القراصنة البربر
كانت شمس العصور الوسطى تؤذن بالمغيب عن حوض البحر الأبيض المتوسط — الذي كان بمثابة البؤرة التقليدية للنهب البحري — حين ظهر على شواطئه مركز قوى للقرصنة اقترن اسمه في التاريخ بالبربر، تولى على مدى ثلاثة قرون تمزيق خطوط الملاحة والتجارة في هذا البحر.
تزامنت الفترة التي بلغت فيها أعمال القرصنة التي مارسها البربر ذروتَها مع نموِّ القدرة البحرية لتركيا في القرن السادس عشر، آنذاك كان أسطول الأخوين بارباروسا القوي المهيأ للقتال حليفًا نفيسًا للأتراك.
قام الإسبانيون — لمَّا أصابهم الذعر من جرَّاء النهب البحري الذي استشرى في البحر الأبيض المتوسط — بتنظيم حملة مسلحة شقَّت طريقها نحو شمال أفريقيا، واستهدفت القضاء على أوكار القرصنة فيه، على أنَّ التوفيق لم يحالفها في تدمير جربة، فيمَّمت إلى الجزائر. دفع هذا التهديد من جانب الأسطول الإسباني السلطة في الجزائر، لطلب العون من الأخوين بارباروسا، اللذَيْن اشتُهرا في ذلك الوقت باسم البحَّارة الذين لا يقهرون، نزول أولهما وهو عروج (١٤٤٧–١٥١٦م) إلى المدينة تلبيةً للدعوة، ثم احتلها ونصَّب من نفسه سلطانًا عليها باسم بارباروسا الأول.
هكذا تم ظهور أول دولة للقرصنة في شمال أفريقيا، وبعد وفاة بارباروسا الأول — الذي لقي حتفه في عام ١٥١٨م في معركةٍ ضد الإسبان — نصَّب أخوه خير الدين (١٤٦٥–١٥٤٦م) نفسه سلطانًا باسم بارباروسا الثاني، وسعى على الفور لتأمين دولته بأن طلب المساعدة من الأتراك، بعد أن اعترف رسميًّا بسيادة سلطانها، ووضع بذلك اللبنة الأولى لتبعية دولة القراصنة للأتراك، وها هو السلطان التركي يخلع على خير الدين لقب باي.
لقد كانت هذه الدولة تقوم أساسًا على ما تحصل عليه من دخلٍ نتيجةً للنهب البحري. كان الأغنياء ورجال المال والتجارة فيها يقومون بتمويل حملات قطَّاع الطرق البحرية في شمال أفريقيا، وكانوا يستأجرون القراصنة المحترفين — الذين كانوا يُعرفون باسم الرؤساء — لتحقيق أهدافهم. وقد كان هؤلاء القراصنة يشكِّلون ما يشبه فئةً مميزة بين السكان، أمَّا مبادئ توزيع الغنائم والأرباح فقد تم التراضي بشأنها بين الأطراف، بحيث يذهب عشرة بالمائة للحاكم كنوعٍ من الإتاوة، وعلاوةً على الغنائم التي كانت تأتي نتيجة للنهب؛ فقد كانت الأرباح المتحصلة من الفدية مقابل إطلاق سراح الأَسرى وبيع العبيد، مصدرًا مهمًّا من مصادر دخل القراصنة.
عروج من جزيرة جربة أو السلطان بارباروسا الأول
في ربيع عام ١٥٠٤م كانت هناك سفينتان للبابا يوليوس الثاني بابا روما، تمخران عُباب بحر تبرين قادمتيْن من جنوة متجهتيْن صوب تشيفيتا-فيكيا تحملان على ظهريهما حمولةً ثمينة، وما إن عبَرَتا جزيرتا إلبا، حتى لاحظ ربَّان السفينة الأولى — المدعو باول فيكتور — أنَّ ثمة سفينة ليست كبيرة حجمًا تسير موازية لسفينة البابا تكاد تلازمها مدة طويلة.
كل هذا وما تزال السفينة المجهولة تواصل اقترابها، حتى لم يعد هناك أدنى شكٍّ في أنَّهم البربر، بعد أن لاحت واضحة الآن عمائمهم المميزة، بعد مرور نصف ساعةٍ أصبحت سفينة البربر على مسافة ثلاثين مترًا تقريبًا من سفينة البابا الأولى، ثم إذ بوابلٍ من السهام الحادة ينهمر على سطحها. بعدها ألقى القراصنة بحبالٍ ذات خطاطيف، ليقفزوا بواسطتها إلى سطح سفينة البابا مثيرين الذعر والفوضى، لم يمضِ وقتٌ طويل إلَّا وقد أصبحت بعده السفينة غنيمة للغاصبين، بانتهاء المعركة أمر قائد القراصنة بخلع الملابس عن الأَسرى وحبسهم في السجن، وإلى أن يفرغ القراصنة من تنفيذ الأمر، اقترب من «عروج» مساعده وسأله: ماذا تنوي أن تفعل بعد هذا يا أخي؟
– الاستيلاء على السفينة الأخرى، لا بد أنَّها تسير بالطبع هنا أو هناك على مقربةٍ وراءنا، إنَّ لدي خطةً مضمونة.
– كن على حذر يا عروج، لقد حالفنا الحظ هذه المرة، لكن المخاطرة في المرة القادمة قد تكلفنا ثمنًا باهظًا، إنَّهما على أية حال سفنٌ حربية!
– إنَّك لا تفهم شيئًا بالمرة، إنَّ الحظ لا يحالف إلَّا الشجعان، مع ذلك سترى على الفور ما الذي أنوي عمله.
بهذا أجاب القائد، ثم صاح أتباعه الذين كانوا يسوقون أسراهم عرايا إلى العنبر الموجود أسفل سطح السفينة، مُصدرًا أوامره بقوله: أسرعوا باستبدال ملابسكم بملابس هؤلاء المسيحيين الكلاب، وأقطروا سفينتنا بهذه! اخفضوا الأشرعة، وانتظروا الأوامر التالية.
ليقف الجميع في هدوء وينتظروا حتى يسيروا بمحاذاتنا.
عندما لاحظ ربَّان السفينة الثانية — التي كانت تسير بسرعةٍ أقل — سفينة البربر مقطورة إلى سفينتهم الأولى قرَّر أنَّها غنيمة، فلم يطلق أي إنذار، بل إنَّه ازداد اطمئنانًا عندما رأى بحارة البابا وجنوده يتخذون مواقعهم في هدوءٍ تام. وما إن تجاورت السفينتان، حتى أصدر المغربي ذو الشعر الأحمر أمره بالهجوم الذي جاء مباغتًا تمامًا لسفينة البابا، والتي أُصيب كل مَن فيها بالذعر، حتى إنَّ الجنود لم يتمكنوا إطلاقًا من مقاومة الهجوم، بعد أن قفز إلى سطحها القراصنة، الذين جاء استيلاؤهم عليها أسرع كثيرًا من السفينة الأولى.
على الرغم من أنَّ الفارق الزمني بين سقوط غرناطة وحادثة اغتصاب سفينتي البابا لم يزد عن اثني عشر عامًا، فإنَّ سفن القراصنة أصبحت تشكل تهديدًا أكثر لشواطئ إيطاليا، وعندما يصل الأمر إلى هذا الحد — أي عندما يصبح البابا نفسه واحدًا من ضحايا القراصنة — فلا بد أن يتردَّد صداه إلى أوسع حدٍّ ممكن، ولقد أصبح معروفًا على الفور مَن الذي دبَّر هذا الهجوم الجسور.
كان قائد القراصنة يونانيًّا من جزيرة ميتيلين، وعندما استولى القراصنة على تلك الجزيرة دخل الإسلام مقتفيًا أثر والده، وحمل اسم «عروج»، وانضم منذ باكورة صباه إلى القراصنة الأتراك، حتى إذا بلغ عشرين سنةً من عمره تميز بالجرأة والقسوة في المعارك التي خاض غمارها في بحر إيجه. وفي أحد الاشتباكات البحرية وقع عروج في أَسر المسيحيين، وأُرسل إلى جزيرة رودوس، حيث تمكَّن هناك من الفرار، وبعد اختفائه القصير عاد ليواصل نشاطه باعتباره قرصانًا تركيًّا، غير أنَّه سرعان ما ضاق ذرعًا بالخدمة لدى السلطان، فأعلن تمرُّده على السفينة، وشرع في احتراف القرصنة على مسئوليته وبمخاطرةٍ شخصية منه، على أنَّ عروج الحصيف كان يدرك أنَّه لن يستطيع مواصلة نشاطه من دون عقابٍ إذا لم يجد لنفسه نقطة ارتكاز على اليابسة. ومن ثَم فقد توجَّه إلى أمير تونس برجاءٍ أن يقدِّم له الأخير قاعدة مناسبة فوق أراضي شمال أفريقيا مقابل عشرين بالمائة من الغنائم، وافق الأمير على هذا الطلب بكل ترحابٍ مقدمًا للقراصنة جزيرة جربة الصغيرة.
بفضل العون الذي قدَّمه أمير تونس، وكذلك دعم أخيه خير الدين له، قام عروج باستكمال بناء أسطوله، ومنذ ذلك الحين لم يقفْ عروج عند حد الإغارة على السفن في عرض البحر، وإنَّما تعداه مستعينًا بالجنود المغاربة الذين كانوا يدافعون فيما مضى عن غرناطة بمهاجمة الموانئ الأوروبية الواقعة على البحر الأبيض المتوسط، وخاصةً الموانئ الإسبانية.
قام الملك الأراجوني فرديناند — باعتباره مدافعًا عن مصالح الدين المسيحي بأَسره — بعددٍ من الحملات الناجحة ضد القراصنة البربر، واستطاع أن يستولي على نقاط ارتكازهم في وهران، وبوجي، والجزائر، ثم قام بإحراق هذه المدن عن آخرها، وفرض على أهلها إتاوةً كبيرة، حتى يثبط عزائمهم في مد يد العون للصوص البحر. في الوقت نفسه قام فرديناند ببناء قلعةً حصينة فوق جزيرة بنيون للدفاع عن مشارق مدينة الجزائر، في الوقت نفسه كان عروج في تونس يتربَّص في هدوءٍ تام اللحظة المناسبة ليرد الضربة، بعد أن وعد الأمير في احتفالٍ كبير بطرد الإسبان من أراضي شمال أفريقيا.
كان معروفًا آنذاك للمسيحيين باسم بارباروسا أو «ذو اللحية الحمراء» للون لحيته المميز، على أنَّ سمعته كقرصانٍ لا يُقهر كانت قد تمرغت في الوحل؛ بسبب الانتصارات التي أحرزها الإسبان وسقوط مدينة الجزائر. كان لانهيار هذه الهيبة أثرها في إخراج عروج عن توازنه، وحتى يصحح من وضعه لجأ إلى اتخاذ عدد من الخطوات من غير دراسةٍ جيدة، مثل قيامه بهجومٍ جريء من البر والبحر ضد بوجي، والإغارة على الأسطول الإسباني، لكن كل هذه العمليات باءت بالفشل المخزي.
مرةً أخرى تدفع الهزائم المتكررة بعروج لأن يغيِّر من خططه، فبعد أن غادر تونس — التي لم يكن يستشعر فيها الأمان — استقر في جزيرة جيجيلي، التي كان قد استولى عليها في فترةٍ ما من أهالي جنوه، ثم قرر — مؤقتًا — تجاهل وجود الإسبان في شمال أفريقيا، وتكثيف نشاطه في نهب السفن في عرض البحر. وقد جلب عليه ذلك غنائم خُرافية، حتى إنَّ النتائج المشجعة التي أحرزها، قد زادت من عدد القراصنة العاملين تحت إمرته.
استغل أهالي الجزائر الفتن الدائرة في إسبانيا؛ بسبب وفاة الملك فرديناند في عام ١٥١٦م، فقاموا بالتمرد برئاسة سالم التومي، وهو عربي من سكان مدينة بليدا، كما أنَّه هو بالتحديد الذي طلب العون من بارباروسا وقراصنته. قرر عروج أنَّ ساعة الانتقام قد حانت، فتحالف مع سالم وقام معه بالهجوم على الجزائر برًّا وبحرًا، احتل القراصنة المدينة. أمَّا الإسبان فقد تراجعوا للقلعة الموجودة في جزيرة بنيون، حيث استمروا يدافعون عنها دفاعًا بطوليًّا دام ثلاثة عشر عامًا بعد ذلك!
على إثر النصر الذي حققه عروج، ازدادت رغبته اشتعالًا لأعمالٍ أخرى، فتوجَّه إلى القصر الذي ينزل به الأمير الجديد للجزائر — سالم التومي — فوجده في موعد استحمامه، لكن الأبواب جميعًا كانت مفتوحةً أمام القرصان قاهر الإسبان، فإذا به يشق طريقه قدمًا إلى حمام القصر، حيث كان الأمير يستحم في مسبحٍ غير كبير، وهناك دار الحديث بينهما على النحو التالي:
– سالم! يجب أن أتحدث إليك فورًا على انفراد.
سالم القادم إليه محملقًا في دهشةٍ بقوله: بارك الله فيك، ولكن ما هذا الخَطب الجلل الذي أتى بك هكذا بغتةً؟!
– يجب أن أراك يا سالم.
ما أنهى عروج هذه الكلمات حتى جذب المستحم من شعره مخرجًا إياه من الماء!
صاح سالم محتجًّا لا رعبًا وإنَّما دهشة: ما معنى هذا يا عروج؟ … اتركني … هل اختل عقلك؟!
لكن القرصان لم تكن لديه أدنى رغبة في إطلاق سراح ضحيَّته. لقد خنقه، وصار منذ ذلك اليوم نفسه حاكمًا للجزائر، وأعطى لنفسه اسم بارباروسا.
مثل هذا التطور للأحداث كان كفيلًا بأن يثير القلق والاضطراب في نفس عاهل إسبانيا الجديد — الإمبراطور كارل الخامس — الذي نظَّم عددًا من الحملات تأرجحت نتائجها بين النجاح والفشل ضد دولة القراصنة البربر، على أنَّه لم ينجح تمامًا في أن يكسر شوكتها.
إبان واحدة من هذه الحملات، نجح الماركيز دي كوماريس في الاستيلاء على مدينة الجزائر، مُستغلًّا الانتفاضة التي هبت فيها ضد مغتصب الحكم الجديد، وقبل مغادرته للمدينة قال بارباروسا لأخيه: الآن يتعيَّن عليك أن تعمل بمفردك! حاول أن تصل بالسفن إلى أي مكانٍ آمن، أمَّا أنا فسأجد لنفسي مخرجًا، فإذا ما نجحت في الوقت المناسب في الحصول على مساعدة، فسآتي لإنقاذك.
كان بارباروسا يضع في اعتباره في هذه اللحظة سلطان المغرب، وإن كان في الوقت نفسه لا يثق ثقةً مطلقة.
أدرك بارباروسا في تلمسان — إلى حيث انسحب — أنَّ قواته البالغ عددها ألفًا وخمسمائة من القراصنة المخلصين، ليست كافيةً لمواجهة جبروت السلاح الذي يملكه الإمبراطور. كانت هزائمه السابقة وخبرته القتالية في حروبه ضد الإسبان، قد لقنتاه درسًا كبيرًا في أن الجرأة والوقاحة اللتين ساعدتاه في إحراز النصر كثيرًا في البحر، لا يمكنهما أن يكونا سببًا للوصول لنفس هذه النتيجة على البر؛ ولهذا قرر العدول عن المقاومة إلى الانسحاب.
على أنَّ الدوريَّات التي أرسلها قد أخبرته بسرعة اقتراب العدو. لقد جاء الجنود الإسبانيون، الذين فتنتهم الأحلام بغنائمَ طائلة، من جرَّاء الإشاعات التي انتشرت بينهم عن الكنوز الخرافية، التي حملها معهم القراصنة من الجزائر، ليقتفوا أثر بارباروسا حتى نهر سالادو نفسه. نجح عروج في اجتياز النهر إلى الجانب الآخر، ومن هناك أخذ في مراقبة المعركة اليائسة التي كانت مؤخرةُ جيشه تخوضها بهدف تغطية انسحابه. على أن تأثره البالغ بالبطولة والإخلاص اللذين أبداهما رفاقه دفعاه للإسراع عائدًا من جديد ومعه معيته ليعبر النهر. انضم بارباروسا إلى المدافعين عن رأس الجسر، وكان يدرك جيدًا أن الوضع بأكمله ميئوسٌ منه، وبعد بضع ساعات؛ إذا بالمنتصرين الإسبان يكتشفون فوق أرض المعركة جثة بارباروسا وقد تشوَّه تمامًا!
خير الدين أو بارباروسا الثاني
ورث خير الدين عن أخيه أسطولًا ضخمًا يبلغ قوامة طاقمه بضعة آلاف من القراصنة، علاوةً على اسم بارباروسا، والطموح إلى فرض سلطانه على الجزائر. لم يكن بارباروسا الشاب أقل طموحًا من أخيه، أضف إلى ذلك أنه كان أكثر ذكاءً وأكثر حنكةً في المسائل التنظيمية والسياسية.
كان خير الدين رجلًا غاية في الحذر، فتجنَّب كل الأمور العاطفية وبغضاءه القديمة التي كان يكنُّها تجاه السلطان، مدركًا أن الأخير لو غدَر به؛ فإنه يستطيع دائمًا أن يعود إلى مهنته المعتادة، ألا وهي النهب البحري. لقد صحَّت حسابات خير الدين، كانت تركيا في هذا الزمان هي الدولة الوحيدة بالفعل، التي تستطيع أن تقف — وعلى نحوٍ مؤثر — ضد الإسبان والإمبراطور.
لقد هيَّأ هذا الدعم من جانب السلطان الإمكانات أمام بارباروسا الثاني للدخول في صراعٍ مع الإسبان. مرةً أخرى يُعمل خير الدين فكره على نحوٍ صائب، فيرى أنه كلما حقق انتصارات أكبر على عدوه، حاز على مشايعين أكبر له، ومن ثَم تزداد قوته وبالتالي استقلاليته عن السلطان. كان المغاربة هم الخلفاء الطبيعيين الأقوياء والمضمونين، الذين لم يستطيعوا أن يتعايشوا مع مسألة طردهم من إسبانيا.
لم يكن أمام بارباروسا إلا أن يصب جام حقده على الإسبان فوق رءوس من تبقَّى من أفراد هذه الحامية المنكوبة التي تكفَّلت بحماية القلعة، بِناءً على أمرٍ من القرصان، سيق الدون مارتين دي فارجاس إلى ميدان السوق بميناء الجزائر، وسط هدير الجماهير الغاضبة وفي حضور الباشا، تم نزع ملابس حارس جزيرة بنيون البطل حتى وسطه، على الرغم من سِنِّه الطاعنة، والجروح التي ملأت جسده — ثم تم تثبيته على أحد الأعمدة. لم يكن باستطاعته أن يتمالك نفسه من شدة الضعف، وكان وهو مشدودٌ على هذا العمود يبدو كجثةٍ لا حِراك فيها عنه كإنسان تتردد فيه الأنفاس. وبأمرٍ من الباشا أخذ اثنان من المغاربة الأشداء في ضربه بالعِصي حتى الموت.
لم يتوقَّف الحقد الأعمى للباشا على مجرد ملاحقة المدافعين عن بنيون، وإنَّما قرر أن يقتص من القلعة نفسها بتدميرها، في اليوم التالي لإعدام فارجاس أرسل الباشا بالآلاف من الأَسرى المسيحيين، الذين قاموا على مدى عامين من العمل المضني ببناء حاجزٍ حجري ضخم، أصبح يربط منذ هذا التاريخ القارة الأفريقية بجزيرة بنيون، التي تحوَّلت وفقًا لهوى القراصنة إلى شبه جزيرة، منذ ذلك الحين أصبح ميناء الجزائر المرفأ الرئيسي لأساطيل القرصنة.
أصبح الاستيلاء على ريدجيو «القمة» الحقيقية لفن القرصنة، على أن الهدف النهائي أمام بارباروسا كان مدينة فوند، حيث تعيش فيها سيدةٌ ما اشتهرت بجمالها الفائق في كل أنحاء إيطاليا، لم يكن بارباروسا قد رأى هذه الحسناء إطلاقًا، غير أنه سمع عنها من الأَسرى الذين استولى عليهم من شبه جزيرة كالابريا.
كان للوصف الأخاذ المبالَغ فيه لجمال الأرستقراطية الإيطالية، أثره الشديد في إلهاب خيال بارباروسا — الذي كان يخطو نحو الشيخوخة — إلى حد أن أي شيءٍ في هذا العالَم لم يكن ليستطيع أن يُوقف رغبته الجامحة في امتلاك هذه المرأة الحسناء، سرعان ما عرف القرصان باسمها: جوليا جونزاجا، أميرة ترادجيتو. في الوقت نفسه لم يكن لدى جوليا الحسناء، أرملة أمير تراجيتو، أدنى تصوُّر عن الخطر المُحدق بها. كان من المستحيل أن يدور بخلدها أن يأتي إلى مدينة فوند أسطول مكوَّن من ستين سفينةً قراصنة، على رأسها بارباروسا نفسه فقط من أجل جمالها.
وحتى يضمن بارباروسا مفاجأة الهجوم على المدينة والحيلولة دون إمكانية هروب الأميرة، قام بهجومه في منتصف الليل، غير أن الإنذار قد سار إلى المدينة، وعندما تمكنت جوليا جونزاجا من القفز من مخدعها، وليس على جسدها سوى ثوب نوم فاضح، لتفر من المدينة بأسرها على ظهر أحد الخيول وبرفقتها أحد الخدم.
مَن يدري إلى أي مدًى كان من الممكن أن يستمر هذا الركض الجنوني، لو لم تخُر قوى حصان الأميرة، بعدما امتلأ وجهه بالزبد. لجأت الأميرة جوليا إلى جوار إحدى أشجار البلوط الضخمة، وقد أنهكها التعب؛ لتنال قسطًا من الراحة. على أن القدر لم يمكنها من تجاوز كل المخاطر.
لم يخبرنا التاريخ عما حدث في تلك الليلة في دغل أشجار البلوط، يكفينا أن نعرف أنه ما إن زال خطر العدوان، حتى جرت الإطاحة برأس الخادم الشاب بناءً على أمرٍ من الأميرة!
لمَّا لم يجد بارباروسا أثرًا للأميرة، اجتاحه غضبٌ عظيم. وإذا بالمدينة تتحوَّل — على مدى ساعاتٍ أربع — إلى مسرحٍ لحفلٍ دموي فاجر، أقامه القراصنة البربر. فقتلوا العجائز والأطفال — الذين لم تكن بهم حاجة إلى أَسرهم — دون رحمة، واغتصبوا النساء، وأضرموا النار في البيوت، ومن بقي حيًّا بعد ذلك، اقتادوه إلى سفنهم وحملوه معهم! عندما عادت الأميرة ترادجينو إلى مدينة فوند، لم تجد هناك سوى أطلال ورماد!
أصبح الهدف التالي أمام بارباروسا هو تونس، التي كان يحكمها السلطان مولاي حسن، والذي كان يتمتع بحماية إسبانيا. وفي هذه المرة تكلل هجوم القرصان عليها بالنجاح، لقد استولى خير الدين على مدينة تونس في عام ١٥٣٤م، وعندئذٍ قرر كارل الخامس أن ينكل بالبربر بشكلٍ حاسم!
أرسل كارل الخامس أسطولًا قويًّا بقيادة أندريا، أحد أبرز القادة البحريين في هذا الزمان، استمر أندريا يحارب خير الدين في البحر الأبيض المتوسط سنوات عدة غير أنه لم يستطعِ القضاء عليه.
في الوقت نفسه، أدَّى الصراع الدائر بين آل هابسبورج وتركيا، إلى حدوث تقارب بين السلطان وفرنسا، التي كانت تسعى إلى الاستيلاء على إيطاليا، الأمر الذي أعاق من توسُّع الإمبراطور في البحر الأبيض المتوسط. لجأ الملك الفرنسي فرانسوا الأول — بعد الهزيمة التي حاقت به عند مدينة بافيا شمالي إيطاليا — إلى السلطان التركي يطلب المساعدة ضد كارل الخامس. وعلى الرغم من أن سليمان الأكبر أعرب عن استعداده للوقوف إلى جانب فرنسا؛ فإن التحالف الفرنسي التركي لم يكن قد قام على نحوٍ رسمي آنذاك، وإنما جرى عقده في فبراير عام ١٥٣٦م، بعد استيلاء كارل الخامس على تونس.
في طريقها إلى فرنسا، تعرضت سفن بارباروسا — أثناء عبورها مضيق ميسين — إلى قصفٍ من بطاريات المدافع الرابضة على ساحل ميناء ريدجو.
سارع بارباروسا دون تردد — وقد تملكته الدهشة والغضب من جراء هذا الاستفزاز السخيف — بإصدار الأمر بضرب المدينة من مدافع السفن، ثم أنزل بعد ذلك قوةً من الجنود الإنكشاريين، قوامها اثنا عشر ألفًا منهم، نكلوا بالسكان الأبرياء.
على أن هذا الحادث العرضي أصبح نقطة تحوُّل في حياة بارباروسا الثاني الشخصية، والذي كان قد جاوز السبعين من عمره، فقد اتضح أن من بين الأَسرى الذين أُخذوا من ريدجو، فتاة رائعة الحسن، أتمت من عمرها ثمانية عشر ربيعًا، وهي في الوقت نفسه ابنةٌ لحاكم المدينة. كان خير الدين من ذلك الطراز من الرجال الذين لا يكترثون بجمال النساء؛ فقد كان يعيش حياة القرصان العنيف دون أن يكون لديه الوقت — مع كل هذا — لحبٍّ حقيقي، أما الآن فقد أشعلت هذه الأسيرة الفاتنة المشاعر المتأججة في قلب العجوز!
حمل بارباروسا — وقد سلبه الجمال لُبَّه — الفتاة إلى سفينته، ثم أدخلها قمرته المؤثثة بفاخر الرياش الشرقي. كانت مجموعة من أنواعٍ مختلفة من الأسلحة المهيبة تزين الحوائط المغطاة بالحرير، بينما فُرشت الأرض بسجادةٍ فارسية سميكة رائعة الصنع. كشف بارباروسا عن الأدراج والصناديق الموضوعة على امتداد الحائط — وقد امتلأت على آخرها بالنفائس والمجوهرات — حتى يتمكن بصورةٍ نهائية من إبهار الفتاة التي كانت مندهشة لما تراه. على أن كل الثروة التي ألقاها القرصان عند أقدامها لم تأخذ بمجامعها، وإذا بالأسيرة تنفجر بالبكاء الحار، وتعلن له أن أثمن كنز للإنسان هو حريته. إذا أصبحت زوجًا لي فإنني أهب لوالديك الحرية، هكذا تكلم القرصان خير الدين، ثم اقترح وقلبه يرتعد خوفًا من الرفض، مواصلًا إغراء الفتاة: لسوف تكونين أغنى امرأة في العالم، ممَّ تخافين؟ إنني أقوى رجل في العالم بعد سليمان الأكبر، وأتمنى لو أُصبح لك خادمًا وعبدًا.
استسلمت الفتاة في نهاية الأمر، وتمت الصفقة، سمح القراصنة لوالدي العروس بالعودة إلى وطنهم، ومعهم عِلية القوم في ريدجو الذين أعيدت إليهم أيضًا ثرواتهم المنهوبة. لقد انبعثت في بارباروسا — الذي كان يخطو نحو الشيخوخة — روحٌ جديدة كما لو روح شاب، ولم يعد أصدقاؤه وأتباعه يرون فيه زعيمهم الشرس الذي لا يرحم.
– والآن إلى مرسيليا. هكذا تحدث القرصان إلى عروسه وقد تملكه القلق والاضطراب، ثم أضاف قائلًا: لنرَ على أي نحوٍ سيكون استقبال الفرنسيين لي. أنا على يقينٍ أنك سوف تفتخرين بزوجك.
وبالفعل كان النجاح حليفه، وها هو ذا ابن صانع الفخار الفقير من جزيرة ميتلين ينال أعلى مراتب التكريم، وها هي فرنسا تستقبل ظالم الأمس كما لو كان بطلًا قوميًّا. إبان هذه المراسم المخزية، كان لواء القراصنة الكريه يرفرف على الصاري، تتوسطه علامة الهلال في مكان علم الأسطول البحري الفرنسي.
اعتزل بارباروسا في قصره باحثًا في هدوءٍ عن السكينة في أحضان زوجه الشابة، عندئذٍ قام أتباعه — معتمدين على أنفسهم — بممارسة النهب في مدن وقرى جنوب فرنسا، منتهزين فرصة خمول زعيمهم. أصبح الفرنسيون يضيقون ذرعًا بمثل هذا النوع من الحلفاء، وكان أكثر ما يثير حفيظتهم هو رفض تحرير أَسراهم.
– هؤلاء رعايا فرنسيون ومَلِكُنا حليف للسلطان!
بهذا حاول الفرنسيون شرح الأمر لبارباروسا، غير أن مفاهيم الدبلوماسية الفرنسية كانت غريبة تمامًا على فكر بارباروسا، الذي كانت تزعجه — علاوةً على ذلك — أصوات القرع الجنائزي للأجراس. وقد كانت الأجراس في الواقع تُقرع بشكلٍ متصل تقريبًا، فأعداد الموتى من الأَسرى الذين كانوا يعيشون في ظروفٍ بائسة كان في تزايدٍ مستمر.
كان البخل الشديد واحدًا من الصفات المميزة لبارباروسا. لم يكفه أن رجاله قد نهبوا جنوب فرنسا، وإنما طالب — فور وصوله إلى هناك — ملك فرنسا أن يتحمل عنه نفقات أسطوله. بلغت مفاوضات بارباروسا مع ممثِّل الملك فرانسوا الأول حدًّا من الغرابة، لا يختلف عن غرابة التحالف السابق ذِكره بين القراصنة والسلطان والملك الفرنسي: يجب أن نسوِّي حساباتنا قبل عودتي إلى القسطنطينية، فأنتم مدينون لي بمبلغٍ كبير.
– هذا مستحيل! لقد دفعنا ضعف المبلغ المطلوب منا.
– إنني لم أطلب منكم حتى الآن سوى تغطية نفقات وصولنا إلى فرنسا، ويبقى عليكم بعد ذلك دفع نفقات عودتنا.
– إننا لا نسمح بالاستغلال السيِّئ لكرمنا. لقد دفع الملك لكم أكثر بكثيرٍ مما لكم.
– وأنا مُطالب بالدفاع عن مصالح السلطان حليفكم هنا؛ فإذا لم تعوضوني عن الخسائر التي يمكن أن يتعرض لها أسطولي في طريق عودته إلى البوسفور؛ فإنني سأظل هنا ما لم أتسلم الأموال المستحقة لي، وأريد أن أقدم خالص أسفي على الإزعاج الذي سببه بحارتي لموانيكم.
صاح المفوض الفرنسي باستياء: أنت تسمي ما فعلوه إزعاجًا؟! لقد تصرف رجالك كالوحوش! إن ما فعلوه هو كارثة حقيقية لموانينا، على أن ملكنا — واضعًا في اعتباره روابط التحالف القائمة بيننا — لم يقدم شكوى رسمية بهذا الصدد، وإنما يتمنى أن يغادر أسطولكم البلاد، ولا يعود إليها مطلقًا.
– إنني أقدِّر قلقه تمامًا، وأنا نفسي أشعر بالقلق من جراء سلوك رجالي، ولهذا أميل لترككم حالَما يصبح هذا الأمر ممكنًا.
– إن عليك أن ترحل فورًا من هنا!
– سأرحل عندما أتسلم مستحقاتي.
وفي النهاية وصل الفرنسيون إلى استنتاجٍ، مفاده أن الأجدى لهم أن يفتدوا أنفسهم من هذا الحليف بثمنٍ باهظ، بدلًا من تعريض أراضيهم لتهديدات النهب المستمر، ومن ثَم فقد دفعوا لبارباروسا المبلغ المطلوب. وطبقًا للاتفاق، فقد غادر بارباروسا فرنسا، ولكنه أغار في طريقه على جزر إلبا، وإيسيكيا، وبروتشيدا، وكذلك جزر ليباري. بوصول سفن القراصنة إلى مكانه المحدد كانت قد امتلأت عن آخرها بالغنائم، علاوة على سبعة آلاف أسير، ناهيك عن أن بارباروسا كان قد أطلق سراح أربعمائة أسير مسلم في فرنسا لم يُدفع عنهم فدية.
كانت من نتائج التحالف الذي عُقد في الحملة التالية (١٥٣٦–١٥٣٧م) أن وقفت تركيا إلى جانب فرنسا ضد الإمبراطور، فاستولى الأسطول التركي تحت رئاسة خير الدين على بينزرت في تونس، وأصبح يشكل تهديدًا لنابولي، وكان قد دمر عددًا من الجزر في البحرين الأيوني وإيجه، حيث كانت السيادة فيهما لفينيسيا حليفة الإمبراطور.
في عام ١٥٣٧م التقى من جديد الندَّان اللدودان أندريا دوريا وخير الدين وجهًا لوجه، بالقرب من ميناء ميسينا الإيطالي، وإذا بالأول يتمكن من الاستيلاء على اثنتي عشرة سفينةً من سفن أعدائه الأتراك، وانتقامًا من هزيمتهم قام القراصنة بنهب سواحل إقليم أبوليا (بوجليا) الواقع جنوبي إيطاليا، ثم واصلوا هجومهم على جزر كورفو الخاضعة آنذاك لفينيسيا.
بعد انقضاء عام على تلك المعركة، علِم بارباروسا أن أندريا دوريا يجمع أسطولًا جبَّارًا في خليج ليون جنوبي فرنسا، عاقدًا عزمه على توجيه ضربة قاضية للقراصنة. في هذه المرة كان على القرصان بارباروسا أن يدخل في معركةٍ ضد قوى العالَم المسيحي مُجتمعةً.
بلغ جملة ما أعدَّه أندريا دوريا — ابن مدينة جنوة — من قواتٍ مُسلحة مائتي سفينة، من بينها ثمانون سفينةً من فينيسيا، ست وثلاثون أرسلهم البابا، ثلاثون سفينة إسبانية، علاوة على ستين ألف رجل، وألفين وخمسمائة مدفع، إلا أن قوات القراصنة كانت ضِعف هذه القوة التي نقلت قاعدتها بأمرٍ من بارباروسا الثاني إلى منطقة البحر الأيوني. في الخامس والعشرين من سبتمبر عام ١٥٣٨م، كان أقوى أسطولين في ذلك الزمان يقِفان في مواجهة كل منهما الآخر في خليج بريفيز. في اليوم التالي كانت الرياح تؤازر الأسطول التركي، وها هي المعركة تبدأ لتنتهي بهزيمةٍ ساحقة لقوات الدول المسيحية.
ثلاث سنوات كاملة مرت بعدها حتى تمكَّنت الدول المسيحية من أن تبرأ من آثار الهزيمة الثقيلة، وتقرر الأخذ بالثأر، مرةً أخرى تُولي القيادة العليا للأساطيل المتحالفة ثقتَها لدوريا في تَولِّي قيادة السفن التي كنت تمثل كل الدول المسيحية تقريبًا آنذاك، وكان من بين المشاركين في الأسطول الإسباني كورتيس الذي غزا فيما بعد بيرو.
اتخذ هذا الأسطول الذي بلغ قوامه ما يزيد عن خمسمائة سفينة مواقعه في التاسع عشر من أكتوبر عام ١٥٤١م. على مشارف ميناء الجزائر، كان الإمبراطور كارل الخامس يقف بنفسه على ظهر سفينة القيادة، بينما كان دوق إلبا يتولى عدة آلاف من المشاة، على أن النصر في هذه المرة أيضًا كان حليفًا للقراصنة. لقد مُنيت الأرمادا المسيحية الجبارة بهزيمةٍ جديدة لم تستطع الدول المسيحية أن تجمع شتات قوَّتها من بعدها على مدى نصف قرن تقريبًا.
على الفور استعاد القراصنة البربر وَكْرهم القديم في جربة، حيث شيدوا من عظام القتلى المسيحيين الذين دافعوا عن الجزيرة، هرمًا هائلًا أسموه «برج الجماجم»، ظل قائمًا لمدة ثلاثمائة عام، حتى أمر بإزالته في عام ١٨٤٨م فقط القنصل الفرنسي.
في الثاني والعشرين من أغسطس عام ١٥٤٣م استولت القوات الفرنسية على نيس بفضل المساعدة التي قدمها لهم الأسطول التركي بقيادة خير الدين بارباروسا، الذي أعطاه الفرنسيون في مقابلها ميناء طولون. وفي التاسع عشر من يونيو عام ١٥٤٧م عقد السلطان سليمان — سعيًا منه في مزيدٍ من حرية الحركة في فارس — اتفاقية هدنة لمدة خمس سنوات مع أسرة هابسبورج، كان من نتيجتها أن حلَّ السلام النسبي بمنطقة البحر الأبيض المتوسط.
بعد أن حقق خير الدين مجدًا كبيرًا، وثروة لا تُعد ولا تُحصى قرر — وقد بلغ من العمر أرذله — أن يركن إلى حياةٍ هادئة. على أنه أدرك أن ميناء الجزائر معقل القراصنة البربر الأساسية وقاعدتهم ليست هي المكان الأمثل لهدفه هذا، ومن ثم فقد توجه إلى القسطنطينية، حيث قضى ما تبقى له من العمر بصفته باشا الجزائر، وأقرب المقربين من سليمان الأكبر، وقد وافته المنية في الرابع من يوليو ١٥٤٧م، بقصره المُطل على مضيق البوسفور. لم يستمتع بارباروسا الثاني المتكبر بالمجد، سوى إبان حياته، وكان يتمنى لو أن أحفاده احتفظوا بذكراه إلى الأبد. شيَّد خير الدين مسجدًا رائعًا وضريحًا تذكاريًّا دُفن فيه بِناء على رغبته.
ظلت كل سفينة تركية على مدى سنوات طوال تؤدي تحية الشرف أمام ضريحه، وذلك لدى مغادرتها لخليج القرن الذهبي، كما كان طاقم السفينة يصلي لقرصان البحر الأبيض المتوسط القوي، البحَّار التركي العظيم. ظلت ذكرى بارباروسا الثاني حيةً بين المسلمين، كما وجدت تعبيرًا لها في الأسطورة البطولية التي صوَّرت حياته.
خلفاء الإخوة بارباروسا
جاء خلفاء الإخوة بارباروسا من بين أكثر أنصارهم موهبةً، ولقد سعوا جميعهم للاحتفاظ بالمواقع التي احتلتها دولة القراصنة في البحر الأبيض المتوسط. لكن أحدًا منهم لا يمكن أن يوضع موضع المقارنة مع ما كان يملكه أصحاب دولة البربر الأُول من طاقةٍ أو موهبة.
-
حكم البايلربايات (١٥٤٦–١٥٨٧م).
-
حكم الباشاوات (١٥٨٨–١٦٥٩م).
-
ثم حكم الدايات١٦ (١٦٧١–١٨٣٠م).
في العشرين من يونيو عام ١٥٤٤م، وصل إلى مدينة الجزائر حسن، ابن خير الدين، فبعد وفاة بارباروسا الثاني، منحه السلطان سليمان لقب بايلرباي أفريقيا، لكن اتضح أن حسن كان عدوًّا متطرفًا لفرنسا؛ ففي فترة حكمه قام القراصنة بنهب أقاليمها الساحلية دون أدنى شفقة. لم يكن هذا التصرف يدخل ضمن حسابات تركيا على الإطلاق، حيث إن سياستها آنذاك كانت تميل إلى جانب فرنسا، وفي الثاني والعشرين من سبتمبر عام ١٥٥١م — وبِناء على إلحاح من السفير الفرنسي في القسطنطينية — قام السلطان برفع لقب بايلرباي عن حسن، وافق اتخاذ هذه الخطوة من جانب السلطان خرقه لاتفاقية الهدنة المعقودة بينه وبين آل هابسبورج، وتجددت العمليات ضد الإمبراطور في المجر وفي شمال أفريقيا.
وكذلك بدأت فرنسا أعمالها العسكرية في إيطاليا ضد الإمبراطور، لكنها لم تحقق نجاحًا كبيرًا فيها. لقد أدى تكتيك فرنسا في إيطاليا — بصورةٍ رئيسية — إلى دعم أعداء الإمبراطور الذين كانوا يحاربون حلفاءه المحليين، تلا ذلك التكتيك لجوء فرنسا — إلى حين وبمساعدة أسطول القراصنة البربر — إلى دعم الانتفاضة التي هبت في كورسيكا ضد جنوده.
في شهر أبريل من عام ١٥٥٢م قام السلطان بتعيين الريس صلاح — أحد أتباع بارباروسا المقربين — بايلربايا لأفريقيا. وعلى الفور أقدم الريس صلاح — مسترشدًا بتعاليم أساتذة السياسة — على غزو الأراضي الواقعة في مؤخرة دولة القراصنة وهما: كابيليا، والمغرب. في عام ١٥٥٥م استولى من الإسبان على بوجي، لكن موته المفاجئ لم يمكنه من استعادة وهران منهم. بعد موته، ادعى السلطنة لنفسه غصبًا زعيم الإنكشارية ومساعد صلاح المدعو حسن كورسو، الذي قام بمحاصرة وهران من البر والبحر. على أن الأسطول الذي أخذ في التعرُّض للتهديد من جانب قوات دوريا، كان في مسيس الحاجة لمساعدة أسطول القراصنة؛ ولهذا فقد أصدر أمرًا إلى حسن بالانسحاب من وهران والتوجُّه إلى ميناء الجزائر، حيث أصبح محمد كرد أوغلي بايلربايا عليها. كان لهذا التعيين أثره في قيام صراعٍ مؤقت على السلطة بين منافسين عليها، وهما حسن كورسو ويؤيد جنود الانكشارية، وكرد أوغلي الذي يتمتع بثقة الأسطول. بعد أن قبض القراصنة على كورسو أنزلوه إلى صخرةٍ في عرض البحر غير مأهولة، حيث ما لبث أن فارق الحياة بعد أيامٍ قليلة.
أعاد السلطان مرةً أخرى تعيين حسن بن خير الدين بايلربايا لأفريقيا، حتى يضع نهايةً للصراع على السلطة وللحرب الدائرة بين الإخوة. وقد نجح حسن إبان مدة حكمه التي استمرت عشر سنوات، أن يحقق انتصارين كبيرين على الإسبان. في اليوم الأول من شهر سبتمبر عام ١٥٥٨م قُتل الأمير الكانديتي بالقرب من ميناء المستغنم الواقع شمالي غرب الجزائر، وتم سحق جيشه، كما دُمر الأسطول المسيحي في جزر جيليف عن آخره.
أبرزت المعارك مع الإسبان اسم دراجوت، أحد أتباع بارباروسا المقربين.
لم يكن دراجوت يستشعر الأمان على نحوٍ كافٍ في الجزائر لتعرُّضها المستمر للتهديد من قِبل الإسبان، ومن ثَم فقد نقل مقر إقامته إلى جزيرة جربة، حيث حوَّله إلى قلعةٍ حصينة، ومن هنا حقَّق دراجوت واحدةً من أشهر أعماله على صفحة البحر. كان أندريا دوريا قد قام — تدعمه السفن الإسبانية — باحتلال آخر ميناء للقراصنة في القارة الأفريقية، بعد أن أوقع في الأَسر الريس خيار ابن أخت دراجوت.
كان من أهم وأثمن الأشياء — من وجهة نظر القراصنة — تلك البحيرة الموجودة في جزيرة جربة، والتي قاموا بتوصيلها بالبحر عبر قناة ضيقة تحرسها عشرات المدافع.
قام دراجوت — بعد أن فقد كل الموانئ في القارة — بكامل أسطوله، واختبأ معه في جزيرة جربة. آنذاك كمن أندريا دوريا — وكان يعرف سر البحيرة — عند مدخل القناة، لكن الأيام والأسابيع مرت دون أن يظهر أي أثرٍ لسفن القراصنة. عندئذٍ قرر دوريا — بعد أن نفد صبره — المخاطرة، فأرسل بعضًا من السفن في عمق القناة، وكانت دهشتهم عظيمة؛ إذ لم تتعرض أيٌّ منها لقصف المدفعية، وعلى ذلك فقد واصلت سيرها بهدوءٍ تام حتى وصلت البحيرة، فإذا بها خالية تمامًا من أي أثرٍ لأسطول العدو. وسرعان ما انكشف سر اختفاء سفن القراصنة. لقد أجبر دراجوت — بعد أن تبين له مدى صعوبة اختراق حصار المسيحيين الذي ضُرب حوله — أسراه إلى جانب أطقم سفنه بحفر قناة جديدة، يمكن بواسطتها وصل البحيرة بالساحل المقابل للجزيرة، وعندما أصبحت القناة مُعدةً أخرج أسطوله عبرها إلى البحر.
في عام ١٥٦٥م لجأ فرسان مالطة — الذين طردوا من ردوس على يد الأتراك ومن بعدها من طرابلس على يد أحد أتباع بارباروسا الثاني — لجئوا للاختباء بمالطة مدافعين بشراسة عنها ضد هجمات الأتراك المتتالية.
تسعة عشر عامًا كانت قد مرت منذ وفاة خير الدين، وستة عشر عامًا منذ أن بعث دراجوت الروح في أعمال القرصنة من جديد. وها هي الأوامر تصدر من القسطنطينية بدعم حملةٍ تركية جديدة ضد قلعة مالطة، ومثله مثل رئيسه حسن يتسلم دراجوت رسميًّا العمل في خدمة السلطان التركي.
بلغ قوام الجيش الذي أرسله الباب العالي لضرب مالطة ثلاثين ألف رجل قادهم بيالي باشا، بينما قدَّم دراجوت من جانبه سفنًا ورجالًا يبلغ عددهم عدة آلاف من القراصنة الجزائريين. كان مجموع هذه القوات يزيد عمَّا لدى فرسان مالطة بكثير؛ ولذا فقد بدا أن مالطة — وعلى رأس مدافعيها بارسيو دي لافاليتا، وكان قد جاوز السبعين من عمره — لن تستطيع المقاومة.
بعد معارك داميةٍ ومضنية لكلا الجانبين استمرت ستة أشهر، قام دراجوت بهجومٍ كاسح، أما المدافعون عن القلعة فعبثًا كانوا ينتظرون وصول النجدة إليهم، حتى أصبح على وشك الإنهاك التام، وحتى يضمن دراجوت النجاح التام لهجومه؛ إذ به يقف بنفسه على رأس قواته المهاجمة، ولكن حتى أشجع مقاتليه خذلوه إبان المعركة وتركوه يلقى حتفه فيها.
كان لموت دراجوت وقعٌ شديد على بيالي باشا دفَعه إلى الخوف من تكبُّد من مزيدٍ من الخسائر، فسارع بإصدار الأمر بالانسحاب، وخاصةً أن رُسله القادمين من الجزيرة نقلوا إليه أنباء مفادُها أن أسطول أرمادا الإسباني الجبَّار قد هبَّ لمساعدة مالطة. لقد مرت على هذه الأحداث الآن أربعة قرون، وما تزال عاصمة مالطة تحمل اليوم اسم الرجل الذي دافع عنها: لافاليتا.
في عام ١٥٦٧م، قام السلطان بتعيين حسن قائدًا للأسطول العثماني، تمامًا كما حدث ذلك في يومٍ من الأيام مع أبيه خير الدين. وها هو مرةً أخرى يغادر الجزائر، ولكن هذه المرة إلى الأبد، وبعد عامٍ واحد تم تعيين محمد بن الريس صلاح بايلربايا مكانه.
في النهاية شغل أولج على أرفع منصب في الجزائر، ليكون بذلك آخر بايلرباي عليها. كان الرجل بلا شكٍّ أبرز خلفاء بارباروسا الذين حكموا دولة القراصنة البربر من مارس عام ١٥٦٨م، وحتى وفاته في السابع والعشرين من يونيو عام ١٥٨٧م.
الاسم الحقيقي لأولج علي هو أوتشالي من شبه جزيرة كالابريا الإيطالية، تلقَّى تعليمه الأول في فترة الصبا في أحد الأديرة، وكان في نيته أن يصبح راهبًا في المستقبل، لكنه وقع في أَسر القراصنة البربر عندما هاجم هؤلاء على السواحل الجنوبية لإيطاليا، وظل لسنواتٍ طويلة يعمل بالتجديف في سفينة الريس علي أحمد، ثم قائدًا للدفة في سفينة دراجوت.
دخل أولج علي في الإسلام على أمل أن يجد الفرصة يومًا ما للانتقام، مضمرًا الحقد والكراهية لكل مَن هو تركيٌّ، ومنذ ذلك الحين تغيرت أحواله تمامًا، فدأب — منذ أعتقه علي أحمد — على ملازمة القراصنة، وبدأ يشق طريقًا له في هذا المجال بسرعةٍ فائقة، ليصبح في عام ١٥٥٧م واليًا على تلمسان. أما في عام ١٥٦٠م؛ فقد تم منحه لقب خليفة. فيما بعد يرث أولج ثروةً طائلة عن دراجوت ويصبح باشا على طرابلس، ليصل في النهاية إلى منصب بايلرباي الجزائر.
لقد جرى تعيينه في هذا المنصب الرفيع فور احتلاله لتونس، واستيلائه — بعد معركةٍ شرسة — على سفنٍ حربية من سفن الفرسان المالطيين. كانت الغنيمة التالية أمام علي هي قبرص، التابعة آنذاك لفينيسيا.
كان البابا بي الخامس قد ناشد — بعد أن عرف بوقوع هذه الجزيرة في يد الأتراك — العالَم المسيحي بأَسره أن يقوم بحملةٍ صليبية ضد الكفار، على أن أحدًا لم يسارع لنجدة فينيسيا سوى الملك فيليب الثاني ملك إسبانيا، الذي وضع أسطوله بكامله ليكون تحت تصرُّفها. أما العديد من الملوك فلم يستجيبوا لدعوة البابا، وإن كان عدد من الفرسان من مختلف الدول الأوروبية قد انضموا إلى صفوف فرسان مالطة.
استُقبل السلطان أولج استقبال الأبطال، وعيَّنه في منصب الأدميرال الأكبر للأسطول التركي تاركًا إياه يحتفظ في الوقت نفسه بلقب بايلرباي أفريقيا، وهكذا استطاع هذا القرصان البربري الفذ — العبد سابقًا — أن يرتقي أعلى درجات المجد.
كان أولج علي الأخير في قائمة الحكَّام البايلربايات في دولة القراصنة.
كانت تجارة العبيد دائمًا أحد أهم مصادر الدخل الرئيسية للقراصنة البربر، بل لقد ظهرت هناك في الجزائر وتونس وطرابلس شركات تجارية كانت تمول الحملات من أجل الحصول على البضائع الحية. ويرى الأب دان المؤرخ، والذي كان أسيرًا في الجزائر في عام ١٦٣٤م، أن عدد العبيد المسيحيين هناك بلغ آنذاك خمسة وعشرين ألف أسير، ناهيك عن ثمانية آلاف مسيحي اعتنقوا الإسلام.
كان من المتبع بعد تسليم العبيد في الميناء أن يُسجنوا في سراديبَ واسعةٍ، ثم يجري بعد ذلك تسجيلهم واستخراجهم واستجوابهم بواسطة مترجمين، ثم تصنيفهم وكتابة الاسم والكنية والجنسية والمهنة إلى آخر هذه البيانات. وكان الذين لهم أقارب أغنياء قادرون على دفع فدية كبيرة يُوضعون بمفردهم، أما الآخرون فيُرسلون إلى بيسيستان، وكان يُعد آنذاك أكبر سوق للعبيد؛ حيث يعرضون هناك للبيع.
كان بعض الأَسرى المسيحيين يعامَلون معاملة قاسية، لكن هذه الحالات كانت نادرةً للغاية، إذا استثنينا بالطبع إرسال الأَسرى إلى الأعمال الاجتماعية والشاقة. كان السادة من الأتراك والمغاربة يعاملون عبيدهم في الغالب ببساطة كما يعاملون الماشية، معتبرين أنهم كلما أحسنوا تغذيتهم ومعاملتهم، كان هؤلاء أكثر إنتاجيةً لهم في العمل. كان هؤلاء المسلمون يتميزون كثيرًا عن المسيحيين الذين كانوا يعاملون عبيدهم من المسلمين معاملتهم للمرتدين، أما ما كان يعنيه هذا الأمر إبان عصر التفتيش؛ فالأمر لا يحتاج إلى تفسير.
كان المغاربة يقدِّرون أصحاب الحِرَف والفنانين والأطباء تقديرًا رفيعًا، وكانوا كثيرًا ما يُعيدون العبيد إلى حريتهم، وقد اختلط الكثير من هؤلاء بالسكان، وتزوجوا منهم، واعتنق بعضهم الإسلام، وارتدُوا العمائم، وذهبوا للعمل كقراصنة.
أما فيما يتعلق بالأسيرات المسيحيات؛ فالشابات والجميلات منهن أُرسلن إلى الحريم، بيما جرى استخدام كبار السن وغير الجميلات في الأعمال المنزلية.
بقي بعد ذلك الأَسرى الذين أُرسلوا للعمل على السفن، وهؤلاء كانوا على موعدٍ مع مصيرٍ مأساوي؛ فقد اختير لهذا الغرض رجالٌ ممن كانوا يتمتعون بقوةٍ جسدية، فكان يتم تقييدهم إلى سطح السفينة عند مكان المجداف، وكان طعامهم يتكون من الخبز الجاف، وأحيانًا من العصيدة، ولم يكن يُقدَّم لهم أي مشروبٍ سوى الماء مضافًا إليه قليل من الخل وزيت الزيتون، وعلى امتداد صفوف المجدفين كان هناك نفرٌ من الملاحظين يمشون جيئةً وذهابًا يحثونهم على العمل بالكرابيج.
لعل أشهر مَن وقعوا في أَسر القراصنة في التاريخ — عدا يوليوس قيصر — هو الكاتب الإسباني الشهير ميجل سرفانتيس الذي اشترك في المعركة التي دارت بالقرب من ميناء ليبانتو؛ ففي العشرين من سبتمبر عام ١٥٧٥م، وقع سرفانتيس هو وأخوه في أيدي القراصنة البربر أثناء عودتهما من نابولي في طريقهما إلى إسبانيا. وفي الجزائر جرى بيعه لأحد اليونانيين المرتدين، والذي وُجد معه عند تفتيشه خطاب توصية من خوان النمسوي، عندئذٍ أسرع اليوناني بمطالبة الأخير بفديةٍ كبيرة مقابل إطلاق سراح أَسيره.
في الوقت نفسه كان سرفانتيس مقيدًا في الأصفاد، لا طاقة له بتحمُّل مشاق الحبس والمعاملة القاسية، ومن ثم فقد بدأ يفكر في الهرب، لكن كل محاولاته باءت بالفشل، بل وفرضت عليه رقابة أشد.
ذات مرة نجح سرفانتيس في الاتصال بأخيه الذي أدَّى أبوه الفدية، وعندما حضرت السفينة لأخذه تسلل سرفانتيس سرًّا إليها، لكن أمره افتضح. تحمل سرفانتيس عاقبة فعلته وحده، ولم يشأ أن يشي إطلاقًا بمَن يسَّر له أمر الهرب، على الرغم مما تعرض له من صنوف العذاب. لم يستطع حسن نائب الملك والمشهور بقسوته، أن يجبر سرفانتيس على الوشاية بشركائه في المؤامرة إلى حدِّ أن إصرار هذا الأسير أصبح موضع إعجاب حسن نفسه الذي دفع عنه الفدية لليوناني. سعى سرفانتيس مرةً أخرى للهرب لكن أحد الدومينيكانيين خانه، وأخيرًا وبعد مرور ما يزيد عن أربع سنوات وصلت الفدية. أُطلق سراح سرفانتيس في شهر سبتمبر من عام ١٥٨٠م، وكان يبلغ من العمر — آنذاك — ثلاثين عامًا. كتب سرفانتيس إنتاجه الشهير عندما بلغ من العمر ستةً خمسين عامًا، وقد عانى في هذه السن أيضًا مرارة السجن مرةً أخرى.
كان الوقوع في أَسر القراصنة كابوسًا حقيقيًّا بالنسبة لسكان السواحل الأوروبية، وقد حاولت الدول بكل الطرق أن تخفف من وقعه؛ ففي عام ١٦٢٤م أعلن مجلس اللوردات الإنجليزي الاكتتاب من أجل جمع فدية الأَسرى الإنجليز. بعد ذلك بمائة عام خصَّص المدعو توماس بيتون جزءًا كبيرًا من ثروته لهذا الغرض.
في القرن الثاني عشر تأسست أول منظمة في أوروبا، كانت مهمتها افتداء الأَسرى وإطلاق سراح المساجين تحت اسم جمعية الثالوث المقدس. كان مؤسسها هو القديس يوحنا من متا، وقد افتدت الجمعية خلال العام الأول من نشاطها ستة وثمانين أسيرًا في السجون المغربية. وقد قام القساوسة الأتقياء بجلابيبهم البيضاء، تزينها على الصدور صلبان حمراء وزرقاء، بإجراء مفاوضاتٍ خطيرة مع القراصنة؛ إذ إنهم أنفسهم — ولا عجب — كثيرًا ما كانوا يقعون في الأَسر.
بمرور الوقت أصبح الدومنيكان يتولون هذه المهمة، الأمر الذي كان من نتيجته أن أصبح الأَسرى الكاثوليك في وضعٍ أفضل من وضع الأَسرى البروتستانت. وهناك حادثٌ شهير في هذا الصدد، فعندما دفع الآباء المخلِّصون إلى باي الجزائر مبلغ ثلاثة آلاف قرش كفدية لثلاثة من الأسرى الفرنسيين، نظر الباي إليهم نظرة عطف، فأضاف إليهم أسيرًا رابعًا بلا مقابل. إلا أن الآباء رفضوا أن يصطحبوه معهم؛ لأنه كان بروتستانتيًّا!
في النهاية قامت البلاد البروتستانتية بدورها بإنشاء منظمة تُعنَى بشئون فدية أسراها، وكان على رأسها سيدني سميث.
استمرت القرصنة البربرية بضع قرون اجتازت فيها مختلف التقلبات، إلَّا أنها بحلول القرن الثامن عشر، ونتيجة لفقدها نقاط الارتكاز السياسية في الإمبراطورية العثمانية، التي أخذت شيئًا فشيئًا في الضعف والتحلُّل — إلى جانب الأعمال المشتركة بين الدول الأوروبية — أخذت بدورها في الانهيار تدريجيًّا، لكنها كانت ما تزال — حتى في القرن التاسع عشر — على قدرٍ كبير من القوة، حتى إنه في حوالي عام ١٨٠٠م على سبيل المثال، كانت ممالك صقلية، وتوسكانا، وسردينيا، والبرتغال، والدنمارك، والسويد، وهانوفر، وبريمن، تدفع إتاوةً ثابتة لقراصنة البربر.
في حوالي الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، انتهت تمامًا من الوجود دولة القراصنة البربر.