قراصنة زماننا
بانتهاء القرن التاسع عشر، لم تعد القرصنة تمثل خطرًا حقيقيًّا على الملاحة البحرية، مثلما كانت في بداية ظهورها، أما القرن العشرون فقد شهد بعض الأعمال الفردية للنهب البحري خاصةً في البحر الأحمر وفي البحار المتاخمة للصين. لقد اتخذت عصابات القرصنة في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الحالي أشكالًا منظمة على غرار المؤسسات الرأسمالية، إذ كان يتم إنشاء المؤسسة باستئجار عصابة من المجرمين، يخرجون للبحث عن الضحية المرتقبة. كان زعيم العصابة ومساعدوه يبدءون بجمع المعلومات عن السفينة الذين ينوون نهبها، وعن قائدها وبنائها وطاقمها، وما إلى ذلك من معلوماتٍ، فإذا ما جاءت نتائج الاستخبار المبدئي إيجابيةً، يأخذ القراصنة في التسلل إلى السفينة على هيئة مسافرين، بينما يتسلل البعض إليها للعمل ضمن طاقمها، ولا يبقى بعد ذلك إلَّا مهمة توصيل الأسلحة والذخائر إلى سطحها.
كانت الصعوبة تتمثل في أن شُرطة الموانئ في كل من شنغهاي، وهونج كونج، وسنغافورة تقوم بتفتيش أمتعة الركاب الصينيين بدقةٍ متناهية، غير أن الأمر كان مختلفًا تمامًا في الموانئ الصغيرة التي يزدحم مئات الصينيين فيها فوق حواجز الأمواج وأرصفة الموانئ، حيث يصعب تمامًا تفتيش كل صُرَّة؛ ولهذا فإنه بتطوُّر أعمال القرصنة ضد السفن التي كانت تحمل عددًا كبيرًا من المسافرين الصينيين، جرى استئجار الخُفراء المسلحين، وعمل أصحاب السفن على فصل غرف مختلف الدرجات بعضها عن بعض بحواجز، حتى يصعب التنقل بين أجزاء السفينة.
«تصوروا المشهد التالي، غروب الشمس، سفينة تبحر بصعوبةٍ بمحاذاة الشاطئ مجتازةً للرياح الموسمية الجنوبية الشرقية العاصفة، الحر خانقٌ في عنابر المقدمة والمؤخرة، حيث تنزل جمهرةٌ من الرجال والنساء والأطفال يجلسون فوق أمتعتهم، البعض منهمكٌ في إعداد الطعام، والبعض الآخر مشغول في أخذ زينته، بينما تحلَّق آخرون في جماعات، من الممكن مشاهدة الركاب — سواء في أيام الصحو أو في أوقات القيظ — وقد افترشوا الأرش شبه عُراةٍ أسفل قوارب النجاة بامتداد جانب السفينة، وعلى السطح العلوي عدد من ركاب الدرجة الأولى: إنجليز، وصينيون، هنا توجد كذلك غرف طاقم القيادة وبرج القبطان.
الآن وقت الغذاء، كبار القادة وأصحاب الرتب الكبيرة في الطاقم يجلسون في غرفة الطعام بدون أسلحتهم، فجأةً تُعطى إشارة ما — قد تكون مجرد إشعال سيجارة — وعلى الفور يدوِّي نداء مرتفع: «ارفعوا أيديكم!» تنعقد ألسنة الموجودين من الدهشة وقد بوغتوا، ثم تتجه نظراتهم إلى الرشاشات الموجهة إليهم في أيدي الحمالين والتجار والبحارة. يسلم الجميع سلاحه تبعًا لدوره، يتم إبلاغ كل الذين تم حبسهم في الغرف، أو في الصالونات، بأن أي مقاومات مهما بدت صغيرة جزاؤها الموت. يتكرر المشهد ذاته في برج القبطان، وفي حجرة عامل اللاسلكي، وفي قسم الماكينات، أمرٌ مباغت مع توجيه المسدس إلى الوجه، ثم استسلام لا مناص عنه، يلي ذلك أمر «مهذب» بالتوجه إلى خليج بياس، بحيث يكون الوصول إليها في تمام السادسة والنصف صباحًا، لن يصاب أحدٌ بضررٍ طالما لم تُجرَ أية محاولة لاستعادة السفينة … بعد هذا يبدأ نهب السفينة بالاستيلاء على الأشياء الثمينة والملابس الغالية بانتزاعها من فوق أجساد أصحابها الذين ينتابهم الهلع الشديد.
تتخذ السفينة مسارها في الظلام الدامس، وقد تم إخماد المشاعل المميزة، وكذلك الإضاءة بالغرف نحو خليج بياس، أحد أكثر الخلجان غموضًا على الشاطئ الصيني، حيث المياه فسيحة وغير عميقة وتحيطها الهضاب الرملية. من البحر يمكن مشاهدة عدد قليل من القرى الصينية الصغيرة، وزوج من جونكات الصيادين، وجميعها تترك في النفس إحساسًا بالهدوء والسكينة، ولكن ما إن تدخل السفينة التي اغتصبها القراصنة إلى الخليج، حتى يهرع لاستقبالها أسطول كبير من قوارب الجونكات، يرسل راكبوه الغلاظ ذوو الوجوه العابسة اللامبالية بالتحية إلى القراصنة، ثم سرعان ما يشرعون في عملهم بتفريغ السفينة من حمولتها على وجه السرعة، بل ويأخذون أيضًا أجهزة الكرونومتر، وآلة السدس التي تُستخدم لقياس ارتفاع الأجرام السماوية، وكذلك ينتزعون الأجزاء النحاسية الكبيرة، وكثيرًا ما تحدث وقائعُ مفجعةٌ؛ إذ يتم اقتياد الآباء والأمهات تحت تهديد المسدسات إلى داخل البلاد في اتجاه الجبال، حيث يُرغمون على القيام بالأعمال الشاقَّة، وهؤلاء قد يُقضى عليهم بالموت من الجوع والإجهاد في انتظار الفدية. أخيرًا تصل السفينة بصعوبة، وفي أسوأ حال إلى هونج كونج، حيث تتولى الشرطة الأمر، فيتم عمل جرد للخسائر التي حدثت من جراء السرقة، على أنه بمرور الوقت يتوقف الرأي العام عن الاهتمام بالقضية برمتها.»
نادرًا ما كان القراصنة يتعاملون بمثل هذا «التسامح» مع ضحاياهم، فكثيرًا ما كانوا يُعملون الذبح في الحراس الهنود، فعندما تعرضت السفينة «سولفيكن» للهجوم قُتل قبطانها باستوف، لمجرد أنه تأخر في فتح باب غرفته، وعلى السفينة «أنكينج» قام القراصنة بإطلاق الرصاص على ضابط الحرس، وعلى ضابط صف السفينة، وأصابوا القبطان بجراحٍ بالغة.
تعد حادثة السفينة «سانينامخا» من الحوادث المشهورة، فقد حاول ما يقرب من ثلاثين قرصانًا الاستيلاء عليها، عندما كانت موجودةً على مسافةٍ لا تبعد عن ميناء بيخاي خمس عشرة دقيقة، إذ نجح القبطان ج. سبارك في الوصول إلى غرفة القيادة. وهناك استطاع ببندقيته الآلية أن يقاتل بشجاعة القراصنة، الذين اتضح أنهم ليسوا محترفين في أعمال السرقة، وقد اضطروا للهروب من جراء خدعةٍ بسيطة، قام بها القبطان سبارك، الذي أعطى أربع إشاراتٍ صوتية، أخذ بعدها في تغيير مسار السفينة؛ فقد ظن اللصوص أن القبطان لا بد وأنه شاهد سفينة خفر السواحل، فأخذوا يقفزون إلى البحر.
بعد عام ١٩٢٣م جرى تسجيل نمو ملحوظ لنشاط القرصنة في المياه الصينية، ففي عام ١٩٢٤م وحده أربعة عشر هجومًا، وفي عام ١٩٢٥م وقع سبعة عشر. أما في السنوات التي تلت ذلك فقد قلَّت هجمات القراصنة، ثم أخذت في التلاشي، حتى كادت تصبح من الأمور النادرة. على أنه، وحتى الآن، ما تزال تقع هنا أو هناك أحداث متفرقة من النهب البحري. في نهاية عام ١٩٥٢م على سبيل المثال تم القبض على سفينته تمتلكها عصابة من لصوص البحر، يرأَسها أمريكيٌّ يُدعى س. بيل.
وفي السادس من أكتوبر عام ١٩٦٥م قام ما يقرب من مائة قرصان يجرون على ظهر ستة قوارب من نوع الباركة تحمل علَم الفلبين بمهاجمة السفينة اليونانية «إيكوس»، وتبلغ حمولتها سبعة آلاف طن في مياه جنوب شرقي آسيا، وكانت تحمل شحنة من لب جوز الهند المجفف من الفلبين في طريقها إلى أوروبا. وقد نجح ثلاثةٌ من البحارة في الهرب بواسطة أحد قوارب النجاة، وأبلغوا عن حادث الهجوم، وعلى الفور قامت السلطات بمطاردة القراصنة.
في مايو ١٩٦٨م قام خمسةٌ وعشرون قرصانًا على ظهر زورقين بمهاجمة مركب من نوع البراو، يحمل اسم «لورد» عليه عدد من الركاب، كانوا قد غادروا لتوهم ميناء زامبوانج الذي يبعد تسعمائة كيلومتر جنوب مانيلا في جزر الفلبين. دخل القراصنة المسلحون على نحوٍ جيد في معركةٍ مع طاقم المركب، وأثاروا الرعب في قلوب ركابه المائتين، ونجحوا في الاستيلاء على مائتي ألف بيسو (حوالي ستين ألف دولار)، وقد قُتل في هذا الاشتباك أحد الركاب الذين أبدوا مقاومة، بينما التهمت أسماك القرش ثلاثة آخرين، قفزوا من الماء محاولين الوصول إلى الشاطئ سباحةً.
تحت راية الفاشية
كان من المتصوَّر أن القضاء على المراكز الرئيسية للقرصنة نتيجة للعمليات المشتركة، التي قادتها الدول البحرية الكبرى على مدى المائة عام المنصرمة سوف يؤدي إلى الاختفاء التام للنهب البحري. هذا ما افترضته بالفعل حكومات بعض الدول، فقد أكدت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية في معرِض إجابتها على استجواب لجنة خبراء الأمم المتحدة، المكلَّفة بوضع تشريع القانون الدولي في عام ١٩٦٢م: «إن القرصنة بهذا الشكل الذي يُعنى به القانون الدولي لم يعُد لها وجود تقريبًا؛ ولهذا فإن دراسة هذه المشكلة من وجهة نظر ضرورة معالجتها من خلال اتفاقية دولية، ليس لها في الوقت الحالي مغزًى كبيرٌ.»
على ضوء الحقائق الفعلية، فإن مثْل هذه النظرة المتفائلة لم تكن تستند على أساس قويٍّ إطلاقًا؛ لأن القرصنة لم يكن قد تم القضاء عليها نهائيًّا، فما زال النهب البحري مستمرًّا حتى أيامنا هذه، وإن اتخذ له أشكالًا أخرى تمثل — تمامًا كما كان يحدث في الماضي — تهديدًا لأمن الملاحة البحرية، فأعمال القرصنة لم تعد الآن تُمارس بواسطة سفن خاصة، وإنما باتت تُمارس بإيعازٍ من الدوائر الحكومية لأشد الدول الاستعمارية عدوانيةً. إن أعمال القراصنة المعاصرين تتم بمؤازرةٍ فعلية من جانب بعض الدول، وتتمثل في المصادرة غير القانونية للسفن التجارية للدول الأخرى، والاستيلاء عليها، وعلى ما تحمله أو إغراقها في عرض البحر. ونتيجة لتطور مفهوم القرصنة، فقد توصَّل عددٌ من فُقهاء القانون أخيرًا غلى استنتاجٍ مؤدَّاه أن القرصنة تشمل كل الأعمال الإجرامية التي تهدد أمن الملاحة البحرية، وكذلك استخدام العنف المسلَّح في عرض البحر.
إن الاتجاه نحو اعتبار القرصنة مجرد أعمال عنف تقوم بها سفن وطائرات خاصة لأغراضٍ شخصية، وكذلك التصنيف الخاطئ لمثل هذه الأعمال التي تقوم بها سفنٌ حربية أمران يؤديان إلى حريةٍ لا تقوم على أساسٍ بالنسبة لأخطر شكلٍ من أشكال النهب البحري المعاصر، ونعني به تحديدًا قرصنة الدولة، بلغت أعمال القرصنة في البحار مستويات ضخمة، وخاصةً إبان الحرب العالمية الأولى، فقد أدخل الطرفان المتحاربان أنواعًا جديدة من الأسلحة، تتناقض بشكلٍ صارخ والمفاهيم السائدة عن وسائل الصراع التي يبيحها القانون الدولي. لقد تسببت حرب الألغام والغواصات والحصار الكامل في هزيمة جيوش الأعداء، فضلًا عن أنها تسببت في خسائرَ جسيمةٍ بين المدنيين، سواء في الدول المحاربة أو في الدول المحايدة.
إن إغراق الغواصات الألمانية للسفن التجارية لمختلف الدول يمكن اعتباره عملًا من أعمال قرصنة الدول. في السابع والعشرين من يوليو عام ١٩١٨م، قامت إحدى الغواصات الألمانية بقصف السفينة (المستشفى الإنجليزية) «ليندوفيري كاسل» بقذائف الطوربيد قرب شواطئ أيرلندا، على الرغم من وجود علاماتٍ إرشادية واضحة عليها يمكن رؤيتها من مسافةٍ كبيرة. ولكي تتمكن الغواصة من محو آثار فعلتها الشائنة، أصدر الضباط الألمان أوامرهم بضرب قوارب النجاة التي لجأ إليها الضحايا؛ لتنقلهم إلى الشاطئ، وكانت النتيجة أن لقي (٣٢٤) شخصًا حتفهم. أصبحت هذه الواقعة موضوع التحقيق الجنائي الذي أجرته محكمة الرايخ في لايبزج عام ١٩٢١م، وقد أصدرت المحكمة العسكرية حكمًا على الضباط القراصنة يقضي بعقوبتهم عقوبةً كانت مثارًا للسخرية؛ إذ حكمت عليهم بالسجن لمدة أربع سنوات، ثم ما لبثت السلطات الألمانية أن أتاحت لهم فيما بعد فُرصة الهرب من السجن.
في عام ١٩١٥م قصفت إحدى الغواصات النمساوية العاملة في البحر المتوسط سفينةً تجارية أمريكية، وكانت الولايات المتحدة آنذاك ما تزال على الحياد، وعندئذٍ طالبت الحكومة الأمريكية النمسا بتقديم اعتذار رسمي «للإهانة المتعمدة لعلَم الولايات المتحدة الأمريكية»، وبمعاقبة قائد الغواصة، ودفع التعويضات المستحقة عن الخسائر التي لحقت بالسفينة.
أدى اتساع نطاق هذه الجرائم في البحر — وخاصةً الأعمال الإجرامية التي قامت بها الغواصات الألمانية، التي وقع ضحيتها العديد من السفن التجارية لدولٍ محايدة (تشير بعض التقديرات إلى أن عددها جاوز سبعة عشرة ألف سفينةٍ)، إلى جانب إصابة السفن — المستشفيات العسكرية — إلى طرح قضية قرصنة الدول للدراسة العميقة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى.
وقد أدت الحرب الأهلية في إسبانيا إلى عقد اتفاقٍ يقضي بوضع تعريف قانوني لقرصنة الدولة؛ ففي الفترة ما بين عامي ١٩٣٦ و١٩٣٧م كانت بعض الطائرات والغواصات التي لا تحمل أية علامات تقوم بمهاجمة السفن التجارية في البحر المتوسط، والتي كانت تتجه إلى شواطئ الجمهورية الإسبانية، فضلًا عن أنها كانت تهاجم كل السفن المسالمة التي تمر عبر مضيق جبل طارق. لم تشأ أية دولة من الدول أن تعترف بمسئوليتها عن هذه الأعمال المخالفة للقوانين، على الرغم من أن كل الدلائل كانت تُشير إلى أن تلك الغواصات كانت تتبع الدولتين الفاشيتين؛ إيطاليا، وألمانيا. في تلك الفترة أيضًا وقعت سفن كل من بريطانيا وفرنسا والدنمارك والنرويج ودول أخرى ضحية لهجمات القرصنة. في الواحد والثلاثين من أغسطس والأول من سبتمبر عام ١٩٣٧م، هاجمت غواصاتٌ «مجهولة» السفينتين السوفيتيتين «تميريازيف» و«بلاجوييف»، وكانتا تبحران عبر البحر المتوسط. وقد أعربت حكومة الاتحاد السوفييتي آنذاك عن احتجاجها الشديد لدى الحكومة الإيطالية؛ إذ أمكن التعرف في حينه على المتهمين في هذه الأعمال. وقد نفى وزير خارجية إيطاليا السيد تشيانو مسئولية إيطاليا عن ضربِ السفن السوفييتية، على أن الوثائق التي استُخرجت فيما بعدُ من أرشيف وزارة الخارجية الألمانية الهتلرية، والتي نُشرت بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، تدل بما لا يدع مجالًا للإنكار على أن حكومتي موسوليني وهتلر، قد تورطتا في أعمال القرصنة المذكورة عن عمدٍ وإصرار.
على الرغم من أن الفاشيين قد ألحقوا ضررًا جسيمًا بخطوط الملاحة التجارية لكلٍّ من بريطانيا وفرنسا، فإن حكومتي هاتين الدولتين قد التزمتا سياسة عدم التدخل، بل كانتا متعاطفتين في الوقت نفسه مع الجنرال الفاشي فرانكو، وظلتا لفترةٍ طويلة تعانيان من جراء هذا الاستبداد الجاري في البحار المتاخمة لشبه جزيرة أيبيريا. وفي صيف عام ١٩٣٧م فقط — وهو العام الذي بلغت فيه هجمات القرصنة ضد السفن الفرنسية والإنجليزية ذروتهم — صمَّمت حكومتا الدولتين على تقديم مذكرة احتجاج، الأمر الذي لقِي تعاطفًا وتأييدًا من جانب الدول الصغيرة؛ فقد أعلنت حكومة هولندا على سبيل المثال في عام ١٩٣٧م، أنها ستنظر في استيلاء السفن الإسبانية الفاشية على السفن الهولندية باعتباره «عملًا من أعمال القرصنة».
أما الاتحاد السوفييتي الذي كان يقف بحزمٍ دائمًا ضد جميع مظاهر النهب البحري، فقد أيد بحرارةٍ الاقتراح بعقد مؤتمر دولي يكرِّس لمكافحة القرصنة، وقد تم عقد هذا المؤتمر في مدينة نيون بسويسرا، وانتهت أعماله في الرابع عشر من سبتمبر ١٩٣٧م باتفاقٍ وقَّع عليه ممثلو تسع دول، هي: الاتحاد السوفييتي، وبريطانيا، وفرنسا، وبلغاريا، واليونان، ومصر، ورومانيا، وتركيا، ويوغوسلافيا. ويقضي هذا الاتفاق باتخاذ إجراءات جماعية لمكافحة أعمال القراصنة الفاشيين. وفي السابع من سبتمبر عام ١٩٣٧م، وقَّعت هذه الدول نفسها على اتفاقٍ تكميلي، يتم بمقتضاه مكافحة القرصنة بجميع أشكالها بما في ذلك السفن والطائرات، بعد أن كانت مقصورةً قبل ذلك على الغوَّاصات فقط. وهكذا أمكن القضاء في فترةٍ وجيزة على أعمال القرصنة التي كان يقوم بها الفاشيون في البحر المتوسط. وما إن دارت رحى الحرب العالمية الثانية حتى أصبحت الطرق البحرية من جديدٍ ساحةً لعددٍ كبير من أعمال القرصنة، التي كان لألمانيا الهتلرية النصيب الأكبر منها، تليها اليابان. كانت هاتان الدولتان تقومان بالاستيلاء على السفن التجارية وتدميرها، سواء كانت تابعة للدول المتحاربة أو المحايدة، مخالفتين بهذا المبادئَ الأساسية للقانون الدولين، بل إن ألمانيا الهتلرية قامت ببث الألغام في مياه الدول المحايدة، وكانت تستولي على البضائع التي تحملها السفن بدعوى أنها مواد عسكرية مهربة، وراحت تغرق السفن، المستشفيات العسكرية دون مراعاة للعلامات المميزة التي تحملها!
ونتيجة للهجوم الذي كانت تقوم به الغواصات على السفن الأمريكية عند سواحل جرينلاند، أكد الرئيس روزفلت في رسالةٍ له بتاريخ ١١ أكتوبر ١٩٤١م، أي قبل دخول الولايات المتحدة الحرب، أن هذه العمليات تعتبر من أعمال القرصنة سواءً من الناحية القانونية أو من الناحية الأخلاقية. وقد ظهرت بشكلٍ خاص الأدلة المذهلة على أساليب القرصنة التي اتخذها الأسطول البحري النازي في إدارة الحرب إبان محاكمات نوربدج، إذا ثبت أن المسئولَين الرئيسَين عن تلك العمليات هما الأدميرال دينيس والأدميرال ريدير.
في اليوم الأول من شهر يناير عام ١٩٤٠م أصدرت القيادة الألمانية أمرًا بالهجوم على السفن التجارية اليونانية في منطقة الجزر البريطانية، وامتد الأمر ليشمل الهجوم على جميع السفن التجارية الموجودة في منطقة الخليج البريطاني، وبعد خمسة أيام أخرى كان على الغواصات الألمانية أن تقوم على وجه السرعة بالهجوم على أية سفينة موجودة في بحر الشمال دون استثناء. وأخيرًا، ومنذ الثامن عشر من يناير عام ١٩٤٠م سُمح للغواصات الألمانية بإغراق أية سفينة تُبحر بالقرب من شواطئ العدو دون سابق إنذار، ولم يُستثنَ من هذا الأمر سوى السفن الأمريكية والسوفييتية والإيطالية واليابانية. لم يلجأ الألمان إطلاقًا، وهم يدمرون السفن إلى إنقاذ ركابها، وقد تبيَّن أثناء محاكمات نوربرج بصفةٍ خاصة أن المتهمين قد أصدروا بذلك الصدَد أمرًا مستقلًّا.
إلى جانب ذلك فقد كان الأسطول الياباني الحربي يقوم هو الآخر بأعمال القرصنة، ففي الفترة من عام ١٩٤١ إلى ١٩٤٤م، وعلى الرغم من المعاهدة المعقودة بين الاتحاد السوفييتي واليابان بشأن الحياد، فقد أخذت حكومة اليابان، الحليف السابق لألمانيا الهتلرية، تعمل بكل الوسائل على إعاقة الملاحة أمام السفن السوفييتية في الشرق الأقصى، ولم تسمح السلطات اليابانية للسفن السوفييتية باستغلال الطريق البحري الآمن المار عبر مضيق سانجار، بل قامت الغواصات اليابانية بإغراق كل من «أنجارستروي» و«كولا» و«إيلمين». وفي الفترة من سبتمبر عام ١٩٤١م وحتى عام ١٩٤٤م احتجزت القوات المسلحة اليابانية ١٧٨ سفينة تجارية سوفييتية، واستخدمت السلاح في ثلاث حالات. وفي ديسمبر عام ١٩٤١م أطلق اليابانيون النيران من مدافعَ موجودة في هونج كونج على السفن «كريتشيت» و«سفير ستروي» و«سيرجي لازو» و«سيمفرويل»، وكان من نتيجة هذا القصف أن غرقت السفينة «كريتشيت»، بينما أُصيبت السفن الأخرى بأضرارٍ جسيمة. وأخيرًا فإن الاعتداء على سفنٍ ليست في حالة حرب في اليابان، لم يكن من الممكن النظر إليه وتقديره إلا من زاوية اعتباره عملًا من أعمال القرصنة.
ما إن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، حتى عادت قرصنة الدول سيرتها الأولى في منطقتين تقليديتين من مناطق النهب البحري، هما: بحار الجنوب والبحر الكاريبي، ولكن هذه المرة بقيادة دولة إمبريالية كبرى هي الولايات المتحدة الأمريكية.
قراصنة من تايوان
استمرت الطائرات الأمريكية تراقب السفينة «براتسا» وحتى الرابع من أكتوبر، بعدها بدأت طائرتان من طراز «داكتوتا» تابعتان لقوات شان كاي شيك في استكمال المهمة نفسها، وسرعان ما ظهرت في الأفق طائرتان حربيتان أيضًا لقوات شان كاي شيك، اقتربتا من السفينة، ووجهتا له أمرًا بتغيير مسارها مهددةً بقصفها بالنيران إن هي لم تمتثل للأمر. وفي جاوسيون بتايوان جرى تفريغ حمولة السفينة من النفط إلى صهاريجٍ متوسطة الحجم أمريكية الطراز. أما السفينة نفسها فقد اقتحمها فرقة من الجنود قادوها إلى أحد الموانئ الداخلية، واقتيد البحارة الصينيون من أعضاء الطاقم، وقد تم ربط بعضهم بالأصفاد على الفور.
وفي الثاني عشر من أكتوبر بدأ أحد العُقداء في جيش شان كاي شيك في استجواب آدم ليفاندوفسكي الضابط البولندي. اتسم حديث العقيد بالخشونة، ولم يخلُ من التهديد. أما باقي أفراد طاقم السفينة الذين لم يكن لهم أدنى فكرة عن المصير الذي كان ينتظرهم، فلم يكن أحدٌ قد مسَّهم بسوءٍ بعد. أما جنود كاي شيك الذين كانوا يتولون حراسة السفينة، فقد كانوا يجيبون على أسئلة البحارة البولنديين بإجاباتٍ مبهمة، بل راحوا يحاولون إثارة الخوف في نفوس البولنديين بنشرهم الإشاعات عن إطلاق الرصاص على البحارة الصينيين، الذين كانوا من بين أعضاء طاقم «براتسا». في حين جرى عزل فونسوفسكي قبطان السفينة، وخضعت غرفته للحراسة. في نهاية شهر أكتوبر صعد على ظهر «براتسا» قوةٌ من الشرطة، قامت بأخذ بصمات أصابع البحارة، كما لو كانوا مجرمين، وتبِع ذلك هجومٌ نفسي؛ إذ راح الجنود بين الحين والآخر يوحون إلى البحارة المساجين بقرب إطلاق سراحهم، ثم ما يلبثون أن يفقدوهم هذا الأمل بعد عدة أيام. وفي يناير ظهر على السفينة رجلان في ملابسَ مدنيةٍ، أما الأول فكان يُدعى مستر «لو»، أما الآخر فكان يُدعى مستر «أو»، وقد اتضح فيما بعد أن «لو» هو مساعد رئيس شرطة تايوان السرية لشئون مكافحة الشيوعية. وأما «أو» فكان يتولَّى المهمة نفسها بالنسبة لميناء جاوسيون، كان كلا الرجلين يحضران إلى السفينة يوميًّا، ويقومان باستجواب الطاقم. كان البحارة البولنديون يرفضون الإجابة على الأسئلة التي تتعلق بالخدمة أو تمس الأسرار العسكرية.
بذل رجال شان كاي شيك قصارى جهدهم لشراء أعضاء الطاقم، مقترحين على مَن يرفض العودة إلى بولندا بتوقيع طلب حق اللجوء، مبالغَ باهظةً. لكن جميع هذه المحاولات باءت بالفشل، لم يستسلم طاقم «براتسا» حتى جاء شهر فبراير، وفيه قرَّر البحارة البولنديون أن يعبِّروا عن احتجاجهم، فأبلغوا الشرطة بأنهم إذا لم يتلقَّوا ردًّا رسميًّا بشأن مسألة عودتهم إلى بولندا في خلال أسبوعين، فإنهم سيبدءُون الإضراب عن الطعام. أبلغ مستر «لو» الطاقم أن الأمر قد طال؛ لأن عينة البترول الذي كانت تحمله السفينة قد أُرسل إلى الولايات المتحدة لاختباره، لمعرفة ما إذا كانت هذه الشحنة في قائمة البضائع المفروض عليها الحظر. وأكد مستر «لو» أن القرار سوف يصدر بشأنهم فور تلقيه رد الولايات المتحدة الأمريكية، وبناءً على ذلك تأجَّل موعد بدء الإضراب عن الطعام.
وذات يوم من أيام النصف الثاني من شهر فبراير ١٩٥٤م، اقترحت الشرطة على الطاقم الذهاب إلى المدينة للتنزه، وقد رفض الاقتراح غالبية البحارة، على أنهم أُجبروا على الذهاب إليها عنوةً، وقد لجأت الشرطة إلى تقسيم الطاقم إلى مجموعتين، ثم دفعت كل مجموعةٍ إلى المدينة على حدةٍ في أيامٍ مختلفة. ما إن وصل البحارة البولنديون إلى مقر الأركان الحربية حتى التف حولهم عددٌ من النساء، كما كان بانتظارهم مصورون سارعوا على الفور بالتقاط صورٍ لهم، أُجريت عليها بعد ذلك عمليات مونتاج خاصة مخزية، تمَّت تحت إشراف ضباط أمريكيين كانوا يقيمون في الطابق الأعلى من المبنى نفسه.
تعرَّض طاقم السفينة «براتسا» لمختلف أنواع الضغوط؛ منها تهديد البحارة بسوء العواقب عند عودتهم للوطن، بسبب انغماسهم في «الملذَّات»، إلى جانب حرمان أعضاء الطاقم الذين كانوا يقفون موقفًا متشددًا، من تلقِّي الخطابات التي أرسلها ذووهم في بولندا. بالإضافة إلى ذلك فقد كانت هناك مناقشات تدور بصورةٍ فردية مع البحارة، بعضها يسعى لاستمالتهم والبعض الآخر بهدف التهديد. حاول رجال شان كاي شيك الإيعاز للطاقم بأنهم لا يملكون أية إمكانية للعودة إلى بلادهم على نحوٍ قانوني، وأن هؤلاء الذين لن يوقِّعوا على طلب الحصول على حق اللجوء، سوف يتعرضون للموت في سجون تايوان.
في الواحد والعشرين من شهر مارس صعد إلى سطح السفينة «براتسا» رجال الصليب الأحمر التابع لشاي كاي شيك لدعوة الطاقم للذهاب إلى السينما، وكان العرض يجري تحت حراسةٍ بوليسية مشدَّدة. وسرعان ما تبيَّن أن إنزال الطاقم من السفينة، كان بهدف إحلال رجال شان كاي شيك محله. وبعد انتهاء الفيلم اقتيد الطاقم إلى أحد الفنادق الذي قام البوليس والبوليس السري بفرض الحراسة عليه. وفي الفندق مورست ضغوطٌ أشد على البولنديين، حيث نُشرت الشائعات حول نية إرسال المتشددين منهم إلى معسكرٍ جماعي.
نتيجة لهذه الظروف، قرر البحارة البولنديون أن يبدءوا إضرابهم عن الطعام، ولم ينهوا إضرابهم إلا بعد أن تسلموا بلاغًا رسميًّا بترحيلهم إلى بلادهم. تلقَّى طاقم «براتسا» وهم يتأهبون للرحيل إلى بولندا، نبأ استيلاء رجال شان كاي شيك على سفينةٍ بولندية أخرى تُدعى «بريزدينت جوتوالد». عندما ذهب البحارة لتسلم متعلقاتهم من المخزن قبل الرحيل، تسنَّى لهم أن يلتقوا لبرهةٍ قصيرة بطاقم «بريزدينت جوتوالد»، وعلموا منهم أن رجال شان كاي شيك يستخدمون ضدهم نفس أساليب الضغط والتخويف التي استُخدمت ضدهم. لم يتوقف رجال شان كاي شيك — بعد أن وعدوا البحارة البولنديين بترحيلهم — عن ممارسة ضروب الإرهاب نحوهم، فقاموا بتأجيل موعد رحيلهم أكثر من مرةٍ، ووضعوا العراقيل أمام عقد مقابلة بينهم وبين وفدٍ من الصليب الأحمر كان قد حضر إلى تايوان.
اضطرت السلطات التايوانية بعد المحاولة الرابعة للإضراب عن الطعام، والأعمال الحاسمة التي اتخذتها الحكومة البولندية والصليب الأحمر السويدي إلى الإفراج عن طاقم «براتسا».
عانت الملاحة البريطانية من الجومندانيين أكثر مما عانته أية دولةٍ أخرى، ففي عام ١٩٥٢م تعرَّضت السفن التجارية البريطانية «سان جورج» و«هليكون» و«جلينوفين» و«روزيتا» للهجوم. وقد لقي الكابتن روبرت آدمز قبطان السفينة الأخيرة مصرعه على أيدي القراصنة. في عام ١٩٥٣م عزَّز القراصنة الجومندانيون عملياتهم في المياه الصينية، واستطاعوا في مارس أن يحتجزوا سفينةً هولندية في عرض البحر، واستولوا على حمولتها، وعندما حاول قبطانها أن يقاوم عدوانهم احتجزوه في السجن لمدة ثلاثة أشهر، وفي الوقت نفسه قاموا بالاستيلاء على سفنٍ هولندية وبريطانية، إضافةً إلى أنهم قاموا بضرب قبطان السفينة البريطانية ضربًا مبرحًا.
في السادس والعشرين من يوليو ١٩٥٣م قامت ثلاث سفن حربية «مجهولة الهوية» — وفقًا لما أوردته الصحافة البريطانية — بالهجوم على السفينة البريطانية «انتشاليفا» في مضيق تايوان، بينما كانت متوجهةً إلى هونج كونج. لم تمضِ على هذا الحادث بضعة أيام حتى وقع هجومٌ آخر في نفس المكان على السفينة الإيطالية «ماريلا»، وكانت تنقل شحنةً من الحرير الخام، وبعض البضائع الأخرى من الصين إلى أوروبا. بعد ثلاثة أسابيع أُطلق سراح السفينة بعد أن استولى القراصنة على كل ما كانت تحمله. على مدى ثمانية عشر شهرًا منذ مطلع عام ١٩٥٤م، اضطر الأسطول البحري الحربي البريطاني إلى الدخول في أربعين معركةً؛ دفاعًا عن السفن التجارية التي تعرضت للهجوم من قِبل الجوماندانوفتس.
لم يكتفِ قراصنة تايوان باستخدام السفن، ففي السادس من نوفمبر عام ١٩٥٢م قامت طائرةٌ حربية من طراز «القلعة الطائرة» بضرب السفينة البريطانية «هاي دريلوك» بقذائفَ مضادةٍ للمدرعات، وفي الوقت الذي كانت السفينة البريطانية تتعرض للهجوم من الجو؛ إذ بسفينةٍ حربية «مجهولة الهوية» تطاردها بحرًا، وإزاء هذا الهجوم المزدوج اضطرت السفينة للهرب، ونجحت في ذلك. في التاسع عشر من يناير عام ١٩٥٥م تعرضت الباخرة البريطانية «ايدنديال» للقصف الجوي من جانب طائرة جومندانية إبان وجودها في ميناء سفاتو الصيني، مما أسفر عن غرقها. وفي مطلع شهر أغسطس من العام نفسه قامت طائرتان نفاثتان بإسقاط قنابلهما فوق سفينة الشحن الإنجليزية «إينشويلث».
في السنوات التالية استمر الهجوم حتى أصبح يهدِّد أمن الملاحة في الشرق الأقصى مما شكل مشكلةً خطيرة، اهتمت العديد من الدول بحلِّها. في أكتوبر عام ١٩٥٤م تقدَّم الاتحاد السوفييتي بطلب إدراج اقتراح خاص «بخرق حرية الملاحة في منطقة البحار الصينية» في جدول أعمال الدورة التاسعة للجمعية العامة للأمم المتحدة. على أنه نتيجة للمنازعات الإجرائية للدبلوماسية الأمريكية، نجحت الولايات المتحدة في إعاقة مناقشة هذه القضية في هيئة الأمم المتحدة على نحوٍ جوهري.
لقد تعرضت أعمال القراصنة الجومندانيين والتصريحات التي أدلى بها أوصياؤهم الذين حاولوا أن يموهوا الأمر، فيثبتوا أن أتباع شان كاي شيك يسعون فقط لعرقلة وصول المواد الاستراتيجية إلى الصين الشعبية، الأمر الذي قد يبرِّر عملياتهم هذه قانونيًّا باعتبارها نضالًا شرعيًّا ضد تهريب المعدات العسكرية، على أن الحقائق كانت تناقض واقع الأمر بشكلٍ سافر.
وبوجدهٍ عام فإن اتجاه الرأي العام العالمي، وكذلك تخفيف حدة التوتر، قد أرغما القراصنة (الجومندانيين) إلى الانسحاب.
صحوة القرصنة في البحر الكاريبي
في اليوم الأول من شهر يناير عام ١٩٥٩م قامت القوى الثورية في كوبا بزعامة فيديل كاسترو، بقلب نظام حكم الديكتاتور باتيستا الذي كان يلقَى الدعم من الجهات الاحتكارية الأمريكية ومن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية. في بداية الأمر لم يسبب خلع باتيستا ردَّ فعلٍ خاصًّا في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث ظل الأمريكيون لحينٍ من الوقت ينظرون إلى الثورة في كوبا باعتبارها انقلابًا بورجوازيًّا دوريًّا، يحدث مثله الكثير في بلدان أمريكا اللاتينية. ولكن عندما أدركت واشنطن أن حكومة فيديل كاسترو تضع لنفسها أهدافًا ثورية، شنت الولايات المتحدة الأمريكية حملةً شديدة ضد كاسترو، ناعتةً إياه بأنه عميل «الشيوعية العالمية».
بدأت الولايات المتحدة الأمريكية بعد ذلك في ممارسة الضغوط السياسية، ثم العسكرية بعد أن مارست ضغوطها الاقتصادية. وفي الثالث من يناير عام ١٩٦١م قطعت الولايات المتحدة الأمريكية علاقاتها الدبلوماسية والقنصلية مع كوبا، ثم في الثاني والعشرين من مارس عام ١٩٦١م تم في الولايات المتحدة تأسيس ما عُرف باسم المجلس الثوري المكوَّن من المهاجرين الكوبيين أنصار باتيستا.
على هذه الخلفية السياسية للستينيات من القرن العشرين، انتعشت القرصنة في منطقة البحر الكاريبي على يد الدوائر الرجعية للمهاجرين الكوبيين الذين لقوا دعمًا ماليًّا ومعنويًّا من جانب حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، وعددًا من حكومات وسط أمريكا الذين وضعوا أراضيهم تحت تصرُّف القراصنة، كما أمدوهم بالمال والسلاح. لقد كان المهاجرون الكوبيون قراصنةً بكل معنى الكلمة؛ إذ إن كل ما ارتكبوه من أعمالٍ ينطبق والمقاييس التي صاغها القانون الدولي الحديث بشأن القرصنة.
كانت «سيرا أرنساسو» تحمل إلى كوبا حوالي ألف طن من المواد الغذائية والمنسوجات ولُعب الأطفال. من الملابسات التي أحاطت بالحادث، لم يكن من العسير إدراك أنه من تدبير المهاجرين الكوبيين، غير أن المسئولية في وجودهم في البحر الكاريبي تقع بالدرجة الأولى على الولايات المتحدة التي سمحت بنشاط المنظمات الإرهابية على أراضيها، ووفَّرت لهم الدعم المادي، وهو ما أشار إليه في وضوحٍ تام ممثل السفارة الإسبانية في واشنطن، حيث ذكر أن: «المنطقة التي وقع فيها حادث الهجوم تقع تحت سيطرة الولايات المتحدة».
وقد وصف فيديل كاسترو هذا العمل بأنه: «عملٌ بربري سبق الإعداد له للانتقام من إسبانيا لمواصلتها التجارة مع كوبا. لقد تم الهجوم على يد مجموعةٍ من المناهضين للثورة بدعمٍ من إدارة المخابرات المركزية، وقد قدَّمت لهم العون إحدى سفن الدوريات التي تطوف حول كوبا بتوجيهٍ من المخابرات المركزية والأسطول البحري الأمريكي، وهذه السفن معروفة جيدًا، وهي من طراز «ركس». إن أيًّا من المجموعات المناهضة للثورة لا تملك الوسائل التي تمكنها من القيام بمثل هذا العمل دون دعمٍ من المخابرات المركزية».
كان من المفترض، كما يبدو، أن تكون «سيرا أرنساسو» التي تحوَّلت إلى كتلةٍ من اللهب، إشارة وتحذيرًا لكل مَن لم يخضع للضغط الدبلوماسي أو «القوائم السوداء» الأمريكية للتحوُّل عن التجارة مع كوبا الاشتراكية.
في الليل من الثالث عشر وحتى الرابع عشر من نوفمبر عام ١٩٦٥م، قام المناهضون للثورة الكوبية بعملٍ جديد من أعمال القرصنة، حيث أطلقوا النيران من مدفعيةٍ ذات عيارٍ كبير على سواحل هافانا. لقد تم القصف من فوق سطح قاربين تم إنزالهما إلى منطقة العمليات من حاملةٍ من طراز «ركس»، قامت بالتمويه عليها المخابرات المركزية الأمريكية.
لقد نُشرت القرصنة في منطقة البحر الكاريبي تحت وصاية الدولة، ففي الصباح المبكر من يوم ٢٠ نوفمبر عام ١٩٦٨م قامت سفينتان تتبعان الأسطول الحربي الفنزويلي، بفتح نيران مدافعهما على سفينة الصيد الكوبية «أليكرين» وهي في عرض البحر، على مسافة مائة ميل شمال شواطئ فنزويلا، وذلك دون سابق إنذار. وقد تعرَّض هيكل السفينة وسطحها لأضرارٍ بالغة، ولم تعد ماكيناتها تصلح للعمل. كان ركاب «أليكرين» مكونين من ثمانية وثلاثين راكبًا، من بينهم مهندس ياباني كان يعمل ضمن طاقم أسطول الصيد الكوبي، وقد قامت السفن الفنزويلية بعد القصف بقطر السفينة الكوبية التالفة، وقد اعتبرت الحكومة الكوبية هذا الحادث عملًا من أعمال القراصنة، وطالبت بإعادة السفينة وإطلاق سراح طاقهما، وقد جرى تنفيذ ذلك فيما بعد.
القرصنة الجوية
أسهم مناخ الرعب والتوتر اللذان سادا منطقة البحر الكاريبي على ظهور القرصنة الجوية في هذه المنطقة، وهي القرصنة التي ميزت القرن العشرين. تمثلت القرصنة الجوية في الأعمال غير الشرعية لخطف الطائرات فوق عرض البحر، وقد أثبتت اتفاقية جنيف المبرمة في عام ١٩٥٨م هذا الشكل من القرصنة، وقد جرى تسجيل عدد من حوادث القرصنة الجوية في تاريخ بلدان المعسكر الاشتراكي بعد الحرب العالمية الثالثة، عندما لجأت بعض الجماعات والأفراد الرجعيين المشبوهين سياسيًّا إلى هذه الوسيلة غير الشرعية لمغادرة بلادهم جوًّا والتسلل إلى الخارج. وقد بلغت القرصنة الجوية أقصى مدًى لها في منطقة البحر الكاريبي بعد انتصار الثورة الاشتراكية في كوبا، وخاصةً في عام ١٩٦١م الذي سجَّل أكبر عدد من هذه الحوادث.
وفي الفترة ما بين الأول من مايو وحتى التاسع من أغسطس عام ١٩٦١م، اضطرت ثلاث طائرات ركاب أمريكية تعمل على خطوط منتظمة، أن تحوِّل مسارها بالقوة، وتم إحباط محاولة خطف طائرة أمريكية رابعة. في الأول من مايو عام ١٩٦١م قام راكبٌ مسلح على طائرةٍ صغيرة تعمل بين ميامي و«كي وست»، بإرغام قائد الطائرة تحت تهديد السلاح بالهبوط في هافانا في كوبا، وقد سمحت السلطات الكوبية للطائرة وجميع طاقمها وركابها بالعودة إلى الولايات المتحدة الأمريكية في اليوم نفسه.
في التاسع والعشرين من أغسطس أعلن دين راسك وزير خارجية أمريكا رفضه لاقتراح كاسترو، على الرغم من أنه اعترف بأن الولايات المتحدة الأمريكية قامت بدءًا من عام ١٩٥٩م بالاستيلاء على مجموعةٍ من الطائرات الكوبية بلغ عددها خمسًا وعشرين طائرة، وقد جرى فيما بعد إعادة أربع عشرة طائرة فقط، وظلت الطائرات الباقية محتجزةً على نحوٍ غير شرعي. وقد أبلغت الحكومة الكوبية مجلس الأمن التابع لمنظمة الأمم المتحدة، أنها على استعدادٍ أن تضع الطائرة الأمريكية تحت تصرف الأمم المتحدة، حتى تتمكن بهذه الطريقة من حرمان الولايات المتحدة من ذريعة الاعتداء على كوبا، الأمر الذي كانت تسعى إليه الدوائر المرجعية.
في الثالث من أغسطس عام ١٩٦١م جرت محاولةٌ لاختطاف طائرة أمريكية أخرى، فوفقًا لما أكده عملاء مكتب التحقيق الفيدرالي قام المدعو ليون بيردون وهو مجرمٌ اتُّهم بارتكاب عدد من الجنايات، وكان يُعالَج في إحدى المصحَّات النفسية، بركوب إحدى طائرات الركاب في فينكس بولاية أريزونا الأمريكية بصحبة ابنه البالغ من العمر ستة عشر عامًا، وقد نجح المجرمان في التسلل إلى غرفة القيادة أثناء تحليقها في الجو، وطلبَا من قائدها تحت تهديد السلاح الهبوط في مطار هافانا، وعندما أبلغهما الطيار أن كمية الوقود الموجودة في الطائرة لا تكفي للطيران إلى هناك. وافق المختطفون على الهبوط في مدينة إل باسو في ولاية تكساس، وبعد أن هبطت الطائرة في المطار سمح قراصنة الجو للركاب بمغادرتها، بعد أن احتجزوا أربعةً منهم إلى جانب جميع أفراد الطاقم باعتبارهم رهائن. وقد قامت الشرطة — بعد أن أبلغها الركاب بما حدث — بمحاصرة المطار، وحاولوا على مدى عدة ساعات إقناع بيردون بالاستسلام، على أن محاولاتهم باءت بالفشل. قام المجرم تحت تهديد السلاح بإرغام الطيار على السير بالطائرة حتى ممر الإقلاع، لكن رجال الشرطة نجحوا في إيقاف الطائرة بأن أطلقوا عددًا من الطلقات أصابت عجلاتها بدقةٍ متناهية. ونتيجة للارتباك الذي حدث استطاع أحد الركاب تجريد المجرم من سلاحه. حُكم على مختطف الطائرة بالسجن مدى الحياة، وتم إيداع ابنه إحدى الإصلاحيات حتى يبلغ السن القانونية.
في التاسع من أغسطس عام ١٩٦١م جرى اختطاف إحدى الطائرات النفَّاثة الجبارة التابعة لشركة الخطوط الجوية «بان أمريكان»، وكانت في طريقها من مدينة هيوستن بولاية تكساس إلى جواتيمالا، وقد تم الاختطاف فور إقلاع الطائرة من المطار في المكسيك، وتم إجبار الطيار على تغيير مساره والهبوط في هافانا. وقد اتضح أن مرتكب الجريمة — بناءً على ما أذاعه مكتب التحقيقات الفيدرالي — فرنسي يقيم بصفةٍ دائمة في نيويورك، وكان هو الآخر يعاني من اضطراباتٍ نفسية، ما إن وصلت الطائرة إلى كوبا وهبطت في مطار هافانا، حتى جرى تجريد القرصان من سلاحه، وقامت السلطات الكوبية باعتقاله، وقد تم السماح للطائرة وطاقمها وركابها — الذين كان من بينهم وزير خارجية كولوميا — بالعودة إلى ميامي.
في ذات اليوم قامت عصبةٌ من المناهضين للثورة مدجَّجين بالسلاح بمحاولة اختطاف طائرة ركاب كوبية، كانت تقوم برحلتها على أحد الخطوط الداخلية، وإرغام قائدها على الهبوط في فلوريدا. وكان من نتيجة المعركة الحامية التي نشبت على ظهر الطائرة أن لقي الطيار وأحد رجال الشرطة وأحد المختطفين مصرعهم. وفي هذه الأثناء هبط الطيار الثاني بالطائرة في أحد حقول القصب، الأمر الذي نجم عنه تلفياتٌ شديدة بالطائرة. تم الحكم على اثنين من القراصنة بالإعدام رميًا بالرصاص لقتلهم الطيار ورجل الشرطة، وحُكم على أربعةٍ وثلاثين من المشتركين في المحاولة بالسجن لمدةٍ طويلة.
في عام ١٩٦٦م حاول القراصنة اختطاف طائرةٍ مدنية كوبية من طراز «إليوشن-١٨» والذهاب إلى الولايات المتحدة الأمريكية، كانت هذه الطائرة تقوم برحلتها المنتظمة بين سانتياجو دي كوبا وهافانا. وفي ليلة السابع والعشرين صباح الثامن والعشرين من مارس، قام ضابط الملاحة أ. بيتانكور البالغ من العمر سبعة وعشرين عامًا بضرب رجل الشرطة أ. رايس على حين غرةٍ، ثم أطلق عليه الرصاص بعد أن انتزع منه مسدسه الخاص. كانت الطائرة في هذه الأثناء تحلِّق بالقرب من الساحل الشمالي لكوبا. حاول بيتانكور أن يرغم قائد الطائرة الفريس على تحويل مسار طائرته، ليهبط بها في ميامي بولاية فلوريدا، لكن الطيار حلَّق بالطائرة فوق البحر بمحاذاة الشاطئ الكوبي محافظًا على رباطة جأشه، حتى تمكَّن من الاتصال لاسلكيًّا بنقطة المراقبة الأرضية في مطار هافانا، وأبلغ السلطات بما يحدث في الجو.
تم الاتفاق على خطة هبوط الطائرة في هافانا، وإبان ذلك كان على الطيار أن يبقي القرصان المسلح على اقتناعه بأن الطائرة في طريقها إلى الولايات المتحدة الأمريكية. لم يدرك القرصان أنه قد جرى التغرير به إلا لحظة هبوط الطائرة في مطار هافانا. وعندئذٍ حاول من جديدٍ إرغام الطائرة على التحليق في الجو، وعندما فشلت محاولته أطلق عليه الرصاص، ثم قفز من الطائرة، وفرَّ متسترًا بالظلام الحالك، وظل مختفيًا عدة أيام في أحد الأديرة حتى تمكنت الشرطة من إلقاء القبض عليه، لينال جزاءه الذي قضت به إحدى المحاكم الكوبية.
وقد جاء في البيان الرسمي الذي أذاعته السلطات الكوبية بشأن هذا الحادث، أن هذا القرصان كان بوسعه أكثر من مرة أن يغادر كوبا إبان رحلاته إلى الخارج بوصفه ضابط ملاحة جوية، لكن الملابسات التي أحاطت بتصميمه على ارتكاب هذا العمل الإجرامي المغامر، يستوجب الإشارة إلى تأثير الدعاية الأمريكية، التي تشجع الخونة الكوبيين على القيام بهذا النوع من الأعمال «البطولية».
لم توقف العقوبات القاسية على القرصنة الجوية المجرمين من الاستمرار في خطف الطائرات في الجو في منطقة البحر الكاريبي، حتى كادت تصبح من الأمور المألوفة، حتى إن الصحافة لم تَعد تُخصِّص لها سوى بضعة سطور على صفحاتها. وقد لوحظ أن الطرق التي لجأ إليها مختطفو الطائرات والدوافع التي تقف وراء أعمالهم، وهم يخاطرون بحريتهم أو حياتهم، تختلف من واحدٍ إلى الآخر بشكلٍ كبير.
على سبيل المثال: فالطائرة العاشرة في سجل الطائرات التي أُجبرت على الذهاب إلى كوبا وصلت إلى هناك في عام ١٩٦٨م، وكانت طائرةٌ صغيرة من الطائرات التي يتم استئجارها من طراز «سيسنا». في صباح الأحد الرابع من أغسطس وكان الجو صحوًا، قام مواطنٌ أمريكي باستئجار الطائرة المذكورة في مدينة نابلس بولاية فلوريدا، وذكر أنه يرغب في القيام بنزهةٍ جوية بصحبة ابنته الصغيرة، وما إن حلقت الطائرة في الجو، حتى أرغم الراكب الطيار تحت تهديد السلاح على العبور بالطائرة إلى هافانا، وقد أعادت السلطات الكوبية الطائرة إلى الولايات المتحدة كما أطلقت سراح قائدها.
تُعد الطائرات الكبيرة التي تعمل على خطوطٍ جوية منتظمة هي أكثر ضحايا القرصنة الجوية، في الثالث والعشرين والرابع والعشرين من نوفمبر عام ١٩٦٨م، هبطت في مطار هافانا طائرتان أمريكيتان، بعد أن أُجبر طاقماهما تحت تهديد السلاح على تغيير مساريهما والطيران إلى كوبا. كانت الطائرتان نفاثتين، إحداهما من طراز «بوينج-٧٢٧» تتبع شركة طيران «إيسترن إير لاينز»، وعلى مَتْنها ثلاثة وثمانون راكبًا، والأخرى من طراز «بوينج-٧٠٧», وتمتلكها شركة طيران «بان أميركان». وقد أُعيدت الطائرتان وعلى متنهما جميع الركاب الذين أعربوا عن رغبتهم في العودة إلى الولايات المتحدة الأمريكية على الفور.
في نهاية شهر نوفمبر ومستهل شهر ديسمبر عام ١٩٦٨م، جرى تسجيل رقم قياسي لخطف الطائرات في منطقة البحر الكاريبي، حيث اضطرت ثلاث طائرات نفاثة أمريكية ضخمة، تحمل مائتين وثمانية وسبعين راكبًا من الهبوط — خلال أسبوعٍ واحد فقط — في مطار هافانا. وقد انتهت كل الحوادث المذكورة نهايةً طيبة، ويبدو أن شركات الطيران التي تقوم بتشغيل الخطوط الجوية المارَّة بالقرب من منطقة الكاريبي، قد استسلمت للقرصنة الجوية، وأخذت في التعامل معها على أنها شرٌّ لا بدَّ منه، فاكتفت بتوفير أمن وسلامة الطائرات والركاب، بل إن هذه الشركات قامت — تحسُّبًا لأية ظروفٍ طارئة — بمدِّ طياريها بخرائط لمطار هافانا الذي يحمل اسم «خوسيه مارتي»، وأصدرت أوامرها للمضيفات ألَّا ينزلقن في أي نوعٍ من الشجار، مع أي شخصٍ يُحتمل أن يكون من مختطفي الطائرات، وأن يقمن على قدر الإمكان بتنفيذ التعليمات المنوطات بتنفيذها.
وبمناسبة هذه الحوادث قامت مجلة «تايم» الأمريكية الأسبوعية، مستغلةً المعلومات الوفيرة التي حصلت عليها في عام ١٩٦٨م، بنشر مذكرة لركاب الطائرات المخطوفة في أحد أعداد شهر ديسمبر تميزت بالطرافة، اقترحت طبعها على هيئة كراسات يمكن وضعها خلف مقاعد الطائرات مع بقية الإرشادات الموجهة للركاب، وها هي «النصائح الغالية» التي أَسْدَتها المجلة في «مذكراتها»:
- أولًا: لا تتصرف بعدوانية؛ لأن مختطفي الطائرة عادةً ما يكون مسلحين جيدًا، وهم ميالون — بحكم المخاطرة الكبرى التي يقومون بها — إلى المسدسات والسكاكين. هناك مع ذلك بعض الاستثناءات، فقد استخدم المدعو إنانديس المهاجر الكوبي البالغ من العمر ثلاثة وعشرون عامًا، والذي قام في يوليو عام ١٩٦٨م باختطاف طائرة من طراز «دي سي-٨»، تابعة لشركة الطيران «ناشيونال إير لاين»، استخدم شيئًا ما أكد أنه قنبلةٌ يدوية، وذلك بهدف إثارة الخوف لدى طاقم الطائرة وركابها، وقد تبين بعد هبوط الطائرة في هافانا أن هذا الشيء لم يكن ببساطة سوى زجاجة عِطر رشاشة تستخدم بعد الحلاقة، وقد لفها في منديل يد.
- ثانيًا: لا تستسلم للذعر، فقراصنة الجو على الرغم من عدوانيتهم يمكن أن يكونوا في الوقت نفسه أناسًا ودودين. في نوفمبر عام ١٩٦٨م قام المدعو خوسيه وهو واحدٌ من ثلاثة رجال قاموا باختطاف طائرة شركة طيران «بان أمريكان» أثناء قيامها برحلتها (رقم ٢٨١)، متجهةً إلى سان خوان في جزيرة بورتيريكو، قام بتوزيع طلقات رصاص من عيار ٣٢ملم على الركاب على سبيل التذكار، وأخذ في مجاذبتهم أطراف الحديث في مودةٍ بالغة، وفي أدبٍ توجَّه بالحديث إلى جوزيف هانوفيل وزوجته، اللذين كانا قد تزوجا لتوِّهما قائلًا: إننا في غاية الأسف؛ لأننا أفسدنا عليكما رحلة زفافكما!
- ثالثًا: لا ينبغي إطلاقًا أن تضغط على زر الجرس المثبت في المقعد، إذ إن الرنين الذي سيدوِّي في غرفة الطيار يمكن أن يثير ذعر القرصان، وقد يدفعه إلى فتح نيرانه. إن أية طلقة طائشة من المحتمل أن تخترق جدار الطائرة المُحكم، والذي يحافظ على ضغط الهواء المناسب لحياة الركاب، وإذا حدث ذلك فيجب اتباع التعليمات المسجلة، والتي تشير إلى كيفية التصرُّف في حالة وقوع مثل هذه الكارثة.
- رابعًا: لا تستدعِ المضيفة بصوتٍ مرتفع، إذا كنتَ في حاجةٍ إلى المساعدة أو إذا كنَت تريد التوجُّه إلى دورة مياه، عليك أن ترفع يدك إلى أعلى البطن. إن طاقم الطائرة يمكنه أن يوفر للركاب المشروبات بناءً على تصريحٍ من المختطفين. والحقيقة أن مثل هذه المواقف لا تخلو أبدًا من المفاجآت. على سبيل المثال: فقد قام أحد قراصنة الجو الذين اختطفوا طائرة شركة الطيران الأمريكية «إيسترن إير لاينز» في شهر نوفمبر عام ١٩٦٨م، أثناء قيامها برحلتها (رقم ٢٧٣) من شيكاغو إلى ميامي بولاية فلوريدا، بشراء مشروبات كحولية للركاب من جيبه الخاص بمبلغ عشرين دولارًا.
- أولًا: يجب أن تهتم بأخذ قسطٍ كبير من الراحة. على الرغم من النظام القائم في البلاد، فإن الكوبيين في الواقع يتعاملون بظرفٍ ورقَّةٍ، وما إن ينتهوا من إجراءات الدخول الشكلية اللازمة، حتى يسعوا للتخفيف عن الركاب — قدر الإمكان — من أثر الهبوط الاضطراري المزعج. أمَّا بالنسبة للإجراءات فهُم ملتزمون بالأمور التقليدية في مثل هذه الأحوال من ملء للاستمارات الخاصة بملكية الركاب للآلات التصوير الفوتوغرافية والسينمائية وأجهزة الاستريو، وبالنسبة للذين لا يحملون شهادات التطعيم ضد الحصبة؛ فإنهم يتعرضون لأخذ الأمصال في المطار، أو الحَجر الصحي.
- ثانيًا: ينبغي أن تستغل فرصة وجودك بأفضل وسيلةٍ ممكنة، وسوف يساعدك الكوبيون أنفسهم على تحقيق ذلك تمامًا. في أغلب الأحوال تمتد فترة بقائك الاضطراري ليلةً واحدة كحدٍ أدنى؛ إذ إن السلطات الكوبية لا تسمح لطائرات الركاب الأمريكية النفاثة بالطيران من مطار «خوسيه مارتي». سوف تضطر الانتظار حتى ترسل شركة الطيران طائرةً مروحية أخرى، بينما تدبر السلطات الكوبية أمر إقامة الركاب في فندق المطار، أو في أحد أفضل فندقيْن في كوبا: «هافانا ليبري» (هيلتون هافانا سابقًا) الموجود في قلب العاصمة، أو «فيراديرو إنترناشيونال»، ويبعد عن المدينة مسيرة ساعة بالسيارة، حيث يقع بالقرب من مطار «فيراديرو»، وهو المطار الذي تقلع منه الطائرات المروحية».
إليك ما يستطيع السائح الاضطراري أن يراه في هافانا تبعًا للمكان الذي سيضطر للإقامة فيه:
تسمح السلطات الكوبية في مطار «خوسيه مارتي» للركاب بأن يتحركوا كما يشاءون، وأن يشتروا ما يحلو لهم من هدايا تذكارية من الأكشاك، ويحظى السيجار الهافاني بشكلٍ خاص بشعبيةٍ كبيرة من الأمريكيين، وكذلك الروم الكوبي، وكلاهما من السلع المحظور اصطحابها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وإن نجح البعض في أخذها بطريقةٍ أو بأخرى، يتبقى بعد ذلك قليلٌ من الوقت لمشاهدة المدينة، وهو الوقت الذي ينتقل فيه الركاب من مطارٍ إلى آخر بواسطة سيارات الأوتوبيس، التي تخصصها لهذا الغرض سفارة سويسرا القائمة على رعاية المصالح الأمريكية في كوبا.
هناك فرصة متاحة أمام الركاب الذين ينزلون في فندق «هافانا ليبري»، للتعرف على حياة الليل في كوبا الاشتراكية، فبإمكانهم أن يحتسوا كأسًا من كوكتيل «دايكيري» الوطني المصنوع من الروم الكوبي في جو المطعم المريح الملحق بالفندق، كما يمكنهم مشاهدة عروض فناني الكاباريه، ومقابلة جمهور يتميز بالطرافة بالنسبة للأمريكيين، وخاصةً من السائحين القادمين من بلدان أوروبا الاشتراكية، إلى جانب أنه من الممكن القيام بجولةٍ في وسط المدينة للشراء أفضل بكثيرٍ من تلك التي يتيحها المطار. هنا تباع آلات التصوير الممتازة من ألمانيا الشرقية، والبلوزات القومية التشيكية المطرَّزة بالرسوم الجميلة والدانتيلا، إلى جانب السيجار، والروم الكوبي المتميز. قد تصادر الجمارك الأمريكية هذه السلع، وإن كان من الممكن استعادتها مرةً أخرى بعد التقدُّم بطلبٍ إلى لجنة الاستيراد في واشنطن.
أما الركاب الذين ينزلون في فندق «فيراديرو إنترناشيونال»، فننصح بأن يأخذوا معهم ملابس البحر، فالبلاج هنا يمتد إلى مسافة خمسة عشر ميلًا من الرمل الأبيض، ومياه البحر نظيفة ودافئة، وهو مكانٌ يتميز حقيقةً بالجمال الخلَّاب. في الوقت نفسه فالكوبيون يقومون دائمًا وبكل ظُرفٍ بتقديم غذاء مجاني (فاتح للشهية، لحم وأرز وسلاطة، وطبق حلوى)، للسائحين العرضيين على أنغام فرقتين موسيقيتين يتبادلان عزف أغنيتي «باصا نوفا» و«أستالا فيستا».
في مطلع عام ١٩٦٩م ازدادت حوادث القرصنة الجوية في منطقة البحر الكاريبي، ففي شهر يناير وحده كان يجري اختطاف طائرتين في المتوسط أسبوعيًّا إلى كوبا. وفي يوم الأحد الموافق التاسع عشر من يناير تم اختطاف طائرتين: الأولى أمريكية، وتتبع شركة «إسترن إير لاينز»، وعلى متنها واحدٌ وسبعون راكبًا، والأخرى إكوادورية، وتتبع شركة «إير لاينز إلكترا»، وعلى متنها ثلاثة وثمانون راكبًا.
أصبح اختطاف الطائرات أمرًا معديًا، وأصبحت الأنباء ترد من وقتٍ لآخر حول اختطاف طائرات من شتى أنحاء العالم.
في الثاني من يناير عام ١٩٦٩م تعرَّض طاقم طائرة الخطوط الجوية اليونانية، أثناء توجهه من إيراكليون بجزيرة كريت إلى أثينا، لهجومٍ شنَّه أحد سكان الجزيرة، ويُدعى ف. فلاموريديس، أرغم الطاقم على تحويل مسار الطائرة والتوجه بها إلى القاهرة. وقد جرى تحذير طائرتين قاذفتين يونانيتين، كانت قد سارعتا بمطاردة الطائرة المخطوفة باللاسلكي من قِبل المختطف، الذي أعلن أنه سيفجر الطائرة إذا لم تتراجعا. كانت الطائرة اليونانية تحلق، وعلى متنها سبعة وتسعون راكبًا، وقد هبطت الطائرة ظهرًا في مطار القاهرة، وقامت السلطات المصرية بإعادتها إلى اليونان. أما ركابها فقد عادوا إلى أثينا على متن إحدى طائرات الركاب النفاثة من طراز «بوينج ٧٠٧»، تمتلكها شركة الخطوط الجوية اليونانية.
كان أمرًا مثيرًا للدهشة أن تهبط في مطار صوفيا على غير انتظارٍ، في السادس عشر من سبتمبر ١٩٦٩م في تمام الساعة الثانية وخمس وعشرين دقيقة ظهرًا، إحدى الطائرات التركية وعلى متنها خمسون راكبًا، كانت في طريقها من إسطنبول إلى أنقرة. وقد تبيَّن أن مختطف الطائرة طالبٌ يبلغ من العمر سبعة وعشرين عامًا، ويدرس بكلية الحقوق بإحدى الجامعات التركية، ويُدعى سعدي طاهر، قام بتهديد طاقم الطائرة بمسدسه، وأرغمه على تحويل مسارها والهبوط بها في صوفيا، وبعد توقُّفٍ لم يطل هناك جرت أثناء الإجراءات الرسمية اللازمة، حلَّقت الطائرة وطاقمها وركَّابها عائدةً إلى أسطنبول، تاركةً وراءها مختطف الطائرة، وقد توجهت الحكومة التركية بالشكر لحكومة بلغاريا على سرعة إعادة الطائرة.
وما هي إلا أسابيع قليلةٍ بعد هذا الحادث حتى اهتزَّ الرأي العام لما سُمي آنذاك بقضية مينيكيللو، فبينما كانت الطائرة العملاقة من طراز «بوينج-٧٠٧» تتأهب للهبوط في مطار سان فرانسيسكو قادمةً من لوس أنجلوس؛ إذ بشابٍّ يقتحم غرفة الطيار ويطلب منه — تحت تهديد السلاح — أن يتجه بالطائرة إلى نيويورك. بصعوبةٍ بالغة استطاع الطيار الأول أن يُقنع قرصان الجو بأن الطائرة ليس بها وقود يكفي للطيران لمثل هذه المسافة الطويلة. عندئذٍ سمح المختطف بهبوط الطائرة في دنفر (ولاية كلورادو)، وهناك تم إنزال جميع الركاب ومضيفة واحدة، وبعد أن جرى تموين الطائرة بالوقود عادت للطيران مرةً أخرى. جلس مينيكيللو (كما كان يسميه الطيارون) طوال الرحلة إلى نيويورك، والتي تبلغ ثلاث ساعات في غرفة الملاحة، مصوبًا مدفعه الرشاش نحو طاقم الطائرة المكوَّن من خمسة أفراد.
وعندما لاحظ القرصان — بعد أن هبط من مطار كينيدي الدولي في نيويورك — أن سيارات الشرطة قد هُرعت نحو الطائرة، أطلق النار إلى أعلى فاخترقت خزَّان الأكسجين السائل الموجود أسفل سقف غرفة القيادة، ثم صاح في الطيارين قائلًا: سوف أُطلق النار على الجميع، وحتى على مَن في المطار، إذا لم تقلعوا فورًا من هنا!
في نيويورك نجح طياران آخران في الصعود إلى الطائرة، ليتبادلا العمل مع الطاقم الذي أرهقه الطيران المتواصل لمدة ثماني ساعات. وتحت تهديد القرصان عادت الطائرة، لتحلق في الجو دون أن يتم تموينها بالوقود. لم يستطع قناصة مكتب التحقيق الفيدرالي، الذين ظلوا راقدين ساعةً بأكملها وسط الحشائش المحيطة بالمطار، من إطلاق الرصاص لو لاحت لهم رأس القرصان من النافذة. هؤلاء كانت لديهم الأوامر بإطلاق الرصاص دون أدنى خطأٍ، على أن الفرصة لم تُتَح لهم.
كان الهبوط التالي للطائرة في مطار بنجور (ولاية مينسوتا)، حيث أصدر مينيكيللو أوامره بتزويد «البوينج» بالوقود، استعدادًا لعبور المحيط الأطلنطي. بعد خمس ساعات، وفي تمام الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، هبطت الطائرة في مطار شانون (أيرلندا). لم يستغرق توقف الطائرة وقتًا طويلًا، فسرعان ما عادت للتحليق من جديدٍ لمدة أربع ساعات أخرى، لتصل في الرابعة والنصف صباح أول نوفمبر عام ١٩٦٩م إلى مطار ليوناردو دفنشي في روما. هكذا تم تسجيل الرقم القياسي العالمي لأطول رحلة تقطعها طائرةٌ مختطفة، وقد بلغت المسافة أحد عشر ألف كيلو متر.
قام مينيكيللو بالاتصال لاسلكيًّا بالشرطة الإيطالية قبل هبوطه في مطار روما، وطلب أن يرسلوا له سيارة. وصلت سيارة الشرطة إلى سلم الطائرة بالفعل، فاتصل مينيكيللو بقيادة غرفة العمليات، وأصدر أمره الدوري: على الضابط الجالس خلف مقود القيادة في السيارة الصعود إلى الطائرة مجردًا من السلاح، وقد تم تنفيذ هذا الأمر فورًا. وما هي إلا عشر دقائق حتى ظهر بالقرب من الطائرة نائب مدير شرطة روما، وكان يرتدي سترة شاويش خصيصًا لهذه الحادثة، ثم هبط وراءه القرصان وفي يده مدفعه الرشاش. جلس الضابط إلى مقود السيارة بينما جلس القرصان في المقعد الخلفي، وقد صوَّب فوهة مدفعه إلى مؤخرة رأس السائق. سرعان ما انطلقت «ألفا-روميو» القديمة لتغادر المطار تتبعها على مقربةٍ سيارتا الشرطة، ولما كان قرصان الجو مدركًا أنه مطارد، فقد أصدر أمرًا للسائق أن يسير في خطوطٍ متعرِّجة في ضواحي روما، ثم يتخذ مساره في اتجاه نابولي. وعندما أصبحا في مكانٍ ناءٍ خالٍ من الناس، قفز مينيكيللو من السيارة، وانطلق يعدو عبر الحقول، وفي أثره انطلقت الشرطة الإيطالية تطارده.
نجحت كلاب الشرطة بعد أربع ساعات من العثور على قرصان الجو مختبئًا في إحدى الكنائس، وقد استبدل ملابسه بعد أن ألقى سلاحه في إحدى الغابات القريبة. اقتيد مينيكيللو إلى روما، وأودع السجون، وقد أُطلق عليه اسم «ريجينا تشيليس» (ملكة السموات). وهكذا انتهى المطاف بالمختطف وراء القضبان، وأعيدت الطائرة إلى أصحابها الشرعيين.
اهتمت الصحافة والرأي العام بحياة قرصان الجو الذي تبين أن اسمه «رافاييلي مينيكيللو»، أمريكي الجنسية من أصلٍ إيطالي، اختار هذه الطريقة الغريبة، ليحقق حلمه في العودة إلى وطنه، وكان أبوه المريض قد رحل عائدًا إلى مسقط رأسه في مدينة نابولي منذ عدة أعوامٍ خلت.
لم يكن رافاييلي قد تجاوز العشرين عامًا، وهو يحلِّق على متن الطائرة المختطفة عبر المحيط الأطلنطي، كان شابًّا مبتسمًا محبًّا للحياة، وصل إلى الولايات المتحدة الأمريكية قادمًا من إيطاليا، وكان يبلغ من العمر آنذاك أربعة عشر ربيعًا، وعلى الفور التحق بالمدرسة. تطوع رافاييلي للخدمة في البحرية الأمريكية قبل ما يزيد عن العام من قيامه باختطاف الطائرة، وكان قد خدم لمدة عامٍ كامل في فيتنام في منطقةٍ منزوعة السلاح، دارت فيها معارك حربية شرسة. حصل رافاييلي على رتبة عريف، وكذلك على عددٍ من المكافآت العسكرية، وقد تعلم كيف يقتل بالمسدس والبندقية والخنجر، وأيضًا باليد الخالية من أي سلاح، وبعد أن عاد إلى الولايات المتحدة قام بسرقة مخزن حربي، وفي محاولةٍ منه للهروب من العقوبة استطاع الحصول على السلاح، ثم قام باختطاف الطائرة التي حلَّق بها عبر المحيط، ليهبط في أوروبا، وقد رفض القضاء الإيطالي تسليم مينيكيللو، وقرر معاقبته في وطنه.
في الفترة من مساء السابع عشر إلى صباح الثامن عشر من مارس عام ١٩٧٠م، وقعت حادثة اختطاف لإحدى الطائرات العاملة على الخطوط الجوية الداخلية في الولايات المتحدة الأمريكية، كان لها عواقبُ وخيمةٌ فاقت الحادثة السالفة الذكر.
إبان مراجعة تذاكر السفر على الطائرة «دي سي-٩»، وكانت قد اقتربت من الهبوط في مطار بوسطن قادمةً من نيويورك، وعلى متنها ثلاثة وسبعون راكبًا؛ إذا بالمدعو ديفيفو يبلِّغ المضيفة بأنه لا يملك نقودًا لمواصلة رحلته، وطلب من قائد الطائرة تغيير وجهتها. كانت الطائرة تستعد للهبوط في مطار بوسطن، ومن ثَم فقد رفض الطيار مطالب قرصان الجو، فما كان من الأخير إلا أن أخرج من جيبه مسدسًا، وأطلق الرصاص على الطيارين، فقتل واحدًا، وأصاب الآخر بجرحٍ بالغ في كتفه. على الرغم من إصابة الطيار فقد تحامل على نفسه، ونجح في الهبوط بالطائرة، حاول القرصان أن ينهي حياته منتحرًا، فأطلق على صدره الرصاص.
على الرغم من أن حوادث اختطاف الطائرات أصبحت يومًا بعد الآخر من الحوادث المألوفة، فإن قليلًا منها كان بهذا القدر من الإثارة، مثلما حدث في أول حادثةٍ لاختطاف طائرة يابانية في ربيع عام ١٩٧٠م. يُعد هذا الحادث أحد الحوادث الفريدة في تاريخ القرصنة الجوية، وكانت له عواقبُ غير متوقعةٍ، وإن بدا الأمر من أوله عاديًّا تمامًا.
في السابعة والنصف صباحًا من آخر أيام شهر مارس عام ١٩٧٠م بتوقيت طوكيو: اقتحمت مجموعةٌ من الطلاب اليابانيين، ينتمون إلى منطقة سنجاكورين اليسارية الماوية غرفة الطيار الذي كان في طريقه من طوكيو إلى فوكو أوكا، وكانت الطائرة تحمل على متنها مائة وواحدًا وثلاثين راكبًا وطاقمًا من سبعة أفراد، وطلبوا منه التوجه إلى بيونج يانج عاصمة كوريا الشمالية. في الوقت نفسه قامت مجموعةٌ من المختطفين ببثِّ الذعر في قلوب المسافرين، مهددةً بتفجير الطائرة لو حاول أحدٌ منهم مغادرة مكانه، بل إن القراصنة قاموا بربط أيدي الرجال منهم بعد أن أوثقوهم إلى مقاعدهم، بلغ مجموعة القراصنة تسعة طلاب مسلحين. أبلغ الطيار المختطفين أن الوقود الذي لديه لن يكفي للوصول إلى كوريا الشمالية، عندئذٍ وافقوا على الهبوط في إيتادزوكي (جزيرة كوسو) للتزود بالوقود. نتيجة للمباحثات التي جرت إبان ساعات التوقف الخمس، سمح المختطفون لثلاثة وعشرين راكبًا من المرضى والعجائز والنساء والأطفال بمغادرة الطائرة. ردًّا على ذلك وافقت قيادة الأسطول الجوي الياباني على مغادرة الطائرة المخطوفة للمطار والتوجه إلى كوريا.
ما إن حلقت الطائرة في الجو حتى تبعتها طائرتان قاذفتان من كوريا الجنوبية، نجحتا في الاتصال بطاقم «البونيج»، وقد طالب الطيارون الكوريون من الطاقم الهبوط بالطائرة في سيول. في هذا الوقت تمامًا بدأ الاستعداد لأكبر عملية تضليل في تاريخ الطيران المدني. كان مطار كيمبو في سيول قد أجرى عددًا من التغييرات، ليصبح مستعدًّا لأن يترك انطباعًا لدى المختطفين أنهم قد هبطوا في بيونج يانج، فتم نزع أعلام الدول الغربية، ورُفعت على جميع الصواري أعلام جمهورية كوريا الشمالية الديمقراطية والرايات الحمراء، وعُلقت اليافطات وعليها الشعارات الشيوعية، وارتدت الفرقة العسكرية بالمطار السترات العسكرية للجيش الشعبي الكوري، وأعلنت إذاعة المطار للطائرة: «هنا مطار بيونج يانج، يمكنكم الهبوط.»
غير أن المختطفين سرعان ما اكتشفوا الخدعة؛ فبعد هبوط الطائرة مباشرةً طلبوا إحضار آخر الصحف الصادرة في بيونج يانج، ولكنهم لم يتسلموها. أغلق المختطفون كل أبواب الطائرة، وطالبوا بالسماح للطائرة بالإقلاع فورًا، والتوجه إلى كوريا الشمالية، لكن الطيار أخبرهم أن هذا الأمر أصبح مستحيلًا؛ إذ إن موظفي الخدمة الأرضية بالمطار قاموا بإفراغ إطارات الطائرة من الهواء لإعاقتها عن الإقلاع.
بدأت مباحثات طويلة مشحونة بالتوتر بين مختطفي الطائرة من ناحية، والسلطات المحلية في كوريا والسلطات اليابانية أيضًا من ناحيةٍ أخرى. اشترك في المباحثات سفير اليابان في سيول ووزير النقل والمواصلات الياباني الذي هُرع إلى عاصمة كوريا الجنوبية. استمرت المباحثات لساعاتٍ طويلة، وتم إعلان أكثر من مرةٍ عن إقلاعها الوشيك، غير أن هذا الإقلاع كان يتعرض للتأجيل في كل مرةٍ. أصبح الوضع على الطائرة يكتسب شكلًا دراميًّا ساعةً بعد الأخرى، فقدَ الركاب الذين أرهقهم الجلوس الطويل الممض في مقاعدَ ضيقةٍ ما تبقَّى لديهم من قوة، وأصبحوا في حالٍ يُرثى لها، كان هذا ما تدل عليه البرقيات اللاسلكية التي تبادلها الجانبان.
قام قائد الطائرة، الذي كان يتحلَّى بقدرٍ كبير من الصبر والتماسك بإبلاغ السفير الياباني في سيول بالوضع على الطائرة في برقيةٍ جاء فيها: «إن الطلاب في قمة غضبهم، يتصاعد لديهم الإحساس بالتوتر، الموقف لم يَعد محتملًا، يريدون الإقلاع فورًا. وفي رأيي أن علينا أن نطير فورًا تجنبًا للعواقب الوخيمة.» وقد توجَّه أحد الركاب برجاءٍ مماثل إلى السفير قائلًا: «إنَّنا جميعًا موافقون على مواصلة الرحلة، حتى لو تم القبض علينا هناك، نتوسَّل إليكم! دعونا نطير».
وأخيرًا، وبعد أن ظلت الطائرة على أرض المطار إحدى عشرة ساعة كاملة، قررت السلطات المحلية أن تُنهي وعلى وجه السرعة هذه الكوميديا المصطنعة، وعبر نافذة غرفة الطيارين المفتوحة وصل بيان سلطات المطار من خلال الميكروفونات، يقول: «أنتم هنا في مطار كيمبو في كوريا الجنوبية»، ومن خلال هذه النافذة ذاتها أخذت المياه والمواد الغذائية تتدفق على الركاب وطاقم الطائرة استجابةً للتوسلات اليائسة، كما جرى شحن البطاريات، حتى أمكن تدفئة الطائرة التي كان ركابها يشكون من شدة البرد. بعد ذلك وجَّهت السلطات نداءً إلى مختطفي الطائرة جاء فيه: «أطلقوا سراح الركاب، وفي هذه الحالة سوف نتيح لكم غدًا الإقلاع إلى كوريا الشمالية.» غير أن القراصنة الذين سبق وتعرضوا للخداع من قبل أجابوا نقطة المراقبة بقولهم: «لن نسمح لأحدٍ بمغادرة الطائرة، لسنا بحاجةٍ لمساعدتكم لنطير إلى جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية، وسوف ندمِّر الطائرة بمَن فيها من الركاب إذا ما حدث هجومٌ عليها.» في الوقت نفسه أكد قائد الطائرة وجود مواد متفجرة بحوزة المختطفين، الأمر الذي لم يكن يعلمه الركاب أن قائد الطائرة المدنية التابعة للأسطول الجوي الياباني قد نجحوا بشِق الأنفس في منع السلطات في سيول من استخدام الغازات، ومحاولة اقتحام الطائرة عنوةً.
في الوقت نفسه كان هناك حوار طويل بين سيول وطوكيو، اشتركت فيه جهات عدة. بعد مباحثاتٍ طويلة، استمرت لمدة ثمانٍ وسبعين ساعة بين المسئولين في كلٍّ من سيول وطوكيو، وافق القراصنة على إبداء بعض التنازلات بإخلاء سبيل ما يزيد عن مائة راكبٍ، ظلوا على مدى أربعة أيام يعانون من الجوع والتوتر في انتظار وضع حد لهذه القصة. على أن الطلبة اشترطوا — في مقابل إطلاق سراح هؤلاء الركاب — أن يصعد إلى الطائرة رهائن آخرون هم بالتحديد: السيد يامامورا نائب وزير النقل والمواصلات، والسيد آبي عضو البرلمان الياباني عن الحزب الاشتراكي. ووافقوا على إطلاق سراح خمسين راكبًا في البداية، ثم إطلاق سراح باقي الركاب بعد صعود الرهائن إلى الطائرة، كما وافقوا على اقتراح السلطات المحلية بإرسال ثمانية أطباء وخمس عشرة ممرضةً؛ إذ إن غالبية الركاب كانوا بحاجةٍ إلى معونةٍ طبية (كان أحد الركاب قد أخذ يعاني من نوبةٍ قلبية، بينما ظهر على راكبٍ آخر بوادر انهيار عصبي نتيجة للصدمة)، الأمر الذي لم يقبله القراصنة إطلاقًا هو استبدال طاقم الطائرة بطاقمٍ آخر، على الرغم من وصول خمسة طيارين ومضيفتين من طوكيو إلى سيول برفقة الرهينتين المذكورتين، ليحلا محل طاقم الطائرة المخطوفة، الذي أنهكته الرحلة تمامًا، حتى بدا أنه ليس بإمكانه مواصلة الطيران. وعدت السلطات في سيول بأن الطائرة سوف تكون جاهزةً للإقلاع، وستسحب إلى خط الطيران فور تبادل الركاب بالرهائن.
كان قد مضى على وجود «البوينج» ما يقرب من ثمانين ساعةً على أرض مطار سيول، عندما فُتح بابها أخيرًا ليظهر أمامه طالبان يابانيان يحملان سيوف ساموراي، طلبا من موظفي الخدمة الأرضية عدم الاقتراب من سلم الطائرة أكثر من مترين. بعدها ظهر على درجات السلم طلائع الركاب الذين كانوا يتحركون بالكاد واحدًا وراء الآخر في طريقهم إلى ساحة المطار، حيث كانت تنتظرهم سيارات الإسعاف مجهزةً بالأطباء والممرضات. بعد أن غادر الركاب الخمسون الطائرة، عادت أبوابها لتُغلق من جديد، في الوقت الذي كان الركاب قد أُطلق سراحهم يدخلون إلى مبنى مطار سيول، كان يامامورا قد صعد إلى «البوينج»، وبمجرد أن غادرها بقية الركاب، حتى أقلعت في طريقها إلى بيونج يانج.
هكذا انتهت أصعب مائة واثنتين وعشرين ساعة من مغادرة الطائرة التي اختطفها الطلاب مُسجِّلين بذلك «رقمًا قياسيًّا» فريدًا في مجاله. انتهت القصة، لكن نتائجها استمرت بعد ذلك زمنًا طويلًا، في الخامس من أبريل أعلن إيزاكو ساتو رئيس وزراء اليابان، من خلال لجنة الهدنة الدولية، عن شكره لحكومة كوريا الديمقراطية الشعبية، لإعادتها الفورية للطائرة المختطَفة. لا شك أن المسئولية في هذا الحادث تقع بالدرجة الأولى على الأشخاص الذين قاموا باختطاف الطائرة، على أن الحكومة اليابانية قد اتهمت بأنها عرضت حياة أكثر من مائة نفسٍ للخطر.
لم تسلم الطائرات المدنية البولندية من موجة الهجوم على الطائرات التي زادت حدَّتها في تلك الفترة، ففي أكتوبر ونوفمبر من عام ١٩٦٩م كانت طائرتان منها هدفًا للقرصنة الجوية «إيل-١٨»، كانت تطير من وارسو في طريقها إلى بروكسل عبر برلين عاصمة ألمانيا الديمقراطية، على الهبوط في برلين الغربية. وفي العشرين من نوفمبر عام ١٩٦٩م تعرَّض طاقم طائرة الركاب البولندية من طراز «إن-٢٤»، وكان متجهًا بالطائرة من فروتسلاف إلى وارسو، لهجومٍ من جانب اثنين من قراصنة الجو، أرغموه على تغيير وجهته إلى فِينَّا.
طلبت الحكومة البولندية تسليم كلا المجرمين لها. وفي مارس من عام ١٩٧٠م نظر القضاء النمساوي في فينَّا أمر مختطفي الطائرة، وأصدر حكمه على واحدٍ منهما بالسجن سنتين وثلاثة أشهر، بينما حُكم على الآخر بالسجن سنتين. وبعد انقضاء مدة العقوبة كان لزامًا على المجرمين وفقًا لحكم المحكمة أن يغادرا الأراضي النمساوية فورًا، وقد أشار رئيس المحكمة في حيثيات حكمه إلى أن المفوضية العليا للأمم المتحدة لشئون اللاجئين لا تعترف بحق اللجوء عند ارتكاب أعمال القرصنة الجوية.
وقد حاول المتهمان بكل الوسائل أن يثبتا أن الدافع الأساسي وراء أعمالهما كان لاعتباراتٍ سياسية، وأن ما اكتسباه من شكلٍ مادي كان أمرًا جانبيًّا. على أن المحكمة أظهرت أن الشكل المادي بالتحديد، هو الذي لعب الدور الرئيس في هذه الحادثة. وردًّا على سؤال الدفاع أعلن المتهمان أنهما استمعا إلى إذاعة «أوروبا الحرة» تقول: إن اختطاف طائرات الدول الاشتراكية لا يُطبَّق عليه القانون الجنائي في الدول الرأسمالية، وقد أوضح هذا المقطع من المحاكمة الدور التخريبي الذي لعبته إذاعة «أوروبا الحرة» في مجال خطف الطائرات.
كان لغياب التعريف الدقيق للقراصنة في القانون الدولي أثره في تصعيب التكييف القانوني للقرصنة الجوية، ناهيك عن القرصنة البحرية؛ إذ كان من العسير تعليل حوادث التمرد التي يقوم بها طاقم الطائرة أو اختطافها على يد متمردين، أو من قِبل أعضاء حركات التحرُّر الوطني. على أنه من وقتٍ لآخر كانت تقع أحداثٌ شبيهة، كان يتم النظر في كلٍّ منها على حِدة، وعلى نحوٍ مختلف في كل مرة كما يحدث — على سبيل المثال — إبان اختطاف طائرات الركاب الإسرائيلية على يد الثوار الفلسطينيين.
فعندما أقلعت الطائرة «بوينج-٧٠٧» التابعة لشركة الخطوط الجوية الإسرائيلية «العال» من مطار روما في طريقها إلى اللد (القريبة من تل أبيب)، لم يكن هنا ما يوحي على الإطلاق بأنها سوف تصبح في وقتٍ قريب جدًّا محورًا لاهتمام الراي العام العالمي. آنذاك لم يكن هناك أيضًا مَن يعلم أن من بين ركاب الطائرة، وهم من مختلف الجنسيات، ثلاثة ركابٍ ينتمون للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
بعد مضي خمس وعشرين دقيقةً من لحظة الإقلاع، كانت الطائرة قد خرجت من المجال الجوي الإيطالي، وأصبحت تحلِّق فوق سطح البحر، وإذ بثلاثةٍ من الركاب يتوجهون نحو غرفة الملاحة الجوية. توقف أحدهم — وكان مسلحًا بمسدسٍ — وأصدر أوامره لجميع الموجودين بصالون الطائرة بأن يلتزموا أماكنهم. أما طاقم الطائرة فقد ألجمتهم المفاجأة، أمر المسلحان اللذان اقتحما غرفة القيادة الطيارَ بتغيير خط سير الطائرة، والتوجُّه بها إلى الجزائر. أما الطيار الثاني الذي حاول أن يبدي مقاومة، فقد تم إسكاته بمؤخرة المسدس. أجرى مختطفو الطائرة اتصالًا بمطار الجزائر، ووجهوا إليه لاسلكيًّا البيان التالي: «نحن فلسطينيون اختطفنا طائرة ركاب إسرائيلية، نرجو السماح لنا بالهبوط.» وطوال الرحلة امتثل الطاقم لتعليمات الثوار، أما الركاب الذين كانوا تحت الحراسة، فلم يغادروا أماكنهم، إلى أن استقرت الطائرة في مكانها في ميناء الجزائر الجوي.
بالنسبة للمسافرين الذين لا يحملون الجنسية الإسرائيلية، فقد أقلَّتهم سيارة أتوبيس خاصة إلى المدينة، وسُمح لهم في نفس اليوم بمغادرة البلاد إلى باريس، وبعد أربعة أيام تم ترحيل النساء الإسرائيليات بمَن فيهن من مضيفاتٍ بالإضافة إلى الأطفال. أما الرجال الإسرائيليون البالغ عددهم اثني عشر رجلًا، سبعة منهم من أفراد الطاقم والباقي من الركاب، فقد تم احتجازهم مع الطائرة في الجزائر.
فور اختطاف الطائرة الإسرائيلية أذاعت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في بيروت بيانًا جاء فيه أنَّ هذه العملية قد قام بتنفيذها أعضاء من الجبهة من تلقاء أنفسهم، وعلى مسئوليتهم الخاصة دون عِلمٍ من السلطات الجزائرية، أو أي دولةٍ أخرى.
انتهى حادث اختطاف طائرة شركة «العال» الإسرائيلية على يد الثوار الفلسطينيين لحلٍّ وسط؛ ففي الأول من سبتمبر عام ١٩٦٨م تم إعادة الطائرة إلى تل أبيب، وعلى متنها اثنا عشر مواطنًا إسرائيليًّا كانوا محتجزين من قِبل السلطات الجزائرية، وبدورها وافقت الحكومة الإسرائيلية على إطلاق سراح ستة عشر مواطنًا عربيًّا، كانوا يقضون حكمًا بالسجون؛ لوجودهم غير الشرعي داخل الأراضي الإسرائيلية. أسهمت جهود وزير خارجية إيطاليا، الذي قام بدور الوسيط في المباحثات بين حكومتي إسرائيل والجزائر، اللتين لا تربطهما علاقات دبلوماسية في تسوية الحادث.
لم يكن هذا العمل هو آخر الأعمال التي قام بها الثوار الفلسطينيون، ففي الساعة الثانية عشرة وخمس دقائق بتوقيت جرينتش، يوم التاسع والعشرين من أغسطس عام ١٩٦٩م، غادرت الطائرة «البوينج-٧٠٧» التابعة لشركة الخطوط الجوية الأمريكية «ترانس ورلداير لاينز» مطار فيومتشينو في روما، وعلى متنها مائة وواحد راكب بخلاف طاقمها المكون من اثني عشر فردًا. كان مقررًا — طبقًا لجدول الرحلة — أن تقلع الطائرة القادمة من الولايات المتحدة إلى تل أبيب مرورًا بروما وأثينا؛ حيث كان من المنتظر أن يغادرها ثلاثة وسبعون راكبًا. على أن الطائرة مرت على أثينا دون أن تهبط بها، وفي الساعة الواحدة وأربعين دقيقة ظهرًا بتوقيت جرينتش، أرسل قائد الطائرة برقيةً قصيرة هذا نصها: «نحن في طريقنا إلى تل أبيب، لقد هوجمنا.»
بعدما هبطت الطائرة في مطار اللد بالقرب من تل أبيب، طلب قائدها من نقطة المراقبة الأرضية إرشادات الطيران إلى بيروت، لكن هذا الطلب أثار قلق السلطات الإسرائيلية. وصل إلى المطار رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الذي كانت مهمته الاستيلاء على الطائرة من يدي مختطفيها المجهولين. حلَّقت في السماء القاذفات الحربية الإسرائيلية، وأخذت تدور حول طائرة الركاب، وكانت أثناء ذلك تُجري اتصالها بقائدها الكابتن كارتر، لكن الطيار دعا القاذفات للابتعاث بحجة إمكانية تعرُّض المسافرين لخطر الموت.
عندما اقتربت «البوينج-٧٠٧» من بيروت طلب الطيار السماح له بالهبوط في مطارها المحلي، على أن طلبه قوبل بالرفض. عندئذٍ لم يكن أمام كارتر إلا أن يتوجه بالطائرة إلى دمشق. هناك طلب من السلطات أن تسمح له بالهبوط في المطار، الذي لم يكن في الحقيقة مستعدًّا لذلك استنادًا إلى نفاد الوقود. وقد هبطت الطائرة وسط خطوط ممر الهبوط، وسارع الركاب — تنفيذًا للأوامر — بمغادرة الطائرة تحت تهديد تفجيرها، وهو ما حدث بالفعل بعد ربع ساعة من مغادرة الجميع لها. تحطَّمت غرفة الطيار، وأصيبت الطائرة بتلفياتٍ أدت بها للخروج من الخدمة إلى الأبد. أولت السلطات السورية جُلَّ عنايتها بالركاب، وخاصةً أولئك الذين أصيبوا في الارتباك الذي حدث أثناء مغادرة الجميع للطائرة.
تُعتبر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وهي الجهة المسئولة عن حادث اختطاف الطائرة الإسرائيلية التي أقلعت من روما، والتي أُجبرت على الهبوط في الجزائر، والمسئولة أيضًا عن حادث الهجوم على طائرات «العال» في مطار أثينا وزيورخ، هي المنظَّمة الفلسطينية الوحيدة التي لا تخضع للقيادة العامة للقوات المسلحة الفلسطينية، وهي غير ممثلة في التنظيم السياسي للفلسطينيين، المعروف باسم منظَّمة التحرير الفلسطينية.
وقد سعت بعض الدوائر في الغرب باستغلال حوادث اختطاف الطائرات السالفة الذكر لخلْق جوٍّ من العداء حول نضال الفلسطينيين من أجل حريتهم. ومما خفَّف من وطأة هذا الجو التصريح الرسمي الذي أدلى به ياسر عرفات، رئيس منظَّمة التحرير الفلسطينية، الذي أعرب عن رفضه لاختطاف الطائرات كشكلٍ من أشكال نضال الشعب الفلسطيني الوطني التحرري.
تطبِّق بعض الدول في الوقت الحالي عقوباتٍ محددةً على أعمال القرصنة الجوية، وفقًا لطابعها الإجرامي الذي حددته اتفاقية جنيف المبرمة عام ١٩٥٨م بشأن البحار المفتوحة. تصل عقوبة القرصنة الجوية وفقًا للأحكام القانونية العامة الحالية الخاصة بمكافحة القرصنة إلى عشرين عامًا في الولايات المتحدة الأمريكية، وإلى أربعين في المكسيك. في الوقت نفسه فالدول الأخرى التي لم تفرد بعد قوانين خاصة بهذا النوع من الجرائم، تقوم بتطبيق قوانين القرصنة البحرية كبديلٍ مؤقت. على أن تطبيق العقوبات الجنائية على أعمال القرصنة الجوية يواجه صعوباتٍ كبيرةً بسبب الإجراءات المعقَّدة في تسليم المجرمين.
جديرٌ بالذكر أن هناك في واقع الأمر معاهدةً دولية تم توقيعها في طوكيو في الرابع عشر من سبتمبر عام ١٩٦٣م، خاصةً بالجرائم التي يتم ارتكابها على متن الطائرات. على أن مواد هذه المعاهدة تتعرض للانتقاد بشدةٍ من جانب رجال القانون من مختلف بلاد العالم، الذين يشككون في مدى الفاعلية الحقيقية لها في مجملها، ونتيجة للتسويف في تحديد موعد التصديق على هذه المعاهدة من جانب العديد من الدول، فإنها لم تصبح سارية المفعول إلا ابتداءً من الرابع من ديسمبر عام ١٩٦٩م.
وقد ورد في إحدى مواد معاهدة طوكيو أنه في حالة ارتكاب أية أعمال على متن الطائرة بهدف اختطافها، فإن على الدول المتعاهدة اتخاذ كل الوسائل اللازمة لإعادة قيادة الطائرات لقائدها الشرعي أو العمل على احتفاظه بقيادتها، على أنه حتى الآن لم تُعرف مثل هذه الوسائل التي يمكن للدول أن تلجأ إليها لتغيير إرادة مجرم مستعد لارتكاب أي شيء، وقد وقف مسددًا مسدسه إلى رأس الطيار.
تقضي المعاهدة بعد ذلك بضرورة أن تسمح الدولة التي هبطت الطائرة المختطفة في أراضيها للمسافرين بمواصلة رحلتهم على الفور وإعادة الطائرة إلى أصحابها. وهذا ما تفعله بالضبط على سبيل المثال كوبا التي لم توقِّع على هذه المعاهدة، فهي تعيد كل الطائرات، وتخلي سبيل أطقمها وركابها. تقضي معاهدة طوكيو أيضًا بإمكانية احتجاز قرصان الجو، على أن الإجراءات المرتبطة بهذا العمل ما تزال على قدرٍ بالغ الصعوبة، إلى حدِّ أن هذه المادة تفتقد كل مغزًى عملي لها.
أصبحت القرصنة الجوية أمرًا ممكنًا يرجع السبب الرئيسي فيه إلى انعدام العلاقات المشتركة العادية بين العديد من الدول، ولم يَعد من الممكن التصدِّي لهذه الكارثة التي تحيق بالمواصلات الجوية، إلا عن طريق تطبيع العلاقات الدولية.
أدت القرصنة الجوية في منطقة بحر الكاريبي إلى عواقبَ وخيمةٍ بالنسبة لكوبا، التي أصبحت عليها إعاشة وإقامة مئات المسافرين العابرين. في الوقت الذي أصيبت فيه بقلقٍ بالغ — من جرَّاء هذه الظاهرة — الدوائر الحكومية في الولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ إن الأمريكيين الذين كانت المقادير تلقيهم في كوبا، ليصبحوا سائحين بمحض الصدفة لهذه البلاد، كانوا يعودون منها بانطباعاتٍ تختلف تمامًا، والروايات الدعائية المتناقضة التي تطلقها الإدارة الحكومية للولايات المتحدة الأمريكية والصحافة الأمريكية.
أخذت أحداث اختطاف الطائرات المدنية في الانتشار لتشمل مناطقَ جديدةً من العالم، الأمر الذي أثار قلق الرأي العام في العديد من الدول، ودعا رجال القانون للعمل بحماسٍ أكبر من أجل معالجة الجوانب القانونية لهذه الجريمة، حيث إن المواصلات الجوية ذات طبيعة دولية، فقد أصبح اختطاف الطائرات مشكلة دولية لها نتائجها القانونية والسياسية المتعددة، وقد دفعت الأخيرة بأعلى هيئةٍ دولية، ألا وهي منظمة الأمم المتحدة لدراسة مشكلة اختطاف الطائرات.
في مستهلِّ تقريره الذي ألقاه في سبتمبر عام ١٩٦٩م، أعرب السكرتير العام للأمم المتحدة عن قلقه العميق بشأن العدد الكبير للحوادث المرتبطة باختطاف الطائرات، وتحويلها عن مسارها المحدد، ثم أعلن: «أن اختطاف الطائرات عملٌ إجرامي للغاية، وخاصةً إذا جاء ارتكابه من أجل تحقيق مصالح بعض الأشخاص، على أنه عندما ينعكس هذا العمل على المجال السياسي، وعندما يُستخدم باعتباره سلاحًا سياسيًّا، أو لممارسة الضغوط بعينها، فإنه يصبح أكثر مدعاةً للَّوم.
على أنه قد اتضح أن قضية اختطاف الطائرات المدنية أكثر تعقيدًا مما يبدو للوهلة الأولى، ليس فقط من الناحية السياسية، وإنما أيضًا من وجهة النظر القانونية. في الثالث من أكتوبر عام ١٩٦٩م اقترحت إحدى عشرة دولةً من الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة، والتي كانت أعمالها منعقدة في ذلك الوقت في نيويورك. وقد نبَّه الأعضاء الذين تقدموا بالاقتراح في مذكرتهم التفسيرية المرفقة به، إلى أنه في عام ١٩٦٨م وحده وقعت سبعٌ وعشرون عملية قرصنة جوية، وبحلول منتصف شهر سبتمبر ١٩٦٩م ارتفع عددها إلى خمسين عملية.
وقبل بحث الاقتراح أشار مندوب الأردن إلى أن مصطلح «القرصنة» المأخوذ من القانون البحري والمعنون به الاقتراح، يُوصي بالأعمال التي تتخذ طابع الهجوم بهدف السرقة ولتحقيق أطماعٍ لها صفة شخصية. على حين أن حوادث اختطاف الطائرات التي جرت في الآونة الأخيرة تنطلق من دوافعَ أخرى بعضها ذو صبغة سياسية. على أية حالٍ فقد واصلت الجمعية العامة للأمم المتحدة مناقشة هذا الموضوع، ولكن تحت عنوانٍ آخر، وهو «التغيير القسري لخط سير الطائرات المدينة إبان طيرانها».
- (١)
تدعو الجمعية العامة للأمم المتحدة الدول لاتخاذ كافة الإجراءات الضرورية لسنِّ التشريعات القومية المناسبة، التي تضع الأُطر اللازمة لاتخاذ الإجراءات القانونية الفعَّالة، ضد أي من أعمال التدخل غير الشرعية، واختطاف الطائرات الموجودة في الجو أو القيام بفرض السيطرة الإجرامية عليها بالقوة أو بالتهديد باستخدامها.
- (٢)
تؤكد على نحوٍ خاص، على دعوة الدول إلى تطبيق العقوبات على الأفراد، الذين يقومون بارتكاب هذه الأعمال على متن الطائرات.
- (٣)
تؤكد على الدعوة إلى تقديم الدعم الكامل لجهود المنظمة الدولية للطيران المدني، الموجهة لإعداد وتنفيذ المعاهدة التي تقضي باتخاذ الإجراءات الملائمة، بما فيها إدراج عمليات الاختطاف غير المشروعة للطائرات المدنية، ضمن الجرائم التي تستوجب العقوبة، ومعاقبة الأشخاص الذين يقومون بارتكاب هذه الجرائم.
- (٤) تدعو الدول للتصديق على المعاهدة الموقَّعة في طوكيو في الرابع من سبتمبر ١٩٦٣م الخاصة بالمخالفات القانونية، وبعض الأعمال الأخرى التي يتم ارتكابها على متن الطائرات، أو الانضمام للمعاهدة وفقًا لشروط المعاهدة الحالية.٧
«ترى اللجنة أن اتخاذ القرار لا يمكن أن يقدِّم أي حقوقٍ دولية أو يفرض التزامًا على الدول فيما يخص مسألة تسليم (المجرمين).»
لما تباطأت الدول التي وقَّعت على معاهدة طوكيو لسنة ١٩٦٣م في التصديق عليها، قامت المنظمة الدولية للطيران المدني، التي كان قلقها يزداد نتيجة الازدياد المحموم لحوادث اختطاف الطائرات، بتأسيس هيئة خاصة أطلقت عليها اسم اللجنة الفرعية لشئون «التدخل غير القانوني»، وكلَّفتها بدراسة قضايا «اختطاف الطائرات المدنية عَنوةً بواسطة الهجوم المسلح وارتكاب الأعمال التخريبية ضدها». وقد أعدت هذه اللجنة الفرعية في دورتها التي عقدت في الفترة من ١٠ إلى ٢١ فبراير ١٩٦٩م، مشروع معاهدة جديدة جاءت قراراتها أشمل وأكثر تفصيلًا مما جاء في الفصل الرابع من معاهدة طوكيو، وقد شمل المشروع بشكلٍ خاص تعريفًا مفصلًا لعملية القرصنة الجوية، واعتبرتها «استخدامًا للقوة أو تهديدًا باستخدامها بغرض تغيير وجهة الطيران»، ودعا المشروع الدول التي وقَّعت على المعاهدة أن تعترف في قوانينها الجنائية بالقرصنة باعتبارها جريمة مخالفة للقوانين.
قررت اللجنة الفرعية بالإجماع ضرورة تسليم المتهمين إلى الدولة صاحبة الطائرة، ورأت ضرورة إدراج هذا النوع من الجرائم في جميع الاتفاقيات الموجودة أو التي يمكن أن تُعقد في المستقبل، كذلك قرر أعضاء اللجنة المذكورة بأغلبية تسعة أصوت ضد ثلاثة أن الدولة التي يتم هبوط الطائرة على أراضيها من حقها، استنادًا إلى قوانينها الداخلية، أن ترفض تسليم المختطِف. وينطبق هذا — على سبيل المثال — على الحالات التي يكون المتهم فيها مواطنًا في هذه الدولة، أو عندما يكون وراء ارتكابه لهذا العمل دوافع سياسية، وخاصةً في تلك الحالات التي يكون طلب تسليم المتهم فيها لأسبابٍ سياسية. يرى مندوب الولايات المتحدة الأمريكية أن الدولة التي يتم هبوط الطائرة على أراضيها، ينبغي أن تكتفي بإعلانٍ يفيد كون مختطف الطائرة غير مطلوب في الدولة المطالبة بتسليمه لأية أسبابٍ سياسية.
أخيرًا، وبعد مماطلةٍ استمرت ست سنوات، صدَّقت اثتنا عشرة دولةً فقط على معاهدة طوكيو، ولم تكن كوبا ولا دول الشرق الأوسط، أي الدول الموجودة في المناطق المشهورة بحوادث اختطاف الطائرات من بين هذه الدول.
إن أنصار إقامة نظام راديكالي عالمي لمكافحة القرصنة الجوية يطلبون أن ينظر إلى هذه الجريمة من الناحية القانونية قياسًا بالقرصنة البحرية، وأن يتم اعتبارها كواحدةٍ من الجرائم الموجهة ضد البشرية، واعتبار الأشخاص الذين يقومون باختطاف الطائرات «أعداء للبشرية».
على أية حالٍ ينبغي ألَّا ننسى أن واحدةً من أهم سمات القرصنة — على النحو الذي جرى وصفها به في القانون الدولي — تتمثل في القيام بها انطلاقًا من دوافعَ شخصيةٍ مثل الكراهية والحسد والانتقام إلى آخره، وعلى هذا فإنه في تلك الحالات التي يجري اختطاف الطائرة فيها لدوافعَ سياسيةٍ، يستحيل تصنيفها باعتبارهما عملًا من أعمال القرصنة.
خلاصة القول: إنه حتى في مجال القرصنة الجوية التي استقرَّ مفهومها على مدى عصورٍ طويلة من الممارسة، فإن الدول ما تزال تجد مصاعب قانونية محددة عند اصطدامها بهذه الجريمة. إن حكومة أية دولة لها الحق في وصف أي تمرد يقوم به طاقم إحدى السفن على سلطتها، أو استيلاء أعدائها السياسيين على سفينةٍ من سفنها عملًا من أعمال القرصنة. تستخدم الدولة هنا حقها الأكيد في ملاحقة هذه الأعمال استنادًا إلى قوانينها الداخلية، على أن دولًا أخرى ليست مُلزمة بالضرورة أن تقاسم تلك الدول وجهة نظرها، ويمكنها أن ترفض ملاحقة المتهمين.
في منتصف شهر مارس عام ١٩٧٠م عُقد في جنيف — بمبادرةٍ من الهيئة الدولية للنقل الدولي، التي تضم ثلاثًا ومائة شركة طيران — مؤتمرًا دوليًّا لبحث مسألة وقف اختطاف الطائرات، وقد جرت أعمال المؤتمر في سريةٍ تامة، ولم تُنشر قراراته. فيما يتعلق بأعمال المؤتمر أصبح من المعروف أنه على مدى العامين الأخيرين قبل انعقاده، وقعت ما يزيد عن مائة طائرة من خمس وعشرين دولة ضحية للقراصنة. بناءً على ذلك أسست الهيئة الدولية للنقل الدولي لجنةً خاصة لبحث قضايا اختطاف الطائرات، وكلت إليها مهمة إعداد توصيات بهذا الصدد وتقديم تصوُّرها للهيئة، وقد بادرت الإياتا برصد جوائز تُمنح للذين يساعدون في كشف قراصنة الجو، وتأمين الجو وتأمين الطائرات منهم، وشرع في استخدام الأجهزة المغناطيسية للكشف عن القنابل والأسلحة في ملابس وأمتعة المسافرين، وذلك في إطار أعمال مقاومة القرصنة.
أما مندوب الإياتا في المؤتمر، فقد أعلن أن التوصيات التي أعدتها الهيئة تستهدف التقليل إلى أقصى حدٍّ ممكن من مخاطر اختطاف الطائرات، دون أن تخلق مزيدًا من المتاعب أمام الرحلات العادية، وكانت الإياتا قد وجَّهت فيما سبق توصياتٍ لبعض الدول وشركات الطيران والمطارات، ولكنها كانت تحمل طابعًا استشاريًّا فقط. وقد ارتأى المشروع التمهيدي للمعاهدة ضرورة معاملة الأشخاص المهتمين باختطاف الطائرات باعتبارهم مجرمين عاديين، بغض النظر عن الأسباب التي دفعتهم لارتكاب جريمتهم، أما الاتحاد الدولي للطيارين المدنيين فقد قدَّم إلى المؤتمر الذي انعقد في لندن في شهر ديسمبر عام ١٩٦٩م اقتراحًا بمُعاقبة المتهمين بخطف الطائرات بعقوباتٍ مُشددةٍ، تصل إلى الإعدام.
وقد أكدت صحيفة «كريستان ساينس مونيتور» الأمريكية في عددها الصادر في السابع من نوفمبر عام ١٩٦٩م أن «أعضاء الوفود لدى الأمم المتحدة يدركون جيدًا أنهم ليس بمقدورهم إعداد نظام ملائم للعقوبات، طالما أن المنظمة غير قادرة على تطبيقه. إن الحكومات وحدها هي التي تستطيع إدخال هذه العقوبات ضمن تشريعاتها».
على الرغم من أن هذا الحكم لا يحمل قدرًا كبيرًا من التفاؤل، فإنه من المثير للاهتمام أن نشير إلى بعض التدابير العملية، التي لجأت إليها إثيوبيا في نضالها الناجح ضد اختطاف الطائرات، ففي مايو عام ١٩٦٩م تعرَّضت خمس طائرات تابعة لشركة الخطوط الإثيوبية لهجومٍ من قراصنة الجو، وقد أُصيبت طائرتان نفاثتان تابعتان لهذه الشركة بأضرارٍ بالغة على يد الإرهابيين في مطارَي: فرانكفورت في شهر مارس، وكراتشي في شهر يوليو. واستطاع القراصنة اختطاف طائرتين أخريين من إثيوبيا، الأولى في شهر أغسطس، وتم توجيهها إلى الخرطوم، والثانية في شهر سبتمبر وتم توجيهها إلى عدن.
بعد هذه الحوادث حرصت السلطات الإثيوبية على دفع أفراد من رجال الأمن ضِمن أطقم جميع طائرات الركاب، سواء على الرحلات الداخلية أو الخارجية، وقد أثبتت هذه التدابير فعاليتها عند تطبيقها. في الثاني عشر من ديسمبر عام ١٩٦٩م دفع قرصانان حياتهما على محاولتهما السابعة عشرة لاختطاف طائرة، مُسجلين بذلك سابقةً فريدة من نوعها في تاريخ «القرصنة الجوية» القصير نسبيًّا، عندما سقطا ضحية أعمالهما الإجرامية. وقعت هذه الدراما على متن الطائرة الإثيوبية النفاثة من طراز «بوينج-٧٠٧» العاملة على خط مدريد-روما، أسمرة-أديس أبابا. بدأت محاولة الاختطاف بالقرب من شواطئ إسبانيا، على ارتفاع حوالي عشرة آلاف متر. كان عدد المسافرين على الطائرة خمسة ومائتي راكب واثنين من الطيارين، وطاقم يبلغ عدده تسعة أفراد، بالإضافة إلى ثلاثة من رجال الأمن الإثيوبيين.
في البداية سارت الرحلة سيرًا طبيعيًّا، ثم بغتةً قفز أحد الركاب من مقعده حاملًا مسدسه في يده متوجهًا ناحية غرفة الطيارين، لكنه لم يتمكن من الوصول إلى بابها؛ إذ اندفع نحوه رجل الأمن، وانتزع منه مسدسه، وقتله برصاصتين من مسافةٍ قريبة. في اللحظة نفسها تم انتزاع سلاح المهاجم الثاني — الذي هرع لنجدة زميله — وقُتل بدوره على يد رجل الأمن الثاني. أثار إطلاق النار ذُعر المسافرين — الذين ارتموا على أرضية الطائرة — ثم ما لبثوا أن استردوا هدوءهم، وعادوا إلى مقاعدهم، وقد قدَّمت المضيفات الشمبانيا لجميع الركاب لمساعدتهم على الشعور بالاطمئنان بعد ما عانوه من قلقٍ واضطراب.
سُحبت جثث المهاجمين إلى دورة المياه، كما تم اكتشاف مواد متفجرة في أمتعتهم، قام رجال الأمن بتأمينها، بعد ذلك عادت الطائرة تواصل رحلتها في سلامٍ، غير أنها لم تهبط في روما، كما كان مقررًا في جدولها، وإنما اتجهت مباشرةً إلى أثينا، حيث وصلت سالمةً بعد منتصف الليل. هُرعت قوة الشرطة في العاصمة أثينا إلى الطائرة فور إحاطتها لاسلكيًّا بأخبار المأساة، ثم شرعت في التحقيق بمجرد هبوط الطائرة، حيث إن الحادث وقع بعد إقلاع الطائرة مباشرةً من مدريد، وبالتالي بعيدًا عن المجال الجوي لليونان، فقد رأت السلطة اليونانية أن من غير الممكن التدخُّل في هذه القضية، وسمحت للطائرة بمواصلة الرحلة. في أثينا هبط المسافرون الذين كانوا متوجهين إلى روما، ليستقلوا طائرةً أخذتهم إلى إيطاليا، ما إن هبطت الطائرة في أديس بابا، حتى بدأت السلطات الإثيوبية في إجراء تحرياتها التي كشفت أن أحد المعتدين سنغالي والآخر يحمل جواز سفر يمني.
في الرابع من ديسمبر عام ١٩٦٩م أصبحت معاهدة طوكيو الخاصة بارتكاب الجرائم وبعض الأعمال الأخرى على متن الطائرات نافذة المفعول، إلا أنها لم تسهم بأي قدرٍ من تحسين الوضع القائم. لقد اكتشفت الدول الموقِّعة عليها مدى ما تحتويه هذه المعاهدة من تناقضاتٍ سياسية عميقة. وتظهر هذه المتناقضات بالدرجة الأولى بين تلك الدول التي تتعرَّض شركات الطيران فيها بشكلٍ متكرر لاختطاف طائراتها أو الاستيلاء غير الشرعي على الطائرات حسب الاصطلاح الخاص، والدول التي تعطي في أحيانٍ كثيرة حق اللجوء للمتهمين مستندة في ذلك إلى قواعد تقديم هذا الحق.
- (أ)
الجدل المحتدم بين الدول حول الجهات القضائية وسلطاتها.
الصعوبات الخاصة بتسليم الخارجين على القانون، صحيحٌ أن هناك قرارات في المعاهدة تنظِّم — على نحوٍ غير مباشر — هذين الأمرين، على أن المنفعة العملية لها ما تزال موضع شكٍّ.
إن هذا الأمر يُفقد إلى حدٍّ كبير المادة السادسة عشرة مغزاها العملي، حيث إن غالبية قرارات المتهمين تستثني من مجال تأثيرها الجرائمَ ذات الطابع السياسي، وقد أصبح من الشائع في الوقت الراهن النزوع لإدراج حوادث الاختطاف تحت هذا الصنف بالذات من الجرائم.
عملية دولتسينية
لا تتضمن معاهدة جنيف المؤرَّخة ٢٩ أبريل ١٩٥٨م بشأن البحار المفتوحة أي تعريفٍ جامع للقرصنة يتفق وواقع الحال المعاصر. وهذا الأمر يؤدي إلى مصاعبَ جمةٍ عند التكييف القانوني لحالات عصيان أطقم السفن، أو الاستيلاء عليها على أيدي المتمردين في البحار المفتوحة.
إن الإجابة على هذا السؤال ما إذا كانت هذه الأعمال مرتبطة بارتكاب أعمالٍ إجرامية ضد السفن الأخرى (اعتداء، سرقة، قصف استفزازي إلى آخره …) أم لا. أحد أهم الجوانب الجوهرية للتكييف القانوني للحقائق المتعلقة بأحداث تمرُّد الأطقم أو الاستيلاء على السفن في عرض البحر. في شهر فبراير عام ١٩٦٣م قام متمردون فنزويليون بالاستيلاء على سفينةٍ من سفن الدولة تُدعى «أنسواستيكي» في محاولةٍ منهم لجذب انتباه الرأي العام العالمي إلى الوضع في فنزويلا، وقد توجهت الحكومة الفنزويلية بطلبٍ إلى عددٍ من الدول للقبض على هذه السفينة، على أنه ما إن دخلت «أنسواستيكي» إلى المياه الإقليمية للبرازيل حتى أُعطي طاقمها حق اللجوء السياسي، ثم جرى بعدها إعادة السفينة إلى فنزويلا. من هذا يتضح أن البرازيل رفضت اعتبار ما قام به المتمردون عملًا من أعمال القرصنة، كما اقترحت عليها الدوائر الرجعية. جديرٌ بالذكر أن الاستيلاء على «أنسواستيكي» الفنزويلية بواسطة المتمردين لم يكن مرتبطًا على أي نحوٍ بأية أعمالٍ غير قانونية ضد سفنٍ أخرى.
نفس الأمر كان قد وقع قبل ذلك للسفينة البرتغالية «سانتا-ماريا»، على أن الجانب السياسي والقانوني بصدده اتسم بقدرٍ أكبر من التعقيد. في شهر أبريل عام ١٩٦١م قامت مجموعة من الثوار البرتغاليين المناهضين لنظام سالازار الفاشي بالاستيلاء على سفينة الركاب «سانتا-ماريا» في عرض البحر. وقد أبقى الثوار علم البرتغال مرفوعًا عليها، ولكنهم غيَّروا وجهتها بعد أن عقدوا عزمهم على الوصول بها إلى إحدى المستعمرات البرتغالية في أفريقيا، حيث يقومون بإثارة انتفاضة ضد الحكومة. على أن المطاردة التي تم تنظيمها لسفينة الركاب أرغمتها على الاحتماء بالمياه الإقليمية للبرازيل، فما كان من الحكومة البرازيلية إلا أن منحت الثوار البرتغاليين حق اللجوء السياسي، ثم ما لبثت أن أعادت السفينة إلى البرتغال. على هذا النحو وضد رغبة حكومة سالازار، رفضت البرازيل اعتبار الثوار قراصنةً.
فيما يلي نورد بعض تفاصيل هذا الحادث الذي يُعد أبرز حادث لاختطاف سفينة في القرن العشرين:
في شهر مايو من عام ١٩٥٩م أُطلق سراح القبطان إنريسكي جالفاو من سجون سالازار، وعلى الفور انضم القبطان إلى حركة تحرير وطنه من النير الفاشي. على أن الوطني المفعم بالحماس لم يستطع أن يقوم بنشاطٍ فعَّال في نضاله ضد الرجعية في البرتغال، فغادرها متجهًا إلى فنزويلا، وهناك في كاراكاس استطاع بمساعدة اثنين من الثوار، يتمتعان بالنفوذ لدى السلطات المحلية من تنظيم عدد هذه الأعمال الثورية.
ظهرت فكرة «عملية دولتسينية» في رأس القبطان جالفاو عندما قرأ في إحدى الصحف إعلانًا عن الرحلة الدورية لسفينة الركاب البرتغالية «سنتا-ماريا» إلى ميناء لاجوايرا الفنزويلي القريب من كاراكاس، على أن الطريق من الفكرة وحتى تنفيذها كان طويلًا وشاقًّا.
كان من الضروري، وقبل كل شيء، جمع المال وإعداد الرجال الذين سيقومون بالاستيلاء على السفينة، ثم الحصول على أهم المعلومات الممكنة عنها. قامت شركة الملاحة البحرية صاحبة الشركة بإسداء العون إلى الثوار بمحض اختيارها (على نحوٍ روتيني بالطبع)؛ وذلك بإصدار تصاريح زيارة للضيوف الراغبين في مشاهدة السفينة إبان رسوِّها في الميناء، وكذلك عن طريق برامج الدعاية المطبوعة المختومة على رسومٍ تفصيلية ومعلوماتٍ فنية عن السفينة، لكن المال ظل هو حَجر العثرة في خطبة القبطان، وبعد عددٍ من المحاولات الفاشلة، تم اختصار كشف التقديرات المبدئي من ثلاثين ألفًا إلى ستة آلاف دولار.
- أولًا: الاستيلاء على السفينة، ثم تحويل مسارها والوصول بها — دون عِلم السلطات البرتغالية — إلى شواطئ غرب أفريقيا. كان في نية الثوار أن يرسلوا برقيةً إلى التوكيل القائم بأعمال السفينة، يخبرونه فيها بتغيير وجهة السفينة لضرورة إجراء إصلاحات بالآلات، كل ذلك يهدف تخدير سلطات حكومة سالازار اليقظة وتعطيل مطاردتها للثوار.
- ثانيًا: خطط الثوار للهجوم على فرناندو-بو بالاشتراك مع طاقم السفينة الذي كان جالفاو يعقد على مساعدته له آمالًا كبارًا، ثم يقوم بعد ذلك بالاستيلاء على أية سفينة مسلحة؛ لكي يتمكن هو ورجاله في النهاية وبمساعدة الأهالي من احتلال عاصمة أنجولا. آنذاك كان من المفترض أن يتم تحرير جزء من هذا البلد الواقع تحت الحكم البرتغالي، كان جالفاو قد قرر أن يشكِّل هنا حكومةً ثورية، ويبدأ حربه ضد الديكتاتور سالازار.
في يوم الخميس الموافق ٢٠ من يناير عام ١٩٦١م، وفي تمام الساعة الثامنة صباحًا وصلت «سانتا-ماريا» وعلى ظهرها ستمائة راكب، وطاقم مكوَّن من ثلاثمائة وخمسة عشر فردًا إلى ميناء لاجوايرا. في هذا الوقت كان الثوار البرتغاليون قد انتهوا من استعداداتهم التي جرت على نحوٍ ساده الاضطرابُ والعجلة. وفي بيت أحد المتآمرين — الذي تحوَّل إلى مقر أركانٍ للحرب — نسي الجميع عددًا من صناديق الأسلحة والذخائر، كان من المخطط شحنها على السفينة، لكنهم نجحوا في نهاية الأمر من الصعود إلى السفينة، ونقل الشحنة من كاراكاس إلى لاجوايرا.
لما كان من الصعب توفير المال اللازم لشراء التذاكر لجميع المشتركين في العملية، فقد صعد جزءٌ من الثوار إلى السفينة بعد أن أبرزوا التصاريح الخاصة بالزيارة، وظلوا بها إلى ساعة الرحيل الحاسمة، ليختفوا عليها، ويسافروا «خلسة». أما القبطان جالفاو فقد كان عليه أن يجد طريقةً للصعود على السفينة، إذ مجرد ظهور اسمه على قائمة الركاب المتوجِّهين إلى البرتغال كان من الممكن أن يثير سحابةً من الشكوك. وبهذا فقد استقلَّ جالفاو طائرة في الصباح، حلَّقت به إلى ميناء كيوراساو الواقع في جزيرةٍ في خليج فنزويلا غير بعيد عن كاراكاس، حيث كان عليه أن ينضم مع ثلاثةٍ آخرين إلى بقية رفاقه على السفينة يوم ٢١ يناير.
في كيوراساو نزل جالفاو في فندق «برياس»، واختار لنفسه غرفةً يطلُّ من نافذتها على القناة التي تعبرها السفن الداخلة إلى الميناء. إبان تناوله طعام الغذاء استمع جالفاو — بمحض الصدفة — إلى حديث اثنين من العاملين بالميناء، علِم منه أن «سانتا-ماريا» قد أصابها عطلٌ في التوربين، وقد انتاب القبطان قلقٌ بالغ من جراء هذه الأنباء، التي إن دلَّت على شيءٍ؛ فإنما تدل على أن المعلومات التي حصل عليها الثوار ليست مكتملة إلى حدٍّ كبير، وقد اتَّضح فيما بعد أن الثوار لم يكونوا على علمٍ بالخلل الذي أصاب التوربين، فضلًا عن عطلٍ آخر أصاب الماكينات، الأمر الذي سيترتب عليه حتمًا ألا تتمكن السفينة من زيادة سرعتها. على أن الأسوأ من ذلك كله أنه لم يكن هناك تصوُّرٌ لدى المشتركين في العملية عن مخزون المياه، أو الوقود على السفينة.
الشخص الوحيد الذي كان على علمٍ بعملية «دولتسينية»، والذي لم يشترك فيها بنفسه كان هو الجنرال ديلجاو رئيس جبهة التحرير البرتغالية القومية.
منذ الصباح الباكر ليوم السبت الموافق ٢١ يناير أخذ القبطان جالفاو في مراقبة السفن الداخلة إلى الميناء، وعندما بلغت الساعة التاسعة والنصف انفتح الجسر المتحرك على القناة، لتدخل «سانتا-ماريا» تتهادى حتى استقرت على بُعد ما يقرب من مائة متر فقط من نوافذ الفندق. عندما نظر جالفاو في منظاره المقرِّب ليستطلع رجاله على ظهر السفينة لم يجد أحدًا منهم.
كان القبطان قد اتفق مع مساعده سوتوماير عشية إبحار السفينة، على أن يصعد الأخير على سطحها مع عددٍ من الثوار أصحاب التذاكر، ثم يتم بعد ذلك وضع التفاصيل الأخيرة للعملية، كانت المعلومات التي حصل عليها سوتوماير مبشِّرة، فقد قام بفحص السفينة وجميع البيانات الضرورية، كما جرت عمليات ركوب الأفراد والشحنات في ميناء لاجوايرا بنجاحٍ تام، ولم يتبقَّ سوى فرد واحد وصندوقين يحويان مواد خاصة بالقنابل اليدوية وأسلاكًا، هكذا دخلت «عملية دولتسينية» مرحلتها الحاسمة.
استطاع جالفاو وثلاثة من رفاقه الحصول — بمساعدة أحد الموظفين في الوكالة البحرية في كيوراساو — على ثلاثة تصاريحَ لزيارة السفينة، ولمَّا كان القبطان شخصية شهيرة في البرتغال، فقد كان لزامًا عليه أن يتخذ بعض الإجراءات الوقائية. كانت السادسة مساءً هي موعد مغادرة السفينة، بينما كان على جالفاو أن يكون على مَتنها في الساعة الرابعة والنصف. اتجه جالفاو ناحية سلم السفينة في الوقت الذي تزاحم عليه عددٌ من الركاب، وكان يضع على رأس قبعةً، أنزل حوافيها على وجهه. لم يسأله أحدٌ عن التصريح الذي يحمله، وما هي إلا دقائقٍ حتى كان القبطان يجلس في غرفةٍ من الدرجة السياحية مجهزة لأربعة أشخاص، ومن الطبيعي أن يكون مرافقوه في الغرفة من رفاقه الذين يحملون تذاكر سفر.
في المساء بدأت الاستعدادات الأخيرة للعملية، فُتحت الصناديق، وتم توزيع الأسلحة. ومرةً أخرى يتم الاتفاق وتنسيق التفاصيل الأخيرة للاستيلاء على السفينة. في الساعة الواحدة وخمس وأربعين دقيقة بعد منتصف الليل أعطى جالفاو إشارة بدء العملية، فتوجهت فرقة الهجوم بقيادة سوتوماير لاحتلال غرفة اللاسلكي ومركز قيادة السفينة وبرج الملاحة. في نفس الوقت كانت هناك جماعة أخرى بقيادة جالفاو نفسه مكلَّفة بالهجوم على السطح، حيث كانت توجد غرف قبطان السفينة وطاقمها.
كان الثوار قد قرَّروا أن يحققوا أهدافهم دون إراقةٍ للدماء، معولين على النجاح في ذلك بواسطة مباغتة الطاقم. على أن فرقة سوتوماير قد تعرَّضت لمقاومةٍ مفاجئة من جانب أحد ضباط الحراسة، وذلك بعد أن نجحت في الاستيلاء على غرفة اللاسلكي بسهولةٍ بالغة. وقد أعلن جالفاو فيما بعد أن هذا الضابط كان الوحيد من بين أفراد الطاقم الذي كان يتمتع بقدرٍ عالٍ من الشجاعة، وقد انتهى تبادل النيران الذي جرى آنذاك في الظلام بمصرع الضابط وإصابة رفيقه بجراح.
دفع الصدام المسلح الذي جرى على سطح السفينة بالكابتن جالفاو لتغيير خططه الأولى، وتراجعه عن الهجوم على غرف الضباط، فتوجَّه إلى غرفة القيادة مع فرقته، بعد أن أغلق وراءه المخرج الوحيد الذي يمكن للضباط من خلاله الصعود إلى السطح. كانت غرفة القيادة قد وقعت بالفعل في يد الثوار عندما دق جرس الهاتف بها. رفع جالفاو السماعة، كان القبطان يستفسر عن إطلاق النار على سطح سفينته، وعلى الفور شرح جالفاو الموقف بقوله: سيادة القبطان، أرجوك أن تحتفظ بهدوئك، لم يحدث هناك أي أمر غير عادي، سوى أنني قد استوليت على مقاليد الأمور في سفينتك، لا جدوى من المقاومة، وإنني أدعوك للاستسلام.
وقد أعلن القبطان أنه يتحدث من غرفته، وحوله جميع الضباط الذي هرعوا إليه، انتظارًا لأوامره بعد أن استمعوا لطلقات الرصاص على سطح السفينة، واقترح على الثوار النزول إليه، وقد تخلَّوا عن أسلحتهم حتى يمكن التفاهم معهم.
وقد أجاب جالفاو على هذا الاقتراح بقوله: لست الآن في وضعٍ يسمح لك بفرض شروطك.
عندئذٍ ظل القبطان يلح في أن ينزل إليه جالفاو بنفسه بسلاحه أو بدونه.
-
الذين يشاركوننا وجهة نظرنا السياسية ويطمحون لأن تعود البرتغال مرةً أخرى؛ لتمتلك زمام أمرها كدولةٍ حرة، يستطيعون الانضمام إلى حركتنا.
-
يستطيع الضباط من الآن فصاعدًا القيام بواجباتهم وفقًا للظروف الجديدة، التي تلزمهم بتنفيذ الأوامر الصادرة من القيادة الثورية للسفينة بكل ولاءٍ.
-
في حالة الاعتراض على الاقتراحين الأولين، يتم اعتبار الضباط أَسرى حربٍ.
كانت وجوه الضباط تعكس مشاعرهم المتناقضة، ومع هذا فقد قرروا الاستسلام، مؤكدين ولاءهم لجالفاو الذي كان يشعرهم — رغم ذلك — بحالةٍ شديدة من الكدر وعدم الارتياح. زاد هذا القرار من إيمان الثوار بأن أعداءهم أناس ضعاف النفوس لا يستحقون الثقة.
في الوقت الذي كان جالفاو يُجري فيه مباحثاته، كان الثوار قد تمكنوا من احتلال المواقع الحساسة فوق ظهر السفينة: غرفة القيادة، قسم الآلات، وغُرف الضباط. أما الجرحى فقد نُقلوا إلى عنبر المرضى، وقد جاء في تقرير طبيب السفينة أن حالة أحدهم حرجة.
نزل سوتوماير مع بعض رفاقه إلى غرفة القبطان، ليكون شاهدًا على الاستسلام، وفي هذه اللحظة ذاتها إذا بالشك يفترس ضباط «سانتا-ماريا»، حتى هنا على بعد آلاف الأميال من لشبونة تملكهم الذعر، عندما تذكروا مدى ما سيحيق بهم على يدي رجال سالازار سيئي السمعة.
كان جالفاو الذي عانى بنفسه فظائع سجون سالازار يدرك جيدًا هذه المشاعر، التي عصفت بهؤلاء الضباط، الذين لم يكونوا يتمتعون أساسًا بصفات الشجاعة والإقدام، وحتى ينجح في تهدئتهم، ويجنبهم العقاب والاضطهاد المتوقعين مستقبلًا من جانب البوليس البرتغالي. سلَّم جالفاو لطاقم السفينة شهادةً أثبتت أن تصرفاتهم جميعها تمت قسرًا، وانضم للتوقيع على هذه الشهادة التي توثِّق لاختطاف السفينة أيضًا الثوار والقبطان وسوتوماير وعددٌ آخر من الشهود.
جديرٌ بالذكر أن المستسلمين ظلوا، وحتى نهاية الرحلة ملتزمين بتنفيذ كل أوامر الثوار، ولم يُبدوا أي قدر — ولو ضئيلًا — من المقاومة.
الأمر الوحيد الذي وقع دون أن يكون في حسبان أحد هو الاضطراب الذي وقع بين عُمَّال المطعم، الذين تصوروا أن الركاب قد قاموا بتمرُّدٍ فوق السفينة، ولكنهم عندما علموا أن القبطان جالفاو على رأس المتمردين، وأن اختطاف السفينة يحمل طابعًا سياسيًّا، هدأت نفوسهم. وعلى عكس المتوقع فقد لقي الثوار تفهُّمًا أكبر لدى السائحين الأجانب، وكثيرٌ من هؤلاء أصبحوا أصدقاء مخلصين لجالفاو ورفاقه، دون أن ينتابهم أي إحساسٍ بالخوف من انتقامٍ من البوليس البرتغالي.
على الرغم من العطب الذي أصاب أحد الماكينات، فقد واصلت السفينة سيرها بسرعةٍ كبيرة تمامًا، كما وعدت بذلك شركة الملاحة المسافرين في إعلاناتها، كان جالفاو يسعى بكل ما أُوتي من حيلةٍ للخروج بأسرع ما يمكن من متاهة الجزر المنتشرة في البحر الكاريبي، حتى يتمكن من الخروج إلى عرض المحيط الأطلنطي.
في صباح يوم الإثنين الموافق ٢٣ يناير أبلغ طبيب السفينة القبطان جالفاو بأن حياة واحدة من الاثنين اللذين أُصيبا إبَّان إطلاق النار في خطرٍ، الأمر الذي يستلزم اتخاذ قرار حاسم، ورأى الطبيب أن من الممكن إنقاذ حياة المصاب في حالة إنزاله إلى الشاطئ، حيث يمكن توفير الرعاية الطبية اللازمة. علاوةً على ذلك فقد فاجأت أحد المسافرين آلام مبرحة في الكبد. لم يكن جالفاو يثق ثقةً كاملة في النتائج التي توصل إليها الطبيب، ولكنه لم يكن — في الوقت نفسه — يمتلك أية إمكانات للتثبُّت من صحتها، وانطلاقًا من أن موت رجلين بريئين يمكن أن يلطِّخ سمعة الثوار قرَّر جالفاو أن ينزل المرضى إلى الشاطئ، على الرغم من أنه بذلك العمل يكشف عن مكان وجود السفينة، ومع ذلك فقد نشرت إحدى الصحف الأرجنتينية — بعد هذا الحادث بعدة أيام — مقالًا صحفيًّا تعلِّق فيه على قرار القبطان جالفاو، بأنه قرارٌ يفتقر إلى صفات الثورية الحقة، وإن لم تنقصه القسوة والفظاظة.
كانت «سانتا-ماريا» قد رست في التاسعة صباحًا على بُعد ميلين من شواطئ جزيرة سانتالوتشيا، حيث نقل المرضى بواسطة قاربٍ بخاري يصحبهم فيه مساعد الطبيب.
لم تكن سوى بضع دقائق توقَّفت فيها السفينة لتؤدي مهمتها، انطلقت بعدها بأقصى سرعةٍ مخترقةً عباب الأطلنطي ميممةً نحو شواطئ أفريقيا. في البداية قطع الثوار كل اتصالٍ لهم بالعالم الخارجي، حرصًا منهم على بقاء موقعهم في المحيط مجهولًا، ثم ما لبث جالفاو أن رفع هذا الحظر، لقد اتضح فيما بعدُ أن نظام سالازار قد أعاق وصول العديد من البرقيات التي أرسلتها «سانتا-ماريا»، محاولًا بذلك خلْق انطباعٍ بأن الثوار يسيئُون معاملة الركاب والطاقم.
في ليلة الرابع والعشرين من يناير استمع مَن في السفينة — من خلال الراديو — إلى أول ردود فعل للصحافة العالمية — واستنادًا إلى شهادة أفراد من الطاقم الذين تم إنزالهم إلى الشاطئ، أذاعت وكالة الأنباء الأمريكية «يونايتد برس» قصةً ملفَّقة عن الأحداث جاء فيها: «نشب تمردٌ على عابرة المحيط البرتغالية «سانتا-ماريا»، وهي في طريقها من كيوراساو إلى ميامي، استولى سبعون فردًا من الطاقم يملكون الرشَّاشات والقنابل اليدوية على السفينة.» ومن واشنطن ورد نبأٌ آخر يقول: «خرجت السفن الأمريكية والبريطانية الحربية للبحث عن السفينة البرتغالية التي وقعت في أيدي الركاب المتمردين.»
«بتكليفٍ من اللجنة التنفيذية لجبهة التحرير الوطنية، التي يرأسها الجنرال أومبرتو ديلجاو الذي اختاره رئيس جمهورية البرتغال، والذي جردته حكومة سالازار من حقوقه عن طريق الخداع، قمت في الثاني والعشرين من يناير بالاستيلاء على السفينة «سانتا-ماريا». إنه عملٌ سياسيٌّ محض، وقد قبِله طاقم السفينة على هذا النحو.»
لم تثمر المطاردة في ساعاتها الأولى عن أية نتائج، كانت «سانتا-ماريا» التي يقودها البحار المحنك سوتوماير تُغيِّر وجهتها من حينٍ لآخر، فتارةً تسير باتجاه شواطئ غوينيا، وتارةً باتجاه جزر الرأس الأخضر.
كان جالفاو قد استنتج من الأخبار التي يتلقَّاها بالراديو أن الرأي العام متعاطفٌ مع الثوار، وفي نفس الوقت كانت الدعاية التي تبثُّها أجهزة سالازار تصوِّر الثوار على أنهم قتلة يعملون لصالح الشيوعية السوفييتية، وأنهم يعاملون المسافرين والطاقم معاملة لا إنسانية. كتب جالفاو في مذكراته: «إنهم يصفوننا بالقراصنة، بيد أن هؤلاء القراصنة الغريبي الأطوار، لم يأخذوا من أحدٍ سنتًا واحدًا، ولم يمسوا الثروات الضخمة التي وجدوها في خزائن «سانتا-ماريا»، والتي كان بإمكانهم اعتبارها غنائم حرب.»
لقي اشتراك السفن الحربية البريطانية في مطاردة «سانتا-ماريا» احتجاجًا لدى مجلس العموم، وفي النهاية توقَّفت السفن البريطانية عن المطاردة بحجة نقص الوقود.
لم يكن من الممكن بالطبع أن ينجح الثوار في التنبؤ بكل المصاعب التي يمكن أن تظهر في طريقهم، فعلى الرغم من أن «سانتا-ماريا» اتخذت لنفسها مسارًا، يندر أن تستخدمه السفن، فقد التقت في طريقها بسفينة نقلٍ دنماركية، استطاعت أن تحدد موقعها، في حوالي السادسة من مساء الخامس والعشرين من يناير، حلَّقت فوق السفينة طائرةٌ تحمل العلامات الأمريكية، وإبان تحليق الطائرة فوق «سانتا-ماريا» تم الاتصال بينهما بالتليفون اللاسلكي، حيث كان الاتصال البرقي معطلًا:
(وعلى الفور اشترك في الحديث أحد الركاب الأمريكيين، الذي قدَّم كثيرًا من المساعدات للثوار بوصفه مترجِمًا، وأكد على ما قاله جالفاو.)
بعد نصف ساعةٍ اختفت الطائرة، أما السفينة فكان عليها أن تغيِّر وجهتها من جديد، وبعد مُضي ما يزيد على ثلاث ليالٍ، نجح الثوار، والذين كانوا من قبل ذلك قد عاودوا اتصالهم بالعالم الخارجي، عبر أجهزة الاتصال اللاسلكية — في تجنُّب السفن والطائرات الحربية الأمريكية التي كانت تطاردهم. وفي الوقت نفسه انضم إلى الثوار نادلان كانا قد طلبا من القبطان جالفاو أن يدرجهما في قائمة رجاله. وبعد بضعة أيامٍ أقسما اليمين وارتديا الزي الخاص بالثوار. أما باقي البحارة بما في ذلك قادة الطاقم، فعلى الرغم من أنهم لم ينضموا إلى الثوار، فإنهم أظهروا قدرًا كبيرًا من الولاء لا يقل عن الذي أظهره الآخرون. وقد أعرب قبطان السفينة — الذي كان يشعر بالامتنان من جراء المعاملة الطيبة التي كان يتلقَّاها — أعرب الثوار عن مخاوفه من تناقص احتياطي المياه على السفينة، الأمر الذي أكده الفحص الذي تم إجراؤه على الفور، وكان من نتيجته أن جرى ترشيد استخدام المياه في الغسيل.
وقد سجَّل القبطان جالفاو السطور التالية في مذكراته: «إن الرأي العام العالمي يدرك الآن الفظائع، التي يرتكبها النظام السياسي القائم في البرتغال، ويعرف الصورة الحقيقية للديكتاتور سالازار. منذ ثلاثة أيام كنا مجرد جماعة صغيرة مكوَّنة من أربعة وعشرين بحارًا، أما الآن … فهناك مشكلتان تؤرقاننا: كيف ننزل المسافرين إلى البر، ونحقق هدفنا؟ يجب أن نعطي المسافرين إمكانية النزول إلى الشاطئ، بشرط ألا يسبب هذا فقدان السفينة والقبض على رجالنا. إن على سلطات الميناء الذي سنمرُّ به أن تضمن لنا ذلك.»
كان الأدميرال دينسون مستعدًّا لأن يحل المشكلة الأولى فقط، دون أن يعبأ بمصير السفينة أو الثوار؛ ولهذا فقد نحَّى جالفاو اقتراح الأدميرال. في الوقت نفسه راحت السماء تمتلئ فوق «سانتا-ماريا» بالعديد من الضيوف الثقلاء. كانت الطائرات واحدة تلو الأخرى تحوم فوق رءوس الثوار، ثم انضمت إليها طائرات وكالات الأنباء، التي أخذت تلتقط الصور للسفينة، وأخيرًا شاركت في المطاردة الغواصة الذرية الأمريكية «سي ولف».
في يوم السبت الموافق الثامن والعشرين من يناير استمر التبادل النشط للبرقيات اللاسلكية بين القبطان وجالفاو والأدميرال دينسون، والذي كان من نتيجته الاتفاق على مكان إنزال الركاب. لقد تقرر أخذهم من السفينة في باحة البحر على بُعد خمسين ميلًا من ريسيفي البرازيلي. أحاط الثوار المسافرين علمًا بالقرار الذي تم اتخاذه، ثم شرعوا في الاستعداد لإنزالهم. كانت خطة الإنزال تقتضي مغادرة المرضى أولًا، يليهم النساء المسافرات بمفردهن، ثم العائلات، وأخيرًا بقيَّة الركاب.
بينما كانت «سانتا-ماريا» تؤدي مهمتها كان جالفاو قد وصل إلى استنتاجٍ، مفاده أن استمرار العملية بالمعطيات الجديدة أمرٌ بالغ الصعوبة، إلى جانب أنه يمكن أن يكون باهظ التكلفة، ومن ثَم قرَّر أن يتوجه بالسفينة إلى أي ميناءٍ برازيلي ويتركها هناك. هكذا أخذت السفينة تبحر في اتجاه ريسيفي، وكلما اقتربت من شواطئ البرازيل، ارتفع عدد الطائرات المحلِّقة فوقها، والتي ظهر الآن أنها ترافقها بلا توقُّفٍ تقريبًا. وعندما هبط المساء يوم الأحد كان من الممكن مشاهدة أضواء الشاطئ البرازيلي من «سانتا-ماريا»، وفي اليوم التالي فجرًا كانت «سانتا-ماريا» تبعد عن ريسيفي حوالي خمسة وأربعين ميلًا، وقد تحدد يوم الثلاثاء موعدًا للقاء الأدميرال ألين سميث.
أما في لشبونة فقد التقى سفير البرازيل بسالازار، وأحاطه علمًا بأن حكومة البرازيل لن تقوم بتسليم الطاقم أو السفينة. في ذات الوقت أمر جالفاو بإعداد تأشيرات نزول المسافرين الإسبان والبرتغاليين، بعد أن وقَّع عليها ووضع عليها ختم اللجنة التنفيذية لجبهة التحرير الوطنية.
في المساء أُقيم عشاء وداع مهيب للمسافرين، ومن لشبونة وصلت أنباء تفيد بأن حكومة سالازار تتهم القبطان جالفاو رسميًّا بسرقة السفينة، التي تبلغ قيمتها سبعة عشر مليونًا ونصف مليون دولار. وفي الوقت نفسه فقد تلقَّى الأسطول البحري الحربي البرتغالي أمرًا بالبحث عن السفينة وإغراقها إذا لزم الأمر، كما توجَّهت الحكومة البرتغالية بشكوى إلى «الإنتربول» ضد القبطان جالفاو.
في يوم الثلاثاء الموافق ٣١ يناير، وفي الساعة العاشرة صعد الأدميرال ألين سميث إلى ظهر السفينة «سانتا-ماريا»، وبمجرد أن أنهى اجتماعه عليها نزل هو ومرافقوه إلى بهو السفينة، حيث كان المسافرون في انتظاره. وفي التصريحات التي أدلى بها بعد ذلك، أكد الأدميرال للصحافة أن جميع الركاب الذين تم استجوابهم، أشادوا بالمعاملة الحسنة من جانب الثوار، بل إن كثيرًا منهم أعربوا عن تأييدهم للقبطان جالفاو.
ما يزيد عن ثلاثمائة صحفي تجمَّعوا في القوارب بانتظار السماح لهم بالصعود على ظهر «سانتا-ماريا»، وفجأةً إذ بأحد المظليين يقفز فجأةً من طائرةٍ كانت تحلق فوق السفينة، اتضح فيما بعد أنه الصحفي الفرنسي جيل ديلامار، الذي قرَّر أن يسبق رفاقه، لكنه أخطأ الهدف، ليسقط في الماء، وقد سارع أحد قوارب الثوار بإنقاذه قبل أن تفترسه أسماك القرش.
وفي يوم الأربعاء الموافق أول فبراير كانت «سانتا-ماريا» تقف على مكلأ ميناء ريسيفي، حيث صعد عليها مجموعةٌ من موظفي الميناء بصحبة الأدميرال قائد المنطقة البحرية الثالثة، وفي المساء أكد الأدميرال دياز فرنانديز في وجود المحافظ بيلوبيداس. أكد القبطان جالفاو أن بإمكانه الدخول لميناء ريسيفي، ثم مغادرته بعد إنزال الركاب. وعلى هذا النحو تحقَّق الهدف الأول من «عملية دولتسينية»، وأصبح للثوار مطلق الحرية في التصرُّف في السفينة التي استولوا عليها، وفي المساء أيضًا وصل السفينةَ الجنرالُ أومبرتو دياجاو، الذي لم يكن القبطان جالفاو قد شاهده منذ أربعة عشر شهرًا مضت. في صباح اليوم التالي، الثاني من فبراير دخلت «سانتا-ماريا» في مشهدٍ احتفالي إلى ميناء ريسيفي تصحبها ست سفنٍ حربية، وناقلتا بترولٍ أمريكيتان وعددٌ من السفن الأخرى.
على الرغم من أن نقص الموارد المالية لدى الثوار لم يمكنهم من تنفيذ «عملية دولتسينية» حتى نهايتها، فإنها كانت بمثابة ضربةٍ قاصمة لنظام سالازار، ولم تُسفر محاولات الحكومة البرتغالية لاعتبار الثوار قراصنة عن أي نجاحٍ يُذكر. وقد منحت الحكومة البرازيلية لهم حق اللجوء السياسي، وفي عام ١٩٦٣م، على الرغم من اعتراض الدول الإمبريالية، سمحت لجنةٌ من الأمم المتحدة للقبطان جالفاو أن يدلي بشهادته، بشأن الأوضاع في المستعمرات البرتغالية.
قراصنةٌ عبر الأثير
في الزمن الغابر كان القراصنة ينجحون في إسقاط الملوك، بل وفي غزو الدول، أما أن يقوم القراصنة بعملياتٍ تمكِّنهم من إسقاط حكومة دولة تقع في قلب أوروبا الغربية نفسها، فالأمر يكتسب هنا طابعًا مثيرًا. إن منجزات العلم والتكنولوجيا يمكن أن تصبح مفيدة للبشرية، فضلًا عن أنها يمكن أن تجلب عليها أضرارًا بالغة. إن الاكتشافات والاختراعات الجديدة كثيرًا ما تخلق أشكالًا مبتكرة من الجرائم، كما أن المنجزات التقنية الهائلة تسهم في تحويل الجرائم التقليدية التي تأخذ في اكتساب أشكالٍ مستحدثة وغير معروفة حتى الآن، أشكالًا لا تُدرج في إطار الصيغ القانونية الموجودة حاليًا، والتي تقضي بملاحقة المجرمين وإنزال العقوبات التأديبية لهم. وهذا هو واقع الأمر فيما يتعلق بأحد أشكال الجريمة التي تعتبر جريمة دولية، ونعني بها القرصنة.
لقد استطاعت هذه المشكلة الجديدة — مشكلة القرصنة عبر الأثير — أن تثير قدرًا كبيرًا من الاهتمام عند رجال القانون؛ فالأعمال التخريبية التي مارستها بعض الإذاعات في فترة الحرب الباردة، مثل: «أوروبا الحرة»، و«صوت أميركا» وغيرهما، دفعت بعض الدوائر النشطة في البلاد الرأسمالية إلى فكرة استخدام القرصنة عبر الأثير على أساسٍ تجاري.
لاحظ كبار رجال الأعمال في أوروبا الغربية الذين يعملون في مجال الإعلام التجاري والدعاية، لاحظوا بحسٍّ بالغ كيف أن رِفاقهم الأمريكيين، قد جمعوا ثرواتٍ طائلة من الإعلان في الإذاعة والتليفزيون.
تخضع الإذاعات في بريطانيا، وألمانيا، وهولندا، وبلجيكا، وسويسرا، والنمسا، وإيطاليا، وإسبانيا، والبرتغال، وأيرلندا، والسويد، والدنمارك، والنرويج، وفنلندا للحكومة، ولا تعمل بالإعلام. أما في لكسمبورج، وأندروا، وموناكو، وفيسارا فتوجد محطات إذاعة أوروبا، وجميعها إذاعات غير مركزية تعتمد في دخلها على الإعلانات. وقد أدى نشاط هذه الإذاعات عبر الأثير إلى عددٍ من الصدامات وقعت بين الدول المتجاورة، التي يحظر القانون فيها بث الإعلانات؛ ولهذا فقد أخذت الإذاعات الخاصة في تلقِّي طلبات إذاعة الإعلانات من الشركة في الدول التجارية الأجنبية. أما فيما يتعلق بالتليفزيون فإن غالبية محطاته في الدول الأوروبية تُعد احتكارًا حكوميًّا، بالإضافة إلى أن البرامج التليفزيونية في كلٍّ من بريطانيا وألمانيا يتم تمويلها جزئيًّا من عائد الإعلانات.
وقد أدَّى حظر الإعلانات الشخصية التي تجلب أرباحًا ضخمة وتقييدها إلى ظهور القرصنة عبر الأثير في أوروبا الغربية، فقد اندفعت الشركات الكبرى التجارية والشركات العاملة في مجال الإعلان، والتي ليس لديها الإمكانية القانونية لبث إعلاناتها التجارية من خلال الإذاعة والتليفزيون إلى استخدام أشكالٍ مختلفة للقانون، مستغلةً في ذلك بعض الثغرات في التشريعات المحلية والدولية، التي لم تكن قد تكيَّفت بعدُ وتطور القرصنة في هذا الاتجاه.
- (١)
في مياه زوند (يقع بين الدنمارك وجنوب السويد): «راديو سيد» عمل على ظهر السفينة «تشيتا»، ثم انتقل إلى السفينة «تشيتا-٢»، والسفينتان ترفعان علَم هندوراس، تبلغ قوة المحطة (٦) كيلو وات، وقد بدأت إرسالها عام ١٩٥٩م، وما تزال حتى الآن على الرغم من قرارات الجهات القضائية في السويد. «راديو ميركور» على السفينتين «تشيتا-٢»، و«لكي ستار» ترفعان علَم جواتيمالا، وقد بدأ إرسالهما منذ خريف عام ١٩٥٨م، وأنهياه في الخامس عشر من أغسطس عام ١٩٦٢م، نتيجة الإجراءات التي اتخذها البوليس السويدي.
- (٢)
في المياه القريبة من استوكهولم: «راديو نورد»، ويبث إرساله من بحر البلطيق إلى كلٍّ من السويد وفنلندا.
- (٣)
في المياه القريبة من هولندا: «راديو فيرونيكا» على السفينة «سانتا فيرنيكا» التي كانت ترفع علَم بنما في البداية، ثم علَم جواتيمالا بعد ذلك، تبثُّ إرسالها منذ السادس عشر من فبراير عام ١٩٦١م إلى هولندا على موجة ١٩٢ مترًا.
- (٤)
في المياه القريبة من أوستيندي ونورماندي: «راديو أنتفير مير دو نور» فيما بعد «راديو نور» على السفينة «ماجدا ماريا» التي غيَّرت اسمها لتصبح السفينة «أوليشبيجل»، بدأت ببثِّ إرسالها إلى هولندا وإنجلترا في أكتوبر عام ١٩٦٢م، ووقف نشاطها في السادس عشر من أكتوبر عام ١٩٦٢م في المياه القريبة من هاريدج (إنجلترا). «راديو كارولاين» فيما بعد «راديو كارولاين نورث» على السفينة البنمية «مي أميجو» بدأت ببثِّ إرسالها إلى إنجلترا على الموجة ٢٠١ متر منذ الثامن والعشرين من يناير عام ١٩٦٤م حتى الآن. «راديو لندن»، وتعمل منذ شهر ديسمبر عام ١٩٦٤م، وتبثُّ إرسالها إلى إنجلترا على الموجة ٢٦٦ مترًا.
على أي نحوٍ ظهرت هذه المحطات؟ مَن الذي يقوم بتمويلها؟ مَن الذي يتحمَّل مسئولية ما تبثه من موادَّ؟
لقد أزاح القراصنة أنفسهم السُّتُر المسدلة على هذا النشاط الإجرامي، اعترف مانفريد فايسليدر البالغ من العمر سبعة وثلاثين عامًا، والمقيم بمدينة هامبورج، وأحد أهم قراصنة ألمانيا الغربية عبر الأثير، اعترف صراحةً أنه يحقق أحلام طفولته؛ فعندما كان يبلغ من العمر ست سنوات أراد أن يصبح قرصانًا، وأن يرسو بسفينته عند مصب نهر لابا خارج حدود المياه الإقليمية لألمانيا حتى «يتصيد النقود». تتمثل شبكة «الصيد» التي يستخدمها فايسليدر الآن في هوائيات محطة الإذاعة التي تعمل على «موجاتها السوداء» برامج محطة «ستار كلوب راديو»، ويلتقط إرسالها واحدٌ من كل خمسة أجهزة استقبال في المناطق الشمالية الغربية.
يتمثل اهتمام فايسليدر الوحيد في وضع البرامج لمحطته، أما الأمور الأخرى فيتولاها الممولون البريطانيون، الذين يقومون بتغطية كافة نفَقات السفينة وتجهيزاتها، لم يفصح فايسليدر عن موكليه، واكتفى بالتلميح للصحفيين بأن «لديهم من الأموال أكثر ما لدى كروب أو أوناسيس».
لقد كان كبار رجال الأعمال يقومون أيضًا بتمويل مثل هذه المحطات، حتى إن تكلفة إحداهما بلغت ثلاثة ملايين مارك ألماني غربي بالطبع، فهؤلاء كانوا يتوقَّعون ممن تم تكليفهم بهذا العمل، أن يحصلوا لهم على أرباحٍ كبيرة من إذاعة البرامج الموسيقية والإعلانات.
وإذا كان نشاط هذه المحطات غير القانوني لا يمكنها من العمل إلا في عرض البحر، إلا أن ما تجنيه من أرباحٍ خرافية يعوضها عما تلاقيه من مصاعبَ في هذا الصدد، وحتى يمكن أن نتصور حجم محطات القرصنة من الإعلانات، يكفي أن نذكر أن ثمن الدقيقة الواحدة من الإرسال يتراوح بين ٩٠٠ إلى ١٥٠٠ مارك ألماني.
لقد كان من الصعب أن تنجح مقاومة القرصنة عبر الأثير، وذلك لغياب الأحكام القانونية الدولية الواضحة، التي تتناول مثل هذا النوع من النشاط باعتباره نشاطًا إجراميًّا، بل لم توجد أية مواد تسمح للدولة بملاحقة هذا النشاط خارج حدود صلاحيتها القانونية، على النحو الذي يتم به التعامل مع القرصنة في شكلها الكلاسيكي.
- (١)
أن محطات القرصنة الإذاعية عملت على تردداتٍ تملكها محطات قانونية أخرى وفقًا للاتفاقيات الدولية، مما تسبب عنه عوائق في الأثير.
- (٢)
خالفت محطات القرصنة الإذاعية الخاصة الاحتكار الإذاعي لحكومات الدول الساحلية وقوانين حظر الإعلان التجاري.
- (٣)
خالفت محطات القرصنة الإذاعية قوانين حقوق المؤلِّف، فهي لم تحصل على تصريحٍ بإذاعة المؤلفات الموسيقية، ولم تدفع أجورها.
- (٤)
خالفت القراصنة قوانين الضرائب.
مثَّلت الأحكام والحجج المذكورة نقطة انطلاق لعددٍ من الأعمال الموجهة، التي اتخذتها بعض دول أوروبا الغربية ضد القرصنة، بعد أن تسبَّبوا في إنزال خسائر فادحةٍ بهم في مجال الإذاعة، وقد قام بالمبادرة في هذا المجال الدول الإسكندنافية التالية: السويد، النرويج، الدنمارك، وفنلندا.
في يوليو عام ١٩٦٢م، وعلى أساس التشريعات الجديدة التي سنَّتها السويد والدنمارك، تم القضاء على محطة القرصنة الإذاعية «راديو ميدكور». ومع هذا استطاعت السيدة ب. فادنر، وهي سيدة سويدية تمتلك محطة تُسمى «راديو سيد» أن تواصل نشاطها، على الرغم من الأحكام القانونية والغرامات التي صدرت ضدها. وتوقف العمل في المحطة — مؤقتًا — بعد القبض على السيدة فادنر وموظفيها وإيداعهم السجن. وقد صرَّحت هذه السيدة عند اقتيادها للسجن، أنها سوف تواصل نشاطها الإذاعي فور خروجها من السجن في ربيع عام ١٩٦٥م، وأضافت أنها سوف تعمل بالنشاط التليفزيوني أيضًا، وقد أوفت فادنر بوعدها بالفعل، ففي مارس من عام ١٩٦٥م عاد «راديو سيد»، ليواصل إرساله مرةً أخرى.
جاءت بلجيكا بعد الدول الإسكندنافية، لتصدر تشريعًا خاصًّا لمقاومة القرصنة عبر الأثير.
حتى مارس عام ١٩٦٤م، وهو التاريخ الذي بدأت فيه محطة «راديو كارولينا» نشاطها، لم يكن قراصنة الأثير ليشكِّلوا أي قدرٍ من الخطورة على المصالح البريطانية؛ إلا أن هذه المحطة التي كانت تعمل في منطقة الجزر البريطانية، لم تكن إلا أول الغيث، فما هي إلا فترة من الزمن، حتى بلغت القرصنة في هذه المنطقة مدًى، شكل كارثةً حقيقية؛ إذ أُطلق للعمل هنا عددٌ من الإذاعات تباعًا: «راديو أطلانتا» (في شهر أبريل)، «راديو ساتش» (في شهر مايو)، «راديو أنفيكتا» (في شهر يوليو)، وأخيرًا: «راديو لندن» (في شهر ديسمبر).
أخذت السلطات البريطانية في تطبيق عددٍ من العقوبات القانونية، تختلف عن تلك التي تطبقها الدول الإسكندنافية. قدَّمت وزارة المواصلات البريطانية، استنادًا إلى القرارات الواردة في لائحة الاتصالات اللاسلكية الصادرة عام ١٩٥٩م، مذكرةً رسمية إلى الاتحاد الدولي للاتصالات اللاسلكية بجنيف، تطلب فيها مساعدتها في القضاء على محطة «راديو كارولينا»، التي تمارس إرسالها على نحوٍ مخالف للقانون في عرض البحر بالقرب من الشواطئ البريطانية. وفقًا لما أذاعته السلطات البريطانية فإن السفينة العاملة عليها المحطة المذكور تبحر رافعةً علَم بنما، وتذيع برنامجين بقوة عشرة كيلو وات.
ردًّا على ذلك قدَّمت اللجنة الدولية لتسجيل الترددات طلبًا رسميًّا إلى السلطات البنمية، بوضع حدٍّ لنشاط القرصنة التي تمارسها هذه السفينة، وقد قرَّر وزير المالية والخزانة البنمي بعدها — نيابةً عن رئيس الجمهورية — رفع السفينة «كارولينا» من سجل الأسطول التجاري البنمي.
على أن القراصنة ومَن وراءهم مِن ذوي النفوذ الذين يتولون رعاية هذه الإذاعات، لم يكن بنيتهم التراجع عن هذه المهنة المريحة، فقرروا — نتيجة إحساسهم بعدم الأمان وهم على متن سفنهم، التي ينطبق عليها الحظر على نحوٍ لا خلاف فيه — استخدام منجزات الصناعة الحديثة.
قام قراصنة الإذاعة بإقامة رصيف عائم هائل على ركائزَ مثبتة في قاع البحر، تشبه تلك المستخدمة في قواعد استخراج النفط من البحر، وذلك في عرض البحر من القرب من حدود المياه الإقليمية لهولندا. وعلى بعد ستة أميال تقريبًا شمال شرقي مصيف نوردفيك، هناك أقيمت محطة إذاعة وتليفزيون باسم «تي في نوردزي» بدأت في أول سبتمبر عام ١٩٦٤م في إرسال الإعلانات الإذاعية والتليفزيونية إلى هولندا. لما بلغ السيل الزُّبى بالقراصنة، لم يكن أمام الحكومة الهولندية إلا أن قامت في السابع عشر من ديسمبر عام ١٩٦٤م بشن هجومٍ بوليس عسكري ضد محطة القرصنة، ووضعت حدًّا لنشاطها. كان لهذا الإجراء الذي اتخذته السلطات الهولندية ردود فعل قوية في الصحافتين المحلية والعالمية، وقد انقسمت الآراء بشأنه، فبينما اعتبر البعض أن الحكومة الهولندية قد اتخذت خطوةً قانونية بقضائها على محطة الإذاعة التي كبَّدتها خسائر طائلة، أكد آخرون أنها خرقت مبدأ حرية البحار بأن قامت بعمليةٍ بوليسية ضد محطة إذاعة يمتلكها مواطنو دولة أخرى، وتعمل خارج المياه الإقليمية لهولندا. بل إن الإشاعات راحت تتحدث عن عرض القضية برمتها على محكمة العدل الدولية في لاهاي.
قرَّر النائب العام لهولندا إحالة القراصنة المقبوض عليهم إلى المحكمة، بيد أنه رفض أن يُفصح عن أسماء الأشخاص الذين تورطوا في هذا الأمر. في نفس الوقت اكتسبت قضية العملية البوليسية التي اتُّخذت ضد «تي في نوردزي» منحًى مفاجئًا، بعد أن فجرت مناقشات واسعة في أنحاء هولندا، حول مسألة احتكار الدولة للإعلانات في الإذاعة والتليفزيون. وقد استخدمت المعارضة هذه المناقشات التي أثارت ضجةً كبرى في البلاد بذكاءٍ شديد لتحقق من ورائها أهدافًا سياسية، وقد حدثت بالفعل أزمةً وزارية في السادس والعشرين من فبراير عام ١٩٦٥م، واستمرت حوالي ستة أشهر، ولم تنتهِ إلا في الثلاثين من شهر مارس عام ١٩٦٥م، عندما توصَّلت الأحزاب السياسية في هولندا إلى اتفاقٍ بشأن فرض قيود على احتكار الدولة — وهو الاحتكار الذي ظل قائمًا حتى هذا التاريخ — لأنشطة الإعلان في الإذاعة والتليفزيون. لقد سبق سقوط الحكومة الهولندية توقيع اتفاقية قانونية مهمة، تتعلق بمقاومة القرصنة عبر الأثير، ففي الثاني والعشرين من يناير عام ١٩٦٥م، وقَّع في «ستراسبورج» مندوبون عن حكومات بلجيكا، وبريطانيا، والدنمارك، وفرنسا، واليونان، ولكسمبرج، والسويد، وقَّعوا اتفاقًا يهدف إلى القضاء على الإذاعة خارج الحدود الإقليمية لهذه الدول.
نصت المادة الأولى في هذا الاتفاق على حظر نشاط محطات الإذاعة الموجودة على متن السفن والطائرات، وكذلك حظر استخدام أية وسائل أخرى، سواء أكانت تتحرك بحرًا أم جوًّا، وتعمل على أراضي الدول التي وقَّعت على الاتفاق المذكور، ومنْع بثِّ برامج مخصصة للاستقبال أو يمكن التقاطها في جميع أراضي الدول المذكورة أو في أجزاء منها، أو يكون لهذا البث أثرٌ في إعاقة الاتصالات السلكية واللاسلكية بين هذه الدول.
على الرغم من كل ما ورد في هذا الاتفاق فقد بدا — على ضوء حادثة «تي في نوردزي» — عاجزًا، فقد ظل العديد من الاقتراحات والتوصيات الداعية إلى توسيع مجالات الحظر، قاصرةً على محطات الإذاعة العاملة على متن السفن والطائرات. أما فيما يتعلق بالمحطات المبنية على منصاتٍ مثبتة في قاع البحر، فقد كانت علاقة هذا الاتفاق بها مجرد علاقة ثانوية.
لقد أثار هذا الوضع الكثير من الانتقادات الحادة، ها هي ذي الجمعية الاستشارية للمجلس الأوروبي تُعرب في التاسع والعشرين من يناير عام ١٩٦٥م، عن أسفها لكون لجنة الوزراء لم تطرح مقدمًا نصَّ الاتفاق المذكور لتقرَّه الجمعية. فيما بعدُ كلفت الجمعية لجنةً من الخبراء في شئون الاتصالات السلكية واللاسلكية لدراسة إمكانية إضافة بروتوكول خاص إلى هذا الاتفاق، يمكنه أن يوسِّع من قراراته، بحيث تشمل محطات الإذاعة المقامة على منصاتٍ بحرية.
- (١)
«راديو انفيكتا»: وكان يبث إرساله من يوليو عام ١٩٦٤م من قلعة مارتيليو تاور، الموجود عند مصبِّ نهر التايمز على موجةٍ طولها ٣٠٦ أمتار، وتوقفت في السابع عشر من ديسمبر من نفس العام عندما غرق صاحبها.
- (٢)
«راديو ساتش» بدأ عمله من مايو ١٩٦٤م وتغيَّر اسمه من يناير ١٩٦٥م، ليصبح «راديو سيتي»، وكان يبثُّ إرساله من مارتيليو تاور على موجةٍ طولها ٢٩٩ مترًا، وتوقف هذا الإرسال بعد مصرع صاحبه في ظروفٍ غامضة.
في ليلة الثامن والعشرين من يونيو أبحر قارب قراصنة «راديو كارولينا» خلسةً، عاقدًا العزم على اقتحام «راف تاور» والاستيلاء عليها. غير أن سكان القلعة، على ما يظهر، كانوا على أهبة الاستعداد لاحتمال هجومٍ يقع عليهم، فأمطروا المهاجمين بقنابل اللهب، واستمر التراشق بالأسلحة بين الفريقين المتنافسين طوال الليل، تخلله توقُّفٌ قصير بين الحين والحين. وأثناء الاقتحام سقطت قذيفتان أضرمتا النار في قارب محطة «راديو كارولينا» مما أفشل محاولة الاستيلاء على القلعة، واضطر قراصنته إلى طمس معالم محاولتهم بأكملها، وقد حذت السلطات البريطانية حذوهم، فلم تذكر حرفًا واحدًا عن الحادث.
إن تطوُّر الأمور على هذا النحو أعطى أساسًا للافتراض أن القرصنة عبر الأثير لن يتم القضاء عليها في المدى القريب، أصبح من المتوقَّع أيضًا أن يغدو هذا النوع من القرصنة هدفًا لمناقشات رجال القانون إلى جانب رجال السياسة.