قراصنة العالم القديم
أشرقت شمسُ القراصنة من قديم الأزَل، ويمكن أن نقول بكل شجاعة إنَّها ظهرت مع ظهور المِلَاحة البحرية. في العالَم القديم، اشتغل بها الفينيقيون أقدم وأفضل مَن ركِبَ البحر، ثم جاء بعدهم الإغريق، دخلت القرصنة حياة بعض القبائل الإغريقية الصغيرة، بل إنَّهم عدوها حرفةً رفيعة المنزلة. وبمرور الزمن وصلت القرصنة في حوض البحر الأبيض المتوسط إلى القَدْر الذي أخذت فيه تُشكل تهديدًا على أعظم دولة في العالم القديم آنذاك، وهي الإمبراطورية الرومانية.
لقد قدَّم التاريخ والأدب القديمان وصفًا شيقًا وأخَّاذًا للصراع الذي دار ضدَّ القراصنة، الذين كثيرًا ما كانوا سببًا في تكدير صفو سكان العالم القديم.
من أوديسي١ إلى بومبي
على أن الذي فاق كل قراصنة العالَم القديم ربما كان بوليقراط طاغية جزيرة ساموس (٥٢٧–٥٢٢ قبل الميلاد)، استطاع بوليقراط أن يبني أسطولًا ضخمًا بمقاييس عصره سيطر به دون منازعٍ على بحر إيجه.
كان بوليقراط طموحًا إلى أبعد الحدود، ماكرًا لا يعرف الرحمة، ذاع صيته كراعٍ للفنون والعلوم؛ جمَّل المدينة بمبانٍ رائعة، وجذب إلى بلاطه أبرز الشعراء والمعماريين والفنانين والأطباء، لكنه من ناحيةٍ أخرى اكتسب سوء السمعة باعتباره وحشًا ولصًّا، فبعد أن استولى على ساموس بمساعدة إخوته، شرع على الفور في قتل أخيه بانتاجنوت، بينما قام بنفي الآخر سيلوزدن، حتى يجمع السلطة كلها في يديه، ولكي يضاعف ثرواته احترف النَّهب البحري، وفرض إتاواتٍ ضخمةً على قباطنة السفن.
جديرٌ بالذكر — وإحقاقًا للحق — إنَّ مثل هذا العمل لم يكن استثناءً في عصر بوليقراط، وإنَّما دخل في ترسانة الوسائل المطبَّقة في كل مكان لإدارة السياسة والتجارة التي كانت القرصنة أحد عناصرها. على أنَّ طاغية ساموس تميَّز بالطبع عن أقرانه، ومارس القرصنة على مستويات ضخمة، إلى الحد الذي دفع ببعض المؤرخين للقول، اعترافًا بأفضاله، بأنَّ بوليقراط هو أعظم قراصنة العالم القديم.
وقد قام أحد حكام جزيرة كريت بإرسال أسطوله بأكمله للقضاء على القرصنة البحرية. كان هذا الحاكم قد مارس هو نفسه القرصنة قدرًا من الزمان على غرار بوليقراط، ومن ثم فقد كان يشكل خطرًا على أعدائه؛ إذ إنَّه كان على درايةٍ تامة بعادات وحِيل القراصنة، ناهيك عن إعداده لأسطولٍ هائل من أجل هذه المهمة، تميز حاكم كريت بالعِناد الشديد والشراسة في القتال.
بعد سنواتٍ طويلة من المعارك الدامية، أصبح حاكم كريت الشجاع سيدًا للموقف، حتى إنَّ النصر الذي عُقد لواؤُه كان من الاكتمال، بحيث تسنى له أن يفرض إرادته على الإغريق، وأن يمنع وجود أكثر من خمسةٍ من القادة على ظهر كل سفينة، وقد نجَح هذا الاتفاق في الحيلولة دون تعاظم عمليات القرصنة في المياه الإغريقية، على أنَّه ما إن تُوفي الحاكم المنتصر، وأصاب الضعف القدرة العسكرية لجزيرة كريت، حتى بُعث النهب البحري من جديد.
على الرغم من تلك الثقافة الروحية الرفيعة التي كانت لدى الإغريق القدماء، فإنَّهم كانوا نسبيًّا فقراء، ولم يستطيعوا أن يجمعوا الثروات الضخمة في بلادهم، وذلك على العكس تمامًا من جيرانهم في البحر وهم الفينيقيون. عمل الفينيقيون بتسويق البضائع على مستوياتٍ ضخمة، حتى تمكنوا من تحقيق مركز احتكاري في تجارة الأحجار الكريمة. حملت مراكب تُجَّارهم الكهرمان من بحر البلطيق والقصدير من إنجلترا، وقام هؤلاء التجار بعمليات التبادل التجاري بين شمال أفريقيا وإسبانيا وفرنسا.
في عصر برقل أصبح القراصنة من القوة بحيث أنشئوا دويلاتٍ لهم، كانت الدول الأخرى تعقد معها الاتفاقيات.
لقد أسهم نمو القرصنة في المياه الإغريقية في تحسين الظروف الجغرافية (متاهة الجزر والخط المنكسر للشاطئ)، فضلًا عن إسهامها في ارتفاع مستوى فن الملاحة البحرية آنذاك. كان الناس قديمًا يبحرون بالأشرعة نهارًا فقط وبمحاذاة الشاطئ، حريصين على ألا تغيب عن أعيُنهم، وما إن يُرخي الليل سدوله، حتى يحتَمُوا بواحدٍ من الخلجان العديدة.
يمكن للمرء اليوم بعد انقضاء آلاف السنين أن يلتقي على أرض اليونان بأطلال المباني الفريدة، ومن بينها تلك القلاع الدفاعية السامقة التي شُيدت فوق التلال العالية في أعماق اليابسة، ها هنا كان سكان الجزر يبحثون عن الهاربين من هجوم القراصنة، ومن أعلى هذه الأبراج كانت تتصاعد الإشارات الدخانية تطلب العون من الجيران.
لقد جاءت حسابات بومبي في مكانها. لقد أدى اختلاط البحارة من ذوي الخبرة مع أفضل جنود ذلك الزمان، إلى خلْق قوةٍ جبَّارة خفيفة الحركة فوق مياه البحر الأبيض المتوسط.
فور طرد القراصنة من الجزء الغربي من البحر الأبيض المتوسط، أعاد بومبي إطلاق أسطوله إلى الجزء الشرقي من البحر؛ حتى لا يعطي لعدوه أيةَ فرصة لالتقاط الأنفاس. انسحب القراصنة، وقد تملَّكهم الرعب من جراء هذا البحر الفسيح المكشوف، لاجئين للاختباء في متاهات الجزر والخلجان الطويلة الضيقة وعند مخارجها، حيث بنوا استحكاماتهم، ها هي الطرق البحرية. وقد أصبحت أخيرًا حرةً أمام السفن التي راحت تحمل الحبوب من جديد، وها هم سكان روما الذين ذاقوا مرارة الجوع، وقد باتوا ضامنين وفرة المواد الغذائية. إبان ذلك ترامت إلى أسماع بومبي إشاعات مفادها أنَّ القراصنة قد أصابهم الذعر، وبدأت الانقسامات تشقُّ صفوفهم، فقرَّر انتهاز هذه الفرصة، ليوجِّه إليهم ضربته القاضية، في نفس الوقت لم يفقد بومبي بصيرته النافذة، فوعد مقدمًا بالعفو عن كل مَن يعلن استسلامه دون قتال.
سرعان ما آتت هذه الخطوة ثمارَها، فلم تجد الفيالق الرومانية مقاومة، اللهم سوى في كيليكيا، وقف ميتريدات، عدو روما اللدود، وقد أخذت بمجامعه الدهشة والخوف يرقب كيف يتلقَّى رعاياه الهزيمة تلو الأخرى، وكيف تتساقط مراكب القراصنة في أيدي أعدائه.
ثلاثة أشهر فقط بدلًا من ثلاث سنوات، استطاع فيها بومبي أن يتغلَّب على قراصنة البحر الأبيض المتوسط. كان وقْع ثمار هذا الانتصار على الرومان مُذهِلًا، لقد تم أسر عشرين ألف قرصان عدا عشرة آلاف آخرين لقوا حَتْفهم في المعارك. إنَّ هذه الأرقام لتدلُّ دلالةً واضحةً في حد ذاتها على مدى ما كان عليه القراصنة من قوةٍ. لقد تم تدمير سُفنهم وقواربهم، وتم الاستيلاء على موانئ تجمعهم، كما وقع «٤٠٠» من أفضل السفن في أيدي الرومان المنتصرين، وهو عددٌ يعادل ضعف عدد السفن التي أغرقت، أو أحرقت.
مغامرة يوليوس قيصر العجيبة
انقضى العام الواحد والثمانون قبل الميلاد، كانت روما في تلك الفترة تحت حكم الديكتاتور «سولا» الذي صعد إلى السلطة بعد معركةٍ حامية الوطيس. عاش «سولا» في رعبٍ دائم بسبب رغبته في الحفاظ على تلك السلطة، الأمر الذي دفع به إلى ملاحظة أعدائه الحقيقيين منهم والمزعومين بلا رحمة، وعلى رأس هؤلاء كان «ماري» الذي نفاه «سولا»، بعد أن دانت له الأمور خارج روما هو وأنصاره، خاصةً مَن تميَّز من بينهم بالكفاءة والثروة والنفوذ. كان من بين مَن طُردوا شابٌّ له هيئة النبلاء، ينتسب إلى واحدةٍ من عائلات روما الأرستقراطية صاحبة النفوذ الواسع، رأى فيه «سولا» خطرًا عليه على نحوٍ خاص؛ نظرًا لما كان يتمتَّع به هذا الشاب من علم وموهبة فائقة، وحبٍّ للعمل، وثقافة، ومقدرة غير عادية على جذب الأصدقاء، ناهيك عمَّا لديه من طموحٍ لخَلق مستقبلٍ سياسي.
هل يستوجب الأمر إذن الدهشة، كون «سولا» وضع هذا النبيل الروماني بالذات على رأس قائمة مَن قرَّر نفيهم؟ لم يستسلم هذا الشاب — الذي كان يُدعى يوليوس قيصر — لليأس بعد ما عرف بقرار الديكتاتور، وسرعان ما تأقَّلم على وضعه الجديد. وكان يرى أنَّ من الواجب ألا يفقد المرء وقته عبثًا في المنفى؛ ولهذا قرر أن يقوم بدراسة فن الخطابة، فالتحق بإحدى أفضل مدارس البلاغة التي كان يديرها في جزيرة رودوس آنذاك المحاضر أبولوني المعروف باسم مولون. وهكذا أبحر قيصر تحيطه حاشية تليق بنبيلٍ روماني متجهًا صوب جزيرة رودوس.
تميَّز الفتى بين المسافرين، وجذب إليه الانتباه بهيئته الأرستقراطية، فضلًا عن سلوكه الذي اتسم بالكبرياء، فلم يكن يشارك فيما كان يدور حوله من مناقشات، كان صموتًا، منغمسًا في أفكاره، دائم القراءة. استمرت الرحلة بمحاذاة ساحل شبه جزيرة بيلويونيسون دون مغامراتٍ تُذكر، على أنَّه ما إن تجاوزت السفينة جزيرة «فارماكوزا» الواقعة بالقرب من الشواطئ الصخرية لمنطقة «كاريا»، حتى شُوهد من فوق سطحها عددٌ من القوارب، تسير متتبعةً السفينة ذات الأشرعة، عندما تيقَّن قبطان السفينة الرومانية من النظرة الأولى أنَّ أصحاب هذه القوارب من القراصنة، أصدر أمره برفع الشراع الاحتياطي، ولكن هذا العمل لم يعد بالفائدة المرجوة، كانت الريح ضعيفةً، بينما اندفعت القوارب الخفيفة بسرعةٍ أكبر بكثيرٍ من السفينة الرومانية الثقيلة الخرقاء. وكانت المسافة بينهما تزداد ضِيقًا مع كل ثانية. أما عن قيصر — الذي كان على يقينٍ هو الآخر أنَّ الوقت فيه متَّسِع إلى أن تلحق بهم الزوارق — فقد اتخذ مجلسه المعتاد في سكينة، وانهمَكَ في القراءة.
عندما أدرك القبطان وضعه البائس، أمر بطَيِّ الشراع الصغير، ووقف على ظهر سفينته في انتظار ما سيسفر عنه تطور الأحداث، سرعان ما صعد القراصنة على ظهر السفينة، وعلى الرغم من الاستقبال المسالم الذي قوبلوا به فإنَّهم تصرفوا بكل صلفٍ وغطرسة، تقدَّم رئيسهم — وهكذا كان من الممكن الحكم على منزلته من نبرة صوته الآمرة — تقدَّم من قيصر، الذي لم يقطع قراءته للحظةٍ واحدة، وأخذ في الدوران حوله. كان من اليسير من مجرد المظهر الخارجي لهذا النبيل تحديد ضخامة الفِدية المنتظرة، وأخيرًا اتجه بسؤاله إليه: مَن تكون؟
توجه الرئيس مرةً أخرى إلى قيصر، وسأله بغضب: كم ستدفع مقابل حريتك وحرية الآخرين من رِفاقك؟ غير أنَّه لم يتلقَّ ردًّا على سؤاله، فاستشاط غضبًا، وصاح: ماذا بك؟ هل قطعوا لك لسانك؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، فأُقسم — صاح متوعدًا — لأقطعنَّه لك بيدي هاته، وعندئذٍ سترجع عن خصالك الأرستقراطية.
فقال الرئيس مقاطعًا: هذا قليل للغاية، لعلِّي مضاعف الصفقة.
في هذه اللحظة أصابت الجميعَ الدهشةُ عندما خرج قيصر عن صَمته، وانضم إلى المساومين موجِّهًا حديثه إلى القرصان ساخرًا: عشرون طالنت؟ إنَّك تمارس مهنتك على نحوٍ سيِّئ، فلو كانت لديك بعض من الخبرة أكثر، لأدركتَ ببعض الحساب المتواضع أنَّني أساوي ما لا يقل عن خمسين طالنت. عقدت الدهشة لسان القراصنة المجتمعين، والذين لم يكونوا مُستجدِّين في مهنتهم، بل لقد سمعوا وشاهدوا الكثير إبَّان ممارستهم لها، غير أنَّها المرة الأولى التي يقابلون فيها أسيرًا يضاعف فديته، على الرغم من أنَّ المبلغ المطلوب كان ضخمًا بمقاييس ذلك الزمان.
يجب أن أعترف أنَّ طريقتك في تسوية الأمر قد أعجبتني، ولكنني أحذرك، فإنَّني إذا لم أتسلَّم هذه الخمسين طالنت، فسوف أُطيح برأسك، بهذا أنهى القرصان المساومة.
غادر الركاب سفينتهم إلى الشاطئ، كان عليهم أن ينتظروا تحت الحراسة مبلغ الفدية، في الوقت الذي بعث فيه القراصنة رسلهم إلى أهالي الأَسرى. كان المخبأ الذي يعيش فيه القراصنة يتكون من مجموعةٍ من الأكواخ والأخصاص المختفِّية بين الصخور، بحيث لا يمكن رؤيتها من ناحية الخليج.
لم يجد الخوف طريقًا إلى نفس قيصر، وهو الذي اعتاد حياة الراحة والدعة، من جرَّاء تغيير ظروف الحياة، وهو أمرٌ يتفق وتركيبة شخصيته؛ فقد حاول دائمًا أن يتأقلم مع مثل هذه الظروف. سعى النبيل الشاب للاحتفاظ بقوته وهدوئه النفسي في فترة وجوده في الأَسر معرِّضًا نفسه لنظامٍ قاسٍ، دأب قيصر على الاستحمام كل صباح في مياه الخليج، والقيام بتدريباتٍ رياضية، والقراءة المستمرة في أوقات الفراغ، إلى جانب تدبيجه للخُطب ونظمه للشعر. يُحكى أنَّ هذه الأمور لم تكن تجِد أي اهتمامٍ من جانب القراصنة.
أكسبت السمات الشخصية الخارقة، والسلوك النادر لأَسير، أكسبت قيصر احترامَ ودهشة أعدائه، بينما راح هو يسعى قدر جهده للتعرف عليهم من خلال مراقبته لعاداتهم، ودراسة شخصياتهم. كان يوليوس قيصر ينصت باهتمامٍ إلى قصص مغامرات القراصنة، وكان بدوره يقوم بإلقاء الشعر والخطب البليغة عليهم. كان رد الفعل على هذه الأشعار وتلك الخطب هو الضحك والسخرية، بينما أُصيب بعضٌ من الجمهور بالسأم الذي دفعهم للتثاؤب.
استقبل قيصر كلَّ هذا بهدوءٍ حقيقي ورباطة جأش، وكان في بعض الأحيان يردُّ على تعليقات الجمهور الجارحة بأنَّهم ليسوا في حالةٍ تؤهلهم لتقدير كل ما في فنِّه الخطابي من روعة. وذات يوم ألقى ببعض كلمات دخلت التاريخ، قال القيصر: سيأتي يومٌ تقعون فيه جميعًا في قبضة يدي، كونوا على ثقةٍ بأنِّي سأقوم بصلبكم سواء جزاء ما اقترفتموه من جرائم أو لغبائكم. تذكَّروا ما قلتُه لكم، واعلموا أنِّي امرؤ أُوفي بالعهد.
كان هذا تهديدًا كفيلًا — بالطبع — لأن يثير حنق القراصنة، إلَّا أنَّهم كانوا واثقين من أنفسهم إلى الحد الذي جعلهم يعتبرونه مجرد ذريعة؛ ليضعهم قيصر موضع سخريات جديدة.
عرف قيصر بمجرد وصوله إلى بيرجام أن القاضي يقوم بجولةٍ يتفقَّد فيها المناطق الواقعة تحت إمرته، الأمر الذي اغتمَّ له قيصر كثيرًا؛ إذ إنَّ هذا القاضي كان هو الموظَّف الروماني الوحيد في الإقليم الذي كانت له صلاحيات إصدار أحكام الإعدام، ومن ثَمَّ أمر قيصر بحبس القراصنة وتكبيلهم بالأصفاد وإيداعهم حصن المدينة. أما هو فاتخذ طريقه بحثًا عن القاضي، حتى يتمكن من الوفاء بوعده الذي قطعه على نفسه أمام القراصنة.
في نهاية المطاف وجد قيصر القاضي، لكن الإحباط كان حليفه؛ إذ إنَّ هذا الموظف لم يكن لديه أي ميلٍ لأن ينزل بلصوص البحر عقابًا قاسيًا، عندئذٍ لم يكن أمام قيصر سوى اللجوء للحيلة في محاولةٍ لإقناعه بأن يوكل مساعده، ليقوم بإدانة القراصنة، غير أن القاضي لم يتزحزح عن رأيه قيد أنملةٍ.
ولِمَ هذه العجلة؟ ما إن أعود إلى بيرجان حتى أبحث أمر عقد محاكمةٍ لهم، ولست أرى في مثل هذه الحالة ضرورةً لاتخاذ إجراءات قاسية للعقوبة. سوف يدفع تجار إقليمي الفدية للقراصنة، وفي المقابل لن يقوم القراصنة بالإغارة على سُفنهم.
ولكن الأمر على هذا النحو يكون بمثابة صفقة مع اللصوص. هكذا صاح قيصر باستياء، بينما أجاب القاضي بهدوء: نعم، إنَّها كذلك، لكن الحرب معهم تكلِّف أكثر.
قال قيصر بإصرار: وكيف سيكون الأمر مع هيبة الدولة؟
عندها أعلن القاضي قائلًا: تستطيع الدولة من أجل حفظ السلام والرخاء، أن تسوي بعض المنازعات بالطرق الدبلوماسية، دون أن ينتقص هذا شيئًا من هيبتها.
لم يجد التفسير الذي طرَحه القاضي ترحيبًا من قيصر، الذي بدأ يشك في أنَّ القراصنة قد اشتروا هذا القاضي، وأنَّ هذا الأمر أصبح سمةً مميزة لأصحاب المقامات الرفيعة من الرومان. ودَّع يوليوس قيصر القاضي بعد أن تأكد من فشل مساعيه، وأسرع عائدًا إلى المدينة. لقد قرر أن يضع الموظف الروماني أمام الأمر الواقع عليه، أعلن قيصر أنَّه تلقى تفويضًا خاصًّا من الديكتاتور نفسه بتنفيذ حكم الإعدام، كانت خطوةً غير عادية محفوفة بالمخاطر، وكان من الممكن أن تكلِّفه حياته.
بِناءً على أمر النبيل الروماني تم إعدام جميع القراصنة الثلاثمائة والخمسين. أمَّا الثلاثون رئيسًا فقد جرى صلبهم. وقد ظهر قيصر نفسه في المكان الذي جرت فيه مراسم الإعدام، ليلقي مرةً أخرى وأخيرة خطابًا أمام جمهوره من القراصنة، بدأه بقوله: لقد قررتُ أن أكون متسامحًا معكم للمعاملة الطيبة التي أبديتموها نحوي إبَّان أَسري، لقد راودني إحساسٌ كريه بأنَّكم سوف تعتبرونني — وأنتم تفارقون الحياة — إنسانًا قاسيًا؛ ولهذا قررتُ إعدامكم قبل صلبكم.
انتهى الإعدام، وواصل قيصر رحلته إلى جزيرة رودس، وكأنَّ شيئًا لم يكن، ونجح في الالتحاق في الوقت المناسب بمدرسة البلاغة العظيمة التي أنشأها أبولوني.
بفضل ما صنعه بومبي وقيصر، تخلَّصت شعوب البحر الأبيض المتوسط بعض الوقت من شرور القراصنة، غير أنَّه — وبعد الموت المأساوي لقيصر في الخامس عشر من مارس عام (٤٤) قبل الميلاد — عاد القراصنة يطلون برءوسهم من جديد، كانوا يزدادون جرأةً وقوة، كلما تراخت قبضة الإمبراطور الجالس على عرش روما، وقد استمر هذا الوضع حتى سقوط الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس الميلادي.