قراصنة بحار أمريكا الشمالية
بحلول القرن الثامن عشر بلغ النهب البحري عند سواحل أمريكا الشمالية حدًّا لم يبلغه من قبلُ. كان للقراصنة نظامهم الخاص، كما كان لهم إلى جانب هذا وُكلاؤهم في معظم موانئ الساحل الشمالي لأمريكا من سالم في الشمال إلى شارلستون في كارولينا الجنوبية. كما اكتظَّت بهم شبه جزيرة فلوريدا، وكذلك شاطئ خليج المكسيك بأكمله، وفي حالات الضرورة القصوى كانت سفنهم تجد الملجأ الآمن لها بكل سهولة في جزر الأنتيل، أو في المناطق التي كانت إسبانيا تضع يدها عليها، كما أنهم يعرجون على موانئ نيويورك ونيوبورت وفلادلفيا.
وبعد التقرير الذي كتبه إدوارد راندولف — المفتش العام للمستعمرات البريطانية في أمريكا آنذاك — بعنوان «دراسة حلول القراصنة والإجراءات الواجب اتباعها لمكافحتهم»، المؤرَّخ عام ١٦٩٥م، وثيقة طريفة بصدد القرصنة الأمريكية. وهذه الدراسة هي واحدةٌ من المذكِّرات العديدة التي كان يبعث بها راندولف بدأبٍ بالغ إلى السلطات في عاصمة الدولة المستعمرة.
يصف صاحب التقرير عادات وممارسات القراصنة الأمريكيين الذين كانوا يسطون على السفن الإسبانية، وتحدَّث بالتفصيل عن أوكار القراصنة وعن علاقات الصداقة التي قامت بينهم وبين السلطات الاستعمارية في جزر البهاما.
في سبتمبر ١٦٩٦م غادرت ميناء نيويورك سفينة وليم كيد المسماة «أدفنشر جالي»، وعلى ظهرها طاقم مكوَّن من مائةٍ وخمسين رجلًا، ما برحت الشهور تمر دون أية أخبار عنها، وعلى الفور انتشرت الشائعات التي تقول إن كيد بدلًا من أن يحارب القراصنة انضم هو نفسه إليهم، وأنه يعيث فسادًا في مكانٍ ما بالمحيط الهندي، وبناءً على هذه الأقاويل اقترح بلومنت اعتقال كيد على وجه السرعة في حالة عودته إلى أمريكا.
وفي يوليو من عام ١٧٠٣م أعطى جوزيف دادلي شهادة القرصنة للسفينة «تشارلز» الشراعية ذات الصاريين، والتي قام ببنائها وتسليحها الأغنياء من أبناء مدينة بوسطن بأنفسهم، وتم التصريح لقبطانها بالاستيلاء على السفن الفرنسية عند سواحل أكاديا ونيو أسكتلندا.
قرر كفلتش — بعد أن جنى ثروةً هائلة هو وطاقمه في بحار أمريكا الشمالية — العودة إلى ماربلهيد، ومن الصعب أن ندرك سبب اختيار كفلتش لهذا الميناء بالتحديد دون جميع موانئ العالم، على الرغم من أن الجميع كانوا ما يزالون واقعين تحت تأثير تمرد البحَّارة، ومصرع قبطان «تشارلز» الذي لم يمضِ عليه وقت طويل. وما إن وصل كفلتش إلى الشاطئ حتى مثُل أمام النائب العام، وقد أمكن القبض أيضًا على رفاقه الآخرين الذين كانوا قد فروا بغنائمهم إلى أماكنَ متفرقةٍ. وفي التاسع من يونيو عام ١٧٠٤م تمت إدانة خمسة وعشرين قرصانًا من قِبل إدارة البحرية ببوسطن، وحتى عام ١٧٠٤م لم يكن يُسمح بمحاكمة مَن يُتهم بممارسة القرصنة إلا في إنجلترا. وقد وضع هذا القانون العراقيل بشدةٍ أمام مكافحة القرصنة في المستعمرات، وكذلك كانت هناك مصاعب جمَّة تتعلق بنقل المساجين إليها، ناهيك عن أن الكثير منهم كان يُطلق سراحهم على أيدي رفاقهم في عرض البحر.
في عام ١٧٠١م أصدر الملك وليم الثالث مرسومًا خاصًّا يعطي للمحاكم الإنجليزية، خارج إنجلترا، صلاحية مطلقة لنظر قضايا القرصنة.
لو أن الأمر اقتصر على مجرد إغارة كفلتش على السفن الفرنسية، فربما كان قد اتُّهم بالشغب فقط، ولكن بما أنه أصبح يسرق ويقتل أصدقاء وحلفاء ملكته، فقد صدر الحكم عليه هو وشركاؤه الخمسة والعشرون بالإعدام شنقًا، كما جرى العفو عن ثلاثة عشر من القراصنة المتهمين بشرط الالتحاق بخدمة الملكة.
كان يوم الجمعة الموافق عشرين من يونيو عام ١٧٠٤م عيدًا كبيرًا لسكان بوسطن، لقد تحول الإعدام العلني الذي تحدد له هذا اليوم إلى عرضٍ مسرحي هائل. كانت تلك الحالة من الحالات النادرة آنذاك التي تجرى فيها معاقبة القراصنة، الذين كانوا ينجحون في معظم الأحوال من الإفلات من العقاب، بفضل فساد ذمم السلطات الاستعمارية. زد على ذلك أن أعضاء الكونجرس في بوسطن قد استفادوا كثيرًا من قضية كفلتش بعد أن تقاسموا فيما بينهم الذهب الذي كان القراصنة قد نهبوه. وقد أشار المؤرخ الذي درس هذه القضية بدقة أن البرتغاليين — أصحاب هذا الذهب الشرعيين — لم يستعيدوا منه ولو جرامًا واحدًا على الإطلاق.
لقد كان للحروب، التي دارت رحاها في القرن الثامن عشر، أثرها في انتشار القرصنة في بحار أمريكا الشمالية، التي سرعان ما تفتحت أمام القرصنة العلنية. وعلى مدى سبع سنوات من الثورة الأمريكية، بدءًا من عام ١٧٧٥م ظل القراصنة يُعملون النَّهب في جزر الأنتيل، وكان من بينهم إنجليز وفرنسيون وإسبان لديهم شهادات قرصنة.
ولقد تركَّز عددٌ كبير من الصيَّادين على وجه الخصوص عند ساحل أمريكا الشمالية إبَّان الحروب الفرنسية الإنجليزية، أي في السنوات من ١٧٩٣ إلى ١٨١٥م أملًا في الحصول على غنائمَ سهلةٍ. وقد التزم غالبية القراصنة الذين ورد ذكرهم بالحيدة التامة آنذاك، ولم تكن بهم أدنى رغبة في إسداء العون لأي من الأطراف المتاحة، مولِّين جل اهتمامهم إلى الغنائم الضخمة، غير مبالين بنتائج الحرب التي سوف يتحوَّل الآلاف من لصوص البحر بمجرد انتهائها إلى احتراف القرصنة.
وقد اتضح فيما بعد أن هؤلاء اللصوص أسوأ مائة مرةٍ مِن كل مَن سبقوهم في تاريخ القرصنة البحرية، فلم يكن من بينهم مَن يمتلك، ولو مسحة من النبالة التي اتسم بها القراصنة البوكانيون القدامى، وإنما كانوا يتحركون يدفعهم أمر واحد هو الجشع.
ربما كانت الشخصية الوحيدة المضيئة قليلًا وسط هذا الجو المظلم، هي شخصية جان لافيت الذي بسط نفوذه في وقتٍ ما على مياه خليج المكسيك. كان هذا الرجل ممثلًا لكل التقاليد الكلاسيكية للقرصنة في الكاريبي، كما كان يتمتع بقدرٍ كبير من خِفَّة الظل، فعندما خصَّص محافظ لويزيانا مكافأةً قدرها خمسة آلاف دولار لمَن يأتي برأس لافيت، قرر لافيت أن يرد له الصاع صاعين، فأعلن عن مكافأة قدرها خمسون ألف دولار لمَن يأتي برأس المحافظ.
لا إنجلترا، ولا فرنسا، ولا إسبانيا استطاعت القضاء على القرصنة، ومما زاد من صعوبة الأمر عليهم في حروبهم ضدها، انتشار وباء الحمى الصفراء الذي اجتاح حوض الكاريبي آنذاك.
القرصان الشريف
إذا كان مجد القرصان يتوقف على مقدار ما يأخذه غصبًا من سفن، فإن بارتولمي روبرتس يستحق بِناءً على هذا أن يُعطى قصب السبق، فهو يتحمل — بشهادة كُتَّاب السيرة — مسئولية اغتصاب أربعمائة سفينة. وليست هناك أية معلومات عن طفولته ولا عن سنوات شبابه؛ أين وفيما أنفقهما، ولكن يُعتقد أنه من «ويلز».
في عام ١٧١٩م أبحر بارتولمي باتجاه شواطئ غرب أفريقيا باعتباره قبطانًا للسفينة الشراعية «برنسيس»، بعد أن حمَّلها «بضاعة حية» تتمثل في زنوجٍ مقيدين بالسلاسل في سجن أسفل سطح السفينة، على أنه لم تمضِ بضع ساعات فقط من خروجه إلى البحر، حتى سقطت سفينته في أيدي القراصنة بقيادة هويل ديفيس.
أدرك بارتولمي روبرتس بالطبع أنه بهذا قد وقع في هوة الإفلاس؛ إذ إن رأسماله عن آخره كان موضوعًا في السفينة وما كانت تحمله، وهب أن القراصنة قد أطلقوا سراحه، وسمحوا له بالعودة إلى إنجلترا؛ فالمتوقع عندئذٍ أن يعيش هناك حياةً ملؤها الفقر والعَوز، ولم يبقَ أمامه شيء سوى أن يقبل اقتراح الكابتن ديفيس بالانضمام إلى قراصنته، بعد أن أبدى نحوه رئيس القراصنة — وكان هو الآخر من ويلز — شعور التعاطف لكونه من أبناء بلدته.
كان أول ما استهل به روبرتس أعماله، أن قام بالانتقام لموت ديفيس، فأحاط بالقرية التي أنزلت بهم الهزيمة سابقًا، ثم دمَّرها، وبعدها توجَّه إلى شاطئ البرازيل. وهناك التقى بأسطولٍ من السفن البرتغالية، قوامه اثنان وأربعون سفينة محملة عن آخرها بالبضائع، تزمع الرحيل إلى لشبونة لتوزيعها في أوروبا. هنا يقوم روبرتس باجتراح «مأثرة» لعلها الأولى من نوعها في هذا المقام؛ إذ يستولي على إحدى السفن، وهي ما تزال بعدُ في المرساة. لم يكن هذا العمل محضَ جنون على الإطلاق، لقد وزن القرصان الأمر بكل دقةٍ، ثم أغار على السفينة ليلًا مستغلًّا لحظة مواتية، لم يدرْ بخلَد قبطان السفينة أن يكون الخطر متربصًا به في الميناء ذاته. أما المخاطرة فقد أسفرت عن نجاحٍ أكبر من المتوقع، ولقد عاد القراصنة من هذه «الحملة»، ممتلئين زهوًا وفخارًا بقائدهم الجديد.
وقرَّر روبرتس أن يمد نشاطه إلى المحيط الهندي، بعد أن ابتسم له الحظ مرة أخرى في جزر الأنتيل، وقد عانى تجار كل من جاميكا وباربادوس على الفَور من جرَّاء وجوده فيه، استقر المقام بروبرتس في جزر الأنتيل أطول كثيرًا مما كان قد عقد عليه العزم في أول الأمر؛ إذ إن كل الأمور هنا قد سارت على نحوٍ دفع بخططه إلى النجاح، وها هو يستبدل بسفينة ديفيس القديمة سفينةً أخرى أكثر مهابةً، أسماها «رويال فروتشن» (السعادة الملكية).
وذات مرةٍ، إذ بروبرتس يواجه بالقرب من جزيرة باربادوس بسفينةٍ تجارية مسلحة تسليحًا جيدًا، وعلى الرغم من أن «رويال فورتشن» لم تُصَب إصابات بالغة، فقد أفلت القرصان من المواجهة، ونجح في الاختفاء بصعوبةٍ بالغة. وفي مرةٍ أخرى تصاب خططه بالفشل الذريع في إحدى القرى الواقعة في المارتينيك، وذلك بسبب المقاومة العنيفة التي أبداها الأهالي.
والحقيقة أن هاتين الهزيمتين اللتين كانتا الوحيدتين في سلسلةٍ طويلة من الانتصارات الباهرة، فقد نالتا بشدة من كرامة روبرتس، ومنذ ذلك الحين، كان الرجل من أهالي جزر المارتينيك أو باربادوس، والذي يوقعه حظه التعس في أَسره، يستطيع أن يودِّع حياته إلى الأبد. كان العلم الجديد الذي رفعه روبرتس قد رسم عليه قرصانًا ممسكًا بسيفه، وقد وضع قدمه على جمجمتين رمزًا للانتقام.
كان روبرتس ذا شخصية قويةٍ، طموحًا، حازمًا، على استعدادٍ للصراع مع المصاعب أيًّا كانت، على أنه كان حقيقةً يمتلك بعض الخصال الحسنة، فقد كان لا يعترف من بين جميع المشروبات إلَّا بالشاي. وحتى لا يُفْرط الطاقم في شربِ الخمر، وضع روبرتس جميع المشروبات المُسْكرة تحت إمرته في خِزانة، ولم يكن من حق أي بحارٍ أن يخفي ولو زجاجةً واحدة. كانت الأنوار تُطفأ على السفينة في الثامنة مساءً، تمامًا كالمدرسة الداخلية، فإذا استبدت بأحد من البحارة فكرة أن يحتسي شيئًا من الروم بعد هذا الموعد، كان لزامًا عليه أن يصعد إلى سطح السفينة، وأن يشرب على مرأًى من القبطان.
كذلك حرَّم روبرتس ألعاب القمار بالورق، أو الزهر، ولم يكن يسمح باصطحاب النساء إلى السفينة؛ إذ كان اكتشاف نساء متخفيات في ملابس الرجال على ظهر السفينة أمرًا يهدد المتورطين فيه بالإعدام. وكان العراك بين البحارة محظورًا؛ فعلى البحار الذي كان لديه الرغبة في تسوية حساباته الخاصة مع أي شخصٍ آخر، أن يغادر السفينة إلى الشاطئ، حيث يقف الخصمان مسلحيْن بالمدافع أو المسدسات، وقد ولَّيَا ظهريهما بعضهما لبعض في البداية، ثم يبدآن المبارزة بعد ذلك بإشارةٍ من رفاقهما الشهود، كان لزامًا على المنتصر أن يقدِّم — لدى عودته للسفينة — تقريرًا لرئيسه عن نتائج المعركة.
وعلى الرغم من أن الكابتن روبرتس كان يُعَد من الخارجين على القانون، فإنه سعى لأن يذيع صيته مسيحيًّا غيورًا، فكان يُرغم بحارته على الالتزام بالاحتفال بجميع الأعياد، وقام بتكوين فريقٍ موسيقيٍّ من العاملين على السفينة، وكانوا يأخذون راحةً تامة من العمل في أيام الآحاد.
بل ذهب القبطان روبرتس بنزواته الطيبة إلى أبعد من ذلك، عندما حاول أن يحصل على تأييد أحد القساوسة. كان بودِّه أن يقوم هذا القس بقراءة المواعظ على البحارة أيام الآحاد وفي الأعياد. وعلى الرغم من أنه لم ينجح في تحقيق رغبته هذه؛ فإن زعيم البحارة قد بذل مع هذا كل ما في وسعه لإنقاذ نفوس مرءوسيه الآثمة، وذات مرةٍ علم روبرتس أن هناك قسًّا بين أَسراه، فأمر باستدعائه، ليجيئه الرجل وقد ملأ الرعب قلبه، فبادره باقتراحٍ قائلًا: لو أنك انضممت إلينا، لأصبح بإمكانك إنقاذ هذه النفوس البائسة من الجحيم المقيم، ولتكن على ثقةٍ بأنني سوف أغدق عليك مقابل هذا، ثم إن الله القدير لن ينسى لك هذا الصنيع.
أصبح القس المسكين في حيرةٍ من أمره، فمن ناحيةٍ كانت المسدسات المعلقة في حزام القرصان، قد أثارت الفزع في قلبه وأوصاله، ومن ناحيةٍ أخرى كان عليه أن يُسرع بالرد، فقد تقرر إنزال البحارة صبيحة اليوم التالي في أقرب ميناء.
قال القس مسترحمًا القرصان: لا، الأفضل أن تُطلق سراحي.
وقد كان أن أطلق القرصان سراحه.
- (١)
يجب تنفيذ الأوامر التي يصدرها القبطان بكل همَّة، وعن طيب خاطر، ما لم تتعارض مع القواعد الأساسية للأخوَّة.
- (٢)
للقبطان سهمٌ ونصف من إجمالي الغنائم، ويستحق الضابط، والنجار، وصانع السلاح سهمًا وربعَ السهم من الغنيمة.
- (٣)
إن أي فرد من أفراد الطاقم يحاول الفرار، أو تتسم تصرفاته تجاه «الأخوة» بعدم الولاء، يتم إنزاله في أول فرصةٍ على أحد الشواطئ المهجورة، ويُعطى زجاجة ماء واحدة، وحفنة من الحُمص، وسلاحًا يستطيع بواسطته الحصول على طعامه.
- (٤)
إن أي فردٍ من أفراد الطاقم يعترف بإدانته بالسرقة على ظهر السفينة، أو يراهن في ألعاب القمار بما يزيد عن قرشٍ واحد، تتم معاقبته العقاب المناسب طبقًا للقواعد المعمول بها، وفي حالة ارتكاب جرائم أشد ضررًا، يتم إعدام المتهم — بالطبع — رميًا بالرصاص.
- (٥)
لا يجوز لأي فردٍ من أفراد الطاقم عقد اتفاقات، أو إبرام عقود مع قراصنةٍ آخرين على غير علم «الأخوة». كل مَن يخالف هذه القاعدة يُعد خائنًا.
- (٦)
المشاجرات على ظهر السفينة ممنوعة منعًا باتًّا، مَن يخالف أمر القبطان يعاقب بأربعين جلدةً على ظهره العاري.
- (٧) تطبق العقوبة السابقة أيضًا على من يفسد سلاحه، أو يدخن غليونًا٧ بدون غطاء، أو يحمل مصباحًا مشتعلًا بدون واقي غطاء.
- (٨)
على أفراد الطاقم أن يحتفظوا بأسلحتهم في حالةٍ نظيفة، وعلى نحوٍ منظم، وكل مَن يتراخى في أداء هذا الواجب يفقد نصيبه من الغنائم.
- (٩)
إن الرجل المهذب يعامل النساء دائمًا باحترام، والضابط، أو البحار الذي يتعرض بالإهانة سواءً باللفظ، أو بالفعل، لامرأةٍ من الأسرى، سوف يعاقب فورًا بالإعدام شنقًا.
على الرغم من هذا النظام الصارم الذي فرضه روبرتس؛ فإنه كان يتمتع بحب أتباعه واحترامهم، وعلى أية حال لا وجه للغرابة هنا، فقد كان الجميع مَدِينين فيما أحرزوه من نجاحٍ لمواهبه التنظيمية. وكان من نتائج العمليات التي قام بها القراصنة في منطقة جزر الأنتيل، والتي استمرت ما يزيد على العام، أن ضمنوا لأنفسهم حياة رغدة، وتوقف بعض مَن أثروا ثراءً كبيرًا عن العمل، تاركين «أخوة» القرصنة.
وقد ألحقت أعمال النَّهب التي قام بها روبرتس في منطقة جزر الأنتيل قدرًا هائلًا من الخسائر بالتجارة البحرية، الأمر الذي دفع بإنجلترا، وفرنسا، وإسبانيا، لعقد اتفاقٍ فيما بينهم، وجَّهوه ضد نشاطه في هذه المنطقة، وعندئذٍ رأى روبرتس أن عليه أن ينسحب إلى مناطقَ أخرى.
ظهر روبرتس عند جزيرة نيوفوندلاند كما تظهر الصاعقة في سماءٍ صافية، فها هو ذا ينقض على الصيادين الذين كانوا يقومون باصطياد سمك الماكريل وعلى القرى الساحلية للجزيرة، واستولى القراصنة على الزوارق والمراكب التي يستخدمها الصيادون، لكن الهدف الرئيسي من حملاتهم أصبح هو النقود التي تملكها جمعيات الصيادين التعاونية. وأصبح خليج نيو أسكتلندا، وسانت لورانس المعزولان يمثلان ملجأً هادئًا للقراصنة من سوء الأحوال الجوية ومن المطاردة. على أن روبرتس كان يدرك أن وجوده الطويل في هذه المياه، أمرٌ يكتنفه الخطر بسبب العمليات التي تقوم بها سلطات نيوانجلاند. في عام ١٧٢١م يعود روبرتس عدة مرات حول رأس الرجاء الصالح، وكان يعرج أحيانًا في طريقه على معاقل القراصنة في مدغشقر.
وذات مرة علم روبرتس أن الفرقاطة الملكية التي تحمل اسم «صوالو» (عصفور السنونو) تجد في البحث عنه، وأن قبطانها المدعو «تشالونر أوجل» قد حاز سمعة مدوية عند أعدائه اللدودين من القراصنة. على أن روبرتس — الذي كان يمتلك آنذاك سفينتين — قرر أن باستطاعته أن يتغلب على الإنجليز، ومن ثَم أبحر بدوره لملاقاتهم.
ولقد انتهى هذا التدبير نهاية فاجعة للقراصنة، فما إن اكتشف أوجل السفن التي كان يطاردها حتى هدَّأ من سيره، ثم اختبأ غير بعيدٍ من الجزر. أرسل روبرتس إحدى سفينتيه للاستطلاع، وما إن رآها أوجل تخرج إلى عرض البحر وحيدة حتى سارع دونما جهد يُذكر في إغراقها، ثم استدار لمطاردة الأخرى.
وفي العاشرة من صباح العاشر من فبراير عام ١٧٢٢م، عثر «أوجل» على القراصنة عند الشاطئ بعد ليلةٍ قضوها في احتساء الخمر، وما إن رأى روبرتس ما يحدث، حتى سارع باستدعاء طاقمه، وأمرهم جميعًا بالخروج إلى عرض البحر، على أن «أوجل» قطع عليه الطريق، فلما بلغ روبرتس اليأس، أصدر أمره بالتوجُّه مباشرةً نحو الفرقاطة الإنجليزية وهو يطلق عليها نيران مدفعه. جرت وقائع هذه المعركة في أحد الخلجان الصغيرة، وقد قُتل فيها روبرتس على إثر إصابته بشظيةٍ من قذيفة مدفع، بعدها استسلمت «رويال فورتشن».
بعد هذا الانتصار الذي حققه قائد الفرقاطة الإنجليزية، قرر أن يكرِّم هذا القرصان الشجاع الذي سقط في المعركة بإجراء مراسم الجنازة البحرية في حضور طاقمي سفينتي روبرتس، أقيم نعش مرتحل على سطح السفينة، وضع فيه جثمان القرصان، وقد ارتدى سترته الاستعراضية المفضَّلة والمرصعة بالذهب والأحجار الكريمة الباهرة، ثم وارى جثمانه البحر.
ولم يفلت واحدٌ من رِفاق روبرتس من العقاب الذي استحقَّه بسبب الفظائع التي ارتكبها، أُعدم الجميع شنقًا في رأس كوست كاسل على ساحل الذهب.
قرصانٌ رغم أنفه
تعود أحداث هذا التاريخ إلى شهر أبريل عام ١٨٢١م، عندما التحق المدعو أهارون سميث بالعمل على السفينة «زيفير» التي كانت متجهة من كنجستون في جاميكا إلى إنجلترا بوصفه ضابطًا أول، وكان القبطان لومسدن على رأس هذه السفينة.
بعد خمسة أيام قضتها السفينة في البحر، إذ بركَّابها يُلاحظون — وهم عند رأس أنطونيو جنوب الساحل الكوبي — سفينةً شراعية مشبوهة تظهر في الأفق، اتضح لهم بعد ذلك أنها سفينة قراصنة، لم تُجدِ كل أشكال المقاومة التي أبدتها «زيفير» نفعًا، وكان هروبها ضربًا من المستحيل، فاستسلم القبطان لومسدن على الفور. قام القراصنة بنقل كل ما وجدوه على السفينة من نفائسَ إلى سفينتهم، ثم سمحوا للومسدن بمواصلة رحلته، إلا أنهم احتجزوا أهارون سميث، وأمروه بأن يقود سفينتهم إلى ريوميدياس في كوبا.
وفي نفس اليوم وصلوا إلى المكان المحدد، حيث شاهد العديد من القوارب والأطواف التي خرجت لاستقبال القراصنة.
يصف سميث هذا اللقاء بقوله: «أخبرني القبطان أنه ينتظر ضيوفًا قادمين من البر؛ اثنين أو ثلاثة من الموظفين وعائلاتهم، وكذلك عددًا من القساوسة»، ثم أضاف قائلًا: «إنك سترى عددًا كبيرًا من الفتيات الإسبانيات الجميلات»، سألته وقد تملكتني الدهشة عما إذا كان غير خائفٍ من وجود هؤلاء الموظفين. فانفجر القبطان ضاحكًا، وقال لي: «إنك على ما يبدو لست عليمًا بعادات الإسبان، إن بضع هدايا صغيرة كفيلة بأن تكسبك صداقة الموظفين.» ثم فسَّر لي أنه بفضل هؤلاء بالذات سوف يعرف كل ما يحدث في هافانا، وأنه سوف يتلقى في حينه المعلومات اللازمة حول الأعمال الموجهة ضده حتى يبقى على حذر.
عندما وصلت القوارب والأطواف إلى سفينة القراصنة، استقبلها الطاقم بحفاوةٍ بالغة، وكان هناك اثنان من الموظفين، وقس، وعدد من النساء، وكان مما زاد من دهشة سميث، هو هذه التهاني الحارَّة التي قدموها للقبطان على ما حققه من نجاحٍ بكل كياسةٍ ولطف، قدَّم الكابتن ضابطه سميث إلى ضيوفه، بوصفه الرئيس الجديد للبحارة. بعد ذلك نزل الجميع إلى القمرة صحبة ليشربوا نخب القبطان وأصحابه البواسل. وبعد أن تناولوا الأنخاب، اقترحت إحدى السيدات الرقص، فوافق الرجال على ذلك بسرورٍ بالغ، وقامت إحدى الشابات، وتُدعى سيرافينا بدعوة سميث إلى الرقص، وأكدت له تعاطفها معه، ووعدت بأن تقنع أباها الموظف أن تحصل له على حريته من القبطان.
وفي الصباح الباكر، أخذ الضيوف يتهيئون للعودة إلى الشاطئ، فأحضر القبطان لهم الهدايا التي كان قد سبق له إعدادها، وكان أول الهدايا عبارة عن صندوقٍ — كان سابقًا ملكًا لسميث — يحتوي على أقمشةٍ وحرائر، سلَّمها للقس الذي فرح بها، وأعلن للقبطان أن باستطاعته أن يعتمد دائمًا على صلواته! ولم يغادر أحدٌ من الضيوف بخُفَّيْ حُنين.
عند الظهيرة تقريبًا أحاطت السفينة قوارب وأطواف الكوبيين الراغبين في الحصول على بضائع القراصنة، وكان أول المشترين الذين صعدوا على ظهر السفينة هي سيرافينا وأبوها. أخبرت سيرافينا أهارون — بعد أن انتحت به جانبًا — أن أمها ترغب في أن تراه بشدة، وأنها ستبذل جهدها للحصول على تصريحٍ له بالنزول إلى الشاطئ. في هذه الأثناء بدأت حركة البيع على السفينة، وكان أهارون سميث مُكلفًا بمراقبة الموازين التي يوزن عليها البن للمشترين؛ إذ لم يكن هناك أحدٌ من البحارة يعرف كيفية استخدامها، بعد ذلك تم إعداد غذاءٍ فاخرٍ، وطلب القبطان — الذي كان يتحدث الإنجليزية قليلًا — من سميث أن يقوم بإعداد أي كوكتيلٍ قوي على الطريقة الإنجليزية، وما إن لعبت الخمر برءوس جميع المشترين، حتى بدأ القبطان المرحلة الثانية من عملية البيع، فعرض الملابس المسروقة من السفينة «زيفير».
عندما ذهبت الصحبة التي لعب برأسها الخمر للراحة، ظل أهارون وسيرافينا وحدهما على ظهر السفينة، واعترف كلٌّ لصاحبه بحبه بطريقةٍ إسبانية محضة، ثم قررا أن يهربا معًا، ويتزوجا في أول فرصةٍ تلوح لهما. وعلى مدى اليومين التاليين ظل القراصنة يطوفون في البحر بحثًا عن غنيمةٍ جديدة. وقابلوا في اليوم الثالث مركبًا شرعيًّا هولنديًّا وافق على أن يتبعهم طائعًا إلى كوبا دون طلقةٍ واحدة. عندما دخلت السفينة إلى الميناء أفادت الأنباء أن أبا سيرافينا قد جرحه أحد اللصوص، وأنه يدعو إليه سميث ليتفحَّص جرحه. وافق القبطان على الفور على إرسال سميث إلى الشاطئ، لم يكن الجرح خطيرًا بالمرة، لكن سميث أشاع أنه خطيرٌ جدًّا حتى تُتاح له فرصة أن يلتقي بسرافينا بشكلٍ أكثر. وأخيرًا أخبرت الفتاة عشيقها أنها على أتم الاستعداد للهرب، على أنه اتضح في الدقيقة الأخيرة أن الدليل الذي أولياه ثقتهما، ليس سوى خائن، ومن ثَم أصبح على العاشقين أن يؤجِّلا تنفيذ خططهما إلى موعدٍ آخر بعد أن يتمكَّنا من إزالة الشك وتجنب انتباه القراصنة.
أثناء ذلك أدخل لصوص البحر إلى الميناء عددًا من السفن التي استولوا عليها، ومن بينها سفينة إنجليزية ضخمة، وما إن علِم محافظ هافانا بهذا الأمر، حتى أرسل بفصيلةٍ قوية من البوليس حتى يقاسم اللصوص الغنيمة.
ما إن وصل البوليس إلى الميناء، حتى أسرع بالتوصل إلى اتفاقٍ مع القراصنة، ثم عدل عنه بسرعةٍ في الوقت المناسب، فبمجرد وصولهم دخلت إلى الميناء إحدى سفن القراصنة، وعليها مسروقات من ثلاث سفن إنجليزية، كما كان على ظهرها غنيمة أخرى لها وزنها: ضابطٌ إسباني وزوجه، وقد ألمت بالزوجة أثناء الطريق وعكةً شديدة، فاستدعوا لها سميث، الذي كان قد حاز على سمعةٍ طيبة كطبيب ذي خبرة، وبفضل مساعدته لها، برئت المرأة من مرضها بسرعة، مما دفعها إلى أن تعبر بصراحةٍ عن امتنانها لهذا الرجل الإنجليزي. وذات مرةٍ وبسبب الازدحام في السفينة — اضطر سميث أن يقضي الليل في قمرة الضابط الإسباني وزوجه، في الوقت الذي كانت المشاجرات تشبُّ بشكلٍ مستمر بين الأَسرى.
وكان سميث من هذا النوع المحظوظ — أو التعس — من الرجال الذين يحالفهم النجاح عند النساء. استمر سميث يناور الزوج الغيور تارة، وتارة زوجته الولهى به، وتارةً أخرى سيرافينا العاشقة، وطال الوقت بسفينة القرصان وهي رابضةٌ لا تغادر الميناء، وأخذت شئون القلب التي يمارسها أهارون سميث تزداد تعقيدًا يومًا بعد الآخر.
وذات يوم، أرسل أحد موظفي الدولة بخطابٍ إلى القرصان ينصحه فيه بسرعة الخروج من المرسى، كان محافظ هافانا قد عزم على اتخاذ قرارٍ حاسم ضد لصوص البحر، فأرسل بمئات الجنود، وخمس سفن بهدف محاصرة ملجأ القراصنة الذين أفلحوا في تلك الليلة في الخروج إلى البحر فور تلقِّيهم تلك المعلومة.
وثارت ذات ليلة عاصفةٌ شديدة اضطرَّت سفينة القرصان إلى الاحتماء بأحد الخلجان الصغيرة المعزولة، لزم القبطان — الذي كان يعاني من نوبة الملاريا — قمرته، بينما ظل البحارة يعاقرون الخمر حتى فقدوا وعيهم. هنا قرر سميث أن الفرصة مواتية للهرب، فوضع أدواته البحرية في مخلاة، مع بعض الخبز الجاف، وأنزل إلى البحر قاربًا شراعيًّا، ثم قطع الحبل الذي يربطها بالسفينة، وترك التيار يحمله بعيدًا. وبعد أن ابتعد عن الشاطئ رفع الشراع، وأبحر في اتجاه هافانا، التي وصلها بعد يومين، متصورًا أن ضياعه قد آن له أن ينتهي. على أنه ما كاد يظهر في واحدٍ من شوارع هافانا حتى اصطدم بالقبطان الذي مكث معه في الأَسر لدى القراصنة، لقد قرر الزوج الغيور أن يثأر لشرفه ورجولته التي أُهينت من سميث، وطالب بالقبض عليه فورًا.
لم يكن سميث عندئذٍ يمتلك شرْوَى نقير، في اليوم التالي اقتيد السجين مخفورًا بثلاثةٍ من الضباط الإنجليز من سفينةٍ الأدميرالية التي يرأسها السير تشارلز دولي، ليوضع على ظهر السفينة الحربية «سيبيل»، وهناك تم قيده بالأغلال، مثلما يحدث مع عتاة المجرمين، الأمر الذي أدهش سميث. بعد رحلةٍ طويلة وصلت «سيبيل» إلى دبتفور، وأُرسل سميث إلى السجن في نيوهايت، حيث كان عليه أن يمكث به إلى أن تنظر محكمة الأدميرالية في قضيته بتهمة ممارسة القرصنة.
بدأت محاكمة سميث — التي أثارت ضجة هائلة — في يوم الجمعة الموافق ٢٠ ديسمبر ١٨٢٣م في أولدبيلي. اصطف أمام المحكمة طابورٌ طويل من الشهود، وبفضل شهادة الآنسة الجميلة الفاتنة مس صوفي نايت — خطيبة المتهم — حُكم لسميث بالبراءة. أعلنت صُوفي للقضاة — وهي تذرف الدموع مدرارًا — أنها تنتظر عودة حبيبها سميث من أمريكا منذ ثلاث سنوات، وقد دفع اعترافها المحكمة نحو إصدار حكم البراءة.
لم يخبرنا التاريخ عمَّا إذا كانت مس نايت المخلصة، قد تزوجت من سميث (وهو أمرٌ غير محتمل)، أم أن سميث قد عاد إلى سيرافينا؟
قضية «باندا»
في الثاني من مارس عام ١٨٣٦م أصبح المشاة، الذين كانوا يتنزهون في الشوارع المطلة على البحر لميناء بوسطن، شهودًا بمحض الصدفة لحادثٍ غير عادي!
كانت سفينة البضائع المكسيكية «أجيلو» (النسر)، متجهةً صوب بوسطن، وعليها — إلى جانب البضائع — عددٌ قليل من الركاب، من بينهم الزوجان مارتينيز، وابنتاهما، وعددٌ من الخدم. وبالقرب من سواحل أمريكا، وفي حوالي الخامسة ظهرًا بدا أن السفينة قد دخلت إلى منطقةٍ كثيفة الضباب، عندئذٍ صاح القبطان سيجوميو بضابط الحرس قائلًا: أشعل النيران المميزة! لكن صوتًا غريبًا على ظهر السفينة أجابه: لا داعي ألبتة! إننا نراك جيدًا مع ذلك. هنا أدرك القبطان — وقد أصابه الذعر — أن سفينةً أخرى ذات أشرعة ثلاث تلتصق تقريبًا بسفينته، وقبل أن ينجح في اتخاذ أية خطوة مع السفينة المجاورة، إذا بالسلالم تلقى منها، ويتسلقها في لمح البصر ثمانية بحَّارة مسلحين، ليقفزوا منها إلى ظهر «أجيلو».
أدرك القبطان سيجوميو أنه يتعامل الآن مع لصوص البحر، ولقد حاول الرجل أن يشرح لهم أن السفينة لا تحمل سوى أخشاب، لكن زعيم القراصنة «بدور خيبرت» عاجله بضربةٍ من قبضة سيفه، فأطاح باثنين من أسنانه الأمامية. لم يهتم القراصنة بالأخشاب، لكن الذي جذب اهتمامهم هو رجلٌ يُدعى مارتينيز يرتدي ثيابًا فاخرة، فجذبوه إلى سطح السفينة، وأخذوا في ضربه حتى يخبرهم أين يخفي نقوده وثروته. ظل المكسيكي يحاول إقناعهم بعدم وجود أموال لديه، لكنه بعد أن وقع في قبضة رئيس البحارة العملاق المدعو فارس، الذي وضع على رقبته سكينًا حادة، اعترف أنه يملك في قمرته صندوقًا حديديًّا، أخفى بداخله ثلاثين ألف دولار. كانت سعادة القراصنة لا تُوصف عندما سمعوا هذا الرقم الهائل، وعلى الفور أمر خيبرت بدفع برميل من الروم ليبدأ الجميع حفل الشراب.
صباح اليوم التالي أخذ القراصنة في حبس جميع الأسرى من الرجال والنساء في باطن السفينة، بعدما أمر خيبرت بإضرام النار فيها، ما إن غادر اللصوص «أجيلو» حتى أخذ الأسرى في كسر الأبواب المغلقة بالمزاليج، وعلى الفور اندفعوا إلى السطح ليطفئوا النار.
أما المشهد التالي من هذه الدراما فقد جرت أحداثه في شوارع بوسطن، فور إدلاء الضحايا بشهاداتهم، وخروجهم من عند رئيس الميناء؛ ففي طريق عودة الجميع إلى السفينة، إذا بالفتاة إيزابيلا ابنة مارتينيز تشير، وهي تصرخ بهستيريةٍ إلى جماعة من البحَّارة كانت تسير على الجانب الآخر من الشارع: ها هُم، ها هم!
وعلى الفور صاح من خلفها مارتينيز: اقبضوا عليهم، ثم انطلق يعدو في إثر البحارة الذين لاذوا بالفرار في اتجاه سفينة ذات ثلاثة أشرعة ترسو في الميناء، كان من السهل قراءة اسمها المكتوب على مقدمتها: «باندا».
كشف البحث الذي جرى على سطح السفينة أن البحَّارة الذين تم القبض عليهم في الشارع، هم نفس القراصنة الذين هاجموا السفينة التجارية المكسيكية «أجيلو». بفضل اتفاق هذه الظروف غير العادية، التقى المجرمون بضحاياهم في قاعة الاجتماعات بمحكمة بوسطن. على الرغم من أن أدلة الاتهام كانت دامغة، فإن القراصنة جميعهم أنكروها، وقد بدت جهود المحامين دقيقة، وصدر الحكم على طاقم السفينة «باندا» بأقصى درجات العقوبة، وهو الإعدام شنقًا، ولم ينجُ من هذا الحكم سوى بحار واحد يُدعى أنطونيو.
فبينما اتجه البحارة جميعهم في ذلك اليوم للهو والتسلية، ظل أنطونيو على ظهر السفينة، وعندما شاهد وهو على سطحها كيف يتم القبض على رفاقه، قفز إلى الماء، وعبر سابحًا إلى الشاطئ الآخر من الخليج، مفلتًا بهذه الطريقة من البوليس.
عندما نطق رئيس المحكمة بالحكم بالإعدام شنقًا على أنطونيو، اتجهت أنظار المحكوم عليهم الآخرين نحو رجلٍ فارع الطول، عريض الأكتاف، يجلس وسط جمهور الحاضرين في الصف الأول، كان من السهل التعرُّف فيه على البحار المطلوب القبض عليه؛ إذ إن القضاة، والمحلفين، والحراس، والجمهور، قد تابعوا باهتمامٍ كيف اتجهت أنظار البحارة السبعة إلى هذا الرجل عند سماع الحكم. ساد القاعة سكونٌ مطبق، ولم يتمالك الرجل، الذي لفت انتباه الجميع أعصابه فهبَّ واقفًا، واتخذ طريقه إلى باب الخروج. في هذه اللحظة، قفز القرصان خوان مونتجرو من مكانه في قفص الاتهام بصوتٍ حاد: أنطونيو، اهرب بجلدك!
ارتفع الصخب، وعمت الفوضى القاعة، وإلى أن استطاع البعض أن يمحص الأمر، كان أنطونيو قد اختفى، وظل مصيره بعد ذلك مجهولًا.
بعد عدة أيامٍ استطاع المحامون أن ينجحوا في تخفيف العقوبة إلى اثنين من موكليهم، وقد راعت المحكمة أيضًا أن القرصان سوتو قد حاول مرتين الدفاع عن الضحايا، فاستبدلت الحكم بالسجن بالحكم بالإعدام شنقًا، وقد تفادى توماس رويس أيضًا الحكم بالإعدام، بعد أن اعترف الأطباء بمرضه النفسي.
وقد نفذت أحكام الإعدام شنقًا على القراصنة الباقين في الحادي عشر من يونيو عام ١٨٣٦م.
سفينة العبيد المتمردين
في عام ١٨٣٦م عندما كانت سفينة حرس الشواطئ «واشنطن» التابعة للولايات المتحدة الأمريكية، تقوم بدوريتها البحرية على اتساع شاطئ نيويورك، أبلغ النوبتجي — عند وجوده بالقرب من لونج آيلاند — عن ظهور سفينةٍ شراعية كانت تقوم بمناوراتٍ ما غامضة.
استمر القبطان لفترةٍ طويلة يراقب التحركات الغريبة غير المفهومة لهذه السفينة، في البداية قرَّر القبطان أن هذه السفينة — لسببٍ ما — ليس بها طاقم، وأنها تسير كيفما شاء لها التيار، ولكنه عندما اقترب منها بالسفينة الحربية لاحظَ على ظهرها أشباحًا لأفارقةٍ داكني البشرة، فارعي القامة، يرتدون ملابس نسائية مختلفة ألوانها كأنهم في حفلٍ تنكُّري.
أصدر القبطان أمره بإنزال زورق، بعد أن وضَع فيه أربعة وعشرين بحارًا مسلحًا، أرسل بهم إلى السفينة بعد أن جهز سفينته في وضع الاستعداد القتالي. عندما قرأ قائد الفرقة التي على الزورق اسم السفينة الغامضة «أمستاد»، أدرك على الفور مع مَن يتعامل، فمنذ وقتٍ غير بعيد تلقَّت قيادة الأسطول البحري العسكري الأمريكي، بلاغًا عن ظهور السفينة «أمستاد» التي كانت قد غادرت ميناء هافانا منذ شهرين متجهةً إلى جوانا خواتو بالمكسيك — في عدة بقاعٍ في الخليج المكسيكي والشاطئ الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية، ولكنها لم تصل إطلاقًا إلى وجهتها المنشودة.
عندما صعد مساعد قبطان السفينة «واشنطن» في صحبة بحَّارته المسلحين إلى ظهر «أمستاد»، خرج من بين صفوف الأفارقة رجلٌ أبيض أشيب الشعر، توجَّه إليه، ثم أخذ يلوح بيده بطريقةٍ عصبية وهو يقول: ساعدونا! هؤلاء العبيد أعلنوا التمرُّد! لقد قتلوا الطاقم! اقبضوا على زعيمهم!
ظل الرعب مرتسمًا على وجه الرجل الأشيب، حتى في وجود البحارة المسلحين، ثم أشار إلى رجلٍ أفريقي عملاق، كان يقف عند مؤخرة السفينة ويداه مشبوكتان على صدره، كان يراقب المشهد في صمت.
كان هذا الأفريقي يتميز عن بقية أفراد قبيلته، لا بطوله وبنيته القوية فحسب، وإنما بنظرته المسيطرة وسلوكه المُتعجرف، وعندما اقترب منه بعض البحارة، إذا به يختفي فجأةً في عنبر السفينة. وعلى مدى شهرين كاملين، ظل الزنوج العاملون في المزارع الجنوبية للولايات المتحدة، يتناقلون همسًا قصة «أمستاد» سفينة الحرية.
وها هي الأحداث التي دارت على ظهرها:
ذات يوم توجَّه المدعو دون خوسيه رويس الثري الإسباني الذي كان مقيمًا في المكسسيك إلى هافانا لشراء شحنة من العبيد، وبعد معاينةٍ دقيقة للبضاعة الحية، اشترى السنيور رويس تسعة وأربعين عبدًا، من بينهم الأفريقي العملاق جوزيف سينكس، وقد تبيَّن من القصص التي تناقلها التجار أن هذا الرجل هو حفيد إحدى السلالات الملكية الأفريقية في حوض نهر الكونغو، وقد رفض الأمير الأسود الأبيُّ الانصياع لأوامر سادته. اتفق السنيور رويس — بعد أن تدارك الموقف — مع قبطان السفينة «أمستادا» التي كانت متجهةً إلى المكسيك، على نقل العبيد والبضائع إلى ميناء جونا خواتو، وكان من المفترض أن تستمر الرحلة خمسة أيام فقط، ولم يكن السنيور رويس يشعر بالقلق من أن السفينة لم تكن مجهزةً لنقل العبيد.
وفي اليوم الرابع اندلع التمرد بين العبيد المحبوسين في سجن السفينة، لقد استمر هؤلاء العبيد على مدى أربعة أيام يعملون خلسةً تحت زعامة سينكس، في تكسير الأصفاد التي كانت تغل بعضهم ببعض، وكانت بضع دقائق كافية جدًّا حتى يفرض العبيد سيطرتهم على السفينة، بعد أن أعملوا القتل في طاقمها، غير أن البحار الذي كان جالسًا على الدفة استطاع بسرعة البرق أن يُنزل إلى الماء أحد قوارب النجاة الصغيرة، ونجح في الابتعاد عن السفينة، وعندما وصل إلى الشاطئ أبلغ السلطات عن التمرد الذي اندلع على السفينة «أمستاد».
إلى جانب هذا البحار كان هناك الخادم أنطونيو، ورويس، والسنيور مونتيس القبطان السابق للسفينة الذي أبقى سينكس على حياته على أمل أن يقود السفينة، وما إن تولى سينكس القيادة، حتى قيد مونتيس إلى الدفة، ثم أمره مهددًا إياه بالموت، بعد أن لاحظ أن السفينة تأخذ وجهتها نحو الغرب، أن يتجه إلى وطنه الحبيب أفريقيا، حيث البلاد التي يسكنها الأفيال، والتماسيح، والزراف.
غير أن مونتيس حاول أن يسير — مستغلًّا جهل القائد الجديد — بالقرب من الشاطئ المكسيكي أولًا، ثم جزر الباهاما بعد ذلك، على أمل مقابلة أية سفينة حربية. كان الزنوج — الذين لم تكن لديهم أدنى معرفة بالملاحة — يتطلعون من يومٍ لآخر إلى شاطئ أوطانهم، حيث تنتظرهم الحرية.
ولما طالت الرحلة، أخذ الأفارقة يمرحون كالأطفال، فأخرجوا من الصناديق الملابس النسائية، التي أحضرها رويس لأُسرته، وبعد جدلٍ طويل بينهم، اقتسموها فيما بينهم، وعلى أنغام الآلات الموسيقية التي اشتراها رويس، أخذوا يرقصون رقصاتهم الأفريقية الصاخبة. وها هو السنيور رويس يُراقب في فزعٍ كيف صنع أحد المتمردين من أوتار آلة الهارب عُقدًا لابنته. انقضى الوقت، وأوشك الطعام والماء على الانقضاء، عندما اقتربت السفينة من جزر الباهاما، أرسل سينكس إلى الشاطئ قاربًا عليه ثلاثة أفراد، استطاعوا على مدى عددٍ من الرحلات جيئة وذهابًا، أن يأخذوا احتياطيًّا كبيرًا من الماء، وفي الطريق أيضًا قابلوا إحدى السفن طلب منه مونتيس — بِناء على أوامر سينكس — أن تمدهم بالمواد الغذائية التي دفع المتمردون ثمنها من النقود الإسبانية المنهوبة. وكان سينكس إبان إجراء هذه الصفقات، يخفي مواطنيه في سجن السفينة، على أن الفضول لديهم كان أقوى من الخطر نفسه، فكان بحارة السفن التي قابلتهم ينظرون بدهشةٍ بالغة إلى هذه الرءوس السوداء من أركان «أمستاد»، وقد تغطت بالقبعات الملوَّنة الغريبة، لم يكن مونتيس يعود كثيرًا على المساعدة، إذ كان يدرك تمامًا أن كلمةً واحدة تقال بغير حرصٍ، قد يدفعها ثمنها هو ورويس حياتهما.
أبحرت «أمستاد» ببطء باتجاه الشمال بمحاذاة الشاطئ الأمريكي، وعندما لاحظ سينكس أن الأرض تقع غربًا أدرك أن مونتيس خدعه، عندئذٍ قرَّر أن يستأجر بما بقي لديه من نقودٍ ملَّاحًا يمكن أن يقود السفينة إلى شواطئ أفريقيا.
عندما اقتربت «أمستاد» من جديدٍ من ساحل الولايات المتحدة الأمريكية، أرسل سينكس إلى الشاطئ رجلًا ممن يثق فيهم، ويُدعى كاتاهوم عدَّه من الأذكياء، وأوكل إليه مهمة استئجار أحد الملاحين. على أن كاتاهوم، الذي لم يكن يعرف لغة السكان البيض، لم ينجح في مهمته، وقد أحدث نزول كاتاهوم هو ورفاقه إلى الشاطئ هرجًا في إحدى القرى الأمريكية، حيث سارع السكان لدى رؤيتهم لهؤلاء الناس الذين يرتدون الملابس الغريبة، إلى إغلاق مساكنهم بالمزاليج، وإغلاق النوافذ كذلك، بل إن المزارعين أخذوا في إطلاق النار على هؤلاء العبيد، وهم في طريق عودتهم إلى السفينة.
مرةً أخرى يكرر كاتاهوم المحاولة، فينزل إلى الشاطئ ويلتقي بمزارع سلبت لبه العملات الذهبية، فأخذ يتفاهم من خلال إشاراتٍ، مع مبعوثي سينكس. وافق المزارع دون ترددٍ على بيع كلبيْن لهم، ولما أدهشه الثمن الذي دفعوه، أعطاهم بالإضافة إلى ذلك بندقيته القديمة.
وكان من الممكن أن تثمر الجولة الثانية لكاتاهوم إلى الشاطئ، لولا أن الظروف قد تغيَّرت، فبالقرب من مصب نهر صغير يُسمى كولودين، قابل الأفارقة اثنين من الأمريكيين خبراء في الملاحة، يعرفون الطريق جيدًا إلى أفريقيا، ما إن شاهدا الصندوق بالذهب، حتى دخلوا في مفاوضاتٍ مع العبيد، لكن السفينة الحربية «واشنطن» كانت قد دخلت إلى الأحداث.
ظهر سينكس — الذي كان قد نجح في الاختفاء في سجن السفينة من بحارة «واشنطن» — عند مؤخرة السفينة. كان خَصره محاطًا بحزامٍ عريض وسميك، ويبدو أن الرجل كان قد أعد العدة لمثل هذه الظروف، فقد قام بخياطة العملات الذهبية في حزامه. قفز سينكس إلى الماء، مستغلًّا الارتباك الذي حدث، وطفق يسبح باتجاه الشاطئ، بينما أخذ الجنود يرشقونه برصاصهم، لكن هذا السبَّاح الماهر استطاع أن يتفادى الطلقات. عندئذٍ لم يكن هناك من بُدٍّ سوى اشتراك «واشنطن» في المطاردة، وعلى الفور تم القبض عليه، على أنه كان قد نجح في فك الحزام عن خصره، وأغرق الذهب في البحر، حتى لا يقع في أيدي مطارديه.
جرى عزل سينكس عن باقي العبيد، تجنبًا لتمردٍ جديد، ثم نقل إلى السفينة «واشنطن» تحت الحراسة. أصبح الزنوج في موقفٍ لا يُحسدون عليه. كان من حق قبطان السفينة الحربية — طبقًا للقوانين المعمول بها آنذاك — أن يقوم بإعدام جميع القراصنة الذين تمَّ القبض عليهم على الصاري دون محاكمة، لكن القبطان لم يفعل هذا تحسُّبًا للرأي العام، الذي كان شديد الاهتمام بقضية العبيد المتمردين الشهيرة، ومن ثَم جرى إرسال الأفارقة إلى سجنٍ في نيو لندن.
كان لموقف سينكس البطولي أثره في إكسابه العديد من الأصدقاء، بل والاحترام، حتى في صفوف أعدائه. وعلى الرغم من روح التعاطف التي سادت المجتمع الأمريكي تجاه قضية سينكس، فإن الهيئات القضائية في الولايات المتحدة الأمريكية لم يكن بنيتها أن تدفن القضية، فقد تم إعدام سينكس شنقًا هو وثلاثة من رفاقه، على أن اسم جوزيف سينكس أحد أول المناضلين في سبيل تحرير الزنوج الأمريكيين قد بقي في ذاكرة محبي الحرية، وخاصةً في الولايات المتحدة الأمريكية.
أما فيما يخص القرصنة عند سواحل أمريكا الشمالية، فقد تم اجتثاثها نهائيًّا في منتصف القرن التاسع عشر.