قراصنة الشرق الأقصى
مارس الصينيون واليابانيون القرصنة في بحار الشرق الأقصى منذ أقدم العصور، مثلهم في ذلك مثل الإغريق والفينيقيين الذين مارسوها في البحر الأبيض المتوسط والعرب في البحر الأحمر. ظلت الحروب والتجارة في العصور القديمة والوسيطة هي المورد الأول للقرصنة في الشرق الأقصى، ولقد حقَّق النقل المائي في الصين تطورًا كبيرًا منذ مطلع القرن الثامن. استُخدمت مختلف أنواع السفن على نطاقٍ واسع في كل المناطق الشرقية بهدف نقل البضائع والمسافرين، وقد احترف المهنة — مهنة النقل — أصحاب المراكب الكبيرة، ومن ثَم فقد توطَّدت العلاقات بين الهند وفارس والجزيرة العربية في الجنوب، وكوريا واليابان في الشمال من خلال الموانئ البحرية. ومثَّلت الأساطيل النهرية والبحرية المحملة بالبضائع إغراءً كبيرًا أمام التجار القراصنة الذين ما برحوا يسطون بعضهم على بعض. ولعل أوضح تصوير لهذه الحالة بأجمعها تعكسه الكلمات التالية من أغنية «جونكي التاجر»، والتي ترجع للفترة التي تم فيها وصفها: «ليس بوسع التاجر أن يقيم دومًا في مكانٍ واحد، فإذا ما استشعر ربحًا وفيرًا في مكانٍ ما، فإنه يتخذ طريقه إليه من فوره، إنه يبدأ أولًا بالبحث عن رفيقٍ لسفره، ثم يذهب بعدها إلى بيته مودعًا أهله وعشيرته، وهؤلاء يصفونه بقولهم: «المال خيرٌ من المجد والشهرة»، إلى «السعي وراء المجد نادرًا ما يكلَّل بالنجاح. أما السعي وراء المال فدائمًا ما يحالفه التوفيق، يجب أن يشد الرفاق أزر بعضهم، عليك أن تمتلك القدرة على الخِداع عندما تشرع في بيع بضاعتك، كما أن عليك أن تنجح في خداع رجل الجمارك عند بوابات الحدود. بهذا ينمو رأسمالك، ولا تصيب الخسارة أموالك … تعلَّم لغة التجار السرية، ولا تجامل عند الحساب حتى أبناء جلدتك.»
ظهرت في القرن الثامن في الطرق البحرية الموصلة بين الصين والهند وفارس السفن الصينية أيضًا، جنبًا إلى جنب مع السفن الهندية والفارسية، وقد بلَغ التنافس سواء على التجارة العالمية أو على التجارة الداخلية حدَّ الصراع بكل الوسائل الشرسة، التي دخلت في عداد ترسانتها القرصنة أيضًا، ففي عام ٧٦٠م استولى تيان شان-جون على مدينة يانتشجوا، وقتل فيها ما يزيد على ألفي عربي وفارسي وكثير غيرهم من الأجانب.
كانت الحروب الخارجية والداخلية تمثل موردًا حيويًّا آخر للقرصنة في الشرق الأقصى، لا يقل أهمية عن التجارة نفسها. في الفترة من عام ١٢٨٠ إلى ١٢٨١م شنَّ الإمبراطور الصيني خوبيلاي هجومًا على اليابان، غير أنه مُني بهزيمةٍ منكرة، كان من نتيجتها أن فُرض على سكان الدولتين حظر الاتصال فيما بينهما حتى نهاية حكم يوان (١٣٣٣م). على أن التجار لم يوقفوا التبادل التجاري فيما بينهم، صارفين النظر عن هذا الخطر، الأمر الذي ساعده على ازدهار التهريب الذي كان يتحول في أحيانٍ كثيرة إلى قرصنة، كانت سفن التهريب تنقل الأسلحة، وما إن تتيقن أن الدفاعات الساحلية في أي مكانٍ قد أصابها الوهن، حتى تصبَّ هجومًا على المواقع السيئة التسليح على الفور، وعلى هذا النحو كان المهربون يخرقون العزلة التي فرضتها الدولة عنوة.
وقد نشبت الحرب الأهلية في اليابان في النصف الثاني من القرن الرابع عشر، عندما استعان القادة العسكريون والجنود اليابانيون الذين مُنوا بالهزيمة من قبل بحارةٍ مرتزقة، ثم عقدوا اتفاقًا مع التجار استطاعوا بمقتضاه أن يعملوا النهب على سواحل الصين، مستغلين المناوشات العسكرية التي لم تتوقف في تلك الفترة، التي بدأت فيها شمس أسرة يوان في الأفول.
في نهاية القرن الرابع عشر تمت وحدة اليابان، ولم تؤدِّ إعادة العلاقات التجارية مع الصين إلى وقف الهجوم على سواحلها، بل إن هذه العمليات جرى تصاعدها، فقد استطاع القراصنة اليابانيون إبان فترة النهب البحري أن يصلوا إلى شبه جزيرة الملايو نفسها وإلى جزر الهند الغربية.
على الرغم من أن اليابانيين عملوا بالقرصنة علانيةً، فقد بذلت أُسرة مين جُلَّ جهدها لدعم العلاقات التجارية الطبيعية مع جاراتها، فأدخلت اليابان في منتصف القرن السادس عشر تطورًا ملحوظًا على تجارتها، ونجح الإقطاعيون اليابانيون في الحصول على حق ممارسة التجارة مع الصين، التي كانت تمثِّل سُوقًا مربحة للغاية لتصريف سِلَعهم، ومن أجل هذا الغرض أرسل ساكافا أودزي رئيس ضياع الإقطاع الياباني أسيكاجا أدودزي، أرسل في عام ١٥٢٣م نائبه سون سوتسين إلى الصين، كذلك فعل الأمير أوتي أودزي الذي أرسل دونج شي، وقد وصل المبعوثان إلى ميناء نينبو، وعقد كلاهما عزمه للحصول لموكليهما على امتيازاتٍ للتجار مع الصين، نجح سون سوتسين في دفع رشوة للخصي الذي كان يتولى إدارة التجارة البحرية، ومن ثَم بات من حقه التجارة مع الصين، عندئذٍ لم يكن أمام الموكل الآخر دونج شيء سوى نهب نينبو.
أقنع الوجهاء الصينيون الإمبراطور تسيز توان بحل إدارة التجارة البحرية وإغلاق الحدود، وقد ألحقت هذه الخطوة أضرارًا بالغة بالاقتصاد الصيني تفُوق ما جلبته عليه من فائدة، فهي لم تقضِ على القرصنة، وإنما أدت إلى تقويض أُسس الحِرف والتجارة الصينية، فبعد إغلاق الحدود البحرية للصين، انتشر التهريب على نطاقٍ واسع، وأخذ التجار الصينيون الذين كانوا يعملون بالتجارة غير المشروعة، هم وملَّاك الأراضي، الذين كانوا مهتمين بأمر استيراد المنتجات الزراعية، أخذوا مرةً أخرى في إقامة علاقات غير مباشرة مع التجار اليابانيين والقراصنة، وهنا قام أصحاب النفوذ وكبار الموظفين والنبلاء بدعم التجارة غير المشروعة، تدفعهم إلى ذلك مصالحهم الشخصية، الأمر الذي أدَّى على نحوٍ غير مباشر إلى نمو القرصنة، وفي هذه الظروف بدا أن السلطات المحلية عاجزةٌ تمامًا عن اتخاذ أي إجراءاتٍ، وليس من المستغرب أن تشوفان — قائد دفاع منطقة فوتزيان — أعلن دون مواربة: «أن الدفاع عن المناطق الساحلية ضد هجوم القراصنة الأجانب أصبح أسهل بكثيرٍ من الدفاع عنها ضد أبناء البلد أنفسهم».
كثيرًا ما كان المضاربون الصينيون يأخذون البضائع من التجَّار اليابانيين بالأجل، ثم لا يردون لهم أثمانها فيما بعد، عندئذٍ لم يكن أمام المتضررين سوى أن يلجئُوا لطلب المعاونة من القراصنة اليابانيين من أجل استعادة أموالهم المستحقة.
وفي عام ١٥٤٧م تلقَّى تشوفان أمرًا بدراسة الوضع في إقليم تشيتسزيان، وفي ذات الوقت قامت مائة سفينة يابانية بالهجوم على ميناء نينبو ومدينة تايتشجو الصينيتين، وقد نما إلى علِم تشوفان أن مُلاك سفن القراصنة من بين كبار الإقطاعيين الصينيين، فسارع بإبلاغ الإمبراطور علمًا بذلك، حظر تشوفان على الصينيين التعامل مع التجار اليابانيين خوفًا من الموت، كما حظر عليهم الخروج إلى البحر، على أنه في الوقت الذي قام فيه تشوفان بأَسر عدد من المضاربين متلبِّسين، قام كبار الملَّاك بتقديم شكاواهم عن طريق المفتش الإمبراطوري لإقليم فوتسزيان إلى السلطات المركزية، ضد إصرار تشوفان على إصداره أحكامًا بالإعدام على الناس دون إذنٍ بذلك. كان من نتيجة هذا أن نُقل تشوفان إلى منصبٍ أقل، ثم ما لبث أن انتحر في عام ١٥٥٠م، بعدها لم يجرؤ أحدٌ على مَنع التجارة. بأوامر رسمية، تم تدمير التحصينات الساحلية، وأخذ التهريب في الازدهار علانيةً، وعندما لم يجد القراصنة اليابانيون أية مقاومة، راحوا ينبهون سواحل الصين دون أن يتعرضوا لأدنى عقوبةٍ.
وفي عام ١٥٥٣م قامت شرذمةٌ من الخونة بحثِّ بضع مئات من السفن الحربية اليابانية على التدخُّل، فقامت هذه السفن بمهاجمة إقليمي تشجيتسزيان وتسزياسو، وقام اليابانيون — بعد أن توغلوا في عمق البلاد — بنهب المدن والقرى الصينية، وأعملوا القتل في سكَّانها. استغل اللصوص والقراصنة الصينيون هذه الفرصة، فارتدوا الملابس اليابانية، وأخذوا بدورهم في نهب السكان، وقد اتضح فيما بعد أن ثلاثين بالمائة من اللصوص فقط كانوا من اليابانيين، وفي عام ١٦٦٥م تمَّ القضاء نهائيًّا على القرصنة اليابانية.
وفي العشرينيات من القرن الرابع عشر استولى البرتغاليون على مقاليد التجارة في المحيط الهندي وفي عام ١٥١٦م اقتربت من شواطئ الصين سفينة الإيطالي رفايلي بيريستويلو، الذي كان يعمل ضمن الأسطول البحري الحربي البرتغالي، وعلى الفور وصل إلى كانتون سفير البرتغال، ومنذ ذلك الحين ازداد وصول الأوروبيين من تجَّار ومبعوثين رسميين، ثم ما لبث أن تبِعهم القراصنة الأوروبيون الذين سرعان ما نالوا قصب السبق من اللصوص اليابانيين الذين كانوا يفوقونهم قسوةً ووحشية. وقد أعمل البرتغاليون، بكل ما أتوا من قوةٍ، النهب وقتل سكان السواحل الجنوبية الشرقية للصين.
تلا ظهورَ البرتغاليين في الصين ظهور الإسبان والهولنديين والإنجليز الذين مارسوا بدورهم النهب والقتل واغتصاب السكان الصينيين. ولا شك أن أبرز القراصنة الصينيين كان كوكسينجا الممثل الثاني لأسرةٍ عريقة من لصوص البحر، انتقلت عبر أجيالها حرفة القرصنة، الأمر الذي لم يكن بالمناسبة يمثل ظاهرةً فريدة. كان لين تشين-تسي والد كوجسينجا عاملًا فقيرًا، يتقاضى أجرًا يوميًّا، واضطرته الحاجة بعد ذلك إلى أن يلتحق أجيرًا في مستعمرة ماكاو البرتغالية، وهناك تمكَّن من ادِّخار مبلغٍ من المال استطاع بفضله أن يذهب إلى اليابان بهدف رؤية عمِّه، وهناك أيضًا تزوَّج من يابانيةٍ تُدعى تاجا، فأنجبت له في عام ١٦٢٣م بطل قصتنا.
امتلك تشين بعد مغادرته اليابان أسطولًا صغيرًا للقرصنة، دفع فيه ما اكتسبه من نقودٍ علاوةً على الدوطة التي حصل عليها من زوجه، وسرعان ما نما الأسطول حتى أصبح بالفعل يسيطر على التجارة البحرية عند الساحل الجنوبي الشرقي للصين، واحترف أسطول تشين القرصنة فنهب قرى الصين الساحلية والجونكات، فضلًا عن المراكب التجارية الهولندية الكبيرة التابعة لشركة الهند الشرقية.
قبل عدة سنوات من هذه الأحداث، كانت الصين قد تعرضت لغزوٍ من منشوريا، واستمرت أسرة مين في نضالها ضد الغزاة في جنوب الصين، إلى أن قرَّر إمبراطور الصين أن يتخذ قرارًا يائسًا، فعرض على تشين منصب أميرال الأسطول الصيني حتى يشارك أسطول القرصنة معه في النضال ضد منشوريا. على أن تشين طالب أن يتبنى الإمبراطور ابنه، وأن يخلع عليه لقب أمير، وذلك مقابل خدماته. اعتُبرت طلبات القرصان أمورًا مبالغًا فيها، الأمر الذي استغله المنشوريون، فوجهوا الدعوة لتشين للحضور إلى بكين، اقترحوا عليه لقب إمبراطور جنوب الصين، ولكن عندما وصل تشين في عام ١٦٤٠م إلى المدينة تم إلقاء القبض عليه، وأُودِع السجن، حيث تعرَّض للتعذيب، وانتهى الأمر بإعدامه.
بعد مصرع تشين، تولَّى ابنه كوكسينجا قيادة أسطول القرصنة. ولما كانت الرغبة تحدوه في الانتقام من منشوريا، فقد انضم عن طيب خاطرٍ إلى الإمبراطور مين، واستمر على مدى عشرين عامًا في نهب سواحل الصين. عندئذٍ لجأت السلطات المنشورية إلى تكتيك «الأراضي المشتعلة»! فأخلت السواحل، فضلًا عن جزءٍ كبير من اليابسة، من جميع السكان، وأمرتهم بحرق مساكنهم وتدميرها. قرَّر كوكسينجا بعد أن فقد مصدر غنائمه أن ينقضَّ على الهولنديين أعداء أبيه القدامى، الذين كانوا قد بدءوا آنذاك في احتلال فورموزا (تايوان).
وفي مايو عام ١٦٦١م قام كوكسينجا على رأس أسطولٍ مكونٍ من ستمائة سفينة بالهجوم على الهولنديين، الذين كانوا متحصنين في قلعة زيلاند، وبعد حصارٍ دام عشرة أشهر استسلمت الحامية الهولندية بعد أن أنهكها الحصار، ومن بعدها انتقلت السيطرة الفعلية على فورموزا بأَسرها إلى يد كوكسينجا، على أنه لم يتمكن من أن يجني ثمار انتصاره، إذ هاجمه الموت، فتوفِّي بعد عامٍ ليتولى ابنه تشين تسين قيادة منظمة القرصنة، لقد كان لانتصار كوكسينجا تأثيرٌ غير مباشرٍ على مستقبل فوزموزا، فقد أوقف طرد الهولنديين عملية الاحتلال، وبعدها قل ارتباط الجزيرة بالقارة الصينية.
السيدة تسين
جاءت بداية نهضة القرصنة عند تخوم القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على يد سيدة تُدعى تسين، وما هي إلا سنوات قليلة حتى أصبحت هي الأدميرال غير الرسمي لأسطول القرصنة الصين بأَسره، وقد أضفى هذا الوضع احترامًا رسميًّا، حتى إن الإمبراطور الصيني منَحها في عام ١٨٠٢م لقب الفارس الملكي، الأمر الذي لم يفعله ملك إنجلترا لأبرز قراصنته، وكان يمنحهم ألقابًا سامية. على أية حال فقد كان ما حصلت عليه تسين مجردَ لقبٍ.
- (١)
إذا هبط البحَّار إلى البر، دون إذنٍ تُقطع أذناه في حضور طاقم الأسطول بأكمله، فإذا تكرر هذا الفعل يتم إعدامه.
- (٢)
محظورٌ امتلاك حتى أقل المسروقات قيمة بلا تصريح بذلك، بل تخضع جميع الأشياء للحساب، ثم يأخذ القرصان جزأين من عشرة (٢٠٪)، وتدخل الثمانية أعشار الأخرى في المخزن، لتكون ملكيةً عامة. امتلاك أشياء من الرصيد العام يعرِّض مَن أخذها للإعدام.
وقد وضعت هذه المرأة الماهرة في حسبانها أن تكون هي الوحيدة التي لا تأخذ لنفسها شيئًا، وجدَّت في البحث عن حلفاء، وكذلك عن دعمٍ من السكان. هناك مادة في ميثاق القراصنة تنصُّ على الحظر الصارم لنهب الفلاحين، كما يفرض هذا الميثاق عليهم أن يدفعوا ضرائب على الخمر والأرز وبقية المنتجات الزراعية الأخرى. وقد مكَّن الحفاظ على هذه القواعد القراصنة من ضمانهم المواد الغذائية والذخائر بشكلٍ دائم.
أظهرت تسين في إحدى المعارك البحرية مع أسطول الحكومة — دارت رحاها عام ١٨٠٨م — موهبةً استراتيجية عالية، فعندما اقتربت سفن الحكومة منها دفعت نحوها ببضع سفن، بعد أن أخفت باقي السفن وراء الرأس. وما إن انشغلت القوة الرئيسية بالمعركة مع تلك السفن، حتى هاجمتها تسين على رأس بقية السفن من الخلف، وقد لقي أسطول الحكومة هزيمته بعد معركةٍ دامت طوال اليوم.
انتقامًا من هذه الهزيمة أصدرت الحكومة الصينية أمرًا للجنرال «لين-فا» بمعاودة الهجوم على القراصنة، ولكن «لين-فا» شعر بالخوف عند لقائه بأعدائه، وجبُن عن مواجهتهم، وشرع في الانسحاب، ولكن القراصنة أسرعوا بمطاردته، ولحقوا بأسطوله بالقرب من ألونجابو، وما إن بدأت المعركة حتى هدأت الريح تمامًا، ووجد الأسطولان أنفسهما في مواجهة بعضهما البعض، وقد حكم على كليهما بالشلل التام، وفقدوا القدرة على القيام بأية أعمالٍ عسكرية، عندئذٍ ترك القراصنة سفنهم، وأخذوا في الوصول إلى السفن الحكومية سباحةً، ومرة أخرى يحرز القراصنة انتصارًا باهرًا … في العام الذي تلا هذه الهزيمة، قام الأدميرال «تسون مين-صن» على رأس مائة سفينة بمهاجمة القراصنة. وبعد معركةٍ هائلة انتهى الأمر بهزيمة لصوص البحر، على أن الحكومة لم تكن قد تمكَّنت بَعدُ من مكافأة المنتصرين، إذ بها تُفاجأ بالسيدة تسين تسيطر مرةً أخرى على الموقف، فبعد أن استجمعت قواها المبعثرة، واستدعت لنجدتها عصابتين أخريين من القراصنة، انطلقت تبحث عن أسطول الحكومة المنتصر، وما إن عثرت عليه حتى صبَّت عليه جام غضبها انتقامًا من الهزيمة التي مُنيت بها قبل فترةٍ قصيرة.
بعد أن استنفد الإمبراطور الصيني كل طرق النضال ضد القرصنة لجأ — مثله في ذلك مثل الحكَّام الأوروبيين قبله في غابر الزمن — إلى إغراء القراصنة بوعود العفو عنهم، إذا هم توقَّفوا عن حرفتهم الإجرامية، الأمر الذي أتى ببعض الثمار. كانت أولى هذه الثمار هي ترك «أوبو-تايي» قائد الأسطول الأسود الذي يبلغ قوام طاقمه ثمانية آلاف بحار ومائة وستين سفينة للسيدة تسين، وبصحبته قراصنته ليستسلم للإمبراطور. كان بحوزة هذا الأسطول خمسمائة مدفعٍ ثقيل إلى جانب خمسة آلاف وستمائة قطعة سلاحٍ خفيفة (تدل هذه الأرقام، بالمناسبة، دلالةً بليغة على ما كان لمنظمة السيدة تسين للقرصنة من قوةٍ جبَّارة). كنوع من المكافأة قامت الحكومة الصينية بتقديم قريتين للقراصنة الذين فروا من الخدمة، أما «أوبو-تايي» فقد استحقَّ منصبًا رفيعًا ولقبًا حكوميًّا ساميًا.
أصيبت السيدة تسين بالدهشة البالغة من جرَّاء هذه الخيانة، على أن ما حدث قد ترك أثره عليها، إذ راحت تفكر: «كيف إذن ستكافئني حكومة الصين وأقوى عشر مرات من أوبو-تايي؟» على أن مسألة استسلام منظمة القرصنة الجبارة بكامل هيئتها كان أمرًا أكثر تعقيدًا من مجرد استسلام أسطول واحد، وبدأت المباحثات الطويلة والشاقة بين الحكومة والقراصنة. كان الوسيط فيها طبيبًا من جزيرة ماكاو التي يحتلها البرتغاليون، ويُدعى تشان.
وفي نهاية الأمر تم الاتفاق على أن يحصل كل قرصان يتخلَّى عن حرفة النهب على خنزيرٍ صغير، وبرميلٍ من الخمر، ومبلغ من المال يمكِّنه من بدء حياة جديدة، لاقت هذه الشروط رضا البعض. أما القلة من القراصنة الذين رفضوا الاستفادة من هذا العرض؛ فقد سوَّت حكومة الصين حساباتها معهم بكل سهولة. منذ هذا الحين ساد الهدوء مياه الصين مؤقتًا، أما السيدة تسين فقد أكملت حياتها تعمل بوصفها زعيمة عصابة للمهربين.