قراصنة بحار الجنوب
نظرةٌ سريعة إلى خارطة جنوب شرقي آسيا تكفي لأن يقتنع المرء بأن هذه المنطقة التي تنتشر فيها الجزر هنا وهناك، تمثل ساحة مثالية للنهب البحري، فالسفن هي وسيلة النقل والاتصال الوحيدة بين الجزر العديدة، فهي تمثل مصدرًا مهمًّا للثروة. أما الخلجان المعزولة فهي بالنسبة للقراصنة أوكار رائعة، ليس من المدهش أن تزدهر القرصنة في هذا الجزء من العالَم.
تعود أصول القراصنة الذين بدءُوا في احتراف مهنتهم عند سواحل الصين وأستراليا إلى أهالي الملايو وإلى الدياكي بصفةٍ أساسية، والدياكي صيادون سيئو السمعة، كانوا مجرد قبيلة من الصيادين والمحاربين في الوقت الذي كان فيه أهالي الملايو — الذين استقروا في جزيرة بورنيو — ملاحين ذوي خبرة حقيقية، على أن الدياكي انضموا بمُضي الوقت إلى مجتمع قراصنة الملايو الذين قبلوهم بينهم، لما وجدوهم يتمتعون بمزايا المقاتلين الشجعان الرفيعة.
كان احتكار الشركات الأوروبية للتجارة وراء انتعاش القرصنة في هذه المنطقة، التي عمل سكانها منذ قديم الزمان كوسطاءَ في تبادل البضائع بين الشرقين الأقصى والمتوسط، بين الصين واليابان من ناحية، وفارس والجزيرة العربية من ناحيةٍ أخرى. بظهور الأوروبيين في المنطقة ساءت حركة الملاحة البحرية، وباءت التجارة بالكساد، ومن ثَم بدأ تجَّار الملايو في ممارسة التهريب الذي سرعان ما تحوَّل إلى نهبٍ بحري صريح.
كان أول ضحايا قراصنة الملايو هي قوارب وجونكات مواطنيهم أنفسهم؛ إذ إنها لم تكن مسلحةً تسليحًا جيدًا على غرار السفن الأوروبية. وبمرور الوقت سمحت الثروات التي جمعها القراصنة أن يمتلكوا جُزرًا بأكملها، أسسوا فيها دويلات صغيرة تعيش على النهب، فبعد أن استولى قراصنة الملايو على جزيرة سولا، وسواحل برناويس، وسلطنة بورنيو الشمالية، وكذلك على سواحل جُزر مولوكا، مدُّوا نشاطهم إلى المحيط الهندي، فصاروا يهاجمون سفن الدول الاستعمارية التي كانت تدعم خطوط الاتصال بين كلٍّ من المستعمرات الآسيوية والدول المستعمرة الأم في أوروبا. كان لهذا الأمر صدًى كبيرٌ في بريطانيا وهولندا والبرتغال، تلك الدول التي كانت تجني أرباحًا هائلة من وراء مستعمرات في جنوب آسيا.
يُعد القرصان «راجا» أحد أشهر قراصنة هذه المنطقة، وقد ظل لمدة سبعة عشر عامًا يفرض سلطانه على مضيق «مكاسار»، الذي يفصل بين جزيرتي بورنيو وسيليبيس، وبفضل ما اجتمع له من صفات الشراسة، والإقدام، والذكاء، اشتهر باسم «أمير القراصنة».
في عام ١٨١٣م نجح «راجا» في مهاجمة ثلاث سفن إنجليزية والاستيلاء عليها، بل قام هو نفسه بالإطاحة برءوس قباطنتها، وسرعان ما أرسل الإنجليز بعد هذا الحادث سفنهم الحربية لمطاردة راجا، لم يألُ الهولنديون جهدًا في تقديم المعونة للإنجليز؛ إذ إن ممتلكاتهم في باتافيا (جاكارتا الآن) كانت تتعرض لهجماتٍ منظَّمة من قِبَل «أمير القراصنة»، على أن هذه الحملة التأديبية لم يُكتب لها النجاح.
وفي صبيحة يومٍ اكتنفته الغيوم، لاحظ قبطان إحدى السفن الشراعية الملاوية المعروفة باسم «البراو»، إحدى سفن الحملة الإنجليزية، وكانت تحمل اسم «إلك». وقد ظنها القراصنة سفينةً تجارية، فاتخذوا قرارهم بالهجوم عليها، وما إن أصبحوا على مسافة مائتي متر منها، حتى أطلقوا صيحة الحرب، وفتحوا نيرانهم عليها، لم يكتشف القراصنة خطأهم الفادح إلا بعد فوات الأوان؛ إذ انهال عليهم وابلٌ من القذائف، ما لبث على إثره «البراو» أن أخذت في الغرق، ولم ينجُ من أفرادها سوى خمسة أفراد.
لمَّا بلغ «راجا» نبأ هذه السفينة، أقسم أن يحطم كل ما يقابله في طريقه من سفنٍ أوروبية. وهذا ما حدث بالفعل، فعلى مدى سنواتٍ عدة، بعد هذا الحادث، وصل عدد السفن التي استولى عليها «راجا»، وقتل أطقمها، ما يزيد على الأربعين سفينةً. وقد انتشرت سمعة «راجا» المدوِّية إلى مسافة مائتي ميل من شواطئ جزيرة سيليبيس، حيث كان يحتفظ دومًا من سفن «البراو» يتراوح ما بين خمسين إلى مائة جاهزة للخروج إلى البحر عند أول إشارة من الزعيم، أقام «راجا» نقاطًا للمراقبة على قِمم التلال في الجزيرة التي كانت تَستخدم الرايات البيضاء نهارًا والمشاعل ليلًا؛ للإبلاغ عن أية سفينة تبدو لها في الأفق.
في سبتمبر عام ١٨٣١م وصلت إلى كوالاباتو — المعقل الرئيسي للقراصنة على الساحل الغربي لجزيرة سومطرة — السفينة الشراعية الأمريكية «فرندشب» تحمل شحنةً من الفلفل. لم تكن هناك أية حراسة تحيط بالسفينة، الأمر الذي أتاح لمجموعةٍ من الناس — بدا أنهم مسالمون — فرصة الصعود إلى سطحها دون عائقٍ يُذكر، وبغتةً تنشب معركة على السفينة يروح ضحيتها تقريبًا كل طاقمها الذي لم يكن متأهبًا لقتال، ولم ينجُ منه سوى ستةٍ من البحَّارة نجحوا في الهروب على متن أحد قوارب النجاة. عندما وصل خبر الهجوم على «فرندشب» إلى الولايات المتحدة الأمريكية، سارعت الحكومة الأمريكية على الفور بإرسال الفرقاطة «بوتوماك» إلى كوالاباتوا بقيادة الكوماندور داونيس، الذي تلقَّى أمرًا بالقصاص من المجرمين.
وصلت إلى كوالاباتو السفينة الحربية، وقد تخفَّت في هيئة سفينة تجارية، وألقت بمرساتها في الميناء، وفي نفس الليلة نزل إلى الشاطئ ثلاثمائة بحَّار كانوا على متن «فرندشب»، يقودهم ضابطٌ سابق، وفي الفجر هاجمت الفرقة الأمريكية القلعة، وبعد معركةٍ حامية الوطيس استولت عليها، وقد جرى بعد ذلك إحراق البلدة وقتل سكانها، وبهذا اختفت قاعدة القراصنة في كوالاباتو من الوجود.
وفي عام ١٨٤٢م تم تعيين جيمس بروك حاكمًا لولاية سرواك بجزيرة بورنيو، وكان الرجل يعي جيدًا أنه لا سلام على الجزيرة دون استئصال شأفة القرصنة عليها، وفي يوليو عام ١٨٤٩م قام بروك بالاشتراك مع القوات الإنجليزية بالتنكيل بقراصنة الملايو، بعد أن دمَّر لهم خمسين من سفن «البراو»، واستولى على ثمانين سفينةً أخرى، وبعد شهرٍ واحد وضعت الحملة التأديبية الإنجليزية خاتمةً للقرصنة الملايوية في إقليم بورنيو.
وكان من نتيجة التقسيم الذي جرى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بين هولندا وبريطانيا، أن أصبحت جميع جزر إندونيسيا تحت السياسة الاستعمارية باستثناء سلطنة أتشي في سومطرة، التي احتفظت باستقلالها بسبب التنافس الحادِّ بين الدولتين هولندا وبريطانيا، اللتين حاولتا كل منهما احتلال أكبر جزء ممكن من الجزيرة، على الاتفاقيَّتين اللتين أُبرمتا في عامي ١٨١٥ و١٨٢٤م تعهدت الحكومة البريطانية بألا تقيم أية قاعدة لها فوق أراضي أتشي، وقد تعهَّد الهولنديون من جانبهم باحترام استقلال السلطنة.
وحين انتهى الصراع على تقسيم إندونيسيا واستقرار الوضع نسبيًّا، بدأ المحتلون الهولنديون يشعرون بالضجر تجاه جارهم السلطان المستقل، كانت لاهاي تشعر بالقلق من أن يقع السلطان الضعيف فريسةً لأية دولة، ومن ثم يتحوَّل إلى رأس جسر يمكن أن يمثل تهديدًا لسيادة هولندا في المنطقة، على أن الفرصة لم تسنح للهولنديين للإطاحة بالسلطان. وكان الإقدام على حربٍ استعمارية جديدة، مُعرضًا ألا يجد قبولًا في هولندا نفسها، خاصةً بعد المعارك الدموية البشِعة التي جرت منذ فترةٍ طويلة في جزيرة جاوا، ولكي يتمكن القائمون على الأمر من تبرير استعدادهم للعدوان على أتشي، أخذوا يكيلون الاتهامات للسلطان بزعم تورطه في أعمال القرصنة، مؤكِّدين على أن هولندا ملزمة بالقضاء على هذا الشر بِناءً على شروط الاتفاقات المعقود، وتجدر الإشارة هنا — إحقاقًا للحق — أن بعضًا من رعية السلطان كانوا لا يتورَّعون عن ممارسة النَّهب البحري، لكن هذه الممارسات كانت فرديةً وقليلة.
مرةً أخرى تعود هولندا لتمزِّق الالتزامات المنصوص عليها في الاتفاقات المبرمة في عام ١٨٧١م بعقد اتفاقٍ جديد بينها وبين إنجلترا، تتراجع فيه عن «حقوقها» في ساحل الذهب مقابل أن توافق إنجلترا على السَّماح لها بضم سلطنة أتشي. عندئذٍ لم يجد السلطان أمامه، إلا أن يلجأ لتركيا طلبًا للعون، على أن تركيا — التي كانت قد أصبحت خاضعةً لبريطانيا بعد حرب القِرْم — لم تشأ أن تثير ضدها الحلفاء. ومن ثَم آثرت أن تقف بعيدًا عن النزاعات والمؤامرات الاستعمارية، وفي أبريل عام ١٨٧٣م، قامت هولندا بهجومٍ مسلح ضد أتشي، وبعد ثمانية أسابيع من المقاومة البطولية الباسلة انهزم جيش السلطان المكون من ثلاثة آلاف رجل، تحت ضربات الحملة العسكرية للفيلق الهولندي المكون من سبعة عشر ألف رجل.
أرو ودولوريس
كانت الحسناء أرو داتوي إحدى ثلاث بنات لأحد الرجوات من جزيرة بالاباك، وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر وعلى مدى عشرين عامًا تزعَّمت أرو عصابةً من لصوص البحر، ظلت تمارس النهب والسرقة عند شواطئ الجزر الفلبينية، بل وجرؤت على نشر نشاطها حتى وصلت به إلى مشارف مانيلا ذاتها. كانت أور تهاجم جونكات التجار الصينيين الأثرياء والسفن الأوروبية والمدن الساحلية، وكانت كثيرًا ما تقوم بأَسر المواطنين الأغنياء بهدف أخْذ فديةٍ كبيرة مقابل إطلاق سراحهم، كما كانت تقوم بقطع أذن أسيرها التعِس، وترسلها إلى ذويه باعتبارها دليلًا ماديًّا، محافظةً بذلك على تلك العادة البشِعة التي انتشرت آنذاك في بحار الجنوب!
في حوالي عام ١٨٦٠م أمضى تاجر قصب السُّكَّر الثري السنيور فيكتوريس من مدينة مانيلا ثلاثة أشهر أسيرًا لدى أرو داتوي، وكتب قصةً شيقة عن هذه الفترة، على أن هذا التاجر لم يستطع بدقة تحديد مكان إقامته؛ لأنه كان محبوسًا طوال الرحلة في قفص عانى بداخله من شدة الحرارة والبعوض، وفي جزيرة القراصنة كانوا يعاملونه معاملةً حسنة، على أمَل أن يأخذوا في مقابله فديةً كبيرة، استطاع هذا العجوز السمين المرح أن يكتسب عطف القراصنة؛ إذ كان قريب الصلة بالأوساط العليا في مانيلا، وكم من أمسياتٍ قضاها يحتسي الكروم مع القراصنة، وهو يمتعهم بحكاياته المرِحة، ويقال: إن أرو داتوي نفسها كانت تضحك بشدةٍ، وهي تستمع إليه حتى تفيض أعينها من الدمع.
وفي أبرل من عام ١٨٦٦م قرَّر الإسبان أن يضعوا حدًّا للقرصنة في منطقة الفلبين، اتجهت إلى جزيرة ميندانا — والتي كانت تمثل آنذاك القاعدة البحرية للصوص — حملةً رأَسها فرانشيسكو بافيا، وقد شارك في هذه الحملة ضباطٌ متطوِّعون من مختلف البلاد، كانوا يتطلعون للدخول في حربٍ مع القراصنة باعتبارها مغامرة شيقة ورياضة من نوعٍ خاص.
استطاع الإسبان عبر معارك دموية الاستيلاء على قلاع القراصنة قلعةً تلو الأخرى، وفي الوقت نفسه أخذ القراصنة في الانسحاب إلى عمق الجزيرة عبر طرقٍ سريعة لا يعرفها غيرهم، وعندما اقتحم الإسبان آخر قلعة وقعَت في أيديهم، قام جميع المدافعين عنها من الذين بقوا أحياء في الانتحار، وكان من بينهم أيضًا أرو داتوي.
عام ١٨٢٥م ظلَّ القراصنة الملايو يخطفون سنويًّا ما يقارب الألفين من المستعمرين، أغلبهم من الإسبان، وقد أصبحت هذه الحوادث من الأمور المعتادة، حتى إنها أصبحت تمر مرَّ الكرام، على أن بعضًا من هذه الأحداث مثل مغامرات دولوريس الحسناء ابنة قائد إيلويلو الإسبانية في الفلبين، قد جرى وصفها لتصبح جزءًا من تاريخ القرصنة.
عندما بلغت دولوريس من العمر ستة عشر ربيعًا، أصبحت فتاةً ذات جمال خلَّاب، الأمر الذي كان يشكل في تلك الأزمنة، وفي بلدٍ مثل تلك التي عاشت فيها خطرًا على فتاةٍ شابة، غير أن أباها السنيور كرفاخول رأى أن مدافع القلعة الست، إلى جانب ثلاثين جنديًّا تحت إمرته، ثم العَلم الإسباني بصفةٍ خاصة، يمثلون ضمانًا كافيًا لأمن ابنته، ومن ثم أتاح لها حريةً نسبية. اعتادت دولوريس — التي كانت تتمتع بالورع أيضًا — اعتادت زيارة كنيسة صغيرة، كانت توجد وسط الحدائق القائمة عند أطراف المدينة على مشارف الأحراش، وعادةً ما كانت تتنزه في الأمسيات قبل غروب الشمس وسط الصخور المتناثرة بامتداد شاطئ البحر مع محبوبها. وذات يوم لم تعد دولوريس من رحلة المساء، فتوجَّه الجنود الثلاثون على رأسهم السنيور كرفاخول، وجدُّوا في البحث عنها في كل أنحاء الشاطئ طوال الليل، وقبيل مطلع الصبح عثَروا في إحدى المغارات القريبة من البحر على الشاب مطعونًا برمحٍ، كما عثروا على شال دولوريس ملقًى على الأرض وعليه آثار دماء. أما الفتاة نفسها فلم يُعثر لها على أثر، وقد شهد أحد الصيادين من أبناء الملايو بأن قاربين من نوع البراو مرَّا بجانبه، وكان في طريق عودته من رحلة، وكان من الواضح من حركة مجاديفهما أنهما في عجلةٍ من أمرهما.
هزَّ نبأ اختطاف ابنة رئيس القلعة الإسبانية سكان المستعمرة الفلبينية، على أن محافظ المدينة لم تكن لديه أدنى رغبة في أن يتورَّط في حرب مع كل قوى القرصنة في جنوب شرقي آسيا؛ من أجل أية سنيوريتا مهما كانت رائعة الحُسن. صحيحٌ أن القراصنة نكَّلوا بالمدنيين من السكان، لكنهم في المقابل لم يُلحقوا أي أذًى بالجيش الإسباني أو القس، كما أنهم لم يتجسَّروا على سرقة الأديرة أو مهاجمة الثكنات والحاميات العسكرية، ظلت هذه الهدنات الصامتة المبرمة دون كتابة بين المستعمرين الإسبان وقراصنة الملايو سارية المفعول لمدةٍ طويلة وبدقةٍ متناهية من قِبل الجانبين، أضف إلى هذا أن السفن الإسبانية كان أمامها مهامُّ أهم بكثيرٍ من البحث عن الحسناء المخطوفة، ولا سيما أن كرفاخول نفسه لم يكن يعرف مَن الذي اختطف ابنته بالضبط.
بعد مرور الوقت نجح الأب من خلال التجار والبحارة أن يعرف أن الفتاة موجودة في جزيرة خولو المنيعة التي تُعد القاعدة الرئيسية للقراصنة، حتى إن الهولنديين القادمين من قلعة باتافيا (جاكارتا)، والذين تم إنزالهم في هذه الجزيرة بصحبة الفرسان والمدفعية، اضطروا للتراجع عنها، ليعودوا صفر اليدين، كما كان على السفن التي تنقل البضائع بين جزر سومطرة وتسيليبس ومكاو أن تحمل تصاريحَ خاصَّة موقَّعة من سلطان خولو، الذي كان — وفقًا للتقاليد المحلية — ورِيثًا لسلطان البحار، بالإضافة إلى أنه كان يتربَّح أيضًا من أعمال النهب البحري. كان من الضروري أن يكون حائز التصاريح التي يصدرها سلطان خولو صينيًّا فقط؛ وذلك من أجل إضفاء جو الغرابة الشرقية على التقاليد المستقرة؛ ولهذا كان على أصحاب السفن أن يستأجروا هؤلاء الصينيين مقابل أجورٍ مرتفعة، الأمر الذي كان يُعد وسيلةً أخرى للحصول على مكاسبَ إضافيةٍ، أي إنها كانت في الواقع جِزية يتم تحصيلها من أصحاب السفن.
لقد تبيَّن أن دولوريس بحالةٍ طيبة، وذلك بناءً على أنباء وصلَتْ إلى والدها الذي كاد اليأس أن يفتك به. واتضح كذلك أنها موجودة لدى أحد كبار الموظفين الذين ينتمون إلى الطبقة الأرستقراطية، والذين يعملون في بلاط السلطان، فقد كان هناك موظفون يعملون في حكومة السلطان في الشئون العسكرية وفي شئون التجارة والقضاء، وكان الرجل الذي توجد عنده دولوريس الحسناء موظفًا مختصًّا في شئون القضاء، ويُدعى ميرافال، كان يحيط الفتاة بكل أنواع البذخ الشرقي، آملًا أن تبادله الفتاة مشاعره في نهاية الأمر.
قرَّر السنيور كرفاخول أن يدفع فديةً مقابل إطلاق سراح دولوريس، فأرسل إلى الجزيرة صديقه القديم الذي كان فيما مضى بحارًا رائعًا، كما كانت تربطه علاقات صداقة بالقراصنة، غير أن الصديق عاد إلى إيلويلو بخُفَّيْ حُنين، فقد أعلن الموظف الكبير أنه لن يفرط في دولوريس بأي ثمنٍ. مرت الأيام ولم يتوقف اهتمام الإسبان في جزر الفلبين بمصير دولوريس الحسناء، وأخيرًا أرسل المحافظ إلى سلطان خولو بأحد كبار الموظفين يعرض فديةً رسمية ضخمة مقابل إطلاق سراح دولوريس، على أن الرسول تلقَّى ردًّا بالرفض، كان من الواضح أن السلطان لا يتمتع بتلك السلطة المطلقة كما يتصورها البعض، بل بدا أنه مضطرًّا لأن يضع في اعتباره الأوليجاركية الإقطاعية التي يعتمد عليها، واضطر محافظ الفلبين تحت ضغط الرأي العام إلى أن يلجأ إلى عمل مظاهرةٍ عسكرية، فأبحرت السفن الإسبانية في استعراضٍ للقوة بالقرب من سواحل خولو نفسها، على أنه مكان، محظورًا عليها تمامًا أن تبدأ هي العمليات العسكرية، وكان المحافظ يقصد بذلك مجرد التلويح بتهديد السلطان الذي أظهر في الواقع تماسُكًا ورباطة جأشٍ، فلم يُستفز، ومن ثم عادت السفن الإسبانية بخُفَّيْ حُنين.
ولم يكن باستطاعة دولوريس أن تعتاد بأي حالٍ من الأحوال على حياة الأَسْر، كما أنها لم تشأ أن تستسلم لقدرها، ولا سيما أن البحارة والتجار الذين كانوا يأتون إلى خولو — والذين كانت أحيانًا ما تلتقي بهم — كانوا يخبرونها بالجهود التي تُبذل من أجل إطلاق سراحها، وقد أقنعوها أن حبيبها قد شُفي من إصابته، وأنه سرعان ما يأتي إلى خولا لإنقاذها.
في الواقع كان الفتى العاشق قد لقي حتفه منذ زمنٍ بعيد، ولكن تم العثور على فتًى إسباني آخر يُدعى مارتينيز، كان يمتلك قاربًا صغيرًا ذا شراعين. كان مارتينيز كثيرًا ما يلاحق بنظراته دولوريس وهي ترتاد شوارع البلدة، ويكتفي بزفرات الحسرة من بعيد؛ إذ كانت الفتاة هدفًا لا يمكن الوصول إليه لمَن كان في مثل وضعه، فلما بلَغه نبأ اختطاف دولوريس، اهتزت جوانحه بشدة، وقرر أن يذهب بنفسه لإنقاذها من أيدي القراصنة، وكان هذا القرار محضَ جنونٍ مطبق، لولا أن مارتيزنيز كان إسبانيًّا حتى النخاع، فلم يتراجع عن عزمه قيد أُنملةٍ.
واستطاع مارتينيز — بعد وصوله إلى خولو — أن يكتسب بسرعةٍ ثقة وعطف التجار المحليين بالتوابل، والعطور، واللؤلؤ، ثم أخذ يقصُّ عليهم بفصاحةٍ إسبانية حقيقية مغامراته العاطفية الفريدة، كان مارتينيز يظهر هنا وهناك، لعَقْد صِلات المعرفة اللازمة له، وبفضل شخصيته المرِحَة استطاع أن يأْسر قلوب سكان البلدة من القراصنة.
وأخيرًا وصلت أخبار البحار الشاب إلى بلاط ميرافال، وكان الرجل آنذاك يشعر بالملل من جراء المهاترات الفلسفية التي كانت تدور بينه وبين «آسام»، وكان عالمًا ذا لحية، يعمل لديه في قصره. قرر ميرافال أن يستبدل الفيلسوف بشخصٍ مرح محب للحياة، فكان أن رأى أن خير مَن يصلح لذلك هو مارتينيز، ولا سيما أن وجود شخص من بلديات دولوريس يمكن أن يجلب إليها شيئًا من السرور. وسرعان ما أصبح مارتينيز من رجال ميرافا في البلاط، وكاتمًا لأسرار دولوريس التي أطلعها على خطة الهرب، وسرعان ما حانت الفرصة، فقد اعتاد الموظف الكبير أن يصطحب معه مارتينيز من حينٍ لآخر إلى إحدى الجزر القريبة لمتابعة عمل صائدي اللؤلؤ، وذات مرة طلبت دولوريس من ميرافال — بناءً على نصيحة مارتينيز — أن يأخذها معه … اندهش الرجل لهذا الطلب في البداية، ولكن لأن كل رغبةٍ للمحبوب كانت بالنسبة له أمرًا، فقد وافق على الفور.
أبحرت زوارق الموظف الكبير في المقدمة تتبعها سفينة مارتينيز، حتى وصلوا جميعًا إلى جزيرةٍ صغيرة، وهناك تظاهرت دولوريس بالتعب، وركنت للجلوس في ظلال النخيل على الشاطئ، في الوقت الذي ذهب فيه ميرافال لمتابعة صيد اللؤلؤ، وما إن ابتعد حتى انطلق مارتينيز ومعه دولوريس إلى أحد الزوارق، فركباه، ومنه انتقلا إلى السفينة الشراعية. في البداية لم تُثر هذه التحركات أية شكوك لدى خدم ميرافال، ولكن عندما لاحظوا أن الهاربَيْن فردا الأشرعة، سارعوا بإبلاغ سيدهم، ولقد حالف الشجاعَيْن الحظُّ، فقد آزرتهما ريحٌ قوية، وما هي إلا لحظاتٍ حتى اختفت السفينة الشراعية عن الأنظار.
أدرك ميرافال المحنك أن قوارب البراو الثقيلة لن تمكنه من اللحاق بسفينةٍ شراعية خفيفة الحركة، ولكن — ودون أن يضيع الوقت — أبحر بها في اتجاه خولو، وهناك أسرج أفضل حصان في إسطبل السلطان، وانطلق به إلى الشاطئ الآخر من الجزيرة. كان يعلم جيدًا أن مارتينيز مضطرًّا للدوران حول الجزيرة، ليسير متقدمًا نحو الرأس البارز لها، وإلا لما استطاع الوصول إلى أيلويلو.
لم يولِ مارتينيز ولا دولوريس اهتمامًا بمَن يلاحقهما، فقد كانا على يقينٍ من نجاحهما، كما أنهما لم يُقدرا خبرةً ومهارة قراصنة الملايو. لم يتبقَّ أمامها سوى الجزء العلوي من جزيرة خولو وينتهي الأمر تمامًا، وإذا بالريح بغتةً تهدأ، وأسوأ من هذا إذا ببراوات القراصنة تظهر لهم في الأفق. هنا أدرك مارتينيز على الفور أن وضعه لا رجاء فيه، على أنه قرَّر أن يخوض المعركة إلى نهايتها كما يليق بإسباني، اقترح على دولوريس أن تهبط إلى قمرةٍ أسفل السفينة، وأخذ في إطلاق النيران نحو البراوات التي كانت تتجه نحوه بسرعة، وبعد أن نفدت ذخيرته نزل ليقف عند باب القمرة التي بداخلها دولوريس منتظرًا قدوم القراصنة وفي يديه مسدسان. أما ما آلت إليه هذه المعركة فليس من العسير التنبؤ به.
عفا الموظف الكبير عن هروب محبوبته التي ارتضت مصيرها نهائيًّا، بل إنها بدأت بعد ذلك في ارتداء الملابس على طريقة نساء الجزيرة، وتدهن شعرها بزيت الزيتون، ويمضي الزمن، وتلد دولوريس لزوجها عددًا من الأطفال. يحكي البحارة الأوروبيون الذين كانوا يأتون إلى جزيرة خولو أن شيئًا من البدانة قد أصاب دولوريس، ولكنها ما تزال امرأةً جميلة كسابق عهدها، وعندما كانوا يتحدثون إليها كانت تسألهم عن وطنها وعن أبيها، ولكنها لم تُبدِ أية رغبة في ترك وطنها الجديد.
كنز جزيرة جريجان
تحتفظ جزيرة جريجان الصغيرة الواقعة ضمن أرخبيل ماربانا أيلاند في المحيط الهادي في أعماقها بكنزٍ تبلغ قيمته مليونان من القروش الذهبية، ويرتبط مصير هذا الكنز باسم القرصان روبرتسون.
كان روبرتسون الأسكتلندي الأصل صريحًا في كراهيته للإسبان ولإسبانيا، ولكل ما يمتُّ لها بصلةٍ، وقد لعب هذا الإحساس دورًا حاسمًا في مصيره، خدم روبرتسون في الأسطول البحري في تشيلي، ثم في بيرو، وذلك إبان ثورة التحرر الوطني في أمريكا الجنوبية، وأظهر مهارةً فائقة أهَّلته للوصول إلى رتبة قبطان. في عام ١٨٢٢م، علِم روبرتسون أن شخصًا يُدعى بينافيدس يقوم بقيادة عدد من فصائل قطاع الطرق واللصوص الإسبان والهنود، يساعدون الإسبان في حربهم ضد جيوش التحرر الوطني التشيلي والبيرواني، وأنه يجري إمداده بالسلاح في مكانٍ ما من إقليم كونسيبسيون في شيلي. كان روبرتسون آنذاك قبطانًا للسفينة «جلفارين»، فأبحر بها إلى مدينة أراوكا، حيث تمكَّن رجاله هناك من القبض على رجلٍ إسباني يُدعى باتشكيو، يعمل ضابطًا للاتصال، كان عائدًا لتوه من معسكر بينافيدس، ولما رفض الضابط أن يخبره بمكان الفدائيين، أمر روبرتسون بربطه إلى شجرةٍ وجلده، وقد أحدث الضرب أثره بالفعل، تركه روبرتسون الإسباني، وانطلق يطارد بينافيدس، حتى عثر على فرقته، فباغته ليلًا، وأسر سبعين شخصًا، أمر بإعدامهم في الفجر، غير أن بينافيدس ومساعده الإيطالي ومارتينيلي تمكنا من الفرار، جرى القبض على بينافيدس بعد ذلك في ميناء توبوكالما، وأطيح برأسه، وبعد إعلان استقلال شيلي صدر قرار بالعفو عن مارتينيلي ورفاقه.
بعد انتهاء الحرب بين إسبانيا وجمهوريات أمريكا الجنوبية، تغيَّر أسلوب حياة روبرتسون كليةً، فاستقر في جزيرةٍ غير مأهولة تُسمى «موتشا» تقع بالقرب من مصب نهر تيرو على بُعد ثلاثين ميلًا من خليج كونسيبسيون، على أن حياة روبرتسون الهادئة هذه لم تستمر طويلًا، لقد عاد الإيطالي مارتينيلي الذي كان العفو قد صدر عنه إلى فالبراسيو، حيث عهد بقيادة السفينة التجارية «الأخوات الأربع» التي كان يمتلكها تجار كاكاو إسباني، كان طاقم سفينة مارتينيلي بأكمله تقريبًا مكونًا من رفاقه القدامى من عصابة بينافيدس، فلما عرف مارتينيلي أن روبرتسون بقي وحيدًا في جزيرة موتشا، اتجه إلى هناك لينتقم لمَن أُعدموا من رفاقه، وعندما شاهد روبرتسون سفينةً تحمل العلَم الإسباني وتدخل إلى الخليج، أدرك على الفور أن خطرًا يتهدده، وأسرع بالاختباء في غابةٍ قريبة، غير أن رجال مارتينيلي استطاعوا بعد يومين من البحث أن يقبضوا عليه، وأن يزجُّوا به في زنزانة السفينة.
قرَّر مارتينيلي أن ينتقم من الأسكتلندي بنفس القسوة التي عامل بها رفاقه، فاتجه بالسفينة نحو أراوكا، حتى يقتل روبرتسون في نفس المكان الذي جرى فيه إعدام رفاقه، وفي طريق مارتينيلي وعصابته التي كانت تتكون من فئران برية أكثر منها ذئابًا بحرية، إذا بعاصفةٍ عاتية تهب عليهم. عندئذٍ تذكروا أن هناك بحارًا محنكًا محبوسًا لديهم، فأخرجوه من محبسه — يكاد يتجمَّد من البرد — إلى سطح السفينة، وأعطوه كأسًا من الروم حتى عاد إلى صوابه. لم يجد الإيطالي أمامه مخرجًا آخر، فعهِد بقيادة السفينة إلى روبرتسون. ابتعد الأسكتلندي بالسفينة عن شاطئ أراوكا، وما إن أخذ الجو في التحسُّن حتى قفز من السفينة، وسبح حتى وصل إلى سفينةٍ اتضح أنها إنجليزية الجنسية.
كانت هذه الحادثة سببًا ليزداد روبرتسون كراهيةً للإسبان، وما إن عاد إلى كونسبيسون حتى أرسل خطابًا إلى مارتينيلي، أقسم فيه أن ينتقم منه أشدَّ انتقام، ولكي يسهل على نفسه هذه المهمة عمل روبرتسون مساعدًا لقبطان الأسطول البحري البيرواني يانج، الذي كان يقود السفينة المعروفة باسم «كونجرسو»، وكان من مهامِّه اقتفاء أثر القراصنة عند سواحل أمريكا، وبعد مغامراتٍ عديدة خاضها روبرتسون طرأت على حياته بعض التحولات التي كان لها أكبر الأثَر في مصيره فيما بعد. من هذه التحولات أنه وقع في الحب.
وذات مساء حضر إلى منزل تيريزا أحد الضباط الشبان، وكانت تقيم حفل استقبال رسميًّا، وبينما هي جالسة في الشرفة وإلى جوارها روبرتسون توجَّه الضابط الشاب نحوهما، ودار بينهم حديثٌ عن الكنوز، ثم إذ به يُشير إلى السفينة الإنجليزية ذات الأشرعة الثلاثة «بيروفيان»، وكانت تقف على المرسى، وأخبر روبرتسون وهو بين الجد والهزل قائلًا: لو امتلكت هذه السفينة فسوف تتخلص من مشاكلك إلى الأبد.
سأله روبرتسون: لماذا؟
فأجاب الشاب مبتسمًا: لأنها تحمل مليونين من القروش الذهبية، وقد رحل رُبَّانها اليوم إلى ليما، اقتنص هذه السفينة، وسوف يكون المال لك!
تظاهر روبرتسون بأنه استمع لكلام الضابط باعتباره مزاحًا لا أكثر، لكن اتضح فيما بعد أنه أخَذه على محمل الجِد. فور انتهاء الحفل توجَّه روبرتسون إلى إحدى الضواحي المشبوهة على أمل أن يجد هناك بعض الشركاء، وسرعان ما جاء ليسبح خلسةً تجاه «بيروفيان»، وبصحبته أربعة عشر مقاتلًا داهموا دون أدنى ضجةٍ، وعلى نحوٍ مفاجئ هاجموا طاقم السفينة الذي كان نائمًا، وبعد ربع ساعة كانت السفينة التي استولى عليها اللصوص في طريقها إلى عرض البحر.
وكان أول ما فعله صاحب السفينة الجديدة أن نزل إلى العنبر، ليتأكد مما تحويه الصناديق الكبيرة. ولقد كان الضابط الشاب على حقٍّ، إلا أن روبرتسون لم يكن يرغب في تقسيم الذهب بينه وبين شركائه، وإنما قرَّر أن يماطل في تقسيم الغنيمة، عندما أصبحت السفينة على مسافةٍ من ليما، واتضح أن مخزون الماء العذب قد بدأ ينفَد، فعهد روبرتسون إلى اثنين من الأيرلنديين هما: وليمز، وجورج بالتوجه إلى الشاطئ لإحضار الماء، على أنهما رفضا الانصياع للأمر — ومثلهم مثل الباقين — خوفًا من أن يبحر رفاقهم ويتركوهم، ومن ثَم فقد قرَّروا أن يتركوا شخصًا واحدًا يقوم بحراسة صناديق الذهب، وأن يذهب الجميع للحصول على الماء. كان لهذا الأمر أثره في إقناع روبرتسون بأن إخضاع مرءُوسيه لقيادته أصبح أمرًا بالغ الصعوبة، لا سيما أنهم أصبحوا شركاء، على أنه لم يفقد الأمل، واستمر يُسوِّف في تقسيمه الغنيمة.
وكان روبرتسون يعي جيدًا أنه لن ينجح في أن يخدع العصابة بأكملها، عندئذٍ قرر التآمر بالاشتراك معه وليمز وجورج، أسفرت حسابات المتآمرين الدقيقة على أن قيادة السفينة تستلزم ستة أشخاص على الأقل، ونجحت مساعيهم في إقناع أربعة من الرفاق بضرورة التخلُّص من الثمانية الباقين. كان اقتراح روبرتسون يتلخَّص في إلقائهم ببساطة في البحر، لكن المتآمرين اعترضوا بشدةٍ على ذلك، لتعارضه مع أخلاقياتهم، لكنهم رأوا أن يضعوهم في قارب، ثم يلقوا بهم في عرض المحيط، وهو قرار يعادل في مضمونه حكم الإعدام سواءً بسواءٍ، لكن بفضل الاتفاق الغريب للظروف، فقد عثرت سفينةٌ عابرة على القارب، وكان بداخله جثث سبعة رجال وبحار مُنهَك. وصلت السفينة إلى جزر هاواي، وهناك قصَّ عليهم البحار التعِس كل المصائب التي مرت بهم، وأخبرهم بالكثير من التفاصيل المتعلقة بما اقترفه روبرتسون من أعمال.
حدث هذا بينما اللصوص الذين بقوا أحياء يواصلون إبحارهم على صفحة المحيط الهادي؛ بحثًا عن جزيرة الجنة، أما الذهب فكان راقدًا في قاع السفينة في الصناديق المغلقة إلى جوار براميل النبيذ الضخمة، وفي أعلى كانت النسوة اللاتي تم اختطافهن من تاهيتي، يتذكرن ما حدث أمامهن من إلقاء الثمانية في قاربٍ إلى مصيرٍ مجهول في عرض المحيط، دون أن يفقهوا كلمة مما يقوله القراصنة، فيما بعد أخذن يجتمعن معًا، ثم يأخذن في التهامس. عندئذٍ نجح روبرتسون الذي كان جنون الملاحقة قد أهاجه في إقناع الآخرين أن هؤلاء النسوة يتآمرن عليهم، وأنه ينبغي التخلص منهن، على أن القتل الجماعي للنساء قد قطع ما تبقى من روابط الثقة الواهية بين أفراد العصابة بعضهم ببعض.
مرةً أخرى جرى اجتماع تقرَّر فيه تأجيل تقسيم الكنز، بل وانتهى الأمر إلى إخفائه في جزيرة جريجان، بعد أن أخذوا منه عشرين ألف قرش ذهبي فقط، وهذه كان قد تم العثور عليها قبل ذلك في قمرة القبطان، كان المفروض أن يكفيهم هذا المبلغ كحصيلةٍ لبيع السفينة في أحد موانئ الفلبين، وذلك حتى موعد التقسيم النهائي للغنيمة.
وافق روبرتسون عن طيبٍ خاطر على هذه المقترحات، ظنًّا منه أنه بهذا يستطيع أن يستفيد من الوقت، إلى حين أن يتسنى له التخلُّص من شركائه. على أن هؤلاء لم يكونوا يكنُّون لزعيمهم أدنى قدرٍ من الثقة، فأخذوا يتناوبون الحراسة ليلًا فيما بينهم. على أية حال لم يكن من وراء عملهم هذا أي طائل؛ فقد نجح روبرتسون مرةً أخرى في إقناع وليمز وجورج بضرورة التخلُّص من الطامعين في تقسيم الكنز معهم. وعندما دخلت السفينة إلى ميناء جزيرة فاو، استطاع المتآمرون غدرًا أن يجردوا رفاقهم الأربعة من أسلحتهم، ثم زجُّوا بهم في عنبر السفينة بعد أن أحكموا وثاقهم. بعدها أخذوا في إغراق السفينة، وغادروها على زورقٍ من زوارق النجاة، ومعهم العشرون ألف قرش الذهبية، وعندما التقطتهم إحدى السفن الشراعية، ادَّعى القراصنة أنهم ضحايا إحدى السفن الغارقة، وسرعان ما وصلوا إلى ريودي جانيرو.
وذات يوم إذ بجورج بطريقةٍ ما يخسر في لعب الورق جزءًا من المال المخصَّص لشراء سفينة. كان القراصنة قد خططوا أن تحملهم إلى جريجان، وعندما قصَّ جورج ذلك على روبرتسون اشتاط الأخير غضبًا، فما كان إلا أن أطلق الرصاص عليه، ليرديه قتيلًا. أبحر مَن تبقى من الشركاء الأحياء على ظهر إحدى السفن إلى سيدني بأستراليا.
وأصبح واضحًا للقرصانين أن كلًّا منهما سوف يسعَى للتخلُّص من صاحبه، وعلى هذا فقد قرر كل واحدٍ أن يراقب الآخر بكل حيطةٍ وانتباه. كان موقف وليمز في هذا الصدد ضعيفًا؛ إذ كان بحارًا رديئًا، بالإضافة إلى هذا ظل روبرتسون يحتفظ طوال الوقت بالإحداثيات الجغرافية الدقيقة لجزيرة جريجان التي لم يكن وليمز يعرف حتى اسمها.
ذات مساءٍ كان البحر عاصفًا، بينما وقف روبرتسون ووليمز عند أقصى طرف مؤخرة السفينة، ولم يكن هناك شهودٌ على ما حدث سوى ما ذكره روبرتسون نفسه، من أن وليمز ألقى إليه بكلماتٍ كما لو كانت كلمات الوداع، أخذها روبرتسون في البداية على أنها مجرد مزاح، إلا أن وليمز بعد ما عانقه ألقى بنفسه فجأةً من ظهر السفينة.
بعد الحادث الذي جرى لوليمز، أصبح طومسون يرتاب كليةً في روبرتسون، الذي صمم على ألا يذكر الهدف من رحلته. وأخيرًا لم يتمالك طومسون، وإذا به على نحوٍ ما يعترف لروبرتسون أن وليمز كشف له وهو مخمور عن سر الكنز، ولم يكن طومسون الطائش يعرف إلى أي حدٍّ من السهولة يتخلص روبرتسون من الأشخاص الذين لا حاجة له بهم، وها هو ذا يمسك بالقبطان المسكين ويُلقي به من ظهر السفينة. على أن طومسون كان سباحًا ماهرًا، فأخذ في السباحة وهو يصيح طالبًا النجدة. هنا وعد روبرتسون البحارة باقتسام الكنز معهم، إذا هم لم يقدموا للقبطان أي عونٍ. كان لذكر الكنز وقع السحر، فكان أن انصاع البحارة لأوامر روبرتسون، فتركوا القبطان لقدَره، ولم يخطر ببال أحدهم مجرد التفكير في إمكانية نجاته. على أية حال فقد استطاع القبطان بفضل التيار البحري المواتي أن يصل بعد عدة ساعات إلى جزيرة تينيان.
استقبل السنيور ميدينيلي — المحافظ الإسباني لجزر ماريان — استقبل طومسون الذي قصَّ عليه قصة القرصان روبرتسون، والكنز الأسطولي المخبوء في جزيرة جريجان. وبينما راح القبطان يتحدث كان أحد ضباط حاشية والمحافظ يولي اهتمامه الشديد بالحديث، ثم ما لبث أن أخذ يلاحق القبطان بأسئلته عن مزيدٍ من التفاصيل حول مظهره وماضي هذا القرصان، ما إن استيقن الضابط من أن بطل القصة هو روبرتسون، حتى اتجه صوب المحافظ متوسلًا أن يرسله للبحث عن القرصان. كان هذا الضابط هو باتشيكو نفسه الذي أصدر روبرتسون ذات يوم حكمًا بربطه إلى شجرة وجَلده. بعد يومين اثنين وصلت الحملة التأديبية إلى جزيرة جريجان، ولم يكن العثور على روبرتسون هناك أمرًا صعبًا على الإطلاق. وفي هذه المرة اقتيد روبرتسون مكبلًا في الأغلال إلى الأَسر، وفي الطريق باءت كل محاولاته لإغراء باتشيكو بأن يكشف له عن مكان الكنز بالفشل. وأثناء وجوده على سطح السفينة قفز روبرتسون منها إلى البحر ليموت غريقًا. وقد ذهبت محاولات ستين رجلًا من سكان جريجان، جيء بهم خصيصًا للبحث والتنقيب عن الكنز في كل شبرٍ منها، تحت الرقابة الشخصية للمحافظ أدراج الرياح. أمَّا مصير هذا الكنز المخبوء الذي راح ضحيته عددٌ كبير من الأرواح؛ فما يزال سرًّا إلى يومنا هذا!