القرصنة في البحر الكاريبي
أسهمت الطفرات الاجتماعية والاقتصادية الجذرية، التي حدثت في الكثير من الدول الأوروبية في القرن السادس عشر، والتي أدت إلى انهيار العلاقات الإقطاعية السابقة في القضاء على القرصنة في البحار المتاخمة لأوروبا، على أن النهب البحري عاد بعد أن طرأ عليه بعض التغيير الظاهري.
ففي أمريكا، ظلت الأشكال الاقتصادية التي انتهت في أوروبا، وما ارتبط بها من أشكال علاقات الإنتاج والتبادل المتخلِّفة، سائدةً لبعض الوقت. كان بإمكان قراصنة العالم الجديد، مثلهم في ذلك مثل أسلافهم الأوروبيين والأفارقة، أن يربطوا في أحيانٍ كثيرة بين نشاطهم في السلب واشتغالهم بالتجارة والملاحة.
وفي القرنين السادس عشر والسابع عشر، أصبحت مياه البحر الكاريبي وجزر الأنتيل المنتشرة فيه هي المسرح الرئيس لتاريخ القرصنة الأمريكية الحافل، فقد تحولت هذه الجزر ذات الخلجان العديدة والمنيعة، التي اكتنفتها العزلة والهدوء، إلى أوكارٍ وملاجئ على مدى عشرات السنين لكل أصناف المغامرين ولصوص البحر.
مارست القرصنة نشاطها في البحر الكاريبي على وجهين مختلفين؛ فمن ناحيةٍ دخلت القرصنة طرفًا في الحروب التي دارت رحاها بين الدول الأوروبية الاستعمارية؛ من أجل الاستيلاء على أجزاءٍ من العالم الجديد، وفي هذه الفترة توافق نشاط القرصنة البحرية، المقترن بنهب الشواطئ في بعض الأحيان، مع ظهور الأساطيل الحربية الجبارة في هذا البحر، واشتراك الأخيرة هي أيضًا في عمليات نهب المدن على نطاقٍ كبير. إن هذه العلاقة بين القرصنة والنهب كانت وثيقة إلى حدِّ أنه كان من الصعب وضع حدٍّ فاصل بين هاتين الظاهرتين، وتحديد أي الشخصيات في الملاحم الكاريبية ينبغي أن يندرج في خانة القراصنة، وأيها في خانة اللصوص.
أصبحت هذه الظاهرة تشكِّل أحد أهم أسباب الخلط المتكرر في معرفة جوهر هاتين الظاهرتين المختلفتين؛ القرصنة البحرية، ونهب المدن على طريق البحر.
من ناحيةٍ أخرى؛ فقد مارس قراصنة الكاريبي بالفعل هذا النوع من النهب في أوقات السلم، حيث ارتبط هذا النوع من النشاط بالتجارة في أغلب الأحيان، هنا كان القراصنة يقومون بدور التجار والمهربين أكثر من كونهم رجال حربٍ.
على أنه سرعان ما ظهرت بالقرب من شواطئ العالَم الجديد سفن إنجلترا وفرنسا وهولندا والدنمارك، التي لم تعترف بالاحتكار الاستعماري الإسباني. لقد اشتعل الصراع بين هذه الدول على إعادة تقسيم العالَم الجديد، وجرى الجزء الأكبر من وقائع هذا الصراع على المسرح الحربي للبحر الكاريبي، حيث لعب القراصنة واللصوص دورًا لا يُستهان به في هذا الصراع.
البوكانيون والفليبوستيون
عادةً ما يلجأ باحثو «ملاحم» القرصنة في البحر الكاريبي إلى تقسيمها إلى عددٍ من المراحل التاريخية، متَّخذين من فترات سيطرة بعض الدول الأوروبية، التي اشتركت في هذا الصراع، أساسًا لهذا التقسيم.
كانت هذه هي الظروف التي بدأت في ظلها المرحلة الثانية من ملحمة البحر الكاريبي، والتي عُرفت باسم المرحلة الإنجليزية (١٥٦٠–١٦٢٠م)؛ فعلى الرغم من أن اللصوص الإنجليز الأوائل كانوا قد ظهروا على صفحة الكاريبي في عام ١٥١٩م، أي بعد اكتشاف أمريكا على يد كولمبس بأقل من ربع قرن؛ فإنهم لم يوسعوا من نشاطهم إلا في النصف الثاني من القرن السادس عشر. امتلك كل من اللصوص والقراصنة سفنًا كانت تعمل باسم الدول التي تمنحهم شهادات لممارسة القرصنة. كانت الشهادات تشير إلى اسم العدو واسم الحليف، كما تحدد شروط تقسيم الغنائم، أما القرصان فكان يحصل في الغالب على تسعين بالمائة منها، بينما تحصل الدول الراعية على العشرة بالمائة الباقية تعبيرًا عن خضوع القراصنة، وكتعويضٍ مقابل الحماية الشرعية التي تتمتع بها سفنهم.
وقد شرعت إنجلترا — التي لم يكن لديها حتى ذلك الحين أسطولًا حربيًّا قويًّا — في إنشاء قوة مسلحة بحرية معتمدة في ذلك على هؤلاء القراصنة بالتحديد. كان هؤلاء الرجال الشجعان، الذين ظلوا يحاربون أعداء ألبيون ببسالةٍ، يلقون تقديرًا رفيعًا من ملك إنجلترا وشعبه، وقد نال كثيرٌ منهم ألقابًا رفيعة لما أدوه من خدمات.
يصعب حصر القراصنة الإنجليز الذين تركوا أثرًا داميًا في التاريخ العاصف لجزر الأنتيل، يكفي أن نذكر فقط في هذا الصدد بعضًا من بين أكثرهم شهرة وشراسة، حتى ندرك حجم الدور الذي لعبوه في التاريخ. من أبرز الأسماء: جون هوكنز، فرنسيس درايك، توماس باسكرويل، والتر رايلي.
يعتبر جون هوكنز تاجرًا أكثر منه قرصانًا، سعى في الستينيات من القرن السادس عشر للعمل بالتجارة في سوق حوض البحر الكاريبي المليء بالاضطرابات. أمَّا فرنسيس درايك الذي شارك هوكنز العمل بالقرصنة بعض الوقت؛ فبلغ ذروة نشاطه في الفترة ما بين عامي ١٥٧٠ و١٥٩٦م، ولم يستطع توماس باسكرويل الذي خلفه في نشاطه من الوصول إلى مرتبة أستاذه.
اشتهر درايك، الذي قام في الأعوام من ١٥٧٧ إلى ١٥٨٠م برحلةٍ بحرية حول العالَم، بهجومه الناجح على سانتو دومنجو؛ ففي التاسع من يناير عام ١٥٨٦م، ظهر درايك على رأس ثلاث وعشرين سفينةً بالقرب من عاصمة إسبانيولا. وفي اليوم التالي أنزل درايك بضع مئات من رجاله إلى الشاطئ، نجحوا في التسلل إلى سانتو دومنجو. وعلى الرغم من أن المدينة كانت محاطة بأسوارٍ منيعة ولديها بعض الأسلحة، فإن حاميتها بأَسرها لم تكن تزيد على ثلاثين رجلًا، بالإضافة إلى ذلك فإن بوابة المدينة تُركت مفتوحةً، الأمر الذي جعل الإنجليز يدخلون المدينة دونما مقاومةٍ. تمكَّن المحافظ الإسباني من الفرار، بينما طالب درايك السكان بدفع جزية بلغت مائتي الف دوكاتو، إلا أن المواطنين لم يكن بمقدورهم أن يجمعوا مثل هذا المبلغ الباهظ، وانتهى الأمر بأن سلَّموا زعيم القراصنة خمسة وعشرين ألف دوكاتو، عندئذٍ أمر درايك بتدمير المدينة.
في عام ١٥٩٥م احتل رايلي مدينة ترينداد، بعدها قام الإنجليز في عام ١٥٩٨م بنهب سان خوان، ثم اتجهوا ببصرهم بعد ذلك تجاه جاميكا، وكان هجومهم الأول عليها في مطلع شهر فبراير عام ١٥٩٧م بقيادة أنتوني شبرلي، عندما أنزلوا فصيلةً مكونة من مائتي وخمسين رجلًا في بويرتو دي كاجوايا (تُسمى الآن باسدج فورت)، ومنها واصلوا حملتهم نحو سانتياجو دي لافيجا عاصمة جاميكا، وقد ولَّت الحامية الإسبانية الصغيرة الموجودة بها أدبارها على الفور. إن بضع عشرات من الرجال في ظروف البحر الكاريبي آنذاك كانوا يمثلون قوةً مؤثرة وخاصةً؛ إذ كانوا يتمتعون بشجاعةٍ مثل شجاعة هؤلاء اللصوص الذين يتميز هجومهم بالحنكة والمباغتة. لقد نهب اللصوص الإنجليز المدينة، ولم يتركوها إلا بعد أن حوَّلوها إلى مجرد أطلال ورماد.
في عام ١٦٠٠م يعود القراصنة من جديد، ليهاجموا جاميكا، ولكنهم يهاجمونها هذه المرة من الجانب الآخر من الجزيرة، ثم كانت الغزوة التي تلتها، والتي قادها وليم جاكسون في عام ١٦٤٣م، من نصيب سانتياجو دي لافيجا. لقد نالت «جزيرة الجنة» إعجاب الإنجليز، حتى إن عشرين من القراصنة هربوا إليها بسفنهم، وانضموا فيها إلى الإسبان، ليستقر بهم المقام فيها أبد الآبدين.
سُميت المرحلة التي تلت ذلك بالمرحلة الهولندية (١٦٢٠–١٦٤٠م)، في هذه الآونة قامت هولندا، وهي إحدى الدول المعادية لإسبانيا، بتطوير نشاطها الاستعماري على نحوٍ مكثف في آسيا (إندونيسيا)، وفي أمريكا (نيو أمستردام وغيانا)، وخلال عام ١٦٢٤ و١٦٢٥م نجح القراصنة الهولنديون في الهجوم على بويرتوريكو.
إن «المآثر!» التي اجترحها اللصوص والقراصنة السابقون لَتتضاءل أمام ما حققه البحَّار الهولندي بيتر بيترسون هاين، الذي اشتُهر بين مواطنيه باسم بيت هاين، كان هاين ابن صياد هولندي يعمل في أعالي البحار، آخذًا عن أبيه منذ نعومة أظافره فنون البحر، حتى إذا بلغ أشده تولى في عام ١٦٢٨م قيادة أسطول شركة وست إنديا، الذي بنته هولندا في إطار استعداداتها للقيام بحملتها العسكرية على أمريكا. لقد بدا أنه أسطولٌ كبير للغاية، يضم إحدى وثلاثين سفينةً، يبلغ عدد البحارة العاملين عليها ثلاثة آلاف رجلٍ، إلا أن هذا الأسطول كان في واقع الأمر أسطولًا هشًّا على الرغم من كثرة العدد؛ فالأطقم العاملة عليه تفتقر إلى الخبرة، كما تفتقر إلى التسليح الجيد، ناهيك عن أن هاين قد تلقَّى مهمةً صعبة، وأضحى يحمل على كاهله مسئولية جسيمة؛ إذ تلقَّى أمرًا بالاستيلاء على قيادة إحدى سفن الأسطول «الفضي» الإسباني وما عليها من ثروةٍ إبان إبحارها، محاطةً بالحراسة في طريقها من أمريكا إلى أوروبا.
نظرًا للمخاطر التي كانت تهدد الطريق البحري الذي يربط بين إسبانيا بممتلكاتها في أمريكا، والممثَّلة في لصوص البحر والقراصنة المنتشرين على طول هذا الطريق، فقد قررت الغرف التجارية الإسبانية، وكانت قد أُسست في عام ١٥٣٠م محتكرة كل التجارة البحرية، استخدام سفن حربية جبارة لتحمي قوافلها البحرية التجارية إبَّان نقلها للثروات من أمريكا إلى إسبانيا، لكن الأمر لم يكن دائمًا ليسير على هوى سفن الأسطول «الذهبي» أو «الفضي»، فعندما كانت إحدى سفن هذه الأساطيل تضطر، بسبب حادثٍ يقع لها أو لسوء الأحوال الجوية للانفصال عن القافلة، كانت تصبح على الفور تحت رحمة اللصوص الإنجليز والفرنسيين والهولنديين، بل وكل قراصنة الكاريبي المنتشرين في البحر. لقد كان الجميع يترقبون وقوع مثل هذه الأحداث، وهم يتتبعون قوافل السفن الإسبانية تمامًا، مثلما تتبع أسماك القرش ضحيتها.
لم يتسنَّ لبيت هاين من قبل أن يحقق نجاحًا كبيرًا، أما الآن فقد أصبح لزامًا عليه أن يقود أسطوله للهجوم على أحد الأساطيل «الفضية» الإسبانية المكوَّن من أربعة غلاوين حربية ضخمة، تقوم على حماية إحدى عشرة سفينة تجارية صغيرة. كانت قوة نيران الغليون الإسباني الواحد تفوق نيران الأسطول الهولندي بأكمله.
اختبأ «بيت هاين» بأسطوله بالقرب من ماتاناس الواقعة شرقي هافانا في كوبا، بعد أن نجح في خداع حرس السواحل اليُقَّظ. لقد تنبأ هاين أن أحدًا لن يتوقَّع أن يلاقي أعداءه عند مدخل كوبا نفسها، وهي التي تعد واحدة من أكبر القلاع الإسبانية في منطقة جزر الأنتيل، وقد صدقت نبوءته.
لقد كان هجوم القراصنة الهولنديين غاية في الدقة والمباغتة، حتى إنهم لم يلجئوا لاستخدام مدفعيتهم، وتم لهم الاستيلاء على تسع سفنٍ ضخمة محملة بالمعادن الثمينة والتوابل. وهكذا ضاع مجهود عامٍ بأكمله بذله الرعايا والمستعمرون الإسبان أدراج الرياح. أما في أوروبا فقد اهتزَّت الثقة في رجال المال والأعمال الإسبان، ولم يجد سكان كاستيليا حتى ما ينفقونه على الجيش.
أخذ الإسبانيون — بعد الهزيمة التي حاقت بهم من الهولنديين — في تقوية مواقع حرس السواحل العاملة في ممتلكاتهم في البحر الكاريبي، وقاموا بتغيير مواعيد الرحلات والطرق التي تسلكها الأساطيل الإسبانية التي تحمل بضائع قيِّمة. ولكن على الرغم من كل الإجراءات والاحتياطات التي اتُّخذت؛ فقد تمكَّن اللصوص والقراصنة من إنزال ضربات مؤثرة بالإسبان. لقد اتضح الآن أن الأساطيل الإسبانية التي أصابها الوهن لم تعد تصلح إلا لأعمال الدفاع، حتى إن الإسبان أخذوا في زيادة الاستحكامات في الحصون والقلاع المنتشرة في جزر الأنتيل، والتي ما تزال حتى اليوم شاهدًا على الصراعات الدموية التي دارت رحاها في هذه المنطقة. لقد انهارت السيادة الاحتكارية لإسبانيا على البحر الكاريبي، كما انهارت حوائط الحصون بعد أن احتلها الإنجليز والفرنسيون والهولنديون، وأصبح من الجليِّ أن الإسبان ليس في مقدورهم بالفعل الدفاع عن مستعمراتهم. على هذا النحو تمكَّن الغزاة الجدد في ثلاثينيات القرن السابع عشر من اقتحام جزر الأنتيل الصغيرة، بعدها جاء الدور على جزر الأنتيل الكبرى، ثم ما لبث الاقتحام أن شمل في النهاية القارة الأمريكية ذاتها.
لقد دخل الصراع في حوض البحر الكاريبي مرحلةً جديدة. ها هم القادمون من غرب وشمال أوروبا ومعهم القراصنة واللصوص، يفضِّلون الآن العمل بالتجارة والصيد وتربية الماشية، بل اتجه بعضهم أحيانًا إلى امتهان الزراعة، وفي الوقت نفسه فقد ظل هؤلاء يواصلون حربهم ضد إسبانيا، وضد السكان المحليين على حدٍّ سواء.
وفي هذه الفترة بالتحديد ظهر على ساحة الكاريبي أشخاصٌ جدد، ونعني بهم البوكانيين والفليبوستين.
والبوكانيون صيادون سُمُّوا بهذا الاسم؛ لأنهم كانوا يعدون لحوم الوحوش التي كانوا يصيدونها بطريقة الهنود المعروفة باسم «بوكانا»، وذلك بتمليحها وتجفيفها، ثم تدخينها في دخانٍ كثيف، كان إعداد اللحوم بهذه الطريقة يسهل من حفظها في ظروف المناخ الاستوائي، كما كانت تَلقى رواجًا كبيرًا في جزر الأنتيل.
ظهر البوكانيون في الكاريبي بعد أن ترك الإسبان مستعمراتهم في جزر الأنتيل، متجهين إلى القارة الأمريكية بمجرد اكتشاف العالَم الجديد، ووقوعهم في هوى ذهب قبائل الأزتيك والمايا والإينكا، ترك الإسبان في هذه الجزر الحيوانات المستأنسة التي أحضروها من أوروبا؛ البقر، الماعز، والأغنام، والخنازير التي خرجت من الأفنية المهجورة إلى الأحراش، لتضع بداية لنوعٍ خاص متباين من الحيوانات المستأنسة المتوحشة. وهذه الجوانب المتوحشة بالذات هي التي أصبحت فيما بعد هدفًا للصيد من جانب البوكانيين، الذين خرجوا من قبل إما من أوساط البحارة الفرنسيين أو من بين الذين تعرَّضت سفنهم لسطو اللصوص والقراصنة الذين استوطنوا إسبانيولا.
سُمِّي الفلوبستيون أيضًا ﺑ «جماعة الشاطئ»، منذ أن أنشئوا على البر وفي البحر مجتمعًا منظمًا على نحوٍ غير عادي، مجتمعًا يقوم على مبادئ الملكية المشتركة، وكانت عقوبة أي محاولة للاستئثار بجزءٍ من الغنيمة هي الطرد من عشيرة القراصنة، وأحيانًا تكون أشد قسوةً. كانت دُخول القراصنة متمايزة بشكلٍ صارم، ويتم توزيعها تبعًا للوظيفة التي يقوم القرصان بأدائها؛ فعلى سبيل المثال: كان قبطان السفينة يتقاضى أربعمائة بيسو؛ مساعد الطبيب: مائتين؛ نجار السفينة يتقاضى مائة وخمسًا وسبعين؛ البحَّار: مائة؛ وصبي البحار: خمسين. أما المال العام فكان يُستخدم في شراء السلاح والغذاء ومستلزمات السفينة وما إلى ذلك. كان لمجتمع القرصنة نظامه الاجتماعي الخاص الذي يكفل بواسطته دفع التعويض المناسب للذين يصابون في المعارك من أفراده، فالقرصان الذي يفقد ذراعه اليمنى يتقاضى ستمائة بيسو، أو ستة أسرى كمعادل لهذا المبلغ. أما القرصان الذي يفقد ذراعه اليسرى فيتقاضى خمسمائة بيسو، أو يُعطى خمسة أسرى. وعلى هذا النحو يتم تعويض من فقَد ساقيه، أما من تُفقأ له عين أو يقطع له إصبع؛ فيدفع له مائة بيسو، أو يُعطى أسيرًا واحدًا.
كان على جميع القراصنة أن يؤدوا يمين الولاء، وأن يلتزموا بالنظام المقرر الذي كان من النادر أن يقوم أحدٌ منهم بمخالفته. كانت المساواة التامة واحدة من القواعد الملزمة، فجميع أعضاء طاقم السفينة من الصبي إلى القبطان يتناولون طعامًا واحدًا، وكان بمقدور كل شخص أن يتناول من الطعام والشراب كما يشاء إلا السُّكر؛ فعنده كان يواجه بأقسى عقوبة. أما عند اتخاذ القرارات المهمة، مثل تحديد هدف الحملة واتجاهها وما إلى ذلك من قرارات، فقد كان على القبطان أن يطرح مقترحاته ليصدق عليها من المجلس الذي يدخل طاقم السفينة بأكمله ضمن أعضائه. فإذا كان الطاقم يخضع دون اعتراض للقبطان؛ فإن هذا الأخير في المقابل كان يُحاسب على ما يقوم به من أفعالٍ أمام مجتمع القراصنة. لم يكن الانضمام للجماعة أمرًا تكتنفه أية صعوبة، فمَن كانت لديه الرغبة في الانضمام إلى القراصنة؛ فما عليه سوى أن يلقي بمرساته عند جزيرة تورتوجا، ويؤدي لقبطان السفينة يمين الولاء فيُقبل من فوره.
بعد أن وطَّد قراصنة الكاريبي وضعهم، حوَّلوا تورتوجا إلى حصنٍ جبار، ومن ثم أخذوا يتطلعون لجعلها تقوم بدور متروبول حقيقي للقراصنة في منطقة بحر الكاريبي. لم يكن لهذه الجزيرة الصخرية المنيعة سوى خليج واحد يصلح لأن يكون ميناء. كنت هناك صخرة عظيمة تخفي مدخله، بنى القراصنة فوقها قلعة دفاعية، أسموها «برج الحمام» («إل بالومار» بالإسبانية).
يومًا بعد الآخر تحوَّلت تورتوجا إلى مستعمرةٍ غنية، استحقت أن تُعرف باسم لؤلؤة جزر الأنتيل.
كان وصول المهاجرين الفرنسيين والإنجليز القادمين من جزر نيفيس وسانت كبتس إلى جزيرة تورتوجا في عام ١٦٢٩م، بداية لظهور الفلوبستيين المتعددي الجنسية، وسرعان ما توافد البحَّارة من مختلف البلاد على الجزيرة: إنجليز، فرنسيون، دنماركيون، هولنديون، برتغاليون، ألمان، بل ومن الإسبان أيضًا. على الرغم من أن مسألة الأصول العرقية لم تكن ذات أهمية كبيرة في تورتوجا، فإن التفوق العددي كان للإنجليز الذين أصبحت لهم — على نحوٍ رمزي — مقاليد السلطة في حوالي عام ١٦٣١م. وفي العامين ١٦٣٤، ١٦٣٥م سيطر الإسبان على الجزيرة، ولكن الأمر لم يستمر طويلًا، فسرعان ما اضطره بعد عدة شهور لإعادة السلطة إلى الإنجليز مرةً أخرى.
أخذ الإنجليز ينظرون إلى الجزيرة باعتبارها مستعمرتهم الخاصة، وكان أن أدت هذه السياسة إلى وقوع انقسامات بين الفلوبستيين المحليين، وخاصةً بين الأغلبية الإنجليزية القوية والفرنسيين الأقل عددًا وعدة، وفي حوالي عام ١٦٣٩م تم طرد الفرنسيين من الجزيرة نتيجةً لهذه المصادمات.
إلا أن القراصنة الفرنسيين لم يستسلموا للهزيمة، فبعد معركةٍ لم تدُم وقتًا انسحبوا إلى سانتا دومنجو، حيث بقوا هناك بانتظار فرصةٍ مواتية للعودة إلى تورتوجا، وكانت من المنعة بحيث يصعب الاستيلاء عليها، وفي الوقت نفسه لم يكن الدفاع عنها يتطلب جهدًا كبيرًا، وهي الميزات التي كانت ترفع من شأنها في أعين القراصنة.
وها قد سنحت لهم الفرصة عندما علموا أن السيد فيليب دي لونجوي دي بوانسي، محافظ القطاع الفرنسي من جزيرة سانت كيتس، قد جهز المدعو ليفاسير لمحاربة الإنجليز بهدف استرجاع تورتوجا منهم، كان تحت تصرُّف ليفاسير تسعة وأربعون رجلًا. وعندما وصل إلى سانتو دومنجو دخل في مباحثاتٍ مع الإنجليز باءت بالفشل، فما كان منه إلا أن انضم الفلوبستيون الفرنسيون الموجودون في سانتوا دومنجو. وفي الواحد والثلاثين من أغسطس عام ١٦٤٠م، نزل ليفاسير إلى تورتوجا وبصحبته مائة رجل تحدى بهم حامية الجزيرة المكوَّنة من ثلاثمائة قرصان، وعلى الرغم من التفوق العددي للإنجليز بالجزيرة نجح الفرنسيون بعد أن استولوا على الحامية بهجومهم المفاجئ في إلحاق الهزيمة بهم وطردهم من الجزيرة، ظل ليفاسير حاكمًا لجزيرة تورتوجا ما يزيد على عشر سنوات بذل خلالها جلَّ جهده لتحويلها إلى مستعمرةٍ فرنسية مزدهرة.
وقد أوغرت طريقته القاسية في الحكم صدور القراصنة الذين اعتادوا على الحياة المستقلة، وفي عام ١٦٥٢م لقي ليفاسير مصرعه على يدي اثنين من خلصائه، كما تنبَّأ هو بنفسه بذلك.
وعلى مدى السنوات الخمس التي تلت ذلك (١٦٥٢–١٦٥٧م) سادت الفوضى الشديدة أنحاء تورتوجا، وتوالى على حكمها عددٌ من المحافظين الفرنسيين، ومرة أخرى تعود الجزيرة منذ نهاية عام ١٦٥٤م لتصبح الغلبة فيها للإسبانيين الذين خربوا الجزيرة، وأبادوا جزءًا كبيرًا من سكانها، الأمر الذي اضطر ما بقي بها من السكان إلى اللجوء إلى سانتو دومنجوا، بعد عامٍ واحد فقط يعود الإنجليز ليحكموا الجزيرة. على أن الفرنسيين عادوا بدورهم ليستردوها، ثم يرسِّخوا هناك سلطة الملك لويس الخامس عشر.
خلال الأعوام من ١٦٦١ إلى ١٦٦٣م حاول الإنجليز أن يستولوا على المستعمرة الفرنسية، لكن جهودهم ذهبت أدراج الرياح، وفي الفترة من ١٦٦٥ إلى ١٦٨٥م تنتقل هذه المستعمرة لتصبح تحت رقابة الجهاز الاقتصادي والإداري السياسي لمستعمرة هايتي الفرنسية.
وفي النصف الثاني من القرن السابع عشر تعود مرةً أخرى فترة السيطرة الإنجليزية على الجزيرة (١٦٤٠–١٦٦٠م). كانت هذه فترة الفلوبستيين من مختلف الأجناس، وقد أدى التوسع الفرنسي في بحر الكاريبي إلى ظهور المجتمعات القومية للبوكانيين الذين توجَّه بعضهم للبحث عن نقاط ارتكاز لدى السلطات في الجزر التي يحتلها الفرنسيون، بينما توجَّه البعض الآخر ليبحثوا لأنفسهم عن أماكنَ للعيش في الجزر التي يسكنها الإنجليز.
إلى جانب سفن اللصوص والقراصنة الصغيرة التي تميَّزت بالسرعة وسهولة المناورة، أخذت في الظهور يومًا بعد الآخر سفن حربية ضخمة ثقيلة مسلحة تسليحًا جيدًا.
لقد بدأ الفلوبستيون في إنشاء أساطيل كاملة من هذه السفن، ما لبثت أن أبحرت رافعة الراية السوداء في وسطها رسمٌ للجمجمة، وهي الراية المعروفة باسم راية «روجر المرح»، وما هي إلا برهةٌ حتى اشتُهرت أسماءٌ مثل: شيفالييه مونبار، جامب دي بوا أو ذو الساق الخشبية، فرانسوا لولونيه (وربما دي لونيه)، لويس سكوت، جون ديفس، لاوربانت دي جراف، فان هورن، مانسفيلد، ومورجان.
وقد حاول الأخيران أن يقيما جمهوريةً للبوكانيين، كان من المفترض أن تكون دولة من نوعٍ خاص للقراصنة، وتكون عاصمتها أولد بروفيدنس، لكن هذه المحاولة لم يُكتب لها النجاح، ومن ثَم اتخذ أسطول هنري مورجان، وقد كان بلا شك أعظم أساطيل قراصنة الكاريبي، اتخذ من جامايكا — الإنجليزية آنذاك — ومن تورتوجا الفرنسية قاعدتين له.
لقد أدى استيلاء الإنجليز على جاميكا في عام ١٦٥٥م إلى دعم مكانتهم السياسية والاقتصادية في منطقة الكاريبي، وأصبحت بورت رويال عاصمة الجزيرة، والتي كانت تُسمى «بابل القراصنة» السوق الرئيسية لتصريف الغنائم التي يتم الاستيلاء عليها من الإسبان، وكان السكان المحليون والتجار يشترون البضائع من القراصنة وهم في رضًا بالغ لرخص ثمنها.
إلى جانب هاتين الجزيرتين تغلغل القراصنة في جزر الأنتيل الصغرى والكبرى، ففي النصف الثاني من القرن السابع عشر استطاعوا النزول إلى القارة الأمريكية، بل وبلغت بهم الجرأة إلى حدِّ أنهم هاجموا مدنًا كبيرة، مثل بويرتوبيلو (عام ١٦٦٨م)، وبنما (عام ١٦٧٢م). وفي عام ١٦٨٣م قامت سفن القراصنة بالالتفاف حول رأس هورن، ليظهروا بعد ذلك في مياه الجزء الجنوبي للمحيط الهادي. وفي عام ١٦٩٥م وصل أسطول القراصنة إلى برزخ بنما من ناحية المحيط الهادي، بعد أن أعمل النهب في المستعمرات الإسبانية الواقعة على الساحل الغربي لأمريكا الجنوبية وخاصةً بيرو.
على أن هذا التقسيم لم يكن ثابتًا، وإنما كان عُرضة دائمًا للتغيير. لقد كان الفلوبستيون ينتمون إلى أجناسٍ شتى مما دفعهم دائمًا إلى السعي وراء الحصول على نقاط ارتكازٍ لهم تارةً لدى تلك الدول وتارةً لدى دولٍ أخرى، حتى إنهم في بعض الأحيان كانوا ينجحون في إقامة دويلات عابرة لهم على هذه، أو تلك من الجزر التي يتخذون منها قواعد ينطلقون منها في حملاتهم للسرقة والنهب.
وسرعان ما انضمت للدول الاستعمارية الأربع السابقة الذكر؛ إنجلترا وفرنسا وهولندا وإسبانيا، ودولةٌ أخرى هي الدنمارك، التي قامت في عام ١٦٧١م باحتلال جزيرة سانت توماس.
أخيرًا يسود الهدوء النسبي هذه المنطقة المضطربة بفضل معاهدة مدريد التي تمَّ توقيعها في عام ١٦٧٠م، والتي تنازلت إسبانيا بمقتضاها عن حقوقها في جزيرة جاميكا، وليستقر الأمر للفرنسيين بشكلٍ نهائي في عام ١٦٩٧م في الجزء الغربي من جزيرة سانتو دومنجو.
وبعد أن استقرت الأوضاع في حوض البحر الكاريبي قامت الدول الاستعمارية بعملٍ مشترك، اجتثت فيه شأفة القرصنة من هذه المنطقة، بعد أن دخل جزءٌ من البوكانيين والفلوبستيين ضمن التحالفات الجديدة في منطقة الكاريبي، بينما هاجر الآخر إلى مناطقَ أخرى من الكرة الأرضية لمواصلة أعمال القرصنة.
«جماعة الشاطئ» من تورتوجا
تعود الأحداث التي ستذكرها فيما يلي إلى عام ١٦٦٥م.
من المعروف أن جزيرة تورتوجا كانت — من الناحية الرسمية — مستعمرة فرنسية، وعلى الرغم من أنها فقدت أهميتها بصفتها قاعدة للقرصنة، فإنها ظلت مع ذلك وكرًا هائلًا للقرصنة، لقد نمت في تورتوجا قرية مأهولة بالسكان تنتشر في أنحائها المنازل المريحة النظيفة، الجيدة الترتيب، نال أهلها حظًّا وفيرًا من الثروة، ومع ذلك فقد ظلوا يكسبون عيشهم من القرصنة.
كان بيير ليجران النورماندي من بلدة دييب واحدًا من الضيوف الدائمي التردد على تورتوجا، تمرَّس طويلًا على يد القراصنة، ثم ما لبث صيته أن ذاع باعتباره بحَّارًا مقدامًا، وسرعان ما شغل منصبًا متميزًا في الجزيرة.
بفضل مواهب ليجران في التجارة، استطاع أن يمتلك سفينة صغيرة خاصة ذات أشرعة، يبلغ قوام طاقمها ثمانية وعشرين فردًا، ولم يكن ليجران يعتزم اجتراح أية مأثرة من أي نوع خاص، وإنما حزم أمره — كعادة قراصنة تورتوجا — على العثور على خليج ما يكون مستترًا على نحوٍ جيد، يستطيع التربُّص فيه لأية سفينة إسبانية تجارية من النوع المتوسط الحمولة.
وظل ليجران مبحرًا لعدة أيام بامتداد الساحل الكوبي، ولكنه لم يصادف أي غنائمَ تستحق الاهتمام، عندئذٍ قرر أن يواصل رحلته للغرب مارًّا بجزيرة كوسوميل، دون أن يعثر أثناء ذلك على ضالته، وأخيرًا يصل ليجران إلى رأس كاتوشا عند شبه جزيرة يوكاتان بالمكسيك.
كانت هذه الفترة التي قضاها ليجران في البحر كافيةً لنفاد احتياطاته من المؤن، الأمر الذي دفعه للإحساس بالخوف من أن تنتهي أولى رحلاته المستقلَّة بالفشل، ومن ثَم تقضي على هيبته أمام طاقمه، ناهيك عن اعتزاز سمعته داخل مجتمع القراصنة بأسره، إلا أن رجاله العالمين بتاريخه البحري السابق كانوا يُولون قبطانهم ثقتهم الكاملة.
ذات مرة والجميع عائدون من الغرب، وقد اقتربت سفينتهم من الساحل الكوبي، إذ بمجموعةٍ من السفن تتراءى لهم في الأفق. كانت السفينة الأخيرة في هذه القافلة قد تأخرت بشكلٍ ملحوظ عن بقية السفن. اهتزَّ قلب ليجران من الفرح، فأرسل في طلب أكثر بحَّارته خبرة، وعندما وصل هذا إليه بادره سائلًا: انظر هناك يا توم، انظر إلى هذه الغلاوين المسلَّحة التي تنقل الذهب من فيراكروس، ألست معي في أن الأخيرة تسعى جاهدة للحاق بالأخريات؟ أليست غنيمة رائعة يستحقها أناسٌ مثلنا على أتم الاستعداد لفعل أي شيء؟!
نظر البحَّار العجوز إلى سيده، وقد تملكته الدهشة، ولم يفهم ما إذا كان القبطان يتحدث جادًّا أم أنه يمزح!
– سيدي لم يحدث إطلاقًا أن قرصانًا إنجليزيًّا قد هاجم مثل هذا النوع من السفن.
– إذن لأكن أنا أول هؤلاء! إن لنا ستة أسابيع لم نرَ فيها خبزًا ولا خمرًا، إن وضعنا ميئوس منه، ولقد بِعنا روحنا للشيطان، فليتولَّ انتشالنا من مأزقنا الآن، اجمع الرجال يا توم!
وما هي إلا بضع دقائق حتى كان ليجران يقف خطيبًا وسط رجاله موجهًا إليهم الكلمات التالية:
أيها الأصدقاء، لقد أبى الحظ إلا أن يشيح بوجهه عنا، على أن الرجال الأشدَّاء كثيرًا ما يحققون المعجزات. من المحتمل أن يكون هناك مئات الرجال فوق ظهر هذا الغليون، وهذا معناه أن على كل رجل منا أن يتولَّى أمر أربعة من الإسبان ليس فيهم عاجز أو جبان. وفي هذه الحالة لا يبقى أمامنا إلا اللجوء للحيلة، أو أن نلجم أعداءنا بالمفاجأة. إن الإسبان لن يتصوروا أننا سنهاجمهم؛ لأنه لم يحدث إطلاقًا أن القراصنة قد هاجموا بمفردهم سفينةً حربية تسير ضمن قافلة، فكِّروا مليًّا في الأمر، إن الشمس قد قاربت على المغيب، وعندما تعود لتشرق ثانيةً نكون قد أصبحنا أغنياء، قرروا بأنفسكم أيها الأصدقاء!
ذهب النورماندي العملاق يتمشَّى على سطح السفينة، حتى يعطي لرجاله الذين تحلَّقوا حول توم الفرصة في التفكير في الأمر، وسرعان ما جاء أحد البحَّارة ليخبر القبطان أن الطاقم قد وافق بالإجماع على الخطة، وأنه بانتظار الأوامر.
كان ليجران واثقًا من نجاحه، حتى إنه أمر بخرق قوارب النجاة، لم يكن بنيته الانسحاب، بل إنه اقترح إغراق السفينة ذاتها، حتى لا يشك أحدٌ في نتيجة عمله. لقد قرر القراصنة أن يقاتلوا لا في سبيل الحياة، بل في سبيل الموت!
بعد ساعتين من قيام بحارة ليجران بخرق قاع سفينتهم، أخذوا في الاقتراب خلسةً من الغليون الإسباني ليتسلقوه في مهارة القردة، ثم شرعوا في تنفيذ الجزء الثاني والأخير من الخطة، بعد أن أطاحوا بالجنود القائمين بالحراسة ومقود السفينة، ودانت لهم السيادة على سطح السفينة.
قال ليجران لنفسه: سنتولى أمر هؤلاء.
ثم أومأ إلى رفاقه، وأصدر إليهم أوامره بصوتٍ هامس: توم، اختر خمسة عشر رجلًا من خيرة رجالك، واهبط على وجه السرعة إلى أسفل السفينة، باغت هناك الطاقم المستغرق في النوم! اقتل كل مَن يقاوم، عندئذٍ سيستسلم لك الباقون، سيأتي معي أونسييه، ورين، وأندريه، ويونج، وعلى الآخرين تمشيط المكان.
اندفع ليجران ورجاله الأربعة المسلحون بالمسدَّسات إلى غرفة القيادة، تجمَّد الضباط من فرط الرعب، وانهاروا جالسين على مقاعدهم، ولم يكن لدى أحدهم القدرة على أن ينبس ببنت شفة. صاح ليجران: إما أن تستسلموا، أو أن أُطلق عليكم النار!
دوَّت من أسفل السفينة طلقات متفرقة. لقد نشب القتال في مسكن الطاقم، وها هو الرصاص يعيد إلى الإسبان وعيهم، فإذا بالقبطان وضباطه الثلاثة يندفعون ناحية القراصنة، لكن هذا الاندفاع كلفهم حياتهم!
في الوقت نفسه كان قاع السفينة ما يزال يشهد صراعًا مستميتًا، فبعدما تخلَّص البحارة من هول المفاجأة، شرعوا يقاومون رجال العصابات بكل قواهم، لم يجدوا مفرًّا من الاستسلام عندما شاهدوا ليجران قادمًا ليساعد رفاقه.
لقد فاقت الكنوز التي وُجدت على السفينة أكثر التوقعات جنونًا، وعلى الرغم من أن البحارة في تورتوجا اعتادوا الاستيلاء على ثرواتٍ ضخمة، فإن أحدًا من القراصنة لم يرَ طوال حياته مثل هذه الكمية من الذهب دفعةً واحدة. لقد كانت هذه الكنوز كفيلة بضمان حياةٍ رغدة لهؤلاء اللصوص جميعهم حتى نهاية أجلهم.
بعد أن تخلَّص القراصنة من جُثث القتلى بإلقائها في البحر، أخذوا في معالجة الجرحى وإيداع الأسرى سجن السفينة. وقد دفع ليجران إلى طاقمه ببرميلٍ من النبيذ وحده على السفينة، لم يكن ليجران نفسه ممن يطيقون السُّكر، إلا أنه كان يدرك جيدًا أن أحدًا منهم لم يكن ليرفض أمرًا كهذا بعد المعركة. ذهب القبطان إلى غرفة القيادة ليخلد إلى النوم، تاركًا رجاله يحتفلون بانتصارهم في غرفة الطاقم.
وفي الصباح عقد ليجران اجتماعًا لرجاله فوق سطح السفينة، بعد أن عادوا جميعًا إلى وعيهم، وتوجَّه إليهم بالكلمة الآتية: أيها الأصدقاء الأعزاء، نحن الآن أغنياء، لقد سنحت لنا الفرصة الهائلة، لنتخلص من الحياة المليئة بالمخاطر التي لا تنتهي والتي دفعتنا الحاجة لأن نخوضها. أتوجَّه إليكم أيها الأصدقاء أن تتركوا هذه الأماكن وأن تعودوا إلى أوطانكم، وإن كان لكل واحدٍ منكم بالطبع الحق في اختيار مصيره. لقد لقي اليوم ستة رجال من رفاقنا حتفهم، ولعله نفس المصير الذي سيئول إليه غدًا كلٌّ منا. إن الثروة لا تُغشي إلا أبصار هؤلاء الأغبياء الذين يرفضون رؤية ما يمكن أن يكسبوه … مَن شاء البقاء هنا؛ فيمكنه النزول في جاميكا، ومَن لم يشأ فيمكنه الذهاب معنا إلى أوروبا.
خمسة قراصنة فقط هم الذين بقوا في بورت رويال بصحبة أنصبتهم من الغنيمة، بينما واصل الآخرون رحلتهم إلى أوروبا. استقر ليجران في مدينة دييب مسقط رأسه، حيث قضى بها بقية عمره باعتباره مواطنًا ثريًّا وموضعًا لاحترام الجميع، ولم يعد مطلقًا للتنزه على سطح السفينة كما كان يفعل.
برج بابل القراصنة
في اليوم التالي انطلقت فصيلةٌ مسلَّحة من البوكاتيين على إثر سكان ماركايبو الفارين، لتعود في المساء وقد أوقعت في الأَسر عددًا كبيرًا منهم إلى جانب قافلةٍ من البغال كانت محمَّلة بمختلف الممتلكات، وكان من بين ما استولى عليه القراصنة عشرون ألف قرش من الذهب.
وبعد أن قضى لولونيه ما يزيد على عشرة أسابيع في ماركايبو توجَّه إلى إسبانيولا، وفي الطريق توقَّف عند جزيرة فاش الصغيرة، حيث اقتسم القراصنة غنائمهم التي بلغت من القروش الذهبية وحدها ستةً وعشرين ألف قرشٍ ذهبي، فضلًا عن الممتلكات الأخرى التي سرقوها.
بعد أن استولى الفرنسيون على تورتوجا في عام ١٦٨٠م بدا — لبرهةٍ من الزمن — أن شمس القرصنة في منطقة الكاريبي قد آذنت بالمغيب، على أن هذا لم يحدث في واقع الأمر، بل الذي حدث هو العكس؛ إذ إن عدد البوكانيين والفلوبستيين قد ازداد عن ذي قبل، وأصبحوا كالجراد، ليس فقط على السفن في عرض البحر، وإنما أيضًا على المستعمرات الإسبانية والفرنسية والإنجليزية، دون أن تأخذهم رحمةٌ حتى بأفقر القرى التي يدخلونها.
في جاميكا عقد كبار التجار صفقاتهم مع القراصنة، وكسبوا من وراء المسروقات من الثروات ما يفوق الخيال، وبفضل هذه الشركة حصل القراصنة على منفذٍ مجاني لبضائعهم في بورت رويال، وهناك حرصوا على ألا يدركهم أي نوع من الملاحقة أو العقاب، إذن أصبح هذا الميناء هو القاعدة الأساسية والوكر الأثير إلى قلوب القراصنة.
ويومًا بعد يومٍ امتلأت المدينة بأناس من شتى الأجناس والشعوب، أغراهم الكسب السهل، حتى لقد أصبحت المدينة بالفعل أشبه ببرج بابل؛ فيها أفارقة ومولَّدون وهجين، وأناسٌ من أجناسٍ سوداء وبرونزية وصفراء وبيضاء، وهولنديون، وإنجليز، وألمان، وفرنسيون، وإسبان، وبرتغاليون، وأيرلنديون، ومن البلاد الإسكندنافية جاءوا إلى هنا، وأنشئوا مقاهي وخمارات وبيوتًا للدعارة والميسر واستراحات للمسافرين العابرين ومحالًّا وورشًا للصناعات اليدوية، لم يكن أحدٌ في المدينة ليعبأ بمصدر هذه السلعة أو تلك، من أين جاءت؟ ومَن صاحبها؟ … كانت نوافذ العرض في المحال مكتظةً بالأحجار الثمينة والقطيفة والديباج، والعديد من البضائع الأخرى. كانت التجارة كلها في جاميكا تتوخى هدفًا واحدًا، هو التخفيف من أحمال جيوب القراصنة الباحثين في نهَمٍ عن المتعة والتسلية.
رجالٌ مجهولون من شتى الأجناس كانوا في شوارع المدينة يحلون آذانهم بالحلقان، ويعصبون رءوسهم بالمناديل الزاهية، ويرفلون في ملابسَ من القطيفة والحرير، وكان القراصنة يشغلون كل نُزل بالمدينة، وتغصُّ بهم المطاعم والحانات، يتناولون طعامهم وشرابهم فيها من آنيةٍ وكئوس من الذهب والفضة، ويبعثرون أموالهم يمنةً ويسرة.
جابت سمعة هذه المدينة الإنجليزية الفاجرة أنحاء الدنيا، ووصلت إلى أوروبا التي أطلق سكانها على بورت رويال اسم «برج بابل القراصنة»، وكان الرأي العام في الدول الأوروبية يزداد إلحاحًا يومًا بعد الآخر مطالبًا حكوماته بوضع حدٍّ للأعمال الإجرامية التي تقع في هذه المدينة، التي كانت يومًا ما إحدى جواهر التاج البريطاني. لكن أيًّا من الإجراءات التي اتُّخذت لم تفلح، بما في ذلك التدخل الشخصي لملك إنجلترا في الأمر. ولقد بذل المستعمرون في جزيرة جاميكا أموالًا طائلة، بلغ من ضخامتها أنهم استطاعوا أن يشتروا أصحاب أكبر المناصب وأرفعها لدى البلاط الملكي، وبهذا ضمنوا لأنفسهم النجاة من أية عقوبة.
ونتيجةً لما سبقَ ذكرُه أخذت القرصنة في النمو يومًا بعد الآخر، وازداد عدد القراصنة عما كان عليه من قبل، وأصبحت أساليبهم أكثر عنفًا وشراسة بسبب اندفاعهم المحموم وراء الثراء، ومن بين هؤلاء كان هنري مورجان الذي أتينا على ذكره من قبلُ، والملقَّب ﺑ «مورجان الشرس».
وُلد هنري مورجان في إحدى ولايات جلامور جنشاير، في مزرعةٍ من مزارع ويلز المتواضعة في قريةٍ تُسمى لانزيمني، وعندما أصبح صبيًّا بحارًا تسنَّى له أن يزور جزيرة باربادوس، ليبحر منها إلى جاميكا، وهناك انضم إلى البوكانيين، وشارك في حملاتهم على شواطئ هندوراس.
كانت المرة الأولى التي يستقلُّ فيها مورجان بقيادة سفينة، عندما رأى القبطان إدوارد مانسفيلد فيه شخصًا جديرًا بذلك. وإدوارد مانسفيلد هو قائد حملة القراصنة على كيوراساو، والتي تُعد واحدةً من أغنى جزر الأنتيل الصغرى. كان السير توماس موديفورد محافظ جاميكا هو الذي يضع بنفسه خطط هذه الحملة، وكان لتوماس علاقاتٌ وطيدةٌ مع البوكانيين، وكثيرًا ما استثمر خدماتهم لتحقيق أهدافه السياسية والعسكرية. كان مانسفيلد قد أبلغ بأنه في حاجة نجاح رجاله في طرد الإسبان من جزيرة كيوراساو؛ فسوف يسمح لهم بنهبها. مثل هذه الوعود كانت تبذلها السلطات الاستعمارية في القرن السابع عشر، وكانت تُعد آنذاك من الظواهر العادية.
الذي حدث أن الحملة التي قادها مانسفيلد إلى هناك باءت بالفشل، ووقع قائدها في أيدي الإسبان الذين حكموا عليه بالإعدام شنقًا.
وأعطى تسلسل الأحداث على هذا النحو الفرصة لمورجان لأن يرتقي سلم مستقبله بوصفه قرصانًا. كان البوكانيون قد توصلوا إلى استنتاجٍ مفاده أن هذا الشاب المقدام الذي شاركهم حملتَهم الفاشلة سوف يصبح قائدًا ممتازًا، فأولوه ثقتهم، وأسندوا إليه قيادة الأسطول بأكمله إبان العودة، وهكذا وجد مورجان نفسه وقد ارتقى فجأةً إلى رتبة «أدميرال»، ليصبح على رأس عشر سفن مسلحة ومجهزة على نحوٍ رائع، وتحت إمرته طاقم من خمسمائة قرصان لا يهابون الموت!
لم يكن هذا الارتقاء المفاجئ ليدير رأس مورجان، فسرعان ما أثبت أنه أهلٌ له، وقد كان آنذاك شابًّا فارع الطول قويًّا لم تتجاوز سنه ثلاثة وعشرين عامًا، كان مورجان — إلى جانب كونه يمتلك صفاتٍ كالحزم والمباشرة والحكمة والقسوة — يمتلك بصيرة نافذة غير عادية، فعندما برزت مشكلة إمكانية عودة الأسطول إلى جاميكا، نحَّى مورجان هذه الفكرة جانبًا، وتوجَّه لرجاله بقوله: إذا عدنا مهزومين؛ فسوف تسخر منَّا كل امرأةٍ في الجزيرة، ناهيكم عن أن المحافظ سيلقي على أكتافنا بمسئولية موت القبطان مانسفيلد، ويصادر السفن … إن علينا أن نعوِّض ما خسرناه في كيوراساو في مكانٍ آخر.
وضع مورجان نصب عينيه أن يحتفظ بهذا المنصب الذي أُعطي له مؤقتًا، فقد كان يعي جيدًا أنه في حالة عودته إلى جاميكا، فإن هذا المنصب سوف ينتقل حتمًا إلى شخصٍ آخر أكثر خبرةً ودراية بأمور الملاحة البحرية منه. في الوقت نفسه وضع مورجان في حسبانه أنه في حالة نجاحه في الانتقام من مصرع مانسفيلد، وتعويض الخسائر التي مُني بها الأسطول على حساب الإسبان، ثم العودة إلى بورت رويال في هالة المنتصر، فإن وضعه بالنسبة لمنافسيه الأشداء سوف يكون أقوى بدرجةٍ لا يُستهان بها، وكعادته دائمًا فقد صحَّت افتراضاته جميعًا.
قرَّر مورجان بعد أن استحسن رفاقه خططه أن يتخذ طريقًا نحو كوبا، ثم يشنُّ هجومًا على بويرتو برينسيبي، وقد دلَّت هذه الخطة على مدى شجاعة هذا القرصان وجرأته، تقع بويرتو برينسيبي في عمق الجزيرة، ولم يحدث إطلاقًا أن تعرَّضت لأي هجومٍ من جانب القراصنة الذين كانوا يقصرون نشاطهم دائمًا على المدن الساحلية، وعلى أية حال فقد قرَّر مورجان أن يسير بحملته عبر الأدغال الكثيفة، وأن يُداهم المستعمرين بغتة.
فاقت نتائج هذا الهجوم توقعات مورجان. كان القراصنة قد وصلوا إلى بويرتو بينسيبي عند منتصف الليل، حيث كان السكان يَغطُّون في نومٍ عميق، وبعد أن اتخذ القراصنة موقعًا استراتيجيًّا هاجموا أهم المباني بالمدينة في آنٍ واحد، أيقظت أصوات الطلقات ونباح الكلاب سكان المدينة، فانطلق الرجال والنساء والأطفال يهرولون في شوارع المدينة في ملابس النوم، وقد تملكهم الخوف، وسيطر عليهم الفزع، وتلقى الجميع أمرًا بأن يقوموا طواعية بإحضار ما لديهم من مجوهرات ونقود وملابس وأسلحة وأطعمة وخمر، وكان جزاء مَن يحاول الدفاع عن ممتلكاته الخاصة أو يُخفي جزءًا من ثروته عن اللصوص طعنة خنجرٍ. تم جمع الغنائم كلها في عدة أكوامٍ هائلة رُصت في ميدان السوق، ولم يقف طمع مورجان عند حدٍّ، فقد طلب من السكان أن يسلموه ألف رأس من الماشية من المرعى القريب مهددًا بإحراق المدينة إذا لم يجب طلبه. كان القرصان يفكر وهو يصدر هذا الأمر في أن عليه أن يُطعم خمسمائة رجل، وبعد أن تم له ما أراد، أرغم السكان المنهوبين على شحن الغنائم على السفن!
في طريق العودة رفع القراصنة كئوسهم ليشربوا نَخب صحة هنري مورجان!
على أن «الأدميرال» أعلن أن موعد العودة لم يحِن بعدُ، واعتبر أن الهجوم على بويرتو برينسيبي لم يكن إلا مجرد افتتاحية لنشاطهم القادم، وأعلن عن مخططٍ جَسور للاستيلاء على مدينة بويرتو بللو المنيعة الواقعة عند برزخ بنما. كانت هناك حصون ثلاثة تحمي المدينة وتعوق الوصول إلى الميناء.
واتخذ معظم الضباط ذوي الخبرة موقفًا اتسم بالريبة تجاه خُطة مورجان، التي رأوا أنها ليست سوى ضربٌ من الجنون، بل إن ثلاثة سفنٍ فرنسية انسحبت من أسطول القراصنة!
وكما كان متوقعًا فقد أبدت بويرتو بللو مقاومة شديدة، ومع ذلك — وبرغم الخسائر الفادحة التي نزلت بالبوكانيين — فقد تمكنوا من الاستيلاء على حصنين والدخول إلى المدينة. على أن المحافظ الإسباني الذي لجأ مع حاميةٍ صغيرة العدد إلى القلعة الرئيسية للاحتماء بها، فقد رفض الاستسلام، عندئذٍ لجأ مورجان إلى واحدةٍ من أكثر وسائل إدارة الحرب شراسةً وقوة، فقد أمر بإعداد سلالم عالية، ثم أخذ في إخراج الرهبان والراهبات من الأديرة القريبة، وأمرهم بإسناد السلالم إلى حوائط القلعة. لقي هؤلاء جميعهم مصرعهم تقريبًا، لكن الإسبانيين هُزموا، وانهار آخر خطوط مقاومتهم، أما المحافظ نفسه فقد قُتل في الالتحام الشديد الذي وقع بين الفريقين!
أثبتت التصرفات التي قام بها مورجان بعد ذلك صدق الرأي السائد حوله باعتباره شخصًا يتمتع بقسوةٍ طاغية. لقد تعرضت الكنائس والبيوت الخاصة في بويرتو بللو إلى نهبٍ منظم، وأخذ القراصنة في تمشيطها بدءًا من البدورمات وانتهاءً بالأسطح، ورغم ذلك فلم يقنع المنتصرون بالغنائم التي حصلوا عليها، فقد بقي لديهم شعورٌ بأن السكان يُخفون عنهم كنوزًا ما، خاصةً وأنهم لم يعثروا فيما نهبوه من ممتلكات الكنيسة على متعلقاتٍ نفيسة، وحتى يتسنَّى له العثور على هذه الكنوز قام مورجان بتعذيب القساوسة؛ إذ كانت الشفقة التي قلَّما كان يبديها مورجان، وإن حدث فهي لا تكون إلا للنساء، فمورجان يعامل الفتيات والجميلات بأدبٍ جمٍّ وحذَر بالغ، وكان التكلُّف والادعاء من الصفات المميزة لهذا القرصان الطموح، وربما كان لها الفضل في أن أصبحت حياته موضوعًا لرواية عالمية!
أخيرًا عاد مورجان إلى بورت رويال، حيث استُقبل استقبال الفاتحين، وقد اتسم سلوك «الأدميرال» وطاقمه بالغطرسة، فراحوا يتصرفون كما لو كانوا أمراء إقطاعيين ينفقون الأموال ببذخٍ وسفاهة. التقى السير توماس موديفورد بمورجان، وقد أخذ ذهب القرصان بلبِّه، لكنه تحفَّظ في البداية، ثم ما لبث أن أبدى ملاحظةً مفادها: أن القرصان الجَسور، وقد عقد النية على أن يستغل قدراته هذه لأغراضه السياسية في أول فرصةٍ مناسِبة تلوح له.
إبان ذلك اشترى مورجان فرقاطةً أسماها «أكسفورد»، ثم راح ينهمك في الولائم والملذات.
وما هي إلا بضعة شهور حتى نفد آخر ما معه من نقود، وهو ما كان متوقعًا بالطبع، وعندئذٍ قرَّر مورجان أن يعود مرةً أخرى للنهب، فأعلن عن عزمه القيام بحملةٍ جديدة، ودعا مَن لديهم الرغبة للاشتراك فيها للاجتماع وخاصةً مُلَّاك السفن. استهدفت الحملة مدينة ماركيبو التي سبق وأن قام لولونيه نهبها منذ عدة سنوات خَلَت، كادت الإجراءات التي اتُّخذت من أجل هذه الحملة أن تُمنى بالفشل في بدايتها؛ فبعد وصول مورجان إلى جزيرة فاش في يناير عام ١٦٦٩م، أقام مأدبة غذاء فاخرة على شرف رِفاقه فوق ظهر سفينة القيادة «أكسفورد». وبينما كان الجميع منهمكين في وليمتهم، إذ بانفجارٍ ضخم يدوِّي داخلها، لتتساقط ألواح خشب مقدَّم السفينة فوق رءوس السكارى المولمين. اتضح أن أحد البحارة الذين أدارت الخمر رءوسهم قد أشعل نارًا بالقرب من البارود الموجود في مخزن السفينة، وعلى الرغم من الأضرار التي وقعت، بل ومصرع عددٍ من البحارة، أصدر مورجان، الذي لم يُصب بأذًى من جراء الانفجار، أمره بخروج الأسطول إلى البحر.
واستطاع مورجان أن يستولي على ماركايبو بعد أن عبر المضيق، مثلما حدث مع لولونيه من قبلُ، وتحوَّلت ماركايبو على مدى خمسة أسابيع إلى ساحةٍ لمهازلَ لم يسبق لها مثيل، عاد بعدها الأسطول إلى بورت رويال بغنيمة ضخمة.
وفي هذه الفترة تحديدًا كان محافظ جاميكا يعاني من وضع عصيب، فقد نزل الإسبان عند الجزء الشمالي للجزيرة، وأخذوا في اختراقها باتجاه بورت رويال؛ انتقامًا للهجمات التي شنَّها القراصنة، وكان الموقف يهدد بفقدان الجزيرة. آنذاك كان القراصنة الإسبان قد ضيَّقوا الحصار على الأسطول التجاري البريطاني، حتى أخرجوه من حوض الكاريبي، وأصبح السير توماس موديفورد هدفًا للنقد الشديد من جانب الأوليجاركية المالية للجزيرة، الذين عرضت مصالحهم الحيوية للتهديد.
هنا ظهر مورجان في بورت رويال، بعد أن عاد منتصرًا من ماركايبو.
وتلقَّى مورجان اقتراح المحافظ بسرورٍ بالغ، على أمل أن يستطيع بدعمٍ من موديفورد أن يصبح الملك غير المتوج لقراصنة جاميكا، وحتى يتجنَّب أية مشكلات يمكن أن تظهر فيما بعدُ، طلب مورجان من المحافظ أن يعقد معه اتفاقًا مكتوبًا.
وبعد أن امتلك مورجان شهادة القرصنة أصبح باستطاعته أن يُجنِّد علنًا القراصنة في بورت رويال، وما إن اجتمع لديه ألفا رجلٍ حتى قرر التوجه على رأسهم لغزو بنما، وكان مورجان يحلم بالوصول إلى المحيط الهادي، كما فعل ذلك من قبله فاسكونونيس دي بالبوا، فشرع يستعد لرحلته شهورًا طويلة، اتسم عمله فيها بالدقة والإحكام، وفي التاسع من يناير عام ١٦٧١م نزل ألف وثمانمائة قرصان من رجاله في خليج دارين.
لم يبحر أسطول مورجان بالطبع تحت الراية البريطانية، فمثل هذه المخاطرة لم يكن ليُقدِم عليها رجلٌ في دهاء موديفورد. كانت أعلام القراصنة التقليدية، المزيَّنة برسوم الجماجم والعظام المتقاطعة والهياكل العظمية، ترفرف فوق صواري السفن.
وقع أول صدامٍ بين القراصنة والإسبان بالقرب من قلعة سان لورنزو، عند مصب نهر تشاجرس، ولم يجد مورجان صعوبةً في احتلال القلعة التي لم يكن يتولَّى الدفاع عنها سوى حامية مكوَّنة من مائتي شخصٍ، ثم غادرها بعد أن ترك فيها فرقة خاصة لتأمين مؤخرته.
أوقف مورجان مقاتليه حتى يتعرَّفوا جيدًا على موقفهم، لجأ المدافعون عن المدينة إلى حيلةٍ ذكية بأن أطلقوا على القراصنة المهاجمين بضع مئات من الماشية المتوحِّشة، ولكن يبدو أن كيدهم قد رُد في نحورهم، فالحيوانات — وقد أصابها الجنون من جراء الطلقات — رجعت القهقري، واندفعت مجتاحةً الفرسان الإسبان، الذين كانوا يدفعونها وهي تنطح بقرونها الخيل. على أية حال استمرَّت المدينة تدافع باستماتةٍ إلى أن اضطر مدافعوها إلى شحن الذهب والفضة والنفائس على سفن القراصنة.
عندما غادرت الحامية الإسبانية المدينة وجدَها مورجان خاليةً من السكان، وكان لهذا الانتصار الباهظ الثمن أثره السيِّئ إلى حدٍّ كبير على نفسية القراصنة، إلى جانب ما رأوه من عذابٍ إبان عبورهم الأدغال. ومع ذلك فقد كان هناك عذاب آخر شديد الوطأة، يرجع سببه إلى الخطر الصارم الذي فرضه مورجان على تعاطي الخمور التي عثَروا عليها في المدينة.
فيما بعد أظهر مورجان وجهه الحقيقي، رجلٌ بلا ضمير!
كان على القراصنة — الذين وصلوا إلى مصبِّ النهر — أن يبدءوا في اقتسام الغنائم وفقًا للاتفاق، وذلك قبل أن يصعدوا على السفينة، وقد نشب جدَلٌ شديد مع القبطان الذي لم يكتفِ بأن خرق القواعد التقليدية «لأخوة الشاطئ»، بل استولى على الجزء الأكبر. طالب الضباط عندما علموا بذلك بزيادة مكافآتهم، مما ترتَّب عليه أن القراصنة العاديين لم يتبقَ لهم شيء!
أصبح البحارة الصغار يهددون رؤساءهم الذين خدَعوهم، ووصل الأمر إلى حد التشاجر بالسكاكاين … عندئذٍ قرر مورجان الإفلات من الموقف دون أن يلحظ ذلك أحد، فأنزل جنوده — البالغ عددهم أكثر من ألف من البوكانيين — إلى الشاطئ دون مئونةٍ، أو قواربَ، أو سلاحٍ.
وأخيرًا ضاق صدر كل من حكومتي إسبانيا وإنجلترا من جرَّاء هذه الحرب غير المعلنة فوق مياه العالَم الجديد، والتي من الممكن أن تؤدِّي في النهاية إلى انهيار الإمبراطوريتين الاستعماريتين، وتم التوصُّل إلى قرارٍ بإيقاف الحرب، والشروع في استئصال جذور القرصنة في البحر الكاريبي، التي كانت تهدد التجارة البحرية للدولتين سواءً بسواءٍ. وفيما يتعلق بهذا الأمر تقدَّم البلاط الإسباني بشكوى إلى كارل الثاني ملك إنجلترا بشأن أعمال النَّهب التي جرت في بنما، مطالبًا بتسليم مورجان إلى العدالة. وهكذا صدر الأمر إلى السير موديفورد باعتقال مورجان على وجه السرعة وإرساله إلى لندن، لكن المحافظ الذي شارك في المسئولية عن الأعمال التي ارتكبها القرصان، كانت لديه المبررات الكافية لعدم تنفيذ الأمر. كان موديفورد يلجأ دائمًا إلى مورجان العقل المدبِّر، كلما انتابته الهواجس والشكوك، وكان يُقدِّر فراسته تقديرًا رفيعًا.
في هذه المرة استمع القرصان باهتمامٍ إلى المحافظ، ثم قرَّر الأمر الذي أدهش الأخير، أن يتوجه بأسرع ما يمكن إلى إنجلترا. نظر السيد توماس إلى قرار القرصان بمزيدٍ من الشك، كان بودِّه لو أن صديقه فهِم النقاش الذي دار بينهما في هذا الصدد باعتباره مجرد تحذير، حتى يتسنَّى له أن يُبحر بسفينته مبتعدًا عن الجزيرة. ولكن يبدو أن مورجان لم يكن ليشغله الأمر كثيرًا، فلم يستطع المحافظ أن يغري هذا الراجل الذاهب طوعًا لمصيره بالفرار!
ظل مورجان طليقًا حتى لحظة رحيله إلى إنجلترا، وكان إبَّان ذلك يقوم بترويج البضائع المسروقة! كان مورجان يعتقد أن الحرية يمكن شراؤها بالرشاوى الباهظة، كما كان يرى أن لكل شخصٍ سعرًا، وأن العدالة وُجدت فقط لإنزال العقاب بالفقراء لصالح الأغنياء!
تميَّز استقبال مورجان في إنجلترا بالحَفَاوة أيضًا، وقد عامله القضاة بتسامحٍ ظاهر، متماشِين في ذلك مع الرأي العام الذي وضعه في مصافِّ بحَّارة أليبون العظام أمثال: درايك، وهوكنز، ورايلي. وحتى الملك نفسه تمنى أن يتعرف شخصيًّا على هنري مورجان. ترك القرصان انطباعًا قويًّا لدى الملك، إلى حد أن عرض عليه منصبًا رفيعًا في جاميكا، وكلَّفه بمحاربة البوكانيين المسلَّحين في حوض البحر الكاريبي، حتى لا تتكرر مستقبلًا مأساة بنما.
ها هي ذي الفرصة تسنح لمورجان، ليأخذ بثأره من رفاقه السابقين، وهو ما كان بدأه إبان رحلته إلى مصب نهر تشاجرس، ولم يكن تطوُّر الأحداث على هذا النحو من حُسن طالع السير توماس موديفورد، فالحكومة الإنجليزية كانت تسعى بإخلاصٍ للاحتفاظ بعلاقاتٍ طيبة مع إسبانيا، وعلى هذا فقدِ استُبدل السير موديفورد باللورد فوجانوم أحد المحافظين الأشداء.
وبعد عدة سنوات هنيئة قضاها مورجان في لندن عاد إلى جاميكا، ليقدِّم نفسه للمحافظ ويتسلَّم المنصب الجديد الذي كلَّفه به الملك. بدأ مورجان حملته ضد البوكانيين بأن وعد بالعفو عن الذين يتوقفون عن السرقة في البحر، ويلتزمون بتنفيذ القانون بحذافيره، صاحَب هذا الوعد اتخاذ عددٍ من الإجراءات الصارمة، تقرر تطبيقها على أعمال القرصنة الإجرامية. على أن هذه الخطوة الأولى لم تؤتِ ثمارها، وهو أمرٌ كان يتوقَّعه مورجان نفسه الذي كان عازمًا على مواصلة التنكيل المسلح.
وعلى الرغم من أن مورجان الآن أصبح يرتدي السترة العسكرية الإنجليزية، فقد واصل العمل دون رحمةٍ في إنزال العقوبات الصارمة ضد القراصنة، من أجل الحفاظ على قوانين جلالة الملك وأوامره. وسرعان ما آتت هذه السياسة ثمارها. فراح القراصنة السابقون يومًا بعد الآخر يمارسون الأعمال البحرية الشريفة، وأخذت التجارة البحرية في البحر الكاريبي في الازدهار، وبدأت جاميكا تقطع صلاتها بالقراصنة، بينما تحوَّلت بورت رويال إلى مركزٍ بحري تجاري ضخم.
ظل مورجان حتى نهاية حياته يشغل منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة البريطانية في جاميكا، صحيحٌ أنه لم ينجح في القضاء نهائيًّا على القرصنة في الكاريبي، غير أنه أنزل بها ضربةً قاصمة، وتُوفي مورجان بعد أن طعن في السِّن في بيته الخاص في بورت رويال.
السابع من يونيو عام ١٦٩٢م، كان الوقت يقترب من الظهيرة، والطقس يزداد حرارةً، وهناك بضع سفن شراعية تتهادى فوق أمواج الخليج اللينة. وبينما الحمالون يعملون في تفريغ عنابر السفن من حمولتها، كانت المطاعم المصطفَّة بطول الطريق الرئيسي، قد بدأت في إعداد الطعام للبحارة. تصاعدت من المطابخ المعْتِمة روائح الطعام الشهيَّة من الخِراف المشوية على الأسياخ، إلى أطباق الكاريبي التقليدية من لحوم السلاحف مع الأسماك والمقبِّلات، لتقديمها في أوانٍ نحاسية كبيرة!
فجأةً تُغطي السحبُ الرمادية الداكنة صفحةَ السماء الزرقاء الصافية، وتجتاح المدينة عاصفةٌ استوائية عاتية، وسرعان ما تهتز الجزيرة كلها بتأثير هزاتٍ أرضية جبارة. وفي غمضة عين تتحول البيوت إلى ترابٍ وأنقاض … الحرائق تشتعل هنا وهناك، ومَن بقي حيًّا تملَّكه الهلَع، فأخذ يهرول مذعورًا! موجاتٌ ضخمة تأتي من البحر لتكتسح الشاطئ، وتُحيل شوارع المدينة إلى أنهارٍ متدفقة!
كانت هذه هي النهاية المرعبة لمدينة «بابل القراصنة»، وعلى الرغم من أن بورت رويال أُعيد بناؤها؛ فإنها لم تبلغ إطلاقًا ما بلغَته من ثراءٍ وعظمة من قبل.
في الآونة الأخيرة قام علماء الآثار بأعمال تنقيبٍ تحت الماء بالقرب من عاصمة جاميكا المستقلة، فقادتهم أعمال البحث التي يقومون بها إلى اكتشافاتٍ شيقة، تدلُّ بشكلٍ واضح على تلك الأيام المجيدة التي عاشتها عاصمة القرصنة.
القراصنة النساء
اليوم وبعد أن أصبح «الجنس الضعيف» ممثلًا في كل المهن بما في ذلك التحليق في الفضاء الكوني، يصبح الحديث عن أن المرأة لم تعمل إطلاقًا بالقرصنة أمرًا مدهشًا! على أنه حتى في تلك الأزمنة الغابرة، عندما كان المكان المناسب الوحيد للمرأة هو البيت، فإنها وقفت وراء دفَّة السفينة متمنطقةً مسدسًا وسَيفًا، وهي معتبِرةٌ ذلك أمرًا عاديًّا تمامًا!
تُعتبر أنَّا بونين، وماري ريد هما أشهر السيدات القراصنة في التاريخ، الأولى أيرلندية، وهي ابنةٌ غير شرعية لمحامٍ من إقليم كورك، سافرت مع أبيها إلى كارولينا، وقد سببت هذه الفتاة الحسناء لأبيها كثيرًا من الهموم والمشكلات بسبب طباعها الحادة. وقد وصل الأمر إلى حد أنها قَتلت في إحدى ثورات غضبها خادمتها الإنجليزية! ولأن أنَّا كانت تُعد فتاة حسنة التربية ومن بيت طيب، فقد جرى «دفن» هذه الحكاية المزعجة.
تزوجت أنَّا بعد العديد من المغامرات والقصص الغرامية من بحَّار نكرة، ولما علم أبوها بذلك طرده من البيت. أبحر العريس البائس على أول سفينة وجدها، ولم يظهر مرةً أخرى لدى عائلة بونين. وعلى الفور ظهر من بين معجبي أنَّا شاب ثري وسيم هو القبطان جون ريكام، أشهر قراصنة الشاطئ الشرقي الأمريكي، والذي كان يقوم بعملياته تحت اسم «كاليكوجاك». كان جون من أسرة قراصنة، ولكي يحصل على فتاته أنَّا الحسناء؛ فقد رسا بقاربٍ صغير أمام منزل أبيها، ثم اختطفها وأبحر معها إلى الأفق الأزرق!
لم تنزعج أنَّا من جراء زواجها الأول الفاشل من بحار، ووافقت عن طيب خاطر أن تُقاسم القرصان العاشق حياته في السراء والضراء. قضى الزوجان شهر العسل في البحر، وعندما أخبرت أنَّا زوجها أنها تنتظر طفلًا أخذها إلى عزبته الصغيرة القائمة على شواطئ كوبا. هنا كان البيت والأصدقاء الذين وعدوا بالاعتناء بالزوجة وطفلها، وبعد بضعة شهور عادت أنَّا إلى السفينة، لتشارك في كل أعمال القرصنة، وأظهرت شجاعةً ومهارة كبيرتين.
على أن الحياة السعيدة للقرصان والقرصانة ما لبثت أن تهاوَت، ففي أكتوبر عام ١٧٢٠م عندما كانا يبحران في المياه المتاخمة لشاطئ جاميكا هاجمتها بغتة سفينةٌ حربية مسلحة تسليحًا جيدًا، وأخذهما القراصنة لتسليمهما في جاميكا، ثم أُحيلا للمحاكمة في سانتياجو دي لافيجا، حيث حُكم عليهما بالإعدام. كانت أنَّا وقتئذٍ حاملًا للمرة الثانية، فطالبت بتأجيل الحكم، فأُجيب التماسها، ولم يُعرف مصيرها بعد ذلك، وإن كان من المرجَّح أنها استطاعت الإفلات من العقوبة، كان الحكم بالإعدام قد صدر على أنَّا بونين، وعلى صديقتها الحميمة ماري ريد.
أخيرًا تجد ماري متنفسًا لطبعها النزق من خلال العمل بالقرصنة، فتنضم إلى جماعةٍ من لصوص البحر، لتعمل معهم دون أن تكشف لأحدٍ عن كونها امرأة، وذات مرةٍ تلحظ ماري على ظهر إحدى السفن، التي تم الاستيلاء عليها، شابًّا وسيمًا ممشوق القوام، فإذا بها تهيم به حبًّا، لكن هذا الشاب يدخل في أحد الأيام في عراكٍ مع أحد القراصنة. ولمَّا كانت السفينة ما تزال راسيةً فقد تقرَّر — وفقًا لتقاليد القراصنة التي تحظر المشاجرات على السفينة — أن ينزل المتنازعان إلى الشاطئ ليسويا حسابهما هناك. لنا أن نتخيل مدى ما عانته هذه العاشقة الولهى، عندما عرفت أن مَن اختاره قلبها لم يبدِ من الشجاعة ما كانت تتوقعه وترجوه! استفزت ماري الفتى لمبارزة استخدمت فيها السيوف والمسدسات، وانتهت بأن قتلت ماري حبيبها التعس! وشجعت هذه الحادثة المرأة الشابة على أن تكشف عن شخصيتها التي ظلت تخفيها بحزمٍ لمدةٍ طويلة، ثم ما لبثت أن بدأت سلسلةً من المغامرات العاطفية، انتهت بعلاقةٍ وطيدة مع أحد القراصنة.
انتهى الأمر بأن مَثُلت كل من ماري وصديقتها أنَّا في قفص الاتهام أمام القضاء في سانتياجو دي لافيجا، حيث أصدرت المحكمة عليهما حكمًا مخففًا للغاية، بل وكادت أن تبرئ ساحتهما تمامًا، لولا أن تقدَّم أحد المتهمين ببعض الأدلة باعتباره شاهدًا … لم يجد القاضي بعد اطلاعه على القضية في ضوء أدلة هذا الشاهد، أن يجد أي ظرف مخفف، فما كان منه إلا أن أصدر حكمه بإعدام ماري ريد مع باقي القراصنة.