مكافأة الألف جنيه
ليس من المبالغة أن نقول، مقتبسين ما ورد في أكثر من مقالٍ رئيسي في الموضوع، إن الحدث الاستثنائي الذي وقع في مجلس العموم أثار ضجةً هائلة في الأوساط في إنجلترا كلها.
كانت الصحف قد تلقَّت أول تلميح بوجود «رجال العدالة الأربعة» بسخرية تُغْتَفَر، وتحديدًا من جانب تلك الصحف التي تأخَّرت في نشر الأخبار الأُولى. كانت صحيفة «ديلي ميجافون» هي الصحيفة الوحيدة التي أقرت بصدقٍ وجدية بأن الخطر، الذي كان يهدد الوزير المسئول عن مشروع القانون البغيض، كان حقيقيًّا تمامًا. ولكن الآن، لم يكن بمقدور أحد ولا حتى أشد المتهكمين أن يتجاهل خطورة الرسائل التي وجدَت سبيلها على نحوٍ غامض إلى قلب المنشأة التي تحظى بأكبر قدْرٍ من الحراسة المشدَّدة في إنجلترا. امتلأت صفحات كل الصحف في أنحاء البلاد بخبر «اعتداء القنبلة»، ووُضِعَت ملصقاتٌ في طول الجزر البريطانية وعرضها عن آخر مغامرةٍ جريئة أقدم عليها رجال العدالة الأربعة.
ظهرت من يوم لآخر أخبار، أغلبها ملفَّق، عن الرجال الذين كانوا مسئولين عن الضجة الكبيرة الأخيرة، ولم يعد للناس، حين يلتقون، حديثٌ إلا عن موضوع الأربعة المجهولين الذين بدا أنهم يتحكمون في مصائر الساسة النافذين.
منذ أيام الهجمات الفينيانية لم تمتلئ أذهان العامة بالتوجُّس مثلما كانت خلال اليومَين اللذَين أعقبا ظهور «القنبلة الجوفاء»، في وصفٍ موفَّق لإحدى الصحف، في مجلس العموم.
ربما بالنوع نفسه من التوجُّس بالضبط، كان ثَمَّةَ اعتقادٌ عام، نتج عن منحى الرسائل، أن الأربعة لم يكونوا يتوعَّدون إلا رجلًا واحدًا.
كان أول تلميح إلى نواياهم قد أثار اهتمامًا واسعًا. لكنَّ حقيقة أن التهديد انطلق من بلدةٍ فرنسية صغيرة، وأنه تبعًا لذلك كان الخطر بعيدًا جدًّا، سلبَت التهديد بعضًا من قُوَّته. هكذا كان المنطق الملتبس لأناسٍ لا يفقهون شيئًا في الجغرافيا ولم يعوا أن داكس لا تبعُد عن لندن أكثر من المسافة التي تبعُدها أبردين.
لكن كان ثَمَّةَ رعبٌ خفي في العاصمة نفسها، فكان اللندنيون يقولون لمَ لا يُحْتَمَل أن يكون أيٌّ من الرجال الذين نحتك بهم أثناء سيرنا واحدًا من «الأربعة»، ونحن لا ندرى.
ظهرت ملصقاتٌ كئيبة ذات شكلٍ أسود على الحوائط الخالية، وامتلأت بها كل لوحات إعلانات الشرطة.
مكافأة ١٠٠٠ جنيه
لَمَّا كان في الثامن عشر من أغسطس، في حوالي الساعة الرابعة والنصف من عصر ذلك اليوم، وضع رجل أو رجالٌ مجهولون قنبلةً خطيرة في قاعة التدخين بدار البرلمان.
ولمَّا كان يُوجد ما يدعو للاعتقاد بأن الشخص أو الأشخاص المتورطين في وضع القنبلة السالفة الذكر أعضاءٌ في كيان إجرامي يُعرَف باسم «رجال العدالة الأربعة»، أُصدِرَت بحقهم مذكراتُ ضبط على خلفية جرائم قتلٍ عمد في لندن، وباريس، ونيويورك، ونيو أورليانز، وسياتل (الولايات المتحدة الأمريكية)، وبرشلونة، وتومسك، وكريستيانيا، وكيب تاون، وكاراكاس.
لذلك، ستُقدِّم حكومة جلالة الملك المكافأة المذكورة أعلاه لأي شخص أو أشخاصٍ يُقدِّمون معلوماتٍ تُؤدِّي إلى القبض على أحد أو كل الأشخاص الذين يُسمُّون أنفسهم «رجال العدالة الأربعة» وتنطبق أوصافهم على العصابة المذكورة سابقًا.
فضلًا عن ذلك، سيُقَدَّم عفوٌ شامل وستُمنَح المكافأة لأي عُضوٍ في العصابة يتقدَّم بمعلومات، بشرط ألا يكون الشخص المتقدم بالمعلومات قد ارتكب أو اشترك معهم قبلُ أو بعدُ في أيٍّ من جرائم القتل التالية.
طَوالَ اليوم أخذ الناس يتجمعون بأعدادٍ قليلة أمام اللوحات الإعلانية، ليستوعبوا العرض الرائع.
كانت ملاحقةً غير معتادة للمجرمين، تختلف عن تلك التي كان اللندنيون يعرفونها حق المعرفة؛ فلم يكن ثَمَّةَ أوصافٌ للرجال المطلوبين، ولا صور يمكن بواسطتها التعرف عليهم، ولا جملةٌ نمطية من قبيل «عندما شُوهد آخرَ مرة كان يرتدي بذلةً زرقاء غامقة من صوف سيرج، وقُبَّعة من القماش، وربطةَ عنقٍ مقلَّمة.» يمكن لمن يُفتِّش عن المجرمين أن يستند إليها وهو يُدقِّق في المارة.
كان الأمر عبارةً عن بحثٍ عن أربعة رجالٍ لم يسبق لأي شخصٍ أن رآهم من قبلُ، مطاردة لسراب، تخبُّط في الظلام في أعقاب أطيافٍ غير محددة.
قال كبير ضباط المباحث فالموث، الذي كان معروفًا بصراحته الشديدة (ذات مرةٍ أوضح بفظاظة لأحد أفراد العائلة الملكية أنه ليس لديه عينان في مؤخرة رأسه)، وجهة نظره بالضبط في الأمر.
«لا يمكنك القبض على رجال وليس لديك أدنى فكرة عن هُوية مَن تبحث عنه أو كُنْهه. افترض جدلًا أنهم قد يكونون نساءً؛ قد يكونون صينيين أو زنوجًا؛ قد يكونون طِوال القامة أو قصارها؛ قد يكونون … عجبًا، نحن لا نعرف حتى جنسيتهم! لقد ارتكبوا جرائم في كل بلد في العالم تقريبًا. إنهم ليسوا فرنسيِّين لأنهم قتلوا رجلًا في باريس، أو أمريكيين لأنهم خنقوا القاضي أندرسون.»
قال مفوض الشرطة، مشيرًا إلى مجموعة من الخطابات التي أمسكها في يده: «الكتابة.»
«لاتينية، لكنها قد تكون مُصطنَعة. وماذا لو افترضنا أنها ليست كذلك؟ لا فرق بين خط يد رجلٍ فرنسي، أو إسباني، أو برتغالي، أو إيطالي، أو من أمريكا الجنوبية، أو كريولي، وكما أقول، قد تكون مصطنعة، والأرجح أنها كذلك.»
سأله مفوض الشرطة: «وماذا فعلتم؟»
«تحرَّيْنا عن جميع الشخصيات المشتبه فيها التي نعرفها، وأجرينا حملات تمشيطٍ في أحياء ليتل إيتالي، وبلومزبيري، وسوهو، وفتَّشْنا في كل المناطق التي تقطنها جالياتٌ أجنبية، وداهمنا مكانًا في نانهيد الليلة الماضية؛ فكثير من الأرمن يعيشون هناك، ولكن …»
بدت نظرة قنوط على وجه مفتش المباحث.
وتابع يقول: «على الأرجح أننا سنجدهم في أحد الفنادق الفخمة، هذا إذا كانوا أغبياء لدرجة أن يتجمعوا معًا في مكانٍ واحد، ولكن من المؤكد أنهم يعيشون متفرقين، ويلتقون في مكانٍ ما غير متوقَّع مرة أو مرتَين في اليوم.»
توقَّف عن الكلام، وأخذ ينقر بأصابعه في شرود على المكتب الكبير الذي يجلس عليه رئيسه.
تابع قائلًا: «أرسلنا في طلب دي كورفيل. لقد التقى بفناني سوهو، والأهم أنه التقى برجله الذي يعيش وسطهم، وأنا على استعدادٍ لأن أقسم إن المطلوبين ليسوا من هؤلاء، أو على الأقل هو يُقسِم على ذلك، وأنا على استعداد للأخذ بكلامه.»
هزَّ مفوض الشرطة رأسه على نحوٍ يدعو للشفقة.
قال: «إن السادة في داوننج ستريت في حالٍ من القلق المُروِّع. إنهم لا يعرفون بالضبط ماذا سيحدُث بعد ذلك.»
نهض السيد فالموث واقفًا وهو يتنهد ولمس بأصابعه حافة قُبَّعته محيِّيًا مفوض الشرطة.
علَّق يقول عكسَ ما يقصد: «أمامنا فترةٌ رائعة. بالطبع لا أظن ذلك.»
سأله مفوض الشرطة: «ما رأي الناس في الأمر؟»
«أطالعتَ الصحف؟»
كانت الطريقة التي هز بها مفوض الشرطة كتفَيه تنطوي على ازدراء للصحافة البريطانية.
قال بنزق: «الصحف! مَن بحق السماء سيلتفت أدنى التفاتةٍ لما تنشره الصحف؟!»
أجاب المفتش بهدوء: «أنا واحد من الذين سيفعلون؛ فالصحف في أغلب الأوقات تكون انعكاسًا لرأي الجمهور، ويبدو لي أن فكرة إدارة صحيفةٍ باختصار تقوم على كتابةِ ما من شأنه أن يجعل الجمهور يقول: «هذا رأيٌ ممتاز؛ هذا ما كنتُ أقوله على الدوام».»
«لكن ماذا عن الجمهور نفسه؟ هل أُتيحت لك فرصةُ تجميعِ آرائهم؟» أومأ فالموث برأسه إيجابًا «لقد كنتُ أتحدث في هايد بارك هذا المساء تحديدًا؛ كان مظهره يدل على أنه رجل ذو عقلٍ راجح، وعلى الأرجح ألمعي.» سألتُه: «ما رأيك في مسألة رجال العدالة الأربعة هذه؟» فقال: «إنها مسألةٌ غريبة. هل تظن أن في الأمر ما يُريب؟» وأنهى ضابط الشرطة حديثه باستياء قائلًا: «وذلك هو رأي العامة كلهم في الأمر.»
ولكن إن كان ثَمَّةَ حزن في سكوتلاند يارد، فإن شارع فليت، الذي يضم معظم الصحف، كان يعج بإثارةٍ ممتعة؛ فها هي أخبارٌ عظيمة بالتأكيد؛ أخبار يمكن أن تُنشر في عمودَين، وتُوضع لها عناوينُ جذابة، وتعج بالملصقات، وتُعضد بصور ورسومٍ توضيحية وتُوضَّح بإحصاءات.
تساءلت صحيفة «الكوميت» بطريقة صاخبة: «هل المافيا وراء الأمر؟» ومضت في إثبات أن الأمر كذلك.
أما صحيفة «إيفنينج ورلد»، بعقليتها التحريرية التي ما زالت تفضل البقاء في ستينيات القرن التاسع عشر، فارتأت أن وراء الأمر روح انتقام، وضربت مثلًا ﺑ «إخوة كورسيكا».
تمسَّكَت صحيفة «ميجافون» بقصة رجال العدالة الأربعة، ونشرت صفحات تحوي تفاصيلَ متعلقة بأعمالهم الشائنة، ونفضَت الغبار عن ملفاتٍ قديمة، منها ما هو متعلق بأحداث جرت في القارة الأوروبية، ومنها ما جرى في أمريكا، وأوردَت الملابسات الكاملة لكل جريمة قتل، وقدَّمَت وصفًا مفصَّلًا للرجال الذين قُتِلوا ولحياتهم المهنية، وأوردَت بنزاهة وحيادية تفاصيل عن حياة الضحايا، موضحةً أي نوع من الرجال كانوا، دون أن تقصد، بأي حال من الأحوال، من وراء ذلك تخفيفًا من جرم الأربعة.
وقبلَت بحذرٍ القدْر الكبير من المساهمات الذي تدفَّق على مكتب الصحيفة؛ فالصحيفة التي وُصِمَت بأنها «صحيفةٌ صفراء» تتوخَّى الحذر أكثر من الصحف المنافِسة الأكثر واقعية. في عالم الصحافة، نادرًا ما تُرصَد كذبةٌ مملة، ولكن من شأن مبالغةٍ مثيرة للاهتمام أن تقود منافسًا عديم الخيال إلى كيل إداناتٍ هستيرية.
تدفَّقَت بالفعل النوادر والحكايات حول رجال العدالة الأربعة؛ إذ فجأة، وكأن في الأمر سحرًا، اكتشَف كل مساهمٍ خارجي، وكل أديبٍ تخصص في كتابة ملاحظاتٍ شخصية، وكل من كان له باعٌ في الكتابة، أنه كان يعرف رجال العدالة الأربعة طيلة حياته.
كتب مؤلف رواية «عُد من جديد» (دار هاكوورث للنشر، ٦ إس: معرض كتب فارينجدون «المترب قليلًا»، ٢ دي): «عندما كنتُ في إيطاليا، أتذكَّر أنني سمعت قصة غريبة عن «رجال الدم» هؤلاء.»
أو …
وكتب سيدٌ آخر، حشَر اسم «كولينز» في الزاوية الشمالية الشرقية من مخطوطه: «لا يُوجد موضع في لندن أرجح من حوض المد والجزْر لكي يكون مخبأ «الأربعة الأشرار». لقد كان حوض المد والجزر في عهد الملك تشارلز الثاني معروفًا بأنه …»
سأل رئيس تحرير صحيفة «ميجافون» محرره المجتهد: «مَن كولينز هذا؟»
بَيَّن له المحرر بضجر: «مراسل صحفي بالقطعة.» كاشفًا بذلك عن أن الصحافة الأحدث لم تكن قد أبعدَت المساهم العابث عن مجاله الشاق، وأضاف: «إنه ينقل أخبار محاكم الشرطة، والحرائق، والتحقيقات، وأشياء من هذا القبيل. ومؤخرًا دخل مجال الأدب ويكتب مقتطفاتٍ رائعة عن لندن القديمة وملاحمَ شواهدِ قبور هورنسي الشهيرة.»
في سائر مكاتب الصحف كان الأمر نفسه يحدث. كانت كل برقية تصل، وكل معلومة تبلُغ سلة المحرر الفرعي تصطبغ بالمأساة الوشيكة التي تحتل موقع الصدارة في أذهان الرجال. احتوت حتى تقارير محاكم الشرطة على إشاراتٍ إلى رجال العدالة الأربعة؛ فقد صار المبرر لأحد الأشخاص اتُّهِم بالسُّكر ومخالفة النظام لتبرير رعونته.
قالت أم الصبي وهي تبكي: «لقد كان الصبي صادقًا دائمًا؛ إن قراءة هذه القصص المُروِّعة عن الأجانب الأربعة هي التي جعلَتْه يتبدل هكذا.» ونظر القاضي إلى الجُرم بعين العطف.
كان السير فيليب رامون، الرجل الأكثر اهتمامًا بتطور الأحداث، يتظاهر بأنه الأقل انشغالًا بالأمر.
رفض أن يُجري المزيد من المقابلات الصحفية، وأعرض عن مناقشة احتمالات تعرُّضه للاغتيال، حتى مع رئيس الوزراء، وكان رده على رسائل التقدير التي وصلَتْه من جميع أنحاء البلاد عبارةً عن إعلان في صحيفة «ذا مورنينج بوست» يطلُب فيه ممَّن يرسلون إليه تلك الرسائل أن يتكرموا بالتوقُّف عن إزعاجه بالبطاقات البريدية المصورة، التي لم يجد وسيلة للتخلُّص منها إلا أن يُودعها سلة مهملاته.
كان قد فكَّر في إضافة إعلان عن نيته في إقرار مشروع القانون عبر البرلمان مهما كان الثمن، ولم يُثنِه عن ذلك سوى خشيته من التصنُّع.
كان السير فيليب لطيفًا على غير معتاد مع فالموث، الذي أوُكِلت إليه بطبيعة عمله مهمةُ حماية وزير الخارجية من التعرُّض لأي أذًى، وسمَح بالتبعية لذلك الضابط الذكي أن يُدرِك لمحة من الرعب الذي يعيش فيه رجلٌ مُهدَّد بالموت.
سأله، ليس مرة بل عشرات المرات: «هل تظن أنه يُوجد أي خطر، أيها المفتش؟» وكان الضابط الذي كان مدافعًا قويًّا عن قوات الشرطة التي لا تخطئ أبدًا، يُطمئِنه دومًا.
وكان يُبرِّر ذلك لنفسه بقوله: «ما النفع من وراء بث الذعر في نفس رجلٍ متخوف بالفعل من الموت؟ إذا لم يحدث شيء، فسيرى أنني كنتُ أقول الحقيقة، وإذا. إذا. حسنًا؛ عندئذٍ لن يكون في مقدوره أن يدعوني كاذبًا.»
كان السير فيليب مصدر اهتمامٍ دائم لمفتش المباحث، الذي لا بد أنه قد أبدى ما يجول بخاطره مرةً أو مرتَين؛ وذلك لأن وزير الخارجية، الذي كان رجلًا ذكيًّا ذكاءً استثنائيًّا، لمح نظرةَ فُضولٍ على وجه ضابط الشرطة، وقال بحدَّة: «إنك تتساءل ما الذي يدفعني إلى الاستمرار في مشروع القانون مع علمي بالخطر الذي يتهدَّدني؟ حسنًا، لن يفاجئك أن تعرف أنني «لا» أعرف الخطر، ولا يمكنني أن أتخيله! أنا لم أتعرض لأي ألمٍ بدني في حياتي، وبغضِّ النظر عن حقيقة أنني أُعاني من ضعف في القلب، فإنني لم أشعر بأي ألم. ليس لديَّ أدنى فكرة عن الماهية التي سيكون عليها الموت، ولا عن الألم أو السكينة التي يمكن أن يجلبها. إنني أؤيد إبيكتيتوس في قوله إن الخوف من الموت نابع جزئيًّا من كونه افتراضًا وقحًا بمعرفة ماهية الحياة الأخرى، وإننا ليس لدينا ما يدعو إلى الاعتقاد بأنه حالٌ أسوأ من واقعنا. أنا لست خائفًا من الموت، وإنما خائف من سكراته.»
بتعاطُف ولكن دون أن يفهم مطلقًا، تمتَم المفتش، الذي لم يكن عقله يستوعب الفارق بين الموت وسكراته قائلًا: «بالضبط.»
استطرد الوزير، الذي كان يجلس في غرفة مكتبه في بورتلاند بليس: «ولكن إن لم يكن بوسعي أن أتخيل عملية الموت، فبوسعي أن أتخيل عاقبةَ أن ينقض المرء عهده مع ممثلي الدول، وقد جرَّبتُ ذلك بالفعل، ومن المؤكد أنني ليس لديَّ أي نية لتكديس مخزون من الإحراج في المستقبل خوفًا من شيء يمكن في النهاية أن يكون تافهًا نسبيًّا.»
هذا المنطق سيكون كافيًا للإشارة إلى ما كانت المعارضة في الوقت الراهن تسعَد بوصفه بأنه «العقلية الملتوية لصاحب الفخامة المحترم.»
وبينما كان المفتش فالموث يُنصِت وعلى وجهه أمارت الانتباه الكامل، تثاءب خفية وتساءل عمن كان إبيكتيتوس.
«لقد اتخذتُ كل الاحتياطات الممكنة، يا سيدي.» هكذا قال مفتش المباحث في لحظة التوقُّف التي أعقبت هذه التلاوة لمبادئه «آمل ألا تتضايق من أن يتبعك بعضُ رجالي مدة أسبوع أو أسبوعَين. أودُّ منك أن تسمح لضابطَين أو ثلاثة أن يبقَوا في المنزل أثناء وجودك هنا، وبالطبع سيتواجد عددٌ كبير من الضباط المناوبين في وزارة الخارجية.»
أبدى السير فيليب موافقته، ولاحقًا، عندما توجَّه في صحبة مفتش المباحث إلى البرلمان في مركبةٍ ذات مقصورةٍ مقفلة، فهم السبب وراء وجود موكبٍ من راكبي دراجات يسبقهم على كلا جانبَي العربة، والسبب في اتباع مركبتَين المركبة ذات المقصورة إلى داخل بالاس يارد.
في وقت الإشعار، وقاعة البرلمان تعجُّ بعدد من النواب الذين كانوا متناثرين هنا وهناك، وقف السير فيليب في مكانه ونبه إلى أن القراءة الثانية لمشروع قانون تسليم الأجانب (الجرائم السياسية)، ستُجرى يوم الثلاثاء من الأسبوع التالي، أو على وجه الدقة، بعد عشرة أيام.
في مساء ذلك اليوم التقى مانفريد جونزاليس في حدائقِ نورث تاور وعلَّق على روعة ساحة قصر كريستال بالاس الخيالية ليلًا.
كانت فرقةٌ موسيقية من الحرس تعزف افتتاحية أوبرا «تانهاوزر»، وتكلم الرجلان حول الموسيقى.
وبعد ذلك …
سأل مانفريد: «ماذا عن تيري؟»
أجاب جونزاليس: «إنه مع بويكارت اليوم؛ يريه معالم المدينة.» وضحك الاثنان.
سأل جونزاليس: «وماذا عنك؟»
قال مانفريد: «أمضيتُ يومًا شيِّقًا؛ التقيتُ مفتش المباحث الساذج ذاك في جرين بارك، وسألني عن رأيي فينا!»
أبدى جونزاليس تعليقًا حول الحركة في سُلَّم صول الصغير، وأومأ مانفريد برأسه مصدقًا على قوله، متابعًا سماع الموسيقى.
سأله ليون بهدوء: «هل نحن مستعدون؟»
هزَّ مانفريد رأسه بالإيجاب مجدَّدًا وبنعومةٍ أخذ يصفر اللحن. توقَّف مع آخر ضربة للفرقة، وشارك في التصفيق لتحية الموسيقيين.
قال، وهو يُصفِّق: «لقد تحصَّلتُ على مكان. وينبغي أن نذهب معًا.»
«هل كل شيء هناك؟»
نظر مانفريد إلى رفيقه وعيناه تلمعان.
«كل شيء تقريبًا.»
انطلقَت الفرقة تعزف النشيد الوطني، وقام الرجلان واقفَين وخلعا قُبَّعتَيهما.
أخذ الحشد المحيط بمنصة الفرقة يتوارى عن الأنظار في الظلمة، واستدار مانفريد ورفيقه ليغادرا.
تلألأت آلاف المصابيح الصغيرة في الساحة، وكان ثَمَّةَ رائحةُ غاز قوية في الجو.
قال جونزاليس بنبرة أقرب إلى التساؤل أكثر منها إلى اليقين: «لن نستخدم تلك الطريقة هذه المرة؟»
أجاب مانفريد مؤكدًا: «قطعًا لن نستخدم تلك الطريقة.»