خاتمة الرحلة
(١) الْعَوْدَةُ إلى الْوَطَنِ
وكان من حُسنِ حظِّي أن ذلكَ الرُّبَّانَ عائدٌ إلى «إِنجِلْتِرا» وهو قادمٌ منْ «تُنْكِين».
وما وَصَلْنا إلى الدرجةِ الأربَعِينَ من خُطوطِ الطُّولِ، حتى هَبَّتْ عليْنا ريحٌ شديدةٌ، ولم يكنْ قد مَرَّ على وُجودي في السفينَةِ إلَّا يَوْمانِ، فانْدفَعْنا إلى الشَّمالِ زَمنًا طَويلًا، ثم حاذيْنا الشَّاطِئَ، حتى بلغْنَا رأسَ الرَّجاءِ الصَّالحِ.
وكانتِ الرِّحْلةُ سعيدةً مُوَفَّقَةً، رَغْمَ ما كابَدْناه فيها من جَهْدٍ وعَنَاءٍ في التغلُّب على العواصِفِ الهُوجِ. وقد مَرَّ الربَّانُ ببَلَدَيْنِ — في أثناءِ سفرِهِ — فتزوَّد منهما بما شاء من الطعامِ والماءِ، أما أنا فلم أَبْرَحِ السفينَةَ حتَّى وصلْتُ إلى وطني في اليوم الثالثِ من شهرِ يُنْيَة عام ١٧٠٦م، أَي بعدَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ تقريبًا من خَلاصِي.
وما وَصَلْتُ إلى الْمَرْفأِ، حتَّى أَرَدْتُ أَن أَتْرُكَ متاعِي عندَ الرُّبَّانِ لِيكونَ رهِينةً لَدَيْهِ إلى أَنْ أَدْفَعَ له أَجرَ سفري، ولكنه أَبى أن يأخذَ مني أَيَّ أَجرٍ على ذلك، فودَّعْتُهُ، ودعَوْتُهُ مُتَرفِّقًا أنْ يتفضَّلَ بزيارتي في «ردِيف». واسْتَأجَرْتُ جَوادًا ودَلِيلًا بعدَ أنِ اقْتَرَضْتُ منَ الرُّبَّانِ قليلًا مِنَ النُّقودِ لأدفَعها أَجرًا للدَّليلِ.
وكنتُ — في أثناءِ سَيْري — أدهَشُ لصِغَرِ المنازلِ، وضَآلَةِ الأشجارِ، وحَقارةِ الدَّوابِّ، وقَماءَة الرِّجالِ؛ فإخالُني سائرًا في «ليليبوت» — بِلاد الأقزامِ — وأتَحَرَّجُ من أن أطأَ بقدمي أحدًا منهم في أثناءِ الطريقِ. وكنتُ أَصِيحُ بهم أن يتَنَحَّوْا، وكِدْتُ أَشْتَبِكُ في مَعْرَكتيْنِ — بِسببِ حماقتي — وقد عرَّضتُ نفسي للهلاكِ في كلِّ واحدةٍ منهما.
(٢) فِي بَيْتِ «جَلِفَر»
وَما وَصَلْتُ إلى مَنْزِلِي، وقَرَعْتُ بابَه، حتى فتحَ لي أحدُ الخدمِ، فانْحَنَيْتُ لأدْخُلَ — حذَرًا من أَنْ يُصْدَمَ رَأسِي بأعلَى الْبابِ — وقد بَدَا لِيَ الْبابُ صغِيرًا كأنهُ نافذةٌ صغِيرةٌ!
وما رَأَتْني زَوْجَتِي، حتى أَسرَعتْ إليَّ لتعانقَنِي وتقبِّلَني — وهي فرحانةٌ بعودتي سالِمًا — فانْحنيْتُ انحناءَةً طويلةً أَمامَها، حتى أصبحتُ دُونَ رُكْبَتَيْها، وقد خُيِّلَ إِليَّ أَنها — لِقِصَرِها — لن تصلَ إِليَّ إلا إذا انْحنيتُ أَمامَها إلى هذا الحدِّ. ثم أَسْرَعَ إليَّ وَلَدَاي، وركَعا عَلى رُكْبَتَيْهِمَا حَمْدًا للهِ على سلامتي، فلم أَستطعْ أَن أَتبينَهُما إلا بعد أن وقفا أَمامِي، لأنني كنت قدِ اعْتدتُ — منذُ زمنٍ طويلٍ — أَن أَقفَ مرْفوعَ الرَّأسِ مصوِّبًا عينيَّ إلى أَعْلَى. ثم نظرتُ إلى مَنْ وَفَدَ عليَّ مِنَ الْأصدقاءِ لِيُحَيِّيَنِي؛ فرأيتُهُم جميعًا أَقْزَامًا ضِئالًا، وخُيِّلَ إليَّ أَنني بينَهمْ عِملاقٌ عظيمٌ بائِنُ الطولِ. ولقد طالما قلتُ لزوجتِي: «إنَّكِ غايةٌ في الضَّآلَةِ والنَّحافَةِ.» لأنني رأيتُها وابْنَيها أَمامي كأنهُمْ حشَراتٌ صغِيرةٌ!
وهكذا أَصبحتُ غريبَ الْأطوارِ؛ فارْتابُوا في صِحَّةِ عَقْلي، وسلامةِ أَعْصَابِي، وحسِبُوني — كما حسِبَنِي الرُّبَّانُ من قَبْلُ حينَ رَآني أوَّلَ وَهْلَةٍ — قد جُنِنْتُ بعدَ ما لَقِيتُه مِنَ الأهوالِ، ولم يكنْ لِذلك كلِّه من سببٍ إلا أَنني قد تعوّدْتُ رؤيةَ الْعمالقةِ وما يكْتنِفُهم من ضِخَامِ الْأشياءِ؛ فَصَغُرَ في عينِيَّ كلُّ ما رأَيْتُهُ في بلادي، من إنسانٍ وحيوانٍ ونباتٍ. وفي هذا دليلٌ على ما تُحْدِثُهُ الْعادةُ منْ أَثرٍ في نَفْسِ صَاحِبِها.
ولم يمضِ عليَّ زمنٌ قليلٌ، حتى اسْتقرَّتِ الْأمورُ في نصابِهَا؛ فأَلِفْتُ أَن أَرى الْأشياءَ على حقيقتِها، وأقبلتُ على أَهْلِي وأصدِقائي؛ ففَرِحُوا بذلك أَشدَّ الْفرحِ. ورأتْ زَوْجِي أن تكونَ هذه خاتمةَ الرّحلاتِ؛ فأَبْرَمَتْ أمْرَها ألَّا تدَعَني أُعَرِّضُ نفسي — بعد ذلكَ الْيَوْمِ — لأخطارِ الْأسفارِ، ورُكوبِ البحارِ.