِعُ تَلْقِينَكَ هذه الدُّروسَ!»
وكان الْمَلِكُ — كما قلتُ — ذكِيَّ الْقلبِ، واسعَ الِاطِّلاع؛ فلمْ يَسْتَبْعِدْ ما قُلْتُه، فصَرَفَ عُلمَاءَه، وأمر باسْتدعاءِ الزَّارِعِ — ولم يكن قد غادر الْمدينةَ لِحُسْنِ الْحظِّ — وسأله جلالتُه على انْفرادٍ، ثم واجَهَهُ بي وبِابْنَتِه الصَّغيرةِ؛ فظهر لهُ صدقُ ما قلتُه له، فصرف الزَّارعَ، وَأَوْصَى بي الْحاضِنَةَ خَيرًا، وترك لَها الْعِنايةَ بأَمري، بعد أن رأى عَطفَها عَلَيَّ وتعلُّقَها بي.
(٥) عِنايةُ الْملِكةِ
وقد اسْتَدعَت الْمَلِكةُ نَجَّارَها الْخاصَّ — وكان مشهورًا بصُنْعِ دقائِقِ النِّجارةِ — وأَمَرَتْهُ بعملِ عُلْبَةٍ صَغيرةٍ تَصْلُحُ مَكانًا لِنَوْمِي وِفْقَ النَّمُوذَجِ الذي قَدَّمْتُهُ أَنَا والْحاضِنَةُ. وكان نَجَّارًا ماهرًا دقيقًا ذكيًّا؛ فلم تَمُرَّ عليه ثلاثةُ أَسابيعَ حتى أتمَّ صُنْعَ الْعُلْبَةِ. وكانت مِساحَتُها ستَّ عَشْرَةَ قدمًا مُرَبَّعَةً، وارْتفاعُها اثْنَتَي عشرةَ قدمًا، ولها بابٌ ونوافذُ، وهي تَحْتوي حُجْرَتَيْنِ، وبعد أَيامٍ قليلةٍ جاءُوني بكُرْسِيِّيْنِ صَغيرين من مادَّةٍ تُشْبِه الْعاجَ، وأحْضَروا إليَّ مائدتينِ، وخِزَانةَ ملابسَ صنعها عاملٌ مُتَخَصِّصٌ لِصُنْعِ دَقائِقِ الطُّرَفِ الْفَنِّيَّةِ. وأَعدَّتْ لي جلالةُ الْملِكةِ أرَقَّ الْأَثْوَابِ الْحَرِيرِيَّةِ، لِأَخْتَارَ منها ما يُلائِمُنِي.
وكانتْ جلالتُها تَأْنَسُ إليَّ، وَتَطْرَبُ لِحَديثِي، ولا تَصْبِرُ على مُفَارَقَتِي، ولا تأكلُ إلا إذا أكلتُ بِجانبِها. وقد أَعدَّت لي مائدةً صغيرةً أضعُها على الْمائدةِ الكبيرةِ، وأحْضَرتْ إلى جانِبِها كُرْسِيًّا صغيرًا أَجلسُ عليه. وكانتِ الْحاضِنَةُ تَجْلسُ دائمًا بالْقربِ مني لِتَلْبِيَةِ كلِّ ما أَطلبُ، ولا تَكادُ تَفْتُرُ عنْ الْعِنايَةِ بِي لَحْظَةً واحدةً.
(٦) حِوارُ الْملِكِ
وفي ذَاتِ يَوْمٍ كان الْمَلِكُ يَتَغَدَّى معنا، فظلَّ يُحادِثُنِي، وَهُوَ مُعْجَبٌ بِحَديثي، وقد سألني عن عاداتِ بلادي، وأخلاقِ أَهْلِهَا، وَدِينِهم وقَوانينِهِم، وحكومتِهم وآدابِ لُغَتِهم؛ فأجبْتُه عنْ كلِّ ما سأل بقدْرِ ما سَاعَفَتْنِي اللُّغَةُ.
وكان الْمَلكُ طُلَعَةً، دَائِبَ الْبحثِ، دقيقَ الْمُلاحظةِ، قَوِيَّ الحُجَّةِ؛ فظلَّ يفكِّرُ في شَأْنِي وأقْوالِي مَلِيًّا، وقد اشْتَدَّ عَجَبُه حينَ عَلِمَ أنَّ في بلادِنا أحْزابًا مُتَنَافِرَةً مُتَنَاحِرَةً، وأنَّ لكلِّ حِزْبٍ مُؤَيِّدينَ ومعارِضينَ، فالتفتَ الْمَلِكُ إلى وَزيرِه، وكان واقفًا خَلْفَهُ وفي يَدِهِ عَصًا بَيْضاءُ، كأنَّها — لِطولِها — سارِيَةُ سفينةٍ شِرَاعيَّةٍ كبيرةٍ، وقالَ لهُ الْمَلِكُ: «أليْسَ منَ المُؤلِمِ الْمُخْزِي أنْ تكونَ الْعَظَمَةُ الْإِنسانيةُ تافِهَةً إلى هذا الحدِّ؟ وأيُّ قِيمَةٍ للإِنْسَانِ في هذه الدُّنيا إذا شارَكَتْهُ تلك الْحَشَرَاتُ الْحقيرةُ في كل خَصائِصِه وَمَزاياه؟ وأيُّ فضلٍ لنَا ما دامتْ هذه الْحشراتُ تُماثِلُنَا في كلِّ شَيْءٍ: لهمْ أطماعٌ وأحزابٌ، وميزاتٌ وزيناتٌ، وأفراحٌ وأتْراحٌ، يصنعون من فَضَلاتِ الْخِرَقِ أثْوابًا يَرْتَدُونَها، ويَأْوونَ إلى ثُقُوبٍ يُسَمُّونَها منازِلَ وقُصُورًا، ويَتَّخذونَ لهم أتْباعًا وخَدَمًا، ويُلَقِّبونَ أنفسَهم بشَتَّى الألقابِ والنُّعُوتِ، ويكونُ لهم — كما لَنا — في هذه الدُّنيا آرابٌ ومشاغِلُ وأمانِيُّ، ويُحِبُّون وَيَكْرَهون، وَيَلْجئونَ إلى ضُروبِ الْخِداعِ والْمَكْرِ والْخُصُومَةِ، فَلا نَمْتازُ عنْهم في شَيْءٍ منْ مَزايَانا ونَقائِصِنا على السَّواءِ!»
هَكذَا شاءَ جلالةُ الْمَلِكِ أنْ يُحَقِّرَ أبناءَ جِنْسِي، وأنْ يُزْرِي بِفُنونِهِم وآدابِهم وفَلْسَفَتهم، وأن تَدْفَعَهُ فلسفتُهُ إلى الغَضِّ منهم، وامْتهانِ شَأنِهِم لِضآلةِ أجسامِهِم!
(٧) الْقَزَم الْخبيثُ
صَفا لِيَ الزَّمنُ، وَلم يُعكِّرْ عَلَيَّ هذا الصَّفاءَ إلا قَزْمٌ خبيثٌ قد اخْتارَتْهُ الْملِكةُ لِمُنادمتِها، وهو أصغرُ قامَةً من كلِّ مَخْلوقٍ في هذه الْبلادِ، وما رَأى ذلك الْقَزْمُ الْخَبيثُ أنَّ في الدُّنيا إِنسانًا أَضْأَلَ منه، حتى تَمَلَّكه الزَّهْوُ والغُرورُ والْخُيَلاءُ؛ فَظَلَّ يَعْبَثُ بي — كُلَّما رَآني — ولا يَتْرُكُ فُرْصَةً يَلْقَاني فيها دون أن يتهكَّمَ بِي، ويسخَرَ منِّي، حتى عَكَّرَ عَلَيَّ كلَّ صَفْوٍ، ولم أكُنْ أَجدُ وَسِيلَةً إلى الِانتقامِ منه إلَّا أن أدْعُوَهُ بِلَقبِ «الشَّقِيقِ»!
وما أنْسَ لا أَنْسَ يَومًا مَشْئُومًا مَرَّ بِي مع هذا الْقَزَمِ الْخبيثِ ونحن نَتَغَدَّى، ولم أكن أفكرُ في شيءٍ حينئذٍ، فَرأى ذلك الْقَزَمُ أن الفرْصَةَ سانِحَةٌ للعَبَثِ بي؛ فأمْسَكَنِي من وَسَطي، ورفعني بيده، ثم أَلقَى بِي في صَحْفَةٍ مملوءةٍ لَبَنًا، وفرَّ هاربًا؛ فغرِقْتُ في اللَّبنِ إلى أُذُنَيَّ، ولولا أَنني أحْسِنُ السِّباحةَ لغرِقْتُ فيها وكنتُ من الْهالِكينَ. وكانتِ الْحاضِنَةُ الصَّغِيرةُ حينئذٍ في آخرِ الْقَاعةِ — لِحُسْنِ حَظِّي — فأسْرعَتْ إِلَيَّ وأنقذتْنِي من الغَرَقِ، وما عَلِمَتِ الْمَلِكةُ بِهذا الحادثِ الْمُفْزِعِ حتى ذَهِلَتْ، وامْتَلأتْ نفْسُها بالغَضبِ، وأرسلتْ — من فَوْرِها — تَسْتَدْعِي ذلك الْقَزَمَ، فلما حضر أمرتْ بضرْبه بالسِّياطِ؛ فَظَلُّوا يضرِبونه ضَرْبًا مُوجِعًا، حتى شُفِيَ غَلِيلِي منه، وأدركتُ — بِذلك الإيذاءِ — ثَأْرِي الذي كنتُ عاجزًا عنِ الأخْذِ به!
(٨) في أُنْبُوبِ عَظْمَةٍ
علَى أنَّ هذا الْحادِثَ الْمَشْئُومَ — حادِثَ الْغَرَقِ — قد انتهَى لحُسْن حَظِّي بسَلامٍ، فلمْ أخْسَرْ فيه إلَّا ثَوْبِي الْجَدِيدَ.
وقد طَردَت الْمَلكةُ هذا الْقَزَمَ الشِّريرَ من خِدْمَتِها، وتَرَكَتْه لِإحْدى وَصِيفَاتِها؛ فاسْتَرَحْتُ من مُضَايَقَتِه وَخُبْثِه منذُ ذلك الْيَوْمِ.
ولم تكنْ هذه أوَّلُ مرَّةٍ أَساءَ إِليَّ فيها ذلك الْقَزَمُ، فقد طالما ضَايَقَنِي بِإساءاتِه الْمُتَكَرِّرَةِ، ولَسْتُ أَنْسَى ما فعله ذاتَ يوم، إذْ تَرَبَّصَ بِي حتى انْتَهى الْمَلِكُ منْ غَدائِهِ، ثم غَافَلَني ذلك الْخَبِيثُ وأمسكَ بِي، فَضَمَّ ساقَيَّ بإصْبَعَيْهِ، وأدْخلني في أُنْبُوبِ عظْمَةٍ — بعد أنِ اسْتلَّ نُخَاعَها — فغُصْتُ فيها إلى رَقَبَتِي.
ثمَّ وضعَ تلك الْعَظْمَةَ على الْمائِدَةِ وذهَبَ إلى سَبيلِهِ، ولَبِثْتُ في ذلِكَ الأُنْبوبِ بِضْعَ دَقائِقَ — وأنا في أَحْرَجِ مَأْزِقٍ — وخَجِلْتُ من حَقارَتِي، فلمْ أَشَأْ أن أصِيحَ حتى لا أُنَبِّهَ منْ في الْبيتِ إلى مَكانِي المُزْرِي، وقدْ كانَ مِن حُسْنِ حَظِّي أنَّ الْمُلُوكَ لا يأكُلونَ طَعَامَهُم وهو ساخِنٌ شَدِيدُ الْحَرَارَةِ؛ فلمْ تَحْتَرِقْ ساقاي.
وما فَطَنَ الْحاضِرونَ إلى مَكاني حتَّى أَغْرَقُوا في الضَّحِكِ، ثم أخْرَجونِي من أُنْبوبِ تلك الْعَظْمَةِ دُونَ أن يَمَسَّنِي سُوءٌ، وقد هَمُّوا بِمُعاقَبَةِ ذلك الْقَزَمِ على إساءَتِه، فَتَشَفَّعتُ فيه — إبقاءً عليه، واسْتِصْفَاءً لنفسِه — حتى عَفَوْا عَنْه.
(٩) مُكافَحَةُ الْحَشَراتِ
وكانتِ الْمَلِكةُ — في كثيرٍ منَ الْأحايينِ — تَهْزَأُ بِي، وتَضْحَكُ مِنْ قَالبي، وتَسْخَرُ من جُبْني، وكثِيرًا ما سَألتْنِي مُتَعَجِّبةً: «تُرى هَلْ يُماثِلُكَ أبْناءُ جِلدَتِكَ في خَوفِكَ وجُبْنِكَ؟ وهل يَنْزَعِجُونَ من طَنِينِ الذُّبابِ، ولَدغاتِه الْخَفيفَةِ كما تَنْزعِجُ أَنتَ؟»
ولا أكْتُمُ الْقَارِئَ أنَّ ذُبابَ هذه البِلادِ ما كان يَدَعُني لَحْظَةً في رَاحَةٍ واطْمِئْنانٍ، فَهُوَ — لِسُوءِ حَظِّي — في حَجْمِ القُبَّرَةِ في بِلادِنا، وكان يتَهافَتُ على طَعامي، ويُفْزِعُني طَنِينُهُ، فلا يَهنَأُ لي طَعَامٌ في تلك البلاد. ورُبَّمَا لَذَعنِي في أنْفي لَذْعَةً مُوجِعَةً، وكانَتْ له رَائِحَةٌ كَريهَةٌ، فكنتُ أُحِسُّ رَعْشَةَ خَوْفٍ وفَزَعٍ كلما اقتربَتْ مني تلك الْحَشراتُ الْمُؤْذِيةُ.
وكأنَّما فَهِمَ ذلك الْقَزَمُ الْخَبِيثُ خَوْفِي من تلك الْحَشراتِ، فكان يَحْلُو لَهُ أنْ ينتهزَ كُلَّ فُرْصَةٍ سانِحَةٍ، لِيُخِيفَني بها، ويُضْحِكَ الأمِيراتِ مِنِّي؛ فَيَمْلأُ قَبْضَةَ يَدِهِ بِجُمْلَةٍ من الذُّبابِ، ثم يُطْلِقها عليَّ.
ولم يَكُنْ لِي من حِيلَةٍ في دَفْعِ هذا البَلاءِ إلَّا أن أَلْجَأَ إلى مُدْيَتِي، فأحارِبَ ذلك الذُّبابَ الكبيرَ، وأُقَطِّعَ جِسْمَهُ وأَجْنِحَتَهُ إِرْبًا إِرْبًا!
وكانتِ الأَميراتُ يُعْجَبْنَ بهذه اللَّياقَةِ التي امْتَزْتُ بها في صَيْدِ الْحَشَرَاتِ. ولستُ أَنْسَى ما حدث لي — ذا صباحِ — فقد وضعَتِ الْحَاضِنَةُ عُلْبَتِي على النَّافِذَةِ — وأنا في داخِلها — لأَسْتَنْشِقَ الْهواءَ النَّقِيَّ، وما فَتَحْتُ إحْدىَ نافِذَتَيَّ وجَلَسْتُ إلى مائِدَتِي لآكلَ فَطُورِي — وكان قِطْعَةً من الفَطيرِ — حتى أَقبلتِ اليَعَاسِيبُ والزَّنابيرُ، ودخلتْ حُجْرَتِي، ومَلأتْ أَنْحاءَها بطَنِينِها الْمُفَزِّعِ، وظَلَّت تَتَهافَتُ على طعامي وتَنْتَهِبُهُ انْتِهابًا، وطَارَ بعضُها حولَ رأْسِي، فتشجَّعْتُ، وقُمْتُ أُطَارِدُها في الهواء، فقتلْتُ منها أربعةً، وهَرَبَتْ بَقِيَّتُها، فلمَّا انتصرْتُ عليها أغْلقْتُ النَّافِذَةَ.
وقد كان اليَعْسُوبُ في حَجْمِ الْحَمَلِ، وكان طولُ حُمَتِهِ اللَّاسِعَةِ إصبَعًا، وقد احْتَفَظْتُ ببعضِها ليكونَ عِندِي أثَرًا من ذِكْرَياتِ هذه البِلادِ.