قراصنة بحار الشمال
بسقوط الإمبراطورية الرومانية انهارت التجارة البحرية، الأمر الذي أدى إلى اختفاء القرصنة، على أنَّها عاودت الظهور لفترةٍ أخرى قصيرة، وذلك عندما أخذت التجارة في العصور الوسطى في الانتعاش. وبعودة التجارة، عاد النهب البحري سيرته الأولى، هكذا أصبح من الواضح أنَّ تطور الملاحة البحرية والعمليات التجارية في البحر كانا يمثِّلان المقدمة الحتمية لوجود القرصنة. لقد تطور النهب البحري بشكلٍ مميز في العصور الوسطى، وخاصةً في أحواض بحار الشمال؛ البلطيق، وبحر الشمال، ومضيق المانش، حيث كانت تمر بها أهم الطرق التجارية.
إنَّ الصلة المذكورة بين تجارة العصور الوسطى والنهب البحري — أي بين التجارة البحرية والقرصنة — يتطلب مزيدًا من إلقاء الضوء عليه.
بادئ ذي بدءٍ، تجدر الإشارة إلى أنَّ التجارة في العصور الوسطى، وخصوصًا في مطلع هذه العصور، كانت ذات طابع يختلف تمامًا عمَّا هو معروفٌ لدينا اليوم. كان النهب يشكل العنصر الرئيس فيها؛ فتجَّار العصور الوسطى كانوا يلجئون إلى السطو والسرقة، سواء أكان ذلك في البر أم في البحر. في ظروفٍ مثل هذه كان جلْب البضائع وتوصيلها إلى المكان المطلوب يتطلب الحراسة الكافية.
كان قرصان العصور الوسطى يتعامل مع النهب بالطريقة نفسها، التي أصبح التاجر فيما بعدُ يتعامل بها، ليتمكن من الحصول على مختلف البضائع مقابل مبلغٍ معين يدفعه. من الطبيعي أنَّ هؤلاء التجار الذين كانوا يتعرضون للهجوم، كانوا يُبدون المقاومة، كان التجار يدافعون عن أنفسهم ضد اللصوص، على أنَّهم كانوا يقومون هم أنفسهم — عندما تتاح لهم الفرصة — لسرقة رفاق مهنتهم دون وخزٍ من ضمير، بل كثيرًا ما كان سكان الحضر يتعرَّضون للسطو على ممتلكاتهم. وهكذا فقد كان كل تاجر في العصور الوسطى لصًّا بدرجةٍ أو بأخرى، يمارس حرفته — سواء في البحر أو على البر — تبعًا للطرق التي تسير فيها التجارة، وفي الوقت نفسه، وعلى النقيض من ذلك، كان كل قرصان يمارس التجارة بدرجةٍ أو بأخرى.
وبمرور الوقت لجأ بعض التجار — سعيًا منهم لحماية مصالحهم التجارية — من أجل منافسةٍ ناجحة إلى الاتحاد معًا في منظماتٍ تجارية تنامت، حتى أصبحت أحلافًا ضخمة، كان له دورٌ سياسي ضخم بعيد جدًّا عن حدود نشاطها التجاري نفسه، في عام ١٢٤١م تأسست شركة هانزا الألمانية لتكون أكبر هذه المنظمات، واستهدفت بصفةٍ خاصة محاربة النهب البحري، على أنَّه سرعان ما أصبحت الشركة نفسها مركزًا للقرصنة، وفقًا لتقاليد العصور الوسطى الراسخة.
الفايكنج
وقد تعرَّض تصميم هذه المراكب في الفترة ما بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر إلى تعديلاتٍ جوهرية؛ ولهذا كان عليها أن تقوم بنقل البضائع والناس، وأن تقوم بمهام السفن القتالية التي يمتلكها التجار القراصنة. أصاب التغيير أيضًا الخطوط الخارجية لهذه السفن، التي أصبح لمقدمها ومؤخرتها المرتفعين عن الماء شكل مميز؛ فقد جرى إقامة مقصورة أعلى مؤخرتها، كانت تستخدم لإقامة الركَّاب. وهذه الوظيفة كان يقوم بها سطح مقدم السفينة أيضًا، ومن ثَم فإنَّ مقدم السفينة المرتفع بدوره كان يعمل على تسهيل الملاحة خلال الأمواج العالية. أمَّا أرضية الدور الموجود أسفل السطح فقد كانت تستخدم كمخزنٍ للبضائع. كانت السفن التجارية التي ظهرت فيما بعد تسير ببطءٍ وهدوء، يختلف نسبيًّا عن زوارق الفايكنج الأسرع والأكثر قدرة على المناورة.
لا شك أنَّ الإسكندنافيين يتذكرون بفخرٍ أسلافهم النورمانديين الفايكنج، على الرغم من أنَّهم كانوا يمارسون مهنةً تعد في زماننا مشينة ألا وهي القرصنة، على أنَّ الناس في مطلع العصور الوسطى عندما بدأ النورمانديون نشاطهم في السرقة، كانوا ينظرون إلى هذه المهنة بشكلٍ يختلف عمَّا ننظر نحن بها إليها الآن.
لقد دفعت ظروف الحياة الصعبة في شبه جزيرة إسكندنافيا السكَّان إلى السطو على أراضي الغير. لم تكن شبه الجزيرة بجبالها الكثيرة وغاباتها ومناخها القاسي، لتوفر سُبل الحياة الضرورية للسكان الذين كانوا يزدادون بسرعةٍ، والذين أخذوا لهذا السبب في الهجرة في اتجاهاتٍ مختلفة بحثًا عن ظروفٍ أفضل. فعلى سبيل المثال: أخذ السويديون الذين كانت الشعوب الشرقية تسميهم بالورنكيين (نسبة إلى قبائل الورنك الإسكندنافية القديمة) في الهجرة باتجاه الشرق نحو مناطق خلجان فنلندا وريجا. كما اتجهوا أيضًا إلى السواحل الجنوبية لبحر البلطيق، أمَّا النرويجيون (كانوا يسمون في العصور الوسطى بالنورمانديين) الذين كانوا يسكنون الجزء الغربي من شبه الجزيرة؛ فقد اتجهوا غربًا باتجاه جزر بحر الشمال، فايرون، شتلاند، أوركني، هيبردس، وأيضًا في اتجاه أسكوتلاندا وأيرلندا.
أبحر النورمانديون مستخدمين سفنًا صغيرة ليست في الحقيقة سوى زوارق كبيرة غير ذات أسطح. كانت هذه السفن تعتمد على شراعٍ وحيد، وعندما تندر الريح يتم استخدام المجاديف. كان الملاحون النورمانديون مقاتلين محنكين، كانوا يُثبِّتون على جانبي الزوارق دروعًا مستديرة تزينها الشعارات، مهمتها حماية المجاديف الموجودة على امتداد جوانب السفينة. كذلك كان مقدم السفينة ومؤخرها المقوسان يبدوان كما لو كانا يندفعان إلى أعلى تزينهما تماثيلُ مخيفة، تصوِّر رءوس التنين. وكانت تُعد بمثابة علامات مميزة، إلى جانب أنها استهدفت بث الرعب في قلوب الأعداء عند مهاجمتهم. كانت زوارق النورمانديين تتسع تبعًا لأحجامها من أربعين إلى ستين شخصًا، بما في ذلك المؤن الضرورية للإيجار لمدةٍ طويلة، وكان النورمانديون يقومون بالإبحار على ظهر هذه السفن البدائية نسبيًّا في غالب الأحوال بمحاذاة الساحل؛ إذ لم يكونوا يخرجون إلى البحر إلَّا عند الضرورة القصوى.
على رأس الحملات النورماندية، ظل القادة يُختارون من الفايكنج. كان هناك بضع عشرات من العاملين تحت رئاسة الفايكنج، وكثيرًا ما كانوا يَصلون إلى بضع مئات إبَّان الحملات المكثَّفة، بمرور الوقت أصبحت جماعات قطَّاع الطرق البحرية من النورمانديين الذين هاجموا البلاد الأوروبية الواقعة على ساحل البحر، وشواطئ الأنهار في الفترة ما بين القرنين الثامن والحادي عشر، يُعرفون باسم الفايكنج، وأصبحت هذه الفترة من تاريخ إسكندنافيا تُسمى بعصر الفايكنج.
في البداية اتخذت حملات النورمانديين طابع السَّطو، فكان الفايكنج يظهرون فجأةً على ظهر زوارقهم السريعة، ثم يغادرونها إلى الشاطئ، وإلى أن تأخذ السلطات المحلية في التأهُّب لرد الهجوم يكون هؤلاء قد دمَّروا البلدة. كان الفايكنج يعودون بنفس السرعة التي ظهروا بها محمِّلين زوارقهم بالغنائم التي نهبوها، على أنَّ القرصنة لم تكن حرفتهم الوحيدة، فوفقًا للعادات التي سادت في العصور الوسطى كان الفايكنج يعملون في الوقت نفسه تجارًا، وكان لهم في هذا الشأن باعٌ طويل. قام الفايكنج أيضًا بغزوات سطوٍ على البلاد السلافية؛ من خلال المناطق التي كانت تقطعها الطرق التجارية المؤدية إلى الشرق وخاصةً إلى بيزنطة وبغداد. وقد قاموا أيضًا بنهب التجار القادمين من الشرق حاملين بضائعهم الثمينة في طريقهم بها إلى غرب أوروبا عبر الأراضي السلافية.
وقد ورد ذكر غارات النورمانديين في المصادر الإفرنجية، التي تعود إلى نهاية القرن الثامن، على أنَّه حتى في هذا الزمن لم يكن النورمانديون قد بلَغوا من الأهمية هذا القدر الذي بلغوه في القرن التاسع وما تلاه، عندما أصبحوا أكثر عدوانيةً. ويرجع ذلك بصفةٍ أساسية إلى تضخُّم عدد سكان شبه جزيرة إسكندنافيا التي بدا أنَّه ليس في مقدورها أن توفِّر الطعام لسكانها.
بعد أن دان للفايكنج مصب نهر الراين أخذوا في التحرك بزوارقهم نحو المنبع، ناشرين الرعب والفزع في قلب كل مَن قابلوه، وفي مايو عام ٨٤١م ظهروا عند مصب نهر سينا، واستولوا على ميناء روان. في الوقت نفسه قامت وحداتٌ أخرى بأعمال النهب على الساحل الجنوبي الشرقي لإنجلترا. وفي العام التالي دمر النورمانديون كفنتوفيك أكبر المواني على مصب نهر كانش.
ظلَّ النورمانديون زمنًا طويلًا يرحلون من بلادهم في الشمال كل عام، متجهين جنوبًا صيفًا وربيعًا فقط، ليعودوا في وقت العواصف الخريفية والرياح الباردة إلى إسكندنافيا، كان هذا هو تكتيكهم، على أنَّ مصبَّ اللوار الذي اختاره النورمانديون، ليكون بمثابة هدف لقرصنتهم قد بدأ بعيدًا جدًّا عن يوتلانديا وإسكندنافيا، الأمر الذي جعل من القيام سنويًّا بمثل هذه الرحلة البحرية الطويلة والمحفوفة بالمخاطر أمرًا لا معنى له. ولمَّا كان النورمانديون مقتنعين بأنَّ الفرنكيين لا يشكلون عقبةً بالنسبة لهم، أنشئُوا قاعدةً فوق جزيرة نوارموت الصغيرة القائمة عند مصب اللوار، ومن هناك كانوا يقومون بغاراتهم في اتجاه أعالي النهر، حوَّل النورمانديون معسكرهم الحصين في هذه الجزيرة بمرور الوقت إلى قلعةٍ حقيقية، بحيث لا يتمكن الفرنكيون الذين لا يملكون أسطولًا من التغلُّب عليه.
بحلول صيف ٨٤٤م، اندفع النورمانديون من جديدٍ بعد أن قضوا شتاءهم في نوارموت إلى الجنوب، فوصلوا مصبَّ نهر جارون، ثم واصلوا إبحارهم في اتجاه المنبع، وكانوا يحرقون وينهبون كل البلدان والكنائس التي تقابلهم عدا بوردو التي استطاعت أن تصد الغزاة. في العام نفسه ظهر النورمانديون عند شواطئ إسبانيا، ثم توغَّلوا حتى وصلوا إلى نهر جواد لكفيفر، وعبر هذا النهر ساروا، حتى وصلوا إلى مدخل ميناء سيفيليا، في العام التالي ازداد نشاط وحدات النورمانديين الشمالية، فنهبوا وأحرقوا هامبورج، ثم هاجموا منابع إلبا، ولمَّا لم يجدوا أية مقاومة تُذكر، قاموا بالإغارة على فريزيا، في الوقت الذي وصلت فيه مجموعةٌ أخرى من القراصنة على زوارقها حتى منابع نهر السين، وقامت في التاسع والعشرين من مارس عام ٨٤٥م بإحراق باريس.
وقد شارك في احتلال هذه الأراضي الخاضعة أناسٌ ينحدرون من أصولٍ دنماركية، وكانوا يُسمون أيضًا بالنورمانديين. وهؤلاء كانوا قد تركوا الدنمارك بعد انتهاء الحرب الأهلية، واستوطنوا في حوالي عام ٨٥٠م المناطق المحيطة بأنهار اللوار والسين والتايمز، وأسسوا في الجزر المبعثرة عند مصباتها معسكراتٍ قوية، جلبوا إليها عائلاتهم من يوتلانديا. لم يكن الاستعمار يعني بالنسبة للفايكنج التوقف عن ممارسة السلب؛ فقد كانوا يتركون أماكن سُكناهم الجديدة مُوغِلين في عمق بلاد الفرنكيين مُيمِّمين صوب الجنوب، إذا كان النورمانديون حتى ذلك الحين يتحركون بشكلٍ ثابت تقريبًا بمحاذاة شواطئ البحار والأنهار، فإنَّهم الآن أخذوا أكثر فأكثر يستبدلون الخيل بالزوارق.
أصبح النضال ضد النورمانديين أمرًا بالغ الصعوبة؛ لما تميزوا به من قدرةٍ على المناورة، وسرعة الحركة، والتفوق على صفحة البحر؛ فقد أخذ السكان الذين تملكهم الرعب، في الهرب باحثين عن ملجأٍ لهم في الغابات والجبال؛ لتعصمهم تاركين وراءهم المسكن والأرض. أمَّا الحكام المستضعفون الذين لم تكن لديهم القدرة على التغلُّب على النورمانديين؛ فغالبًا ما كانوا يدفعون للغازي الفدية التي كانت تشكل عبئًا ثقيلًا على الرعايا، مما دفع بالسكان إلى اللجوء أكثر فأكثر إلى الدفاع عن أنفسهم ذاتيًّا.
كان الفايكنج أحيانًا ما يتركون بعض المناطق في هدوءٍ نسبي، ففي عام ٨٥٩م مثلًا غادروا وكرًا للقراصنة يقع عند مصبِّ نهر اللوار؛ إذ إنَّ ما قاموا به من أعمال النهب والقتل في هذه المناطق لم يدَعْ لهم شيئًا يستولون عليه، فاتجهوا جنوبًا. وفي طريقهم عاثوا فسادًا على شواطئ إسبانيا وأفريقيا، وتعرضت جزر باليار في البحر الأبيض المتوسط لعدوانهم إلى أن توقفوا على ساحل فرنسا الجنوبي، حيث دلتا نهر الرون لقضاء الشتاء به. مرةً أخرى عاد الفايكنج في ربيع عام ٨٦٠م لمواصلة التحرك، بعد أن قاموا بنهب إقليم البروفانس (جنوب شرقي فرنسا)، واكتسحوا شواطئ شبه جزيرة أبنين، وقد تمكَّنوا بالخداع من الاستيلاء على مدينة بيزا (في وسط إيطاليا)، والتي أصبحت منذ ذلك الحين نقطة انطلاق جديدة لحملاتهم إلى توسكانا، وفي عام ٨٦١م يعود الفايكنج إلى ملجئهم عند مصب اللوار.
لقد أتاح التفتت السياسي لبريطانيا آفاقًا جديدة أمام النورمانديين، الذين كان اهتمامهم بأوروبا قد فتر لبعض الوقت، إذ بدءُوا في الهجوم على إنجلترا من جهة الشمال، وفي عام ٨٦٦م، نزل القراصنة في خليج هامبر، وسرعان ما أثمرت تحركاتهم عن احتلال جزءٍ كبير من الجزيرة.
إنَّ الجزء الأكبر من الشواهد التاريخية الخاصة بالفايكنج تواترت إلينا من خلال الشعوب التي وقعت ضحيةً لهم، وليس من المستغرَب أن تشغل العنف والتعسف والقسوة، التي ارتكبها — بلا شك — الغزاة والقراصنة المكان البارز فيها. على أن الشواهد الخاصة بالتنظيم الداخلي للفايكنج ظلت قابعةً في زوايا النسيان، لقد كشفت أحدث الأبحاث التي جرت بموضوعيةٍ أن الفايكنج لم يكونوا مجرد قوة مدمرة عمياء، كما صوَّرهم مؤرخو عصر الإقطاعيين المتحيزين.
حقيقةً كان الفايكنج قُساة طغاة، غير أنَّهم في الوقت نفسه استطاعوا إقامة مجتمع متميز للقراصنة، مجتمع له ثقافته الأصيلة. كان الفايكنج يقومون بعقاب مَن يسرق، أو يلجأ للعنف داخل مجتمعهم الخاص، وكان الخداع إبان اقتسام الغنائم يُعَد جريمةً كبرى، كما كان الموت عقوبةً الخيانة والفرار من الخدمة، وهي عقوبة لم يكن المذنب فيها يستطيع أن يأمل في رحمةٍ أو عفو.
لقد ترك الفايكنج ذكريات دموية عنهم في تاريخ العديد من الشعوب الأوروبية، في نفس الوقت الذي كانوا متحمِّسين فيه لإقامة العدل فيما بينهم.
قراصنة بحر البلطيق
في مستهلِّ العصور الوسطى أبحرت العديد من السفن من مختلف البلاد عبر بحر البلطيق، ولم يكن البحر ينقصه القراصنة.
على أنَّ الغلبة في مياه البلطيق لم تكن من نصيب الفريزيين؛ فهؤلاء سرعان ما أُزيحوا بواسطة الفايكنج الذين سبق الحديث عنهم، وكذلك من جانب القراصنة المحليين من السلافيين، والكورنثيين، والآستونيين.
لم يكن من قبيل الصدفة أن تصاعدَت أعمال القرصنة في بحر البلطيق في الفترة ما بين القرنين التاسع والحادي عشر؛ إذ إن هذه الفترة بالذات شهدت نهضةً وانتعاشًا اقتصاديَّين في بلدان بحر البلطيق، كما شهدت نموًّا في حركة التجارة. وبالتالي في العلاقات بين هذه البلدان وباقي المناطق الأوروبية الأخرى، في هذه البقاع، كان هناك ما يمكن التجارة فيه، وأيضًا ما يُغري بالسرقة.
لقد ظهرت حول سواحل البلطيق في مطلع العصور الوسطى أول دولةٍ إسكندنافية وسلافية، تلك الدول التي ما لبث التنافس أن دبَّ بينها من أجل فرض السيادة على البحر. وإذا كان الصراع فيما مضى يدور بين جماعاتٍ من التجار القراصنة؛ فإنَّه سرعان ما تحوَّل إلى منافسةٍ صريحة بين ملوك كلٍّ من الدول الإسكندنافية والسلافية من أجل الهدف ذاته، وازداد لجوء ملوك هذه الدول لاستغلال القراصنة لأغراضهم السياسية الخاصة.
لقد خاضت الدول الدنماركية نضالًا لا هوادة فيه ضد قراصنة البلطيق، وعلى الرغم من أنَّ ملوك الدنمارك قد تمكَّنوا بمرور الوقت من فرض تفوُّقهم؛ فإنَّ موانيهم ظلت — حتى في القرن الثاني عشر — تتعرض لمتاعبَ من قِبل القراصنة.
لم يكتفِ السلافيون بالاستيلاء على الأسطول الرابض في الميناء، وإنَّما فرضوا سيطرتهم أيضًا على الشاطئ، ثم ما لبثت هذه السيطرة أن امتدت لتشمل المدينة بأَسرها. والحقيقة فإنَّ سكان كونونجهال استطاعوا إبان انسحابهم نحو الجزء الحصين من المدينة، أن يُنزلوا بالمُغيرين ضرباتٍ مؤثرةً، بعد أن قتلوا لهم حوالي مائتين وأربعين رجلًا. أمَّا المغيرون فقد أعملوا النهب في السفن وفي المدينة، ثم أضرموا النار في كل شيءٍ يمكن أن يشتعل، وجَّه راتيبور إنذارًا إلى المدافعين عن كونونجهال، طالبهم فيه بالاستسلام ومغادرة القلعة سالمين، ولما رفضوا الانصياع للإنذار، بدأ الحصار الطويل المُضني.
قام المدافعون بصد الهجمات الضارية، وتزايدت خسائر السلافيين، وأخذ محاربوهم شيئًا فشيئًا، يقعون فريسةً لليأس. وعندما أصبح السلافيون مستعدين لوقف هجومهم والتخلي عن المدينة، استطاع القائد العسكري أونيبور أن يُقنع جنوده بأن يهاجموا القلعة مرةً أخرى … أظهر الانقضاض الجديد أنَّ المحاصرين باتوا ضعافًا بشكلٍ واضح، وأنَّ ذخيرتهم قاربت على النفاد. لقد أصبحوا الآن يردون على المهاجمين بالأحجار والعِصي فقط، وهذه لم تكن تسبب أذًى يُذكر بعدما كانوا يردون على الهجمات الأولى بوابلٍ من السهام والرماح. واصل السلافيون حصارهم، ولما رأى سكان كونونجهال ما هم فيه من وضعٍ يائس، قرروا أخيرًا تسليم القلعة والاعتماد على عفو المنتصرين.
لقد أخطأ مَن في القلعة الحساب، لقد دُمرت قلعتهم تمامًا ثم أُحرقت، بل إنَّ المعتدين قاموا بإحراق بعض المباني مرات أربع، كانوا حريصين على التأكد من أنَّ هذا الصرح قد تم إحراقه لآخر حجر فيه. سيق السكان الذين لم تكُن إليهم حاجة؛ ليُقتلوا، وجرى تقسيم الباقين بين الجنود، وحُملوا إلى الجنوب بوصفهم أرقَّاء.
حلف الهانزا وجماعة الإخوة الفيتاليين
كانت طرق أوروبا البرية في القرن الثالث عشر مليئةً بقطَّاع الطرق، بينما ازدحم البحر بالقراصنة؛ ولهذا فإنَّ نقاط الاتفاق التي تعرضت للأعمال المشتركة بين المدينتين ضد الأعداء المشتركين، ولتأمين الملاحة، كانت ذات أهمية عملية جوهرية.
قدَّم النضال المشترك للحلفاء فائدةً كبرى؛ إذ سهَّل عليهم سُبل التجارة البرية والبحرية غيرهم من الدول. على أنَّ هؤلاء الحلفاء أنفسهم كانوا في ذات الوقت يتنافسون فيما بينهم تنافسًا تجاريًّا شديدًا، مصارعين بعضهم البعض بكل الوسائل التي كان الأخذ بها مقبولًا آنذاك، بما فيها السطو، على الرغم من مثل هذه الخلافات الداخلية؛ فقد اعترفت بعض المدن بأنَّ قيامها — إذا لزم الأمر — بأعمالٍ موحدة يظهرون فيها على المناطق الساحلية لأوروبا الشمالية، سوف يجلب عليهم، كحلفاء، مكاسبَ محددةً. على هذا لم يكن غريبًا أن نتوقَّع لويبك في نفس عام ١٢٤١م معاهدةَ صداقةٍ وتعاونٍ مشترك مع مدينة زيست، ومعاهدة شبيهة في عام ١٢٥٩م مع أقرب موانئ البلطيق إليها؛ روستوك، وفيسمار، وقبل ذلك بقليل، في عام ١٢٥٣م، قامت بعض المدن التي مارست التجارة مع جزيرة جونلاند بعمل حلفٍ يجمعهما ببعضهم البعض؛ مثل: براونشفايج وشتادي، كولن، وبريمن، بريمن وهامبورج، مونسة ودوتموند، زيست وليبي، بهدف النضال من أجل سلامة التجارة. وهكذا فإنَّ كل مدينة من المدن المذكورة كانت مرتبطةً بالمدن الأخرى، إما مباشرةً وإما من خلال حليفٍ لها.
بحلول نهاية القرن الثالث عشر، بدأ حلفاءُ آخرون ومدن متفرقة، تقع جميعها في أحواض بحري الشمال والبلطيق، في الانضمام إلى حِلف الهانزا الذي ترأسته مدينة لويبك. وفي عام ١٢٩٣م قررت أربع وعشرون مدينة من مدن شمال أوروبا العمل بشكلٍ جماعي لمعالجة قضايا السياسة التجارية، وكانوا يلجئون إلى عقد جمعية عامة في حالة نشوب خلافات بينهم، ومن وقتٍ لآخر — وفقًا للاعتبارات السياسية والتجارية — كانت بعض مدن الدول الأعضاء في حلف الهانزا، تنظم مؤتمراتٍ لحل الخصومات ووضع سياسة الحِلف في المستقبل، أخذ عدد أعضاء الهانزا في التزايد المستمر، وقد بلغ عدد الموقِّعين على الوثيقة التي أعلنت بموجبها الحرب على فولدمار، ملك الدنمارك في عام ١٣٦٧م، سبعة وسبعون موقعًا يمثلون مختلف المدن.
لقد كان لإنشاء الهانزا أثره في فتْح صفحةٍ حافلة بالأحداث في تاريخ النضال بين المدن المتحالفة وقراصنة بحر الشمال. في أول الأمر حقَّقت الهانزا نجاحاتٍ مهمةً، على أنَّه — وبمرور الوقت — أصبحت هي نفسها عامل بعْث للقرصنة؛ فكثيرًا ما كان بحارة السفن المنتمية للهانزا والمنوطين بمهمة محاربة القراصنة، ما يقعون تحت إغراء الثروة التي يتمتَّع بها لصوص البحر، فيهرعون للانضمام إليهم بدلًا من مقاومتهم.
سنجد — إذا ما تتبعنا التقاليد البعيدة لقراصنة البلطيق والفايكنج — أنَّ جماعة الفيتاليين قد التزموا داخل منظَّماتهم بنظامٍ حديدي، ولم يكن بينهم من نساءٍ سوى الأسيرات. كانت الربابنة القراصنة يطلبون من بحَّارتهم الخضوع المطلق، ولم يكن سوى الموت شنقًا عقابًا على مخالفة أوامرهم، وفي جزيرة جوتلاند — التي كانت واقعةً تحت سيطرة «الإخوان الفيتاليين» — كان مركز أركان القراصنة. هنا كان يتم الاحتفاظ بالغنائم، وهنا أيضًا كان يجري تقسيمها بين القراصنة الذين تميَّزوا إبان الحملات. وهذه الجزيرة كانت تمثل قاعدة لجميع أساطيل القرصنة، وكان سكانها يُجبرون أحيانًا على دفع الفدية، وإن كان مقدارها معتدلًا نسبيًّا، إذ إنَّ جميع الأشياء ذات الضرورة الأولى وثروات الفيتاليين قد تم الحصول عليها بالاستيلاء على السفن في البحر، وبالغارات على المدن الساحلية، وعلى هذا فالفيتاليون — مثلهم في هذا مثل جميع قراصنة ذلك الزمان — كانوا يعملون بالتجارة إلى جانب حرفتهم الأصلية، فكانوا يتاجرون بالممتلكات التي سرقوها، وكانوا أحيانًا ما يبيعونها حتى في تلك الأماكن التي كان مُلَّاكها الشرعيون بصدَد بيعها فيها.
لم يقف الأمر عند حد فشل سفن الهانزا في القبض على شتيورتيبيكر الذي تميَّز بمواهبَ بحريةٍ وعسكريةٍ فذَّةٍ، بل وصل الأمر إلى أنه أصبح يسبب المضايقات بصورةٍ متقنة للسفن التجارية، كان رجلًا قاسيًا لا تأخذه شفقةٌ، وخاصةً تجاه مَن يقعون في قبضته من ممثِّلي النبيل حاكم المدن الفندية، لما بينه وبينهم من ثأرٍ قديم.
على أنَّ كلاوس شتيورتيبيكر قد دخل التاريخ، لا بسبب ما ارتكبه من أعمال الاغتصاب والقرصنة، ولكن بفضل نشاطه السياسي. وقد أُتيحت له الفرصة لذلك في عام ١٣٨٩م عندما اشتد الصراع في السويد على العرش؛ فقد سقط هناك الملك ألبريخت (الذي لم يكن يتمتع بأي قدرٍ من الشعبية وسط الإقطاعيين في ألمانيا) في أَسْر الملكة مرجريتا ملكة الدنمارك، والنرويج لم يبقَ على ولائه للملك في تلك الحرب سوى حامية استوكهولم التي أبدت مقاومةً شديدة ضد الدنماركيين. كان الألمان آنذاك يُشكلون الغالبية بين سكان استوكهولم، وعلى عكس الملكة مرجريتا فقد عضد الملك آبريخت التجار الألمان في السويد، ولو كان الدنماركيون قد استطاعوا الاستيلاء على استوكهولم لزالت مميزات التجار الألمان، الأمر الذي كان سيؤدي بدوره إلى خلخلة توازن القوى في البلطيق، ولأنزل هذا بالهانزا ضربةً قاصمة. لقد أرسل المدافعون عن استوكهولم — الذين أوقفوا بصعوبةٍ بالغة من تفوق عددهم، عددًا وعدة — إلى الهانزا رسائلَ يائسةً يطلبون فيها منها المساعدة. وفي هذا الموقف ولَّت لويبك وجهها — ويا للعجب — نحو القراصنة الهولنديين.
وافق شتيورتيبيكر على تقديم العون لألمان استوكهولم وللهانزا، ومن ثَم شرع في اتخاذ العمليات الحربية ضد الدنماركيين معتمدًا في ذلك على أُسطوله. لم يكن باستطاعة شتيورتيبيكر أن يقف في وجه السفن الحربية الدنماركية الجيدة التسليح في معركةٍ مفتوحة، في الوقت الذي كان كل ما يملكه لا يزيد عن عددٍ من السفن الصغيرة الخفيفة، فقرَّر أن يبحث عن وسيلةٍ أخرى يساعد بها المحاصرين. لم تفلح عملية اقتحام المدينة، وتحوَّل الدنماركيون إلى فرض الحصار في محاولةٍ لتجويع المدافعين لإجبارهم على الاستسلام. وها هم قد أصبحوا قاب قوسين أو أدنى من تحقيق هدفهم، بعد أن قطعوا طرق توصيل المؤن من ناحيتي البر والبحر. لقد أصبح واضحًا للعيان أن لا عاصم للمحاصرين مما هم فيه سوى أعمالٍ تتسم بالسرعة والحسم.
كان للمآثر البطولية التي اقترحها الفيتاليون، وكذلك كونهم من الدهماء الذين رفعوا شعار العدالة الاجتماعية، وقاتلوا تحت رايته، أثره في أن حصلت جماعتهم على التعاطف والشعبية بين البسطاء من أبناء مدن حِلف الهانزا، أفضل دليل على ذلك ما أسفر عنه هجوم القراصنة على فيسمار. لقد عقد شتيورتيبيكر ورفيقه جوديكي ميخلس العزمَ على اتخاذ خطوة بدت متهورةً، وهي الهجوم على ميناء فيسمار في محاولةٍ منهما لفكِّ أَسر عدد من أنصارهم، وتوفير المؤن للشتاء. صحيحٌ أنَّ مجلس المدينة — الذي بُوغت بالهجوم المفاجئ — قد تمكَّن من الاستنجاد بمدن الهانزا الأخرى، ولكن ذلك جاء بعدما نجح جيش الفيتاليين المنتصر في مهمته، وأوغل مبتعدًا في البحر. لم يكن الفيتاليون ليتمكنوا من تنفيذ هذه الخطة المتهورة، لولا أنَّ مواطني فيسمار البسطاء، الذين كانوا يكنون العداء لنبلاء مدينتهم، قدَّموا المعونة في هذه العميلة لأبطال ستوكهولم الأسطوريين.
نفس الدور لعبته مؤازرة عامة الشعب عند فتح الفيتاليين عام ١٣٩٢م لمدينة برجن مركز النرويج التجاري آنذاك؛ فقد استولى القراصنة على الإدارة المحلية للهانزا، وأضرموا فيها النيران، وقاموا إبان عمليتهم هذه بأَسر العديد من وجهاء برجن، ثم طالبوا بفديةٍ ضخمة مقابل إطلاق سراحهم.
أصبح الوضع السياسي للفيتاليين في أواخر القرن الرابع عشر، ومستهَل القرن الخامس عشر، وضعًا يتسم بالازدواجية إلى حدٍّ كبير. فمن ناحية قام الفيتاليون بالوقوف ضد النظام الاجتماعي السائد بمحاربتهم للدوائر الحاكمة في المدن، أعضاء حِلف الهانزا النبيل ومجالس المدن. ومن ناحيةٍ أخرى قاموا مرات عدة، كما حدث في استوكهولم، بالعمل في خدمة هذه المدينة أو تلك ضد أعدائها، ومن ثَم فكثيرًا ما كانوا يدخلون في حربٍ ضد مدينةٍ أخرى من مدن الهانزا، كانت منافسة في الوقت نفسه لأعدائهم. وهكذا كان الفيتاليون يتصرفون في أوقاتٍ عِدة بوصفهم مرتزقة مأجورين، يعملون في خدمة نفس هذا النبيل الذين كانوا يعدونه عدوهم الرئيس.
إنَّ هذا الوضع — المتناقض للوهلة الأولى — انعكس بصفةٍ خاصة في نصوص عدد من محاضر وقرارات الهانزا. وقد حدث مرارًا أن اتخذ مؤتمر حِلف الهانزا قرارات بالقيام بعملياتٍ عسكرية، كان من الضروري أن تُستخدم فيها القراصنة إلى جانب الهانزا علنًا بشكلٍ أو بآخر، في الوقت الذي يتخذ فيه نفس المؤتمر قرارًا آخر باستئصال شأفة القراصنة في بحر البلطيق، ومن بينهم خاصةً الفيتاليين؛ وذلك لأنَّ تُجار الهانزا، الذين كانوا لا يستنكفون أحيانًا عن القيام بسرقة، كانوا يميلون في سياستهم إلى ممارسة تجارة دولية ضخمة؛ ولهذا سعَوا لإزالة كل العوائق — بقدر الإمكان — من أمام هذه التجارة.
على الرغم من القرار الذي اتخذه حلف الهانزا بالقضاء على الفيتاليين دون هوادةٍ ولا رحمةٍ، فقد اتسع نشاط القراصنة، وبمرور الوقت بلغ هذا النشاط إلى حدِّ أنَّه لم تكن هناك سفينةٌ يمكنها المرور عبر المضيق الدنماركي، والخروج من البلطيق إلى بحر الشمال أو العكس، إلَّا بعد أن تدفع الإتاوة للفيتاليين. بعد إحراق مدينة برجن، أخذ القراصنة في نهب كل مَن يعترضهم، حتى أولئك الصيادين الذين كانوا يصطادون الأسماك من بحر الشمال لتمليحها، نتيجة لكل ذلك توقَّفت الملاحة التجارية فضلًا عن صيد السمك.
أصبح هذا الوضع يمثِّل تهديدًا لوجود الدولة المطلَّة على أحواض بحرَي البلطيق والشمال، عندئذٍ قررت تلك الدول أن توحِّد قواها حتى تضع من أجل مصالحها المشتركة نهايةً للنهب البحري. على أنَّ أول حملة وُجهت للقراصنة، تحت قيادة الملكة مارجريتا والملك ريتشارد الثاني ملك إنجلترا، مُنيت بالفشل. اشتد ضيق الهانزا أيضًا من القراصنة؛ فالخسائر التجارية التي ألحقها النهب البحري بمُدنه لم تعوضها الخدمات التي أداها له القراصنة، تلت الحملةَ الأولى حملةٌ أخرى في عام ١٣٩٤م أعدتها هذه المرة مدن الهانزا، واشتركت فيها خمس وثلاثون سفينة حربية، وثلاثة آلاف نبيل، إلَّا أنَّها لم تأتِ هي الأخرى بالنتائج المرجوة.
بمرور الوقت أخذ تناسب القوى في منطقة بحر البلطيق والدول المطلة عليه يتغير لصالح الفيتاليين. ولما كانت الملكة مرجريتا لا تملك إمكانية تسوية أمورها مع القرصنة، فقد توجهت بطلب العون من كونرادفون بونجينجين بطل جماعة الصليبيين، كانت هذه الجماعة آنذاك في قمة قوتها، وكان قد تم بناء جيش محكم وأسطول ذي بأسٍ شديد.
لم يُكتب ولو لزورقٍ واحد من الزوارق التي اشترك بها القراصنة في المعركة النجاة، ثم أُسِر خمسون رجلًا، وجرى الاستيلاء على وكر الفيتاليين وتدميره في جزيرة هيلجولاند، أمَّا شتيورتيبيكر وميخلس اللذان وقعا في الأَسر أيضًا، فقد أُطيح برأسيهما علنًا في واحدٍ من ميادين هامبورج، وسيق باقي الأَسرى، وفقًا لتقاليد العصور الوسطى، مقيَّدين في الأصفاد الحديدية، وغُيِّبوا في السجون، أو أُرسلوا إلى الأعمال الشاقة.
يقال: إنَّ سواري سفينة شتيورتيبيكر كانت مجوفةً، وقد صُبَّ في مكان التجويف سبيكةٌ من الذهب الخالص، كانت الثروات التي تم الاستيلاء عليها فوق سفن القراصنة وفي قاعدتهم في هيلجولاند، تكفي لتغطية نفقات الحملة بالكامل، وتعويض تجار الهانزا عن الجزء الأكبر من الخسائر التي تكبدوها، فضلًا عن تجميل برج كنيسة القديس نيقولا في هامبورج بتاجٍ من الذهب، تفرقت فلول الفيتاليين الذين فروا من هيلجولاند في سائر أنحاء الدنيا، وظلَّ الإقطاعيون والسلطات المدنية يقتفون أَثَرهم بكل إصرار.
لم تنتهِ القصة المثيرة للقرصنة في بحر البلطيق على الإطلاق بالهزيمة التي لحقت بالفيتاليين، إنَّ العلاقات الاجتماعية الاقتصادية التي تكوَّنت هنا قد خلقت ظروفًا مناسبة، ولأمدٍ طويل، لنمو النهب البحري. لقد كان للحُكم الجائر الذي مارسه الإقطاعيون، فضلًا عن الأنانية والنفعية التي تَميَّز بها نبلاء اتحاد الهانزا، أثره في انتشار التذمر والاستياء في صفوف الفلاحين والمدنيين، بدءًا من دانتسيج، وحتى هامبورج، حيث غرق صغار أواسط النبلاء في الديون للبرجوازية الغنية. من هنا تحوَّل الكثير من الذين أثقلتهم الديون والذين نجوا من السجون إلى قراصنةٍ.
قراصنة ألبيون٣١
أصبحت الجزر البريطانية موطنًا للقرصنة في بحار الشمال، وذلك بعد اندحار الفيتاليين، لقد أسهم ازدهار الملاحة التجارية الإنجليزية مع أساليب هذا الزمن التي لعِب من بينها السلب، وفقًا لتقاليد العصور الوسطى، دورًا لا يُستهان به، في نمو النهب البحري في هذه البقعة من العالَم. كان القراصنة الإنجليز يمارسون نشاطهم بصورةٍ رئيسية في مضيق المانش وما حوله من مياه، مُغِيرين على السفن التي تعمل بالتجارة ما بين الجزر البريطانية وأوروبا. وكان للنشاط الفعَّال من جانب القراصنة أثره الفعَّال على ارتفاع أسعار السلع، ومن ثَم على ارتباط الاقتصاد في كلٍّ من إنجلترا وفرنسا ودول أخرى.
لقد أدت المزايا المذكورة التي قُدِّمت للجمعية إلى نتائجَ مدمرةٍ، فبعد فترةٍ قصيرة من قيامها، تحوَّلت الشخصيات المسئولة عنها كمنظمة إلى مجرد قراصنة عاديين، قاموا بنهب سفن منافسيهم تحت حماية المرسوم الملكي.
انهالت الشكاوى من كل مكانٍ على الملك بسبب ما يرتكبه أعضاء الجمعية من فسادٍ، حتى إِنَّ بعض التجار أصبح يبدي مقاومةً إيجابية تجاههم، في نفس الوقت بدأت الموانئ الإنجليزية التي لم تدخل في عضوية هذه الجمعية في إظهار المزيد من الاستياء على نحوٍ سافرٍ. هكذا أصبح الوضع في البحار — التي كانت تحد الجزر البريطانية — ملائمًا للمزيد نحو نمو حصَّة القرصنة، أخيرًا وعندما قرر التاج التدخل لوضع نهاية للخروج على القوانين، اتضح أنَّ كثيرًا من الموانئ تؤيد علاقات الصداقة مع القراصنة، موفرين لهم الملجأ مقابل عدم تعرُّضهم لسفنهم بأذًى. هزَّت هذه الأنباء أكثر إقطاعات البلاد بشدة، فجرى على الفور إصدار قوانينَ صارمةٍ ضد مَن يقدم العون للقراصنة. لقد استطاعت القراصنة أن تتغلغل بعمقٍ في عددٍ من دوائر المجتمع الإنجليزي إلى الحد الذي أصبح استئصال شأفتها منها جميعًا — وبعملٍ واحد في نفس الوقت — أمرًا مستحيلًا.
كان جون هولي واحدًا من هؤلاء الأبطال الذين نظَّموا في عام ١٣٩٩م حملةً تأديبية ضد القراصنة الفرنسيين الذين قاموا بنهب ميناء دارتموت. هاجم هولي شواطئ كل من نورماندي وبريتاني، وذلك بعد أن تمكن من الاستيلاء على أربع وثلاثين سفينة فرنسية، وكان يُعد مثالًا نموذجيًّا لطبقة التجار التي زاوجت بين حرفة القرصنة وبين المصالح التجارية. لم يمضِ زمنٌ طويل إلَّا وقد حقق جون هولي ثروةً طائلة، ونال لقب أدميرال نظير خدماته لبلاده، على أنَّه لم يترك أعماله الخاصة إبَّان تأديته لوظيفته الشرفية، وها هو في عام ١٤٠٣م يتَّجه على رأس أسطول من السفن تنتمي إلى موانئ كل من دارتموت، وبلايموث، وبريستول، في حملةٍ عادَ منها، وقد أضاف إلى ثروته سبع سفن استولى عليها من جنوة وإسبانيا.
البطل الآخر هو جاري باي من ميناء بوول، وهو معاصر لجون هولي، وقد وجَّه اهتمامه إلى سواحل جاليسيا الواقعة شمالي إسبانيا على المحيط الأطلنطي. أما أحد أشهر أعماله فهو سرقته الصلبان من كنيسة تقع في منطقة رأس فينيستر. أثار هذا العمل، الذي اعتُبر تدنيسًا للمقدسات الإسبانية إلى حد أنَّهم قاموا فجأةً بالهجوم على ميناء بوول موطن باي وأحرقوه عن آخره. كان باي، خلافًا لجون هولي، في مشاكلَ مستمرة مع السلطات في بلاده، وكان يتمكن دائمًا من الخروج سالمًا دون خسائر من كل المصائب التي تلمُّ به؛ وذلك بفضل مواهبه الفذة في الملاحة. في الوقت نفسه كان حكام إنجلترا يتمتعون بكل رضًا بخدماته في كل مرةٍ تدعوهم الحاجة إليها. وفي عام ١٤٠٦م قام باي على رأس خمس عشرة سفينة بالاستيلاء على مائة وعشرين سفينة فرنسية، ولم يكن من العجيب إذن أن يتلقَّى التحية في ميناء بوول باعتباره بطلًا قوميًّا. أمَّا اليوم الذي أُحضرت فيه الغنائم التي تم الاستيلاء عليها من الفرنسيين، فقد أصبح عيدًا شعبيًّا في المدينة، تُقام فيها الولائم الماجنة، ويخرج الناس فيه للنزهة والتجوُّل، وقد سُجِّل هذا العام رسميًّا في الوثائق التاريخية للمدينة.
على أنَّ باي لم يكن حافظًا إطلاقًا لجميل موطن رأسه عليه، كما قد يتصور أحدٌ ذلك، إذ إنَّ بوول لم تعد، بعد إحراقها على يد الإسبانيين، لمجدها القديم أبدًا.
على أنَّه في تلك الأزمنة، كان كل ميناء في غرب إنجلترا يتمتَّع بحماية قرصانه المحلي الذي كان يعمل يدًا بيدٍ مع الإقطاعيين، فبينما كان باستطاعة ميناء أكسيموت مثلًا أن يتباهى بالكابتن وليم كايد، كان كلاي ستيفان في بورتسماوث يتصرف كما لو كان صاحب البيت، وهلمَّ جرًّا. كانت العلاقات بين القراصنة والصفوة قويةً إلى الحد الذي نفت فيه هذه العلاقات، من الناحية العملية، أية إمكانية لدفع هذه المصيبة. لقد كان الشك يحوم، ليس فقط حول اشتغال أو قيام علاقات بين قباطنة السفن وبين القراصنة، بل بين القراصنة وبين أصحاب السفن وموظَّفي الدولة، الذين كان من واجبهم مكافحة القراصنة ذاتها.
على الجانب المواجه لبحر المانش في بريتاني، كان الكثير من السكان يمارسون النهب البحري أيضًا، والحادثة التالية هي واحدة من العديد من الحوادث التي كان يعجُّ بها ذلك العصر، والمميزة للوضع الذي كان سائدًا آنذاك.
في عام ١٣٤٣م علم سكان نانت (الميناء الفرنسي الواقع عند مصب نهر اللوار) نبأ القبض على النبيل أوليفييه دي كليسون الثري الأرستقراطي العريق بتهمة الخيانة. وسواء أكان هذا الاتهام صحيحًا أم كان باطلًا، فقد أُدين أوليفييه بدعوى تقديمه العون لإنجلترا، الأمر الذي سبَّب خسائر فادحة لمصالح فرنسا. لقد بذل أصدقاء هذا الإقطاعي قصارى جهدهم للإفراج عنه، غير أنَّ علاقتهم بذوي النفوذ وما بذلوا هنا وهناك من رشوةٍ لم يحقق أيَّ نتائجَ إيجابيةٍ.
أقسمت جانَّا دي بلفيل أن تكرس ما تبقى من عمرها للانتقام من وطنها، فارتأت أنَّ أفضل ما تفعله هو أن تشتغل بالقرصنة البحرية، وهكذا دخلت جانَّا عالم القرصنة تحت اسم ليدي كليسون، وسرعان ما قامت بتجهيز ثلاث سفن من حصيلة الأموال التي آلت إليها من بيع ممتلكاتها من حصون، وأراضٍ ومجوهرات، ثم استأجرت قراصنة يتميزون بالشجاعة والقسوة.
قام ولَدا جانَّا اليافعان بمساعدتها، بينما تصدت هي بنفسها لرئاسة الأسطول، وبالنار والسيف شنت ليدي كليسون حملاتها على المناطق الواقعة على سواحل فرنسا، وكانت تدمر السكان بلا استثناء. كما أغرقت كل ما صادفها من سفنٍ دون أن تأخذها أدنى شفقةٍ بأطقمها. ظل مصير ليدي كليسون مجهولًا، وإن كان من الواضح أنَّه كان رهيبًا تمامًا مثل المصير الذي آل إليه زوجها.
أحيانًا ما كانت هذه الحكومة أو تلك، تسعى لاتخاذ إجراءات ضد القرصنة، وخاصةً عندما يصل أمر الأخيرة إلى ذروته. وأحيانًا كانت بعض الدول التي تتعرض للتهديد تلجأ لتوحيد جهودها في الصراع مع الشر، الذي كان قد ملأ الطرق البحرية. على أنَّ إصدار مراسيم من شأنها مضاعفة العقوبات على أعمال القرصنة لم تكن كافيةً؛ إذ إنَّ القائمين على حماية القانون وتوفير الأمن كثيرًا ما كانوا يتقاضون الرشوة من القراصنة، الذين لم يكونوا يبخلون ببعض أموالهم في سبيل مصالحهم.
كان هناك تأثير آخر أكثر تدهورًا تمثَّل في ممارسات عدد من الملوك الذين كانوا يتمتعون هم أنفسهم، إذا ما دعت الحاجة وخاصةً وقت الحرب، لخدمات القراصنة؛ إذ كانوا يجندونهم للقيام بأعمال القرصنة لصالحهم. وهناك أمثلة عدة تبين لنا كيف أنَّ أعتى القراصنة، الذين قاموا بالنهب والاغتصاب تحت راية الجمجمة والعظمتين المتقاطعتين، قد ارتقوا فجأةً وبفضل مواهبهم الفذة في الملاحة، ليحوزوا مراتب الأبطال القوميين ومنقذي الوطن. كثيرٌ من هذه الحالات يمكن ملاحظتها في تاريخ إنجلترا بصفةٍ خاصة.
دليلٌ واضح على النتائج المدمرة لمثل هذه القوانين، تمثله الحادثة التالية التي وقعت للتاجر الأسكوتلندي أندريه بارتون:
حصل بارتون من الملك ياكوف الرابع، ملك أسكوتلندا، على شهادةٍ تعطيه الحق في الانتقام، بعدما أبلغ عن وقوع أبيه منذ عدة سنوات خلت ضحيَّة النهب البحري من جانب البرتغاليين، ظهر بارتون عند شاطئ فلاندريا على رأس سفينتين مسلحتين على نحو جيدٍ هما: «لياون»، و«جينيت بيرفين». قام بارتون بنهب كل السفن التي صادفته في طريقه أيًّا كان العَلَم الذي ترفعه، وخصوصًا السفن الإنجليزية التي كانت تعمل بالتجارة مع الموانئ الفلمندية، وفي النهاية أحدث نشاط بارتون ضجةً هائلة، الأمر الذي دفع الملك هنري الثامن لإرسال عددٍ من سفنه لمقاومته. لقد لقي بارتون مصرعه إبان المعركة البحرية الشديدة التي جرت عند جودويانساندس. أما سفنه فقد قطرها المنتصرون إلى بلاكويل، حيث ضُمت إلى الأسطول البحري العسكري الإنجليزي. وقد صارت هذه المعركة موضوعًا لعددٍ من الأساطير الشعرية فيما بعدُ.
في بداية التنافس بين إنجلترا وإسبانيا في حوالي النصف الثاني من القرن السادس عشر، من أجل فرض السيطرة على بحار الدنيا، لعبت القرصنة دورًا مهمًّا، وكان لواء النصر يُعقد تارةً لصالح هؤلاء، وتارةً لصالح أولئك، كما أصبح العداء الديني بين إسبانيا الكاثوليكية وإنجلترا البروتستانتية حُجةً إضافية. وسرعان ما انتقلت ساحة الحرب بينهما من المياه التي تحيطها الشواطئ الأوروبية إلى المحيط الأطلنطي، ومنه إلى مياه العالم الجديد.
كان أكثر ما يوغر صدر الأسقف كواندر، الذي كان يمثل الملك فيليب الثاني ملك إسبانيا لدى بلاط إليزابث الأولى ويزيد من حنَقه، هو قضية القرصانين: بول، وتشامبني. دأب هذان الرجلان على مهاجمة السفن الإسبانية في طريق عودتهما من جزر الأنتيل متربِّصين لها في المسافة الواقعة ما بين جزر الأزور والكناريا. وفي عام ١٥٦٠م نزل القرصانان إلى إحدى جزر كناريا، وهناك تمكَّن الإسبان من القبض عليهما، وأودعهما إحدى القلاع، حيث بقيا هناك حتى أعياد الميلاد، وعندئذٍ انتهز اللصان فرصة ذهاب جميع السكان إلى القداس المقام في الكنيسة، ليفرَّا من السجن، ويتسلَّلا إلى المرسى، حيث تمكنا من الاستيلاء على سفينةٍ راسية نجحا في الوصول بها سالمين إلى إنجلترا.
كان لهذا العمل نتائج خطيرة، فإليزابث والمقربون لها كانا قد عزما منذ زمنٍ بعيد على الانتقام من إسبانيا المنافس الرئيس لهم في البحار. على أنَّ إنجلترا لم تكن مستعدةً آنذاك للدخول في معركةٍ معها؛ ولذلك عمدت إلى تجنُّب الدخول في نزاعٍ مباشر ولو لبرهة. في الوقت نفسه لم يكن بنيَّة حكومة الملكة إليزابث وضع العراقيل أمام نشاط القرصنة، الذي يمارسه البحارة الإنجليز ممن راحوا بصورةٍ جادة يقوضون من سطوة عدو المستقبل.
إبان الحرب مع إسبانيا خدم أشجع قراصنة ألبيون بلادهم كجنود، وأصبحت أسماء جنود الملكة من الذين تحولوا إلى قراصنةٍ؛ من أمثال هوكنز، ودرايك، وجرينفيل، وفروبشاير، وكامبرلاند، تنزل منازل الشرف في تاريخ إنجلترا. وكذلك حاز الكثير منهم إلى ألقاب النبالة، وعلى المناصب العليا في الدولة مقابل ما أدَّوه لها من خدماتٍ جليلة في حربهم مع العدو، واشتراكهم في تدمير الأسطول الإسباني أرمادا الذي لا يُقهر، في يوليو من عام ١٥٨٨م.
قرصان من جامعة أكسفورد
عزم ماينورانج على الاستيلاء على سفينةٍ ذات شراعين صغيرين يملكها تاجرٌ من أنتفيرين، وقد كانت السفينة بالمناسبة راسية في ميناء بلايموت. كانت السفينة ما تزال مجردةً من السلاح، وقد صُنعت خصيصًا لقراصنة البربر في الجزائر، كان طاقمها مكونًا من خمسة عشر رجلًا، يُفترض أنَّهم قادرون على صد أي هجومٍ عليها، قرر مايتوانج بعد أن علم أنَّ البحارة قد نزلوا في هذا المساء إلى الشاطئ بغية الاستمتاع بوقتهم، أن ينتهز الفرصة.
لقد تم تنفيذ الخطة بكل التفاصيل الدقيقة التي رسمها للقراصنة قائدهم الجديد. انقضَّ ماينورانج على رأس عصبته التي لا يتجاوز عددها خمسة وعشرين رجلًا على السفينة، ولم يكن عليها حينئذٍ سوى ستة أفراد، راحوا يغطُّون جميعهم في نومٍ عميق. اتخذ هنري ماينورانج كل الوسائل حتى يتجنب أدنى جلبة، حتى لا يثير انتباه البحارة على السفن المجاورة الراسية في الميناء. كان من الضروري التظاهر بأنَّ سفينة التاجر الفلمندي تغادر ميناء بلايموت بكل اطمئنانٍ وسكينة؛ إذ كان من المحتمل أن يتسبب أي عملٍ غير حذرٍ، مهما صغُر، في انهيار الخطة الماهرة بأكملها. عندما نفض الهولنديون عن مآقيهم آخر آثار النعاس، شاهدوا شفرات السكاكين مُسلطة على رقابهم، فلم يُبدوا أية مقاومةٍ، وما هي إلَّا ربع ساعة حتى كانت السفينة في طريقها خارج الميناء.
من هنا بدأ هنري ماينورانج حياته في عالم القرصنة، كان عليه أن يحمل سيفه، وأن يتبع خُطى درايك، وأن يبلغ المنزلة الرفيعة التي بلغها ذلك القرصان المشهور، فقرَّر أن يهاجم كل سفينة إسبانية تُلقيها الأقدار في طريقه، دون أن تأخذه بها شفقة أو رحمة. على أنَّ الأمر لم يكن ليتم على هذا النحو دون توفر قاعدة برية مأمونة.
بعد أن تجاوز ماينورانج جبل طارق، اتَّجه صوب بحر مرمرة، حيث وكرُ القرصنة الواقع على الشاطئ الشمالي للقارة الأفريقية. هناك جرى استقباله بكل حفاوة وترحاب تبعًا لقواعد التضامن الدولي للقراصنة، أمَّا رجاله الذين أدار رءوسهم النجاح لأول مرة؛ فقد خضعوا لرئيسهم خضوعًا مطلقًا، ما إن وصل ماينورانج إلى مرمرة حتى أعلن قائلًا: من الآن فصاعدًا سوف نعتبر كل سفينة إسبانية بمثابة غنيمة ممكنة، ولكن عليكم أن تتذكروا أنَّ السفن الإنجليزية محرمةٌ علينا.
وعلى أساس هذا الاتفاق انطلق ليبدأ رحلة القنص، رافعًا فوق صاري سفينته رايةً سوداء صُورت عليها جمجمة أسفلها عظمتان متقاطعتان، وهو أمرٌ كان متبعًا بين القراصنة في ذلك الزمان.
تمكَّن ماينورانج على مدى الأشهر الستة الأولى من نشاطه، من الاستيلاء على عددٍ لا بأس به من السفن الإسبانية، أراد أن يُكوِّن منها أسطولًا ضخمًا للقرصنة. وخلال فترةٍ قصيرة بلغ من الجبروت والمَنعة، ما شجعه على فرض الحظر على قراصنة البربر من الهجوم على السفن الإنجليزية. أمَّا الأمر المدهش حقًّا فهو أنَّ البربر حافظوا بكل حرصٍ على هذا الخطر، وسرعان ما ذاع في إنجلترا نبأ أنَّ سفنهم تتمتع بحماية القراصنة الإنجليز بطول الساحل الشمالي لأفريقيا، أضف إلى هذا أنَّ الإنجليز قد علموا أنَّ قراصنة بلادهم قد أعلنوها حربًا لا هوادة فيها ضد الإسبان، أعظم أعداء ألبيون في هذا العصر، كانت النتيجة أن أصبح اسم ماينورانج اسمًا ذائعًا بين جماهير المجتمع الإنجليزي العريضة.
لم يكتفِ ماينورانج بذلك، بل إنَّه راح يفرض سلطانه على صيَّادي الأسماك أيضًا، مصادرًا ما يصل إلى أربعة أخماس ما يحصلون عليه من صيد، وفي محاولةٍ لتجنب هذا العبء الثقيل، سعى كثيرٌ من الصيادين من أهالي نيوفاوندلاند للعمل في عصابة القرصنة تحت إمرة ماينورانج. على أنَّ الرجل لم تكن به رغبةٌ في فقْد مصدر دخله، فكان يقبل واحدًا فقط من كل ستة منهم، وبشرط أن يكونوا من أفضل العناصر.
كان ماينورانج يقوم باستغلال الصيادين المعدمين، فضلًا عن استمراره في ممارسة نشاطه بكل قوة في البحر. أمَّا السفن الإسبانية والبرتغالية التي كانت تذهب إلى أمريكا محملةً بالخمور، فكانت بمثابة لقمة سائغة بالنسبة له، وفي المقابل لم يُظهر ماينورانج إطلاقًا أي سلوك يتسم بالعنف تجاه القراصنة المعاصرين له، وسعى بكل الوسائل لتجنُّب إراقة الدماء التي لا طائل من ورائها، وكان — وهو الذي يطلب من رجاله السخرية من الأَسرى — يعاقب مَن تثبت عليه من البحَّارة تهمة الإساءة والتصرف على نحوٍ غير إنساني بتعليقه على صارٍ من الصواري.
عندما حل الشتاء قفل ماينورانج عائدًا إلى مرمرة، وقد تبعه أربعمائة من الذين هجروا مهنتهم. على أنَّ مفاجأةً غير سارة كانت بانتظارهم في أفريقيا. لقد انتهز الإسبانيون فرصة غيابه، فاستولوا على جزيرة مرمرة، بعد أن قاموا بارتكاب مذبحةٍ هناك. عندئذٍ توجَّه ماينورانج إلى وكرٍ آخر للقرصنة في فيلا فرنسا بإقليم سافوي، وهناك جرى لقاء بينه وبين مواطنه ويلسونهام، الذي كان يعتزم الدخول إلى عالم النهب البحري، لا سيما وأنَّه كان يمتلك سفينةً رائعة. كان ويلسونهام ينتمي إلى إحدى العائلات الأرستقراطية العريقة في إنجلترا، وعرض على ماينورانج أن يصبح شريكه.
منذ ذلك الحين تحوَّلت فيلا فرنسا إلى نقطة ارتكاز القراصنة الإنجليز، وقد حقق القراصنة الجدد نجاحًا منقطع النظير. وعلى مدى الستة أشهر الأولى استطاعوا أن يُكوِّنوا ثروةً بلغ حجمها نصف مليون كرونة، وهي ثروة طائلة بمقاييس ذلك الزمن.
ذات مرة علِم ماينورانج أنَّ أحد الأدميرالات الإنجليز، ويُدعى السير وليم مونسون — وهو رجلٌ مولعٌ باصطياد القراصنة — قد انتحل اسم ماينورانج، حتى يتمكن من الإيقاع بعصابةٍ صغيرة من لصوص البحر الأيرلنديين.
على الرغم من المخاوف التي انتابت السير وليم من حدوث خيانة ما، فقد قرر مع هذا الذهاب إلى القلعة والاشتراك في المأدبة، وعندما رسا قاربه قرب الشاطئ، هُرع إلى الماء ثلاثة رجال يرتدون ملابس أنيقة، لكي يحملوا على أكتافهم ضيف الشرف حتى البر … «كل شيءٍ على ما يرام» هكذا حدَّث الأدميرال نفسه، «إنَّ الجميع يستقبلونني على أنَّني ماينورانج، فليس ثمة خطر يتهددني إذن.»
أنزل السادة الثلاثة ضيفهم على الأرض بكل حرص، ثم أخذوا يقدِّمون له أنفسهم بعد أن انحنوا لتحيته. لقد اتضح أنَّ أكبرهم سنًّا هو أحد أصحاب السفن من مدينة لندن، وتربطه علاقات عمل بماك-كورماك، أمَّا الثاني فكان ناظر المدرسة المحلية، بينما كان الثالث ويُدعى هالوفاي يعمل بالتجارة، وقد كوَّن ثروةً من تعامله مع القراصنة!
– أغلب الظن أنَّه تصرف تمامًا على هذا النحو.
هكذا سأل ماينورانج بعد أن استمع إلى هذه الحكاية. لكن محدثه أجابه بقوله: كلَّا، لقد أطلق السير وليم سراحهم في اللحظة الأخيرة، ولكنه حتى يشيع الذعر في القلوب، قام بشنق قبطان سفينة القرصنة، الذي وصل محملًا بالغنائم المخصصة للتجار من ذوي المنزلة الرفيعة، الذين كانوا يعملون بشراء السلع المسروقة بصورةٍ احتكارية.
عندئذٍ علَّق ماينورانج بقوله: إنَّ الأدميرال مونسون يفتقد الإحساس بالعدالة، ولو كنتُ مكانه لما أصدرت أحكامًا بمثل هذه السطحية. إنَّ القرصان الوحيد الذي يستحق أن يُشنق هو هذا الرجل الذي لا يخاطر بنفسه، وإنَّما يعيش على استغلال الآخرين.
على الرغم من أن ماينورانج لم يكن آنذاك قد تجاوز من العمر ثمانية وعشرين عامًا، فإنَّه كان قد تمكن من جمع ثروة طائلة، وإذا به يقرر — مستغلًّا هذا الظرف المتاح — أن يعودوا إلى إنجلترا، وأن يتزوج، حتى يبدأ حياة هادئة يعيشها في يُسرٍ ودعة، ودَّع ماينورانج شريكه ويلسونهام، ثم قام ببيع غالبية سفنه لقراصنةٍ آخرين، ثم يمَّم بصُحبة رفاقه من الذين عبروا مثله عن رغبتهم في الاستفادة من العفو الملكي الشامل نحو ميناء دوفر، حيث استقبلهم مواطنو إنجلترا استقبال الأبطال، وقد أشار مرسوم العفو الرسمي الذي سُلِّم إلى ماينورانج في التاسع من يوليو عام ١٦١٦م إلى أنَّه «بريءٌ من كل التُّهم الخطيرة»، كما أنَّه «لا يجوز إقامة أية دعوة قضائية ضده».
ولكي يُعبِّر ماينورانج عن عظيم امتنانه للمَلك على ما أبداه نحوه من عطفٍ وتأكيد لإخلاصه نحوه، تطوع بتخليص قناة الماتش من القراصنة البربر. يقول المَثل: «ليس أسوأ في العداوة من صديقٍ قديم». وهكذا قام ماينورانج بإبادة القراصنة المسلمين، واكتسب بذلك أمجادًا أخرى في المجتمع الإنجليزي، الذي وضع على رأسه المزيد من أكاليل الغار.
ها هو مقطعٌ من المحاورة التي جرت بين الملك الإنجليزي والقرصان السابق، والتي أمكن استعادتها؛ استنادًا إلى تلك المذكرات:
لقد نصَّبه الملك حاكمًا على حصن دوفر، وهو منصبٌ كان يتيح لماينورانج بسط سلطانه على خمسة موانئ؛ هي: جاستبنجسون، رومني، هاي، ساندوتش، ودوفر، وكانت حماية هذه الموانئ من القراصنة هي إحدى المهام المنوط بها ماينورانج.
عندما تسلَّم هنري ماينورانج منصبه الجديد، كانت الاستحكامات في الموانئ المذكورة متداعية تمامًا، ولم يستطِع الحاكم الجديد أن يعرف فيمَ أنفق أسلافه في هذا المنصب الأوائل المخصصة للدفاع، وعندما قام بتفُّقد أكبر مخازن البارود بها أخذته الدهشة؛ إذ اكتشف أنَّ البراميل المخصصة لحفظه مليئة بالرماد، عندئذٍ صاح من شدة الغيظ: حتى قراصنتي كانوا أكثر شرفًا، ولن أسمح بتكرار ما حدث إطلاقًا.
وقد برَّ بوعده ببناء الاستحكامات، ووفَّر لها جميع مخازن الأسلحة والبارود، وأرسل بالضباط الذين وُجهت إليهم تهمة التبديد إلى الأشغال الشاقة، بعد مرور أربعة أعوام على وجود ماينورانج هنا، تزوَّج من إحدى الأُسر النبيلة الثرية التي تتمتع بحظوةٍ لدى الملك، فيما بعد أصبح القرصان السابق عضوًا في البرلمان الإنجليزي أيضًا.
ومن الحقائق الثابتة أنَّه، حتى في القرن السادس عشر، لُحظت هنا وهناك بعض حوادث السطو على السفن التي كانت تُبحر بمحاذاة الساحل الإنجيلزي، حيث كان السكان الذين أوصلهم الإقطاعيون إلى حالةٍ من الفقر المدقع يقومون أحيانًا بممارسة النهب البحري ضد السفن التجارية غير المسلحة، على أنَّ القرصنة قد تحوَّلت بصورةٍ أساسية في مستهلِّ عصر الرأسمالية إلى المياه المتاخمة للقارات الأخرى، كما كان لاكتشاف العالَم الجديد في غضون القرنين الخامس عشر والسادس عشر أثره في الإسراع بهذه العملية.
وهكذا أصبحت البؤر الرئيسية للقرصنة تتمثل في الخلجان الهادئة المعزولة، والجزر القريبة من الطرق البحريةِ التي تمرُّ عبرها السفن التجارية المحملة بالسلع الثمينة والبضائع المنقولة من مستعمرات ما وراء البحار إلى الدول الأوروبية المستعمرة.
وهناك الساجا التي تتحدث عن حياة النرويج (الهايمسكرينجلا). وهناك الساجا التي تصف حياة القساوسة والزعماء في أيسلندا. (المترجم) انظر: هنريك سمسونوفيتش، الهانزا؛ وارسوا، ١٩٥٨م، ص٢١ وما بعدها. (ملحوظة للمؤلف)