مفكرة الجيب
سوف نُتيح لك الفرصة حتى مساء الغد لتُعيد التفكير في موقفك من مشروع قانون تسليم الأجانب. إن لم يَظهر حتى السادسة إعلان في صحف بعد الظهر بسحبك هذا القانون، فلن يكون أمامنا سبيل نسلكه إلا تنفيذ تعهدنا. ستَلقى حتفَك في الثامنة مساءً. من أجل إحاطتك علمًا أرفقنا جدولًا دقيقًا بالترتيبات التي اتَّخذتها الشرطة السرية لتأمين سلامتك غدًا. وداعًا.
اطَّلَع السير فيليب على هذا التحذير دون أن يرتجف. واطلَع أيضًا على قصاصة الورق التي كان مكتوبًا فيها، بخطِّ يد أجنبية، التفاصيل التي لم تَجرُؤ الشرطة على تدوينها كتابةً.
قال: «ثمة ثغرة في موضع ما.» ولاحظ الاثنان اللذان كانا يراقبانه بقلق أن الشحوب والإرهاق قد حلَّا على وجهِه.
قال المفتِّش بهدوء: «هذه التفاصيل لم تكن معلومة إلا لأربعة أشخاص، وأنا على استعداد لأن أراهن بحياتي على أن التسريب لم يكن من عندي ولا من عند مفوض الشرطة.»
قال السكرتير الخاص بطريقة قاطعة: «ولا من عندي.»
هز السير فيليب كتفَيه وضحك ضحكةً مُتعَبةً.
صاح قائلًا: «ما أهمية ذلك الآن؟ إنهم يعرفون؛ لا أعرف بأي وسيلة عجيبة عرفوا ولا يهمني أن أعرف. السؤال المُهم هو هل يُمكن تأمين حماية كافية لي في الساعة الثامنة من ليلة غد؟»
أطبق فالموث أسنانه كاظمًا غيظه.
قال: «إما أن تخرج من هذه المحنة حيًّا، أو بحق الرب سيقتلونَنا أنا وأنت.» وظهر في عينيه بريق ينمُّ عن تصميمه.
بحلول الساعة العاشرة كان قد انتشر في الشوارع خبر وصول رسالة أخرى إلى رجل الدولة العظيم. وتداوَل الخبرَ مُرتادو الأندية والمسارح، وبين فصول المسرحيات وقف الرجال في الأروقة، والجدِّية تَكسو ملامحهم، يتناقشون بشأن الخطر المحدق برامون. كان مجلس العموم محتدمًا بالانفعال. كان أعضاء البرلمان قد احتشدوا بقوة، على أمل أن يأتي الوزير، لكن أملهم خاب؛ لأنه بعد استراحة العشاء كان من الواضح أن السير فيليب لم تكن لديه النيَّة في الظهور في تلك الليلة.
تساءل نائب ويست ديبتفورد الراديكالي: «هل يَسمح لي معالي رئيس الوزراء أن أسأل هل في نية حكومة صاحب الجلالة أن تَمضي قُدُمًا في مشروع قانون تسليم الأجانب (الجرائم السياسية)؟ وهل فكر معاليه في أنه من الأصوب تأجيل إصدار هذا القانون، في ظل الظروف الاستثنائية التي أدَّى إليها مشروع القانون؟»
قوبل السؤال بهتاف موافقة من أعضاء المجلس «موافقون، موافقون!» ووقف رئيس الوزراء ببطء وألقى نظرة سريعة على السائل وابتسم.
قال: «لا علم لي بظرف يُمكن أن يمنع صديقي معالي وزير الخارجية، الذي مع الأسف ليس حاضرًا الليلة، من الإشراف على العرض الثاني لمشروع القانون غدًا.» وبعد ذلك جلس.
بتبرمٍ قال نائب ويست ديبتفورد، مُخاطبًا نائبًا جالسًا بجواره: «لماذا، بحق الشيطان، كان يَبتسم؟»
قال النائب الآخر بحكمة: «إن جيه كيه مُنزعج جدًّا، منزعج جدًّا؛ أخبرني عضو في الحكومة اليوم أن جيه كيه العجوز كان يشعر بانزعاج شديد. قال: «تذكر جيدًا ما أقوله. إن مسألة رجال العدالة الأربعة هذه تُسبِّب انزعاجًا شديدًا لرئيس الوزراء».» وسكت العضو المبجل ليتيح لنائب ويست ديبتفورد أن يستوعب مكنون صدر جاره.
كان رئيس الوزراء يقول: «لقد بذلت قصارى ما في وُسعي لإقناع رامون بسحب مشروع القانون، لكنه عنيد، وما يَدعو للأسى أنه موقن في أعماق قلبه أن هؤلاء الرجال ينوون الاستمرار في الولاء له ومُساندته.»
قال وزير المستعمرات بحماسة: «هذا فظيع؛ لا يُمكن تصوُّر أن موقفًا كهذا يمكن أن يستمر. يا إلهي، إنه يضرب في صميم كل شيء، ويُخلُّ بتوازُن كل إصلاح حضاري.»
قال رئيس الوزراء الرابط الجأش: «إنها فكرة شاعِرية، ووجهة نظر الأربعة منطقية جدًّا. فَكِّر في القدرة الهائلة على فعل الخير أو الشر التي عادةً ما تُمْنَح لرجل واحد: رأسمالي يتحكم في أسواق العالم، مُضارِب يَحتكِر القطن أو القمح بينما المطاحن معطلة والناس يتضوَّرون جوعًا، طغاة ومستبدون يتحكمون في مصائر أمم؛ ثم فَكِّر في الرجال الأربعة، الذين لا يعرفهم أحد؛ شخوص غامضون مُبهَمون يُطارِدون — بطريقة مأساوية عبر العالم — الرأسمالي، والمُحتَكِر، والطاغية، ويَدينونهم ويُنفِّذون فيهم حكم الإعدام؛ قوى الشر كلها، وكل من لا تنالهم يد القانون. لقد قلنا، نحن وأمثالنا ممَّن هم متأثِّرون بالأمور الروحانية، عن هؤلاء الناس إن الرب سيدينهم. ها هم رجالٌ يُخَوِّلون لأنفسهم الحق الإلهي في الدينونة السامية. إن أمسكنا بهم فسيقتلون أنفسهم بطريقة مُفجِعة، بأسلوب مبتذل في عريش صغير في سجن بينتونفيل، ولن يدرك العالم أبدًا مدى عظمة هؤلاء المبدعِين الذين قضوا نَحبَهم.»
«لكن ماذا عن رامون؟»
ابتسم رئيس الوزراء.
«في تلك الحالة، أظن أن هؤلاء الرجال قد أقدموا على أمر يفوق قدراتهم. لا يُساوِرُني شكٌّ في أن رامون كان سيَلقى حتفه لو أنهم ارتضوا بأن يقتلوا أولًا وبعد ذلك يُوضِّحُون مُهمتهم. لكنهم أرسلوا التحذير تلو التحذير وكشفوا عن أوراقهم عشرات المرات. لا علم لي بالترتيبات التي تتَّخذها الشرطة، لكنني أتخيَّل أن الاقتراب مسافة عشر ياردات من رامون سيكون في صعوبة تناول سجين سيبيري العشاء مع القيصر الروسي.»
تساءل وزير المستعمرات: «هل يوجد أيُّ احتمال أن يسحب رامون مشروع القانون؟»
هز رئيس الوزراء رأسه نفيًا.
وقال: «لا يُوجد أيُّ احتمال إطلاقًا.»
قطع حديثهما نهوض أحد نواب الجبهة الأمامية للمعارضة في تلك اللحظة لطرح تعديل لبند للمناقشة.
خلت قاعة البرلمان سريعًا من النواب عندما شاع أن رامون لم يكن يَنتوي الحضور، وتجمع الأعضاء في حجرة التدخين والبهو ليتكهَّنُوا بشأن المسألة التي كان لها الصدارة في أذهانهم.
على مقربة من بالاس يارد كان حشد كبير قد تجمع، مثلما تتجمَّع الحشود في لندن، اعتمادًا على احتمال ضئيل في إلقاء نظرة خاطفة على الرجل الذي تداولت الألسنة كلها اسمه. عرض باعة الشوارع صورته للبيع، وراجت تجارة الرجال ذوي الأسمال البالية الذين أشاعوا قصصًا ملفقةً عن حياة رجال العدالة الأربعة ومُغامراتهم، وتغنَّى مُطربو الشوارع المتجولون بشجاعة رجل الدولة الجسور، الذي جرؤ على مقاومة تهديدات الأجانب الجبناء والأناركيِّين المُخرِّبين، بأنها شجاعة جسورة، وأدخلوا أشعارًا مرتجلةً ضمن ذخيرتهم الفنية.
احتوت هذه الأشعار الغنائية الرديئة مديحًا للسير فيليب، الذي كان يُحاول منع الأجانب من أخذ لقمة الخبز من أفواه العمال الشرفاء.
راقت طرافة تلك الأشعار كثيرًا لمانفريد، الذي كان يستقلُّ سيارة أجرة مع بويكارت إلى نهاية طريق وستمنستر على الكورنيش، وبعد أن ترجَّلا من السيارة الأجرة، سارا في اتجاه شارع وايتهول.
قال مانفريد، مطلقًا ضحكة مكتومة: «أظن أن المقطع الذي يتناول أخذ «الأناركيين الأجانب المُخرِّبين» لقمة الخبز من فم عامة الشعب جيد على نحو واضح.»
كان الرجلان يَرتديان ملابس سهرة، ووضع بوايكارت في عروته الشارة الحريرية لوسام جوقة الشرف الفرنسي.
تابع مانفريد قائلًا:
«لا أظن أن لندن شهدت مثل هذه الإثارة منذ. منذ متى؟»
لفتَت ابتسامة بويكارت المتجهِّمة انتباه مانفريد فابتسم في تعاطف.
وسأله: «حسنًا، ما قولك؟»
قال ببطء، بطريقة رجل لا يرغب في تبادُل المزاح: «وجهت السؤال نفسه إلى رئيس النُّدُل؛ كان يُقارن بين التحريض وجرائم القتل البشعة في إيست إند.»
فجأة توقَّف مانفريد عن السير ونظر برعب إلى رفيقه.
صاح في تفجُّع: «يا إلهي! لم يَخطر ببالي مُطلَقًا أن نُقارَن، به!»
بعدئذٍ تابعا سيرهما.
قال بويكارت بهدوء: «هذا جزء من حضيض أبدي؛ فحتى دي كوينسي لم يُعَلِّم الإنجليز شيئًا. إن جماعة «إله العدالة» ليس لها إلا مُمثِّل واحد هنا، وهو يقطن في نُزُل في لانكشير، وهو خبير وتلميذ بارع للمأسوف عليه ماروود، الذي أدخل تحسينات على نظامه.»
كانا يجتازان ذلك الجزء من شارع وايتهول الذي تُدار منه سكوتلاند يارد.
نظر رجل، يسير مُتراخيًا محنيَّ الرأس ويدَاه في جيوب معطفه، إليهما نظرة جانبية سريعة، وتوقَّف عندما تَجاوزاه، ونظر إليهما وهما يسيران أمامه. ثم استدار وسار حثيثًا في إثرهما. عندما وصل مانفريد وبويكارت إلى تقاطع شارع كوكسبر، أدَّى وجودُ حشدٍ من المارة وسيل من السيارات بدا أنه لا يتوقَّف إلى توقُّفِهما عن السير مُنتظرين فرصة لعبور الطريق. تعرَّضا لبعض التدافع مع ازدياد عدد المارة المُنتظرين، ولكن أخيرًا عبرا الطريق وسارا صوب شارع سان مارتِن.
كانت المقارنة التي ذكرها بويكارت لا تزال تشعل غضب مانفريد.
قال: «سيكون موجودًا في المسرح الملكي الليلة أشخاص يصفقون لبروتوس وهو يسأل: «أي وغد شرير ممَّن طعَن يوليوس مسَّ جسده من أجل شيء سوى العدالة؟» لن تجد دارسًا جادًّا للتاريخ، أو رجلًا عاديًّا نابهًا، إن سألته «أما كان ستغدو بركة من الرب على العالم لو أن بونابرت اغتيل أثناء عودته من مصر؟» إلا ويُجيبك دون تردُّد «نعم، ولكن نحن. نحن قتلة!»
قال بويكارت ببساطة: «ما كانوا سيَنصبُون تمثالًا لقاتل نابليون مثلما لم يُظهِرُوا إجلالًا لفيلتون، الذي أزهق رُوح وزير سفيه وفاسق من وزراء تشارلز الأول. ربما تنصفنا الأجيال القادمة.» قال الجملة الأخيرة ببعض السخرية، وأضاف: «عن نفسي تكفيني راحة الضمير.»
ألقى السيجار الذي كان يُدَخِّنه، ووضع يده في الجيب الداخلي لمعطفه ليتناول آخر. لكنه أخرج يده دون السيجار وصَفَّر ليستوقف عربة أجرة.
نظر مانفريد إليه مُندهشًا.
«ما الأمر؟ لقد ظننت أنك قلت إنك ستذهب سيرًا على الأقدام؟»
مع ذلك دخل مقصورة العربة التي تجرُّها الخيول وتبعه بويكارت، قائلًا لسائق العربة عبر الحاجز: «محطة بيكر ستريت.»
أخذت عربة الأجرة تقعقع وهو تسير عبر شارع شافتسبيري قبل أن يقدم بويكارت تفسيرًا.
قال، مُخفِّضًا صوته: «لقد سُرِقت، ساعتي نُشِلَت، ولكن ذلك لا يهم؛ سُرِقت مفكرة الجيب التي فيها الملاحظات التي دونتُها إرشادًا لتيري؛ وهي ذات أهمية كبيرة.»
قال مانفريد: «ربما كان من فعل ذلك لصًّا عاديًّا؛ فقد سرق الساعة.»
أخذ بويكارت يتحسَّس جيوبه بسرعة.
قال: «لم يُسرَق أي شيء آخر؛ ربما كان الأمر كما قلت، مجرد نشال، سيسعد بالساعة ويلقي بالمفكرة في أقرب بالوعة؛ ولكن ربما يكون من أفراد الشرطة.»
سأله مانفريد، بنبرة قلقة: «هل كان فيها أي شيء يدلُّ على هُويتك؟»
أجاب بسرعة: «لا شيء؛ ولكن، ما لم يكن رجال الشرطة عميانًا، فسيفهمون الحسابات والخطط المكتوبة فيها. ربما لا تصل إلى أيديهم أبدًا، ولكن إن حدث ذلك وكان بوسع اللص أن يتعرف علينا فسنُصبح في ورطة.»
توقَّفت العربة عند محطة بيكر ستريت، ونزل منها الرجلان.
قال بويكارت: «سأتوجَّه شرقًا، وسنَلتقي في الصباح. بحلول ذلك الوقت سأكون قد عرفت ما إذا كانت المفكرة قد وصلت إلى حوزة سكوتلاند يارد أم لا. طابت ليلتك.»
ودون عبارات وداع أخرى أكثر من هذه افترق الرجلان.
لو لم يكن بيلي ماركس قد شرب الخمر كان سيُصبحُ راضيًا تمامًا بحصيلة عمله تلك الليلة. ولكن إذ كان ممتلئًا بالثقة الزائفة التي تمدُّ بها الخمر شاربيها والتي تحيد بالكثير من الرجال الصالحين عن الصواب، فكَّر بيلي في نفسه أنها ستكون خطيئة أن يتجاهل الفرص التي أتاحتها له الآلهة. كانت الإثارة الناشئة عن تهديدات رجال العدالة الأربعة قد جلبَت الكثير من سكان جميع ضواحي لندن إلى وستمنستر، وعلى ناحية سَري من الجسر وجد بيلي مئات من سكان الضَّواحي ينتظرون بصبر وسيلة مواصلات تُقلهم إلى ستريتهام، وكامبرويل، وكلافام، وجرينيتش.
وهكذا، وإذ كان الليل لا يزال نسبيًّا في أوله، قرَّر بيلي أن يباشر عمله في الترام.
نشل كيس نقود من سيدة عجوز بدينة متَّشحة بالسواد، وساعة ووتربيري من سيد يرتدي قبعة مُرتفعة، ومرآة يد من حقيبة أنيقة، وقرر أن يختم عملياته باستكشاف محتويات جيب سيدة شابَّة راقية.
تكلَّل بحثُه بالنجاح. وكانت مكافأته كيس نقود ومنديلًا حريريًّا مطرزًّا بالدانتيل، واتخذ ترتيبات للانسحاب في هدوء. عندئذ سمع صوتًا يَهمِس في أذنه. «مرحبًا، يا بيلي!»
عرف الصوت، وشعر للحظة أنه ليس على ما يُرام.
صاح في ابتهاج زائف: «مرحبًا، يا سيد هوارد؛ كيف حالك يا سيدي؟ إنها مُفاجأة أن ألتقي بك!»
سأله السيد هوارد بلطف، مُمسكًا بذراعه بقوة: «إلى أين أنت ذاهب يا بيلي؟»
قال بيلي مُتظاهرًا بالاستقامة: «إلى البيت.»
قال السيد هوارد، وهو يَقتاد بيلي خارج الزحام: «إلى البيت إذن؛ إلى البيت الجميل المريح إذن يا بيلي.» نادى على رجل شاب آخر، بدا أنه يعرفه: «اصعد إلى هذه العربة، يا بورتر، واسأل الركاب إن كان أحدهم قد ضاع منه شيء. إن استطعت أن تجد أيَّ أحد فأحضره.» وأطاع الشاب الآخَر أمره.
قال السيد هوارد، وهو لا يَزال مُمسكًا بذراع بيلي بقوة: «والآن أخبرني عن حال الدنيا معك.»
قال بيلي بجدية: «اسمع يا سيد هوارد، ما قصدك؟ إلى أين تَمضي بي؟»
قال السيد هوارد بحزن: «قصدي أنت تعرفه منذ أمد، نفس القصد القديم، يا بيل، وسأمضي بك إلى نفس البُقعة القديمة الجميلة.»
صاح بيلي بعنف، وكان ثمة صوت رَنَّة خفيفة لشيء يسقط على الأرض: «أنت مُخطئ هذه المرة، يا زعيم!»
قال السيد هوارد، مُنحنيًا على الأرض ليَلتقِط كيس النقود الذي أسقطه بيلي: «اسمح لي يا بيلي.»
في قسم الشرطة تظاهَر الرقيب المناوب الجالس على مكتبه بالفرح العظيم لوصول بيلي، وألقى السجَّان، الذي زجَّ ببيلي إلى قفص ذي قضبان فولاذية، عليه التحية كأنه صديق.
قال السجَّان: «ساعة ذهبية، نصف سلسلة ذهبية، ثلاثة أكياس نقود، منديلان، مُفكِّرة جيب ذات غلاف جلدي مراكشي أحمر.»
أومأ الرقيب مُصدِّقًا على ما ذكر.
قال: «يا لها من حصيلة عمل يوم طيبة، يا ويليام.»
تساءل السجين: «ما العقوبة التي سأنالها هذه المرة؟» فقال السيد هوارد، الذي كان شرطيًّا في ملابس مدنية، وهو مُنشغِل في ملء تفاصيل التُّهمة، إنه يظنُّ أنها ستكون تسعة أشهر.
هتف السيد بيلي ماركس في ارتياع: «هذا سخف وجنون!»
قال الرقيب: «بل حقيقة؛ فأنت مُجرم شقي ومُتشرِّد، يا بيلي؛ أنت نشال، وستذهب إلى المحاكمة هذه المرة. الزنزانة رقم ثمانية.»
كانت العبارة الأخيرة موجَّهة إلى السجَّان، الذي اقتاد بيلي إلى الزنازين وهو يحتجُّ على قوة الشرطة التي لا تَستطيع إلا أن تقبضَ على الرجال البائسين، ولم تَستطِع أن تصل إلى قتلة دمويين مثل رجال العدالة الأربعة.
تساءل بيلي بسخط من وراء قضبان زنزانته: «من أجل ماذا ندفع الرسوم والضرائب؟»
قال السجَّان، وهو يَضع قفلًا مزدوجًا على الباب: «أنت لا تدفع أيَّ رسوم أو ضرائب يا بيلي.»
في مكتب الضابط المناوب كان السيد هوارد والرقيب يفحصان المسروقات، وكان ثلاثة من أصحابها، هم الذين اكتشفهم بي سي بورتر، يطالبون بممتلكاتهم.
قال الرقيب بعد انصراف المطالبين بأشيائهم المسروقة: «بذلك تعود كل الأغراض إلى أصحابها عدا الساعة الذهبية ومُفكِّرة الجيب. ساعة ذهبية من طراز إلجين رقم إن ٠٥٠٢٩٠٢٠، ومُفكِّرة جيب لا تحتوي على أوراق ولا بطاقة ولا عنوان، فقط ثلاث صفحات مكتوبة. لا أَعرف ما الذي يَعنيه هذا.» أعطى الرقيب المُفكِّرة إلى هوارد. احتوَت الصفحة التي حيَّرت الشُّرطي على مجرد قائمة بأسماء شوارع. أمام اسم كل شارع كان ثمَّة رموز غير مفهومة.
قال السيد هوارد: «تبدو مثل مذكرات تَعتمِد على إسنادات ترافُقية. ماذا يوجد في الصفحتَين الأُخريَين؟» قلبا الصفحة، فوجداها مملوءة بأشكال.
قال الرقيب شاعرًا بخيبة أمل: «حسنًا.» وقلب الصفحة. كانت مُحتويات هذه الصفحة مفهومة ومقروءة غير أنه كان من الواضح أنها كُتِبَت على عجل وكأن من كتبها كان يَكتب ما يُملَى عليه.
قال السيد هوارد بخفَّة ظل، مُشيرًا إلى الاختصارات: «لا بدَّ أن الشخص الذي كتب هذا كان يريد اللحاق بقطار.»
لن يَترك دي سي إلا إلى إتش إس. سيعود بالسيارة إلى إتش إس في إم سي. (تسبقه أربع مركبات)، ٨:٣٠. في ٢ ٦٠٠ بي يصلُ المَوكِب إلى الحاجز، ٨٠ ﺷﺨ(صًا) داخل دي إس. واحد كل غر(فة)، ثلاثة كل ﻣ(مر)، ستة أﻗ(بية)، ستة سط(وح). كل الأبواب مفتوحة على اتساعها تتيح لكل شر(طي) أن يرى آخر، كل ﺷﺨ(ص) سيحمل مسد(سًا). لا أحد إلا إف وإتش يمكنه أن يقترب من آر في إتش إس إي. غريب مملوء. كل الصحافة مكفول لها ٢٠٠ ﺷﺨ(ص) في اﻟﻣ(مرات). فرقة حرس رهن الإشارة عند الحاجة إليها.
قرأ رجل الشرطة هذا ببطء.
تساءل الرقيب بعجز: «والآن ماذا يعني ذلك بحق الشيطان؟»
في هذه اللحظة تحديدًا استحق الشرطي هوارد ترقيته.
قال بحماس: «دعني آخذ المفكِّرة مدة عشر دقائق.» سلمه الرقيب المفكرة وعلى وجهه نظرة تعجب.
قال هوارد، ويدُه تَرتجِف وهو ينظر إلى المفكرة: «أظن أنني أستطيع أن أجد صاحب هذه المفكرة.» ووضع القبعة على رأسه وخرج مهرولًا إلى الشارع.
لم يتوقف عن الجري حتى وصَل إلى الطريق الرئيس، وبعدما عثر على عربة أجرة قفز فيها ووجَّه أمرًا مُتعجِّلًا إلى السائق.
قال له: «وايتهول، وانطلَقَ بأقصى سرعة.» وفي غضون بضع دقائق كان يشرح مهمته للمفتش المسئول عن الطوق الذي كان يحرس مدخل داوننج ستريت.
قدم نفسه قائلًا: «الشرطي هوارد، ٩٤٦ إل احتياط.» لديَّ رسالة مهمة جدًّا للمفتش فالموث.»
استمع ذلك الضابط، الذي كان باديًا عليه الإجهاد والتعب، إلى قصة الشرطي.
مضى هوارد يقول سريعًا: «يبدو لي كما لو أن هذا له علاقة ما بقضيتك، يا سيدي. دي إس هو داوننج ستريت، و…» وأخرج المفكرة فاختطفها منه فالموث.
قرأ بضع كلمات ثم أطلَقَ صيحة مُنتصِرة.
صاح، وهو يقبض على ذراع الشرطي ويَقتاده إلى بهوٍ المدخل: «ها هي التعليمات السرية.»
سأل: «هل سيارتي بالخارج؟» واستجابةً إلى صافرة اقتربت سيارة. قال المفتِّش: «اركب يا هوارد.» وانطلقت السيارة في شارع وايتهول.
تساءل المفتِّش: «من هو اللص؟»
أجاب هوارد: «بيلي ماركس، يا سيدي؛ قد لا تعرفه، لكنه شخصية معروفة في حي لامبث.»
أسرع فالموث مُصححًا: «أوه، أجل، إنني أعرف بيلي تمام المعرفة بالفعل. سنرى ما لديه من أقوال.»
توقفت السيارة أمام قسم الشرطة وقفَزَ الرجلان منها.
هب الرقيب واقفًا عندما تعرف على فالموث الشهير، ورفع يده بالتحية العسكرية.
قال فالموث باقتِضاب: «أريد أن أرى السجين بيلي.» وبعد أن أقامُوا بيلي من رقدته، جاء يرمش إلى مكتب الضابط المناوب.
قال المفتِّش: «والآن يا بيلي، لديَّ بضع كلمات أريد أن أقولها لك.»
قال بيلي مُندهشًا: «عجبًا، إنه السيد فالموث.» واكتسى وجهه بشيء كالخوف. «لم أكن مشاركًا في حادث السطو على محلات هوكستون تلك، وليُساعدني الرب.»
«هدئ من روعك يا بيلي؛ فأنا لا أريدك من أجل أي شيء، وإن أجبت بصدق على أسئلتي، فقد تُبرَّأ من التُّهمة الحالية وتَحصُل على مكافأة علاوة على ذلك.»
راودَت بيلي شكوك فيما قيل له.
قال بتجهُّم: «لن أشي بأيِّ أحد إن كان ذلك ما تعنيه.»
قال المفتش بنفادِ صبر: «ولا هذا أيضًا. أريد أن أعرف أين وجدت هذه المفكرة.» وأمسك بها يُريه إياها.
ابتسم بيلي.
قال كاذبًا: «عثرت عليها على الرصيف.»
قال فالموث بصوت هادر: «أريد الحقيقة.»
أجاب بيلي بعبوس: «حسنًا، لقد نشلتُها.»
«ممَّن؟»
أجاب بصفاقة: «لم أوقفه لأسأله عن اسمه.»
تنفَّس المفتِّش بعمق كاظمًا غيظه.
قال، مخفضًا صوته: «اسمع، لا بد أنك سمعت عن رجال العدالة الأربعة، أليس كذلك؟»
أومأ بيلي برأسه، واتَّسعت عيناه في ذهول من السؤال.
صاح فالموث بصوت مؤثر: «حسنًا، هذه المُفكِّرة ملك واحد منهم.»
صاح بيلي: «ماذا؟»
«توجد مكافأة ألف جنيه نظير الإمساك به. إن قادت الأوصاف التي ستدلي بها إلى القبض عليه فستكون الألف جنيه تلك من نصيبك.»
صُعِق مارك من الفكرة.
تمتم في ذهول: «ألف. ألف جنيه، وربما كان بوُسعي أن أمسك به.»
صاح المفتش بحدة: «هيا، هيا! ربما ما زال بوسعك أن تُمسِك به؛ قل لنا ما شكله.»
قطب بيلي جبينَه مفكرًا.
قال، محاولًا أن يستحضر صورة ضحيته من خضم ما في ذهنه: «كان يبدو من السادة؛ كان يرتدي صدرية بيضاء، وقميصًا أبيض، وحذاءً لامعًا.»
تساءل المفتش: «ولكن وجهه، ماذا عن وجهه؟!»
صاح بيلي بسخط: «وجهه؟ أَنَّى لِي أن أعرف شكله؟ أنا لا أنظر إلى وجه الشخص عندما أنشله، أليس كذلك؟»