الثلاثة الذين ماتوا
كان أحد الركاب يختار على مهل مقصورته أثناء توقف القطار في كنسينجتون؛ ففتح باب مقصورة وترنَّح متراجعًا للوراء وهو يسعل. هرع حمال وأحد موظفي المحطة جزعين إلى المقصورة وفتحا الباب، فانتشرت في المحطة رائحة اللوز الكريهة.
تجمع بعض الركاب وأخذوا يَنظُرون من فوق أكتاف بعضهم البعض، بينما كان مفتش المحطة يتحرَّى الأمر. بعد قليل جاء طبيب، ومعه محفة إسعاف، وشرطي من الشارع القريب.
حملوا معًا جثة الرجل المتكومة من عربة القطار إلى رصيف المحطة.
سألهم الشرطي: «هل وجدتم أي شيء؟»
كانت الإجابة: «لم نجد إلا جنيهًا ذهبيًّا وقنينة مكسورة.»
تحسس الشرطي جيوب الرجل الميت.
قال بخبرة: «لا أظن أنه سيكون معه أيُّ أوراق تدل على هويته. ها هي تذكرة درجة أولى؛ لا بدَّ أنها حالة انتحار. ها هي بطاقة.»
قلب البطاقة وقرأ ما كان مكتوبًا عليها، وامتقع لونه.
أعطى بضع تعليمات بسرعة، ثم اتجه إلى أقرب مكتب هاتف.
استيقظ المفتِّش فالموث، الذي لم يكن قد ظفر إلا ببضع ساعات من النوم في مقر وزارة الخارجية في داوننج ستريت، بذهن مُضطرِب وشعور قلق بأن اليوم سينتهي نهاية كارثية على الرغم من كل احتياطاته. وما كاد يَنتهي من ارتداء ملابسه حتى أُعْلِن عن وصول مُساعد مفوض الشرطة.
لم يُلقِ المسئول عليه التحية بل بادره بقوله: «لقد تلقيت تقريرك، يا فالموث، لقد أحسنت فعلًا أن أطلقت سراح ماركس؛ هل وصلتك أي أخبار عنه هذا الصباح؟»
«لا.»
همهم المفوض مفكرًا، ثم قال: «أتساءل إن كان …» لم ينهِ جملته. «هل خطر ببالك أنه ربما يكون الأربعة قد أدركوا الخطر الذي يتهددهم؟»
أظهر وجه المفتش شعوره بالمفاجأة.
«عجبًا، بالطبع، يا سيدي.»
«هل وضعت في اعتبارك ماذا سيكون مسلكهم المحتمل؟»
«كلا، ولكن قد يُحاولون الهرب من البلاد.»
«ألم يَخطر ببالك أنه، بينما يبحث هذا المدعو ماركس عنهم، من المحتمَل أن يكونوا يسعون إلى الوصول إليه؟»
قال المفتش بلهجة قلقة: «إن بيلي ذكي.»
قال المفوض بإيماءة مؤكِّدة: «وهم أيضًا كذلك. نصيحتي أن تتصل بماركس وأن تكلف رجلين من خيرة رجالك بحراسته.»
أجاب فالموث: «سأفعل هذا فورًا، ولكنني أخشى أنه كان ينبغي اتخاذ هذا الإجراء الاحترازي في وقت سابق.»
تابع المفوض: «سأذهب لمقابلة السير فيليب.» وأضاف بابتسامة غامضة: «سأضطر إلى أن أخيفه قليلًا.»
«لأي غرض؟»
«نأمل أن يسحب مشروع القانون هذا. هل طالعت الصحف الصباحية؟»
«لا، يا سيدي.»
«كلها مُجْمِعة على أنه يجب التخلي عن مشروع القانون؛ وتقول إن البلاد نفسها منقسمة حول جدواه؛ لأنه ليس بالأهمية الكافية التي تبرر المخاطرة؛ لكن في حقيقة الأمر تخشى الصحف من العواقب؛ والحق أنني أيضًا خائف قليلًا.»
مضى مفوض الشرطة صاعدًا درجات السلم، وعلى بسطة الطابق التالي أوقفه أحد مرءوسيه.
كان هذا نظامًا أُدْخِل بعد واقعة «المفتش» المتنكِّر. كان وزير الخارجية الآن في حالة حصار. لم يكن يوثَق في أحد، واستُخْدِمَت كلمة سر، واتُّخِذ كل الاحتياطات الممكنة لضمان عدم تكرار الغلطة السابقة.
رفع يده ليطرق على زجاج غرفة المكتب، عندما شعر بأن أحدًا يُمسِك بذراعه. التفت ليرى فالموث بوجه شاحب وعينين مذعورتين.
قال المفتش بأنفاس مبهورة: «لقد قضوا على بيلي. لقد عُثِر عليه للتو في عربة قطار في كنسينجتون.»
صفَّر المفوض مذهولًا.
وسأله: «كيف فعلوا ذلك؟»
كان فالموث مثالًا لليأس الشديد.
قال بمرارة: «غاز حمض البروسيك؛ إنهم يَمتلكون خبرة علمية. اسمع يا سيدي، أقنع هذا الرجل بسحب مشروع قانونه اللعين.»
أشار إلى باب غرفة السير فيليب وقال: «لن نَستطيع إنقاذه. أشعر في أعماقي أن هذا الرجل محكوم عليه بالهلاك.»
أجابه المفوض بحدة: «هراء!»
«إن عصبيتك تزداد؛ أنت لم تنل قسطًا كافيًا من النوم، يا فالموث. ما تقوله يخالف طبيعتك الحقيقية؛ إن من واجبنا إنقاذه.»
استدار موليًا ظهره لغرفة المكتب ونادى على أحد الضباط الذين كانوا يحرسون بسطة الدَّرَج.
«أيها الرقيب، اطلب من المفتش كولينز أن يرسل نداء طوارئ في سائر المنطقة لجمع القوات الاحتياطية فورًا.» واستطرد مخاطبًا فالموث: «سأنصب طوقًا أمنيًّا حول رامون اليوم، لن يستطيع إنسان أن يصل إليه دون أن يخشى من أن يُسْحَق.»
في خلال ساعتَين شهدت لندن مشهدًا ليس له نظير في تاريخ المدينة. من كل منطقة جاء جيش صغير من رجال الشرطة. وصلوا بالقطارات، والترام، والحافلات، وبكل وسيلة مواصَلات وكل وسيلة جر يُمكن مصادرتها أو الاستيلاء عليها. توافدوا من أقسام الشرطة، وتدفَّقُوا عبر الشوارع، حتى وقف أهل لندن مشدوهين عندما أدركوا مدى قوة دفاعاتهم المدنية.
سرعان ما أصبح شارع وايتهول مكتظًّا برجال الشرطة من أوله إلى آخره؛ واستحال لون حديقة سان جيمس بارك أسود بلون لباس رجال الشرطة. تلقائيًّا أُعيقت حركة السير تمامًا في شارعي تشارلز، وبيرد كيج، والطرف الشرقي من شارع ذا مول، بكتائب قوية من رجال الشرطة على الخيول. كان شارع سان جورج في قبضة قوة الشرطة، وكان سطح كل منزل يحتله رجل بلباس رسمي. لم يسلم منزل ولا غرفة كانت تطلُّ بأدنى درجة على مقر وزارة الخارجية من التفتيش الصارم. بدا الأمر وكأن الأحكام العرفية قد أُعلِنَت، وبالفعل كانت كتيبتان من الحرس الوطني بكامل عتادهما على أهبة الاستعداد طوال اليوم لأيِّ طارئ. في غرفة السير فيليب كان مفوض الشرطة، بمُعاونة فالموث، يُحاول للمرة الأخيرة إقناع الرجل العنيد الذي كانت حياته مهدَّدة.
قال مفوض الشرطة بجدية: «أؤكد لك يا سيدي أنه ليس بإمكاننا أن نفعل أكثر مما فعلنا، ومع ذلك ما زلت أشعر بالخوف. إن هؤلاء الرجال يؤثرون في نفسي كما من شأن شيء خارق للطبيعة أن يفعل. أشعر بخوف رهيب أن نكون، مع كل الاحتياطات التي اتخذناها، قد أغفلنا شيئًا؛ أن نكون قد تركنا شارعًا بدون حراسة يمكنهم بعبقريتهم الشيطانية أن يستخدموه. إن موت هذا الرجل ماركس قد هز أعصابي؛ إن الأربعة مُتغلغلون في كل مكان ويتمتعون بجبروت مطلق. أتوسل إليك، يا سيدي، بحق الرب، أن تفكر جيدًا قبل أن ترفض شروطهم نهائيًّا. هل تمرير مشروع هذا القانون له ضرورة قصوى؟» وتوقف عن الكلام، ثم عاد يسأل بصراحة فجة: «هل يساوي حياتك؟» وكان السؤال من الفظاظة لدرجة أنه جعل السير فيليب يجفل.
انتظر بعض الوقت قبل أن يجيب، وعندما تكلم كان صوته منخفضًا وحازمًا.
قال ببطء، بنبرة واهنة وعنيدة بالقدر نفسه: «لن أسحب مشروع القانون. لن أسحبه تحت أي ظروف.»
استطرد، رافعًا يده ليَكبح الْتماسَ فالموث: «لقد قطعت شوطًا طويلًا. لقد تجاوزت الخوف، بل إنني تجاوزت مسألة الضغينة؛ لقد صار الأمر يمثل لي مسألة متعلقة بالعدالة. هل أنا على حق في طرح قانون يُخلص البلاد من جاليات من المجرمين الأذكياء ذكاءً خطرًا، الذين، بينما يتمتعون بحصانة من القبض عليهم، يدفعون الجهلاء إلى ارتكاب أعمال عنف وخيانة؟ إن كنت على حق، فإن رجال العدالة الأربعة على باطل. أم هم على حق؟ هل هذا القانون إجراء غير عادل، عمل من أعمال الطغيان، بربرية طرأت على فكر القرن العشرين، لتمثل مفارقة تاريخية؟ إن كان هؤلاء الرجال على حق، فأنا على باطل. عندئذٍ يكون الأمر قد وصل إلى نقطة أن عليَّ أن أرضى بمعيار الصواب والخطأ الذي يجب أن أقبله، وأن أَقبلَ مصيري.»
واجهَ نظرات التعجُّب في أعين رجلَي الشرطة بملامح هادئة وثابتة.
استطرد في هدوء: «لقد كنتم حكماء أن اتخذتم الاحتياطات التي قُمتم بها. وكنتُ من الحماقة أن غضبتُ من رعايتكم الاحترازية.»
قاطعه مفوض الشرطة قائلًا: «بل يجب أن نتَّخذ المزيد من الاحتياطات؛ فبين الساعة السادسة والنصف والساعة الثامنة الليلة نُريد منك أن تبقى في غرفة مكتبك، وألا تفتح الباب لأي شخص تحت أي ظروف؛ حتى لو كان أنا أو السيد فالموث. خلال تلك الفترة يجب أن تُبقي بابك موصدًا.» وتردَّد قبل أن يُضيف: «وإن وددت أن يبقى أحدنا معك في الغرفة …»
رد الوزير بسرعة قائلًا: «لا، لا؛ بعد واقعة التنكُّر التي حدثت أمس، أُفَضِّل أن أكون وحدي.»
أومأ المفوض برأسه. ثم قال، ملوِّحًا بيده في أرجاء الغرفة: «إن هذه الغرفة محصنة من أي اعتداء همجي. أثناء الليلة الماضية أجرينا فحصًا كاملًا للأرضيات، والسقف وثبتنا دروعًا فولاذية لدرفات النوافذ.»
جال بنظره في أنحاء الغرفة بتدقيق رجل كان كل شيء ظاهر له مألوفًا.
ثم لاحظ ظهور شيء جديد. على الطاولة كانت توجد مزهرية خزفية زرقاء مملوءة بالورود.
قال، وهو يُميل رأسه ليشمَّ رائحة الزهور الجميلة: «هذه جديدة هنا.»
أجاب رامون بلا مبالاة: «أجل، لقد أُرسِلَت من منزلي في هيرفورد هذا الصباح.»
قطف المفوض ورقة من إحدى الأزهار ولفَّها بين أصابعه. قال على نحو يَنطوي على تناقض: «إنها تبدو حقيقية للغاية، لدرجة أنها قد تكون صناعية.»
بينما كان يتكلَّم أدرك أنه ربط بين الورود بطريقة ما وبين. بين ماذا؟
نزل ببطء على الدرج المصنوع من الرخام الخالص؛ وبين كل درجة وأخرى كان يقف شرطي؛ وأبدى رأيه لفالموث.
«لا يُمكنك أن تلوم الرجل العجوز على قراره؛ في الواقع، لقد أُعجبت به اليوم أكثر من أي وقت مضى، ولكن …» كان ثمَّة تهيب مفاجئ في صوته وهو يضيف: «أنا خائف. أنا خائف.»
لم يقل فالموث شيئًا.
استطرد المفوض قائلًا: «لم نستنتج شيئًا من المفكرة، عدا خط السير الذي ربما كان السير فيليب سيسلكه لو كان حريصًا على الوصول إلى ٤٤ داوننج ستريت عن طريق الشوارع الخلفية. إن عقمَ الخطة يكاد يكون مقلقًا، لوجود أدلة كثيرة على أن ثمة عقلًا قويًّا خفيًّا وراء البراءة الظاهرة لهذه القائمة من أسماء الشوارع؛ حتى إنني واثق من أننا لم نفهم الفحوى الحقيقية لمعناها.»
مر عبر الشوارع وشق طريقه بين حشود رجال الشرطة. كانت النتيجة الطبيعية للطبيعة الاستثنائية للاحتياطات المتخذة من قبل الشرطة أن أبقت العامة بمعزل عن كل ما كان يحدث في داوننج ستريت. مُنِع المراسلون من دخول المنطقة السحرية، وتعين على الصحف، وخاصة الصحف المسائية، أن تعتمد على المعلومات التي كانت سكوتلاند يارد تقدمها على مضض. كانت هذه المعلومات ضئيلة للغاية، بينما كانت القرائن والنظريات، التي كانت كثيرة، متنوعة وعجيبة.
بذلت صحيفة «ميجافون»، الصحيفة التي اعتبرت نفسها أكثر الصحف المعنية بطريقة مُباشرة بأفعال رجال العدالة الأربعة، قصارى جهدها من أجل الحصول على أخبار عن أحدث التطورات. بمجيء اليوم المحتوم، كانت الإثارة قد وصلت إلى مستوًى استثنائي؛ فكانت كل طبعة جديدة من الصحف المسائية تَنفد بمجرد نزولها إلى الشوارع. لم يكن يوجد إلا القليل من المادة الصحفية التي تُشبع شهية الجمهور المحب للإثارة، لكن لم يكن بوسع الصحف إلا أن تقدم ما كان متاحًا. تفوقت صور مقرِّ وزارة الخارجية، والصور الشخصية للوزير، وخرائط المنطقة المحيطة بوزارة الخارجية، والرسوم التوضيحية التي تشرح الاحتياطات القائمة المتَّخذة من قبل الشرطة، على الأعمدة المكتوبة، ليس مرة بل عشرات المرات، إلى جانب معلومات عن سوابق «الأربعة» حسبما تَكشف جرائمهم.
ومع بلوغ الفضول ذروته، وإذ لم يَعُد في لندن كلها، بل في إنجلترا كلها، بل في العالم المتحضر كله، حديث إلا عن موضوع واحد، وواحد فقط، جاء خبر مقتل ماركس كقنبلة مدوية.
وإذ وُصِف بأوصاف مختلفة، منها أنه كان واحدًا من المحققين المشاركين في القضية، وبأنه ضابط شرطة أجنبي، وبأنه فالموث نفسُه، تنامت أهمية مقتل ماركس من «حادث انتحار في مقصورة عربة قطار» إلى أهميتها الحقيقية. في غضون ساعة ملأت قصة المأساة، غير الدقيقة في تفاصيلها، والصادقة في جوهرها، أعمدة الصُّحف. لغز في داخل لغز! من كان الرجل ذو الملابس الرثَّة؟ ما الدور الذي كان يلعبه في اللعبة الكبرى؟ كيف وصل به الأمر إلى مَقتلِه؟ طرح العالم هذه التساؤلات على الفور؛ وشيئًا فشيئًا، تجمعت المعلومات بواسطة المُراسِلين الإخباريين الذين كانوا في كل مكان، وأصبحت القصة معروفة. على قمة هذه الأخبار جاء خبر زحف الشرطة على شارع وايتهول، وكان هذا دليلًا على الرؤية الجادة التي كانت تنتهجها السلطات.
كتب سميث في صحيفة «ميجافون»: «من موقعي المميز، يمكنني أن أرى شارع وايتهول على امتداده. لقد كان أروع مشهد شهدَتْه لندن. لم أرَ سوى بحر من الخوذات السوداء من جانب الشارع العريض إلى جانبه الآخر. الشرطة! كانت المنطقة كلها يكسوها سواد لباس الشرطة؛ ملأ رجال الشرطة الشوارع الجانبية، واحتشدوا في حديقة سان جيمس، ولم يُشكِّلوا طوقًا أمنيًّا، بل تجمُّعًا كان يستحيل اختراقه.»
لم يترك مُفوضو الشرطة شيئًا للصدفة. فلو أنهم كانوا مُقتنعين بأنه يُمكن مجابهة المكر بالمكر، والدهاء بالدهاء، والسرية بسرية مضادة، لكانوا قد قنعوا بالدفاع عن مسئوليتهم على النمط التقليدي. لكن خصومهم كانوا يفوقونهم براعة وحيلة. كان الرهان أكبر من الاعتماد على الخطط الاستراتيجية؛ كانت هذه حالة تتطلَّب قوة غاشمة. وإذ أكتب بعد وقت طويل من الحدث، كان صعبًا أن أدرك مقدار الرعب الذي رسَّخه «الأربعة» بقوة في قلوب أفضل مؤسسة شرطية في العالم، وأن أقدر حجم الهلع الذي حاقَ بكيان اشتهر بذكائه.
سرعان ما بدأ الحشد الذي يسدُّ مشارف شارع وايتهول يزداد مع انتشار خبر مقتل بيلي، وبعد الساعة الثانية عصر ذلك اليوم بقليل، وبأمر من مفوض الشرطة، أُغلِق جسر وستمنستر أمام كل أشكال الحركة المرورية، من مركبات أو ركاب. بعد ذلك كان القسم من كورنيش النهر الذي يمتدُّ بين وستمنستر وجسر هنجرفورد قد اجتيح من قبل الشرطة وأُخلي من المارة الفضوليين؛ مُنِع دخول شارع نورث أمبرلاند، وقبل الساعة الثالثة لم تكن توجد بقعة في نطاق خمسمائة ياردة من المقر الرسمي للسير فيليب رامون لم يكن يسيطر عليها مُمثل للقانون. رافق رجال شرطة على ظهور الخيول أعضاء البرلمان في طريقهم إلى مقرِّ البرلمان، وهتف لهم الجمهور المحتشد؛ إذ اعتُبِر أن لهم نصيبًا من المجد. طيلة عصر ذلك اليوم انتظر مائة ألف شخص بصبر، ولم يشاهدوا شيئًا، عدا أبراج وقمم «أم البرلمانات»، تعلو فوق رءوس حشد رجال الشرطة، أو واجهات المباني الفارغة؛ في ميدان ترافالجر، وعلى امتداد شارع ذا مول بقدر ما سمحت الشرطة، وفي الطرف الأدنى من شارع فيكتوريا، بعمق ثمانية صفوف على امتداد كورنيش شارع ألبرت، أخذ الحشد يزداد كثافةً كل ساعة. انتظر الناس في لندن، انتظروا في صبر، بنظام، مُكتفين بالتحديق بثبات في لا شيء، لا يستمدون أي إشباع مقابل تعبهم سوى الشعور بأنهم قريبون قدر الإمكان لما قد يحتمل أن يكون مسرحًا لمأساة. وصل أجنبي إلى لندن، وأدهشه هذا التجمع، فسأل عن سببه. فأشار رجل واقف على أطراف حشد الكورنيش إلى الجهة الأخرى من النهر بمبسم غليونه.
قال ببساطة، وكأنه يصف أمرًا عاديًّا: «إننا ننتظر مصرع رجل.»
عند طرف هذه الحشود وجد باعة الصحف سوقًا رائجة. كانت الصحف تُمرَّر من يدٍ إلى يدٍ فوق رءوس المُحتشِدين. كل نصف ساعة كانت تأتي طبعة جديدة، ونظرية جديدة، ووصف جديد للمشهد الذي كانوا هم أنفسهم يلعبون فيه دورًا غير فعال وإن كان خلَّابًا. جاء خبر إخلاء نهر التايمز في طبعة جديدة؛ وخبر إغلاق جسر وستمنستر في طبعة أخرى؛ واستحقَّ خبر القبض على اشتراكي أحمق، سعى إلى مضايقة الحشد في ميدان ترافلجار، طبعة أخرى. سُجِّل كل حدث من أحداث اليوم بأمانة وتلقفته الحشود بنهم.
طيلة عصر ذلك اليوم انتظروا، يحكون ويستمعون إلى قصة «الأربعة»، ويضعون النظريات، ويتكهَّنون، ويُصدرون الأحكام. وتحدثوا عن الذروة كما يتحدث المرء عن مشهد موعود، يراقبون عقارب بيج بن التي تتحرَّك ببطء غاضبين من الدقائق المتلكئة. قالوا عند الساعة السادسة: «لم يتبقَّ إلا ساعتان أخريان من الانتظار!» وتلك الجملة، أو بالأحرى نبرة الترقب المُمتع التي قيلت بها، دللت على روح الغوغاء. فالغوغائية شيء يتسم بالقسوة، وانعدام الرحمة والشفقة.
جاءت الساعة السابعة، وسكتَت همهمات الكلام الغاضبة. تطلعت لندن في صمت، وبقلب يخفق بسرعة، زحفت الساعة الأخيرة حول قرص الساعة الضخم.
حدث تغيير بسيط في الترتيبات في داوننج ستريت، وعند الساعة السابعة، فتح السير فيليب باب حجرة مكتبه، التي كان يجلس فيها بمفرده، وطلب من مفوض الشرطة وفالموث أن يقتربا. سارا نحوه، وتوقَّفا على بُعد أقدام قليلة من موضعه.
كان الوزير شاحب الوجه، مغضن الجبين بخطوط لم تكن موجودة من قبل. لكن اليد التي كانت تمسك بالورقة المطبوعة كانت ثابتة ولم يكن على وجهه أي انفعالات.
قال بهدوء: «أنا على وشك أن أوصد بابي. أحسب أن الترتيبات التي اتفقنا عليها ستُنَفَّذ، أليس كذلك؟»
أجاب مفوض الشرطة بهدوء: «نعم، يا سيدي.»
كان السير فيليب على وشك أن يتكلم، لكنه أمسك عن الكلام.
وبعد برهة تكلم مجددًا.
قال وكأنه يخاطب نفسه: «لقد كنتُ رجلًا منصفًا وفقًا لوجهة نظري في الأمور. مهما كان ما سيحدث أنا مقتنع بأنني أفعل الصواب. ما الأمر؟»
عبر الممر أتى صوت هدير خافت.
قال فالموث، الذي كان قد أجرى منذ قليل جولة تفقدية: «الناس يهتفون لك.»
لوى الوزير شفته في ازدراء وتسللت مسحة مألوفة من الحدة إلى صوته.
قال بمرارة: «سوف يُصابون بخيبة أمل هائلة إن لم يحدث شيء. الناس! فلينقذني الرب من الناس، ومن تعاطفهم، ومن هتافهم، ومن شفقتهم التي لا تُطاق.»
استدار ودفع باب حجرة مكتبه، وببطء أغلق الباب الثقيل، وسمع الرجلان صرير القفل وهو يدير المفتاح في الباب.
نظر فالموث إلى ساعته.
وكان تعليقه المقتضب: «أربعون دقيقة.»
في الظلام جلس رجال العدالة الأربعة.
سُمع صوت مانفريد يقول: «لقد حان الوقت تقريبًا.» وجرجر تيري قدميه على الأرض إلى الأمام وأخذ يتلمس الأرض بحثًا عن شيء ما.
قال بتبرم بالإسبانية: «دعوني أشعل عود ثقاب.»
«لا.»
كان صوت بويكارت الحاد هو الذي أوقفه، وانحنى جونزاليس بسرعة ومرَّر أصابع حساسة على الأرض.
وجد سلكًا ووضعه في يد تيري، ثم مد يده ووجد الآخر، وببراعة ربطهما تيري معًا.
سأل تيري لاهثًا بسبب ما بذله من مجهود: «ألم يَحِن الوقت بعد؟»
«انتظر.»
كان مانفريد يفحص قرص ساعة يده المضيء. وفي صمت انتظروا.
قال مانفريد بجدية: «لقد حان الوقت.» ومد تيري يده.
وبعد أن مد يده أطلق أنة وانهار على الأرض.
سمع الثلاثة صوت الأنين، وشعروا بجسد الرجل المترنح وإن لم يروه، ثم سمعوا صوت ارتطامه بالأرض.
همس صوت في ثبات، وكان صوت جونزاليس: «ماذا حدث؟»
كان مانفريد بجوار تيري، يتحسس قميصه.
قال بصوت خفيض: «لقد أخطأ تيري، ولقيَ عاقبة ما فعل.»
«لكن رامون …»
قال مانفريد، بينما كانت أصابعه لا تزال فوق قلب الرجل المنهار.
كانت تلك الأربعين دقيقة أطول أربعين دقيقة مرت على فالموث حسبما يذكر. حاول أن يُمضيها بطريقة سارَّة بأن أخذ يحكي قصص بعض من أشهر القضايا الجنائية التي لعب فيها دورًا قياديًّا. لكنه وجد لسانه منشغلًا بما يشغل ذهنه. ازداد كلامه تفكُّكًا، وصار شبه هستيري. تناقل رجال الشرطة فيما بينهم أنه غير مسموح التحدث بنبرة أعلى من الهمس، وساد صمت مطلق، عدا صوت تمتمة بين حين وآخر عند طرح أو إجابة سؤال ضروري.
اتَّخذ رجال الشرطة أماكنهم في كل غرفة، وعلى السطح، وفي القبو، وفي كل ممر، وكان كل رجل منهم مسلحًا. جال فالموث بنظره فيما حوله. وجلس في غرفة مكتب السكرتير؛ إذ كان قد رتب لهاملتون أن يكون في البرلمان. فُتِحَت كل الأبواب على مصاريعها، وثُبِّتت بحيث لا تغيب أي مجموعة من رجال الشرطة عن أنظار الأخرى.
همس للمرة العشرين لرئيسه قائلًا: «لا أستطيع أن أفكر فيما يمكن أن يحدث. من المستحيل على هؤلاء الرجال أن يفوا بوعدهم. من المستحيل قطعًا.»
أجاب مفوض الشرطة: «من وجهة نظري السؤال المهم هو «هل سيفون بوعدهم الآخر؟ وهو أنهم إذا وجدوا أنهم فشلوا فسيتخلون عن محاولة تنفيذ تهديدهم».» وتابع قائلًا: «ثمة أمر واحد مؤكد، إذا خرج رامون من هذا حيًّا، فإن مشروع قانونه العفن سيُمرَّر دون معارضة.»
نظر إلى ساعته. وتحرِّيًا للدقة، فقد كان ممسكًا بساعته في يده منذ دخل السير فيليب غرفة.
تنهد بتوتر وقال: «باقٍ من الزمن خمس دقائق.»
سار بخفة إلى باب غرفة السير فيليب وأنصت.
قال: «لا يمكنني أن أسمع أي شيء.»
مرت الدقائق الخمس التالية أبطأ من أي دقائق سابقة.
قال فالموث بصوت متوتر: «الساعة الثامنة بالضبط. لقد …»
دق جرس ساعة بيج بن البعيد، مرة.
همس: «الساعة الثامنة!» وأنصت الرجلان.
تمتم فالموث؛ إذ أخذ يعد الدقات: «اثنان.»
«ثلاثة.»
«أربعة.»
تمتم بسرعة: «خمسة. ما هذا؟»
«لم أسمع شيئًا. أجل، لقد سمعت شيئًا ما.» هب إلى الباب وأحنى رأسه إلى مستوى ثقب المفتاح. «ما هذا؟ ما …»
ثم أتى من الغرفة صوت صرخة ألمٍ سريعة حادَّة، وصوت ارتطام. ثم عمَّ الصمت.
صاح فالموث: «بسرعة. تعالوا، يا رجال!» وألقى بثقل جسمه على الباب.
لم يتحرَّك الباب قيد أنملة.
«هلمُّوا معي جميعًا!»
ألقى ثلاثة رجال شرطة أقوياء البِنية بأجسادهم على الباب، وكُسر الباب وفُتِح.
هرع فالموث ومفوض الشرطة إلى داخل الغرفة ركضًا.
صاح فالموث في رعب: «يا إلهي!»
كان النصف العلوي من جسد وزير الخارجية ممدَّدًا على مكتبه الذي كان جالسًا عليه.
وكانت الأدوات المكتبية التي كانت مُتناثرة على مكتبه ملقاة على الأرض كأنما كان ثمة صراع.
تقدم مفوض الشرطة نحو الرجل الصريع ورفعه. كانت نظرة واحدة إلى وجهه كافية.
همس بصوت مبحوح: «لقد مات!» نظر حوله. كانت الغرفة خالية إلا من رجال الشرطة والقتيل.